فصل: تفسير الآيات (5- 8):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (5- 8):

{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8)}
ولما دل على الفتح بالنصر وما معه، وعلل الدين بالسكينة، علل علة الدليل وهي {ليزدادوا إيماناً} وعلل ما دل عليه ملك الجنود من تدبيرهم وتدبير الأكوان بهم بقوله تعالى زيادة في السكينة: {ليدخل} أي بما أوقع في السكينة {المؤمنين والمؤمنات} الذين جبلهم جبلة خير بجهاد بعضهم ودخول بعضهم في الدين بجهاد المجاهدين، ولو سلط على الكفار جنوده من أول الأمر فأهلكوهم أو دمر عليهم بغير واسطة لفات دخول أكثرهم الجنة، وهم من آمن منهم بعد صلح الحديبية {جنات} أي بساتين لا يصل إلى عقولكم من وصفها إلا ما تعرفونه بعقولكم وإن كان الأمر أعظم من ذلك {تجري} ودل وقرب وبعض بقوله: {من تحتها الأنهار} فأي موضع أردت أن تجري منه نهراً قدرت على ذلك، لأن الماء قريب من وجه الأرض مع صلابتها وحسنها. ولما كان الماء لا يطيب إلا بالقرار تعالى: {خالدين فيها} أي لا إلى آخر.
ولما كان السامع لهذا ربما ظن أن فعله ذلك باستحقاق، قال إشارة إلى أنه لا سبب إلا رحمته: {ويكفر} أي يستر ستراً بليغاً شاملاً {عنهم سيئاتهم} التي ليس من الحكمة دخول الجنة دار القدس قبل تكفيرها، بسبب ما كانوا متلبسين به منها من الكفر وغيره، فكان ذلك التكفير سبباً لدخولهم الجنة {وكان ذلك} أي الأمر العظيم من الإدخال والتكفير المهيئ له، وقدم الظرف تعظيماً لها فقال تعالى: {عند الله} أي الملك الأعظم ذي الجلال والإكرام {فوزاً عظيماً} يملأ جميع الجهات.
ولما كان من أعظم الفوز إقرار العين بالانتقام من العدو وكان العدو المكاتم أشد من العدو المجاهر المراغم قال تعالى: {ويعذب المنافقين} أي يزيل كل ما لهم من العذوبة {والمنافقات} بما غاظهم من ازدياد الإيمان {والمشركين والمشركات} بصدهم الذي كان سبباً للمقام الدحض الذي كان سبباً لإنزال السكينة الذي كان سبباً لقوة أهل الإسلام بما تأثر عنه من كثرة الداخلين فيه، الذي كان سبباً لتدمير أهل الكفران، ثم بعد ذلك عذاب النيران.
ولما أخبر بعذابهم، أتبعه وصفهم بما سبب لهم ذلك فقال تعالى: {الظانين بالله} أي المحيط بجميع صفات الكمال {ظن السوء} من أنه لا يفي بوعده في أنه ينصره رسوله صلى الله عليه وسلم وأتباعه المؤمنين أو أنه لا يبعثهم. أو أنه لا يعذبهم لمخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومشاققة أتباعه. ولما أخبر سبحانه وتعالى بعذابهم فسره بقوله: {عليهم} أي في الدنيا والآخرة بما يخزيهم الله به من كثرة جنوده وغيظهم منهم وقهرهم بهم {دائرة السوء} التي دبروها وقدروها للمسلمين لا خلاص لهم منها، فهم مخذولون في كل موطن خذلاناً ظاهراً يدركه كل أحد، وباطناً يدركه من أراد الله تعالى من أرباب البصائر كما اتفق في هذه العمرة، والسوء- بالفتح والضم: ما يسوء كالكره إلا أنه غلب في أن يضاف إلى ما يراد ذمه، والمضموم جار مجرى الشر الذي هو ضد الخير- قاله في الكشاف.
ولما كان من دار عليه السوء قد لا يكون مغضوباً عيه، قال: {وغضب الله} أي الملك الأعظم بما له من صفات الجلال والجمال فاستعلى غضبه {عليهم} وهو عبارة عن أنه يعاملهم معاملة الغضبان بما لا طاقة لهم به. ولما كان الغضب قد لا يوجب الإهانة والإبعاد قال: {ولعنهم} أي طردهم طرداً سفلوا به أسفل سافلين، فبعدوا به عن كل خير.
ولما قرر ما لهم في الدارين، وكان قد يظن أنه يخص الدنيا فلا يوجب عذاب الآخرة، أتبعه بما يخصها فقال: {وأعد} أي هيأ الآن {لهم جهنم} تلقاهم بالعبوسة والغيظ والزفير والتجهم كما كانوا يتجهمون عباد الله مع ما فيها من العذاب بالحر والبرد والإحراق، وغير ذلك من أنواع المشاق. ولما كان التقدير: فساءت معداً، عطف عليه قوله: {وساءت مصيراً}.
ولما كان هذا معلماً بأن الكفار- مع ما يشاهد منهم من الكثرة الظاهرة والقوة المتضافرة المتوافرة- لا اعتبار لهم لأن البلاء محيط بهم في الدارين، وكان ذلك أمراً يوجب تشعب الفكر في المؤثر فيهم ذلك، عطف على ما تقديره إعلاماً بأن التدبير على هذا الوجه لحكم ومصالح يكل عنها الوصف، ودفعاً لما قد يتوهمه من لم يرسخ إيمانه مما يجب التنزيه عنه: فللّه القوة جميعاً يفعل ما يشاء فيمن يشاء من غير سبب ترونه: {ولله} أي الملك الأعظم {جنود السماوات والأرض} فهو يسلط ما يشاء منها على من يشاء.
ولما كان ما ذكر من عذاب الأعداء وثواب الأولياء متوقفاً على تمام العلم ونهاية القدرة التي يكون بها الانتقام والسطوة قال تعالى: {وكان الله} الملك الذي لا أمر لأحد مع أزلاً وأبداً {عزيزاً} يغلب ولا يغلب {حكيماً} يضع الشيء في أحكم مواضعه، فلا يستطاع نقض شيء مما ينسب إليه سبحانه وتعالى.
ولما تبين أنه ليس لغيره مدخل في إيجاد النصر، وكانت السورة من أولها حضرة مخاطبة وإقبال فلم يدع أمر إلى نداء بياء ولا غيرها. وكان كأنه قيل: فما فائدة الرسالة إلى الناس؟ أجيب بقوله تقريراً لما ختم به من صفتي العزة والحكمة. {إنا} بما لنا من العزة والحكمة {أرسلناك} أي بما لنا من العظمة التي هي معنى العزة والحكمة إلى الخلق كافة {شاهداً} على أفعالهم من كفر وإيمان وطاعة وعصيان، من كان بحضرتك فبنفسك ومن كان بعد موتك أو غائباً عنك فبكتابك، مع ما أيدناك به من الحفظة من الملائكة.
ولما كانت البشارة محبوبة إلى النفوس رغبهم فيما عنده من الخيرات وحببهم فيه بصوغ اسم الفاعل منها مبالغة فيه فقال تعالى: {ومبشراً} أي لمن أطاع بأنواع البشائر. ولما كانت لنذارة كريهة جداً، لا يقدم على إبلاغها إلا من كمل عرفانه بما فيها من المنافع الموجبة لتجشم مرارة الإقدام على الصدع بها، أتى بصيغة المبالغة فقال تعالى: {ونذيراً}.

.تفسير الآيات (9- 10):

{لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)}
ولما ذكر حال الرسالة، ذكر علتها فقال: {لتؤمنوا} أي الذين حكمنا بإيمانهم ممن أرسلناك إليهم- هذا على قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالغيب، وعلى قراءة الباقين بالخطاب المعنى. أيها الرسول ومن قضينا بهداه من أمته، مجددين لذلك في كل لحظة مستمرين عليه، وكذا الأفعال بعده، وذلك أعظم لطفاً لما في الأنس بالخطاب من رجاء الاقتراب {بالله} أي الذي لا يسوغ لأحد من خلقه- والكل خلقه- التوجه إلى غيره لاستجماعه لصفات الجلال والإكرام {ورسوله} الذي أرسله من له كل شيء ملكاً وملكاً إلى جميع خلقه.
ولما كان الإيمان أمراً باطناً، فلا يقبل عند الله إلا بدليل، وكان الإيمان بالرسول إيماناً بمن أرسله، والإيمان بالمرسل إيماناً بالرسول، وحد الضمير فقال: {ويعزروه} أي يعينوه ويقووه وينصروه على كل من ناواه ويمنعوه عن كل من يكيده، مبالغين في ذلك باليد واللسان والسيف، وغير ذلك من الشأن فيؤثروه على أنفسهم وغيرها، تعظيماً له وتفخيماً- هذا حقيقة المادة، وما خالفه فهو إما من باب الإزالة كالعزور بمعنى الديوث، وإما من باب الأول كاللوم والضرب دون الحد، فإنه يوجب للملوم والمضروب وتجنب ما نقم عليه فيعظم، فهو من إطلاق الملزوم على اللازم، وهو من وادي ما قيل:
عداي لهم فضل عليّ ومنة ** فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا

هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها ** وهم نافسوني فاقتنيت المعاليا

ولما كان المعنى يحتمل الإزالة كما ذكر، خلص المراد بقوله: {ويوقروه} أي يجتهدوا في حسن اتباعه في تبجيله وإجلاله بأن يحملوا عنه جميع الأثقال، ليلزم السكينة باجتماع همه وكبر عزمه لزوال ما كان يشعب فكره من كل ما يهمه {ويسبحوه} أي ينزهوه عن كل وصمة من إخلاف الوعد بدخول مكة والطواف بالبيت الحرام ونحو ذلك، ويعتقدوا فيه الكمال المطلق، والأفعال الثلاثة يحتمل أن يراد بها الله تعالى، لأن من سعى في قمع الكفار فقد فعل فعل المعزر الموقر، فيكون إما عائداً على المذكور وإما أن يكون جعل الاسمين واحداً إشارة إلى اتحاد المسميين، في الأمر فلما اتحد أمرها وحد الضمير إشارة إلى ذلك.
ولما كانت محبة الله ورسوله ترضى منها بدون النهاية قال كائناً عن ذلك: {بكرة وأصيلاً} أي وعشياً إيصاناً لما بين النهار والليل بذلك.
ولما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ما أرسله له، وختم الآية بأنه لا يرضى من ذكره وذكر رسوله إلا بالمداومة بالفعل أو بالقوة مع توحيده الضمير إشارة إلى وحدة الإرادة والمداوة بالفعل أو بالقوة مع توحيده الضمير إشارة إلى وحدة الإرادة والمحبة من الرسول والمرسل، أوضح المراد بتوحيد الضمير بقوله مرغباً في اتباعه ومرهباً لأتباعه عن أدنى فترة أو توان فيما دخلوا فيه من الإيمان الذي هو علة الرسال، وما ذكره معه في جواب من يسأل: ما سبب توحيد الضمير والمذكور اثنان؟ مؤكداً لأجل ما غلب على الطباع البشرية من التقيد بالوهم والنكوص عما غاب ولا مرشد إليه سوى العقل: {إن الذين}.
ولما كان المضارع قد يراد به مطلق الوقوع لا بقيد زمن معين كما نقلته في أول سورة البقرة عن أبي حيان وغيره، عبر به ترغيباً في تجديد مثل ذلك والاستمرار عليه فقال: {يبايعونك} أي في بيعة الرضوان وقبلها وبعدها على ما جئت به من الرسالة التي مقصودها الأعظم النذارة التي مبناها على المخالفة التي تتقاضى الشدائد التي عمادها الثبات والصبر، وسميت مبايعة لأنهم بايعوا أنفسهم فيها من الله بالجنة وهذا معنى الإسلام، فكل من أسلم فقد باع نفسه سبحانه منه {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم} [التوبة: 111]، الآية. {إنما يبايعون الله} أي الملك الأعظم لأن عملك كله من قول وفعل له {وما ينطق عن الهوى} [النجم: 3].
ولما عظم بيعته بما رغب فيها ترغيباً مشعراً بالترهيب، زادها تعظيماً بما الترهيب فيه أظهر من الأول، فقال مبيناً للأول: {يد الله} أي المتردي بالكبرياء. ولما كان منزهاً. عما قد يتوهم من الجارحة مما فيه شائبة نقص، أومأ إلى نفي ذلك بالفوقية مع ما فيه من الدلالة على تعظيم البيعة فقال: {فوق أيديهم} أي في المبايعة عالية عليهم بالقدرة والقوة والقهر والعزة، والتنزه عن كل شائبة نقص، ولذلك كرر الاسم الأعظم في هذه ثلاث مرات إشارة إلى العظمة الفائتة للوصف والغيب العالي عن الإدراك، ثم أعاد ذكره بالضمير إيذاناً بالغيب المحض، هذا هو المراد من تعظيم البيعة وإجلال الرسول صلى الله عليه وسلم مع العلم القطعي بتنزيه الله سبحانه عن كل شائبة نقص من حلول أو اتحاد كما هو واضح في مجاري عادات العرب ظاهر جداً في دأبهم في محاوراتهم، لا يشك فيه منهم عاقل عالم أو جاهل أصلاً، فلعنة الله على من حمله على الظاهر من أهل العناد ببدعة الاتحاد على من تبعهم على ذلك من الرعاع الطغام الذي شاقوا الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، وجميع الأئمة الأعلام، وسائر أهل الإسلام: ورضوا لأنفسهم بأن يكونوا أتباع فرعون اللعين، وناهيك به في ضلال مبين.
ولما كان كلام الله تعالى وإن جرى مجرى الشرط والتهديد لابد أن يقع منه شيء وإن قل، وكان من سر التعبير بالمضارع {يبايعونك} الإشارة إلى نكث الجد بن قيس أصل بيعته على الإسلام فإنه اختبأ في الحديبية وقت البيعة في وقت من الأوقات، فلم يبايع، سبب عن ذلك وفصل ترغيباً وترهيباً، فقال معبراً بالماضي إيذاناً بأنه لا ينكث أحد من أهل هذه البيعة: {فمن نكث} أي نقض في وقت من الأوقات فجعلها كالكساء الخلق والحبل البالي الذي ينقض {فإنما ينكث} وعبر بالمضارع إشارة إلى أن من فعل النكث فهو في كل لحظة ناكث نكثاً جديداً {على نفسه} لا على غيرها فإنه بمرأى من الله ومسمع وهو قادر عليه جدير بأن يعاقبه بعد ما عجل لنفسه من العار العظيم في الدنيا ويستحل به على نكثه عذاباً أليماً، ولا يضر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فإن الله ناصره لا محالة، وكذا كل منكوث به إذا أراد الله نصرته فإن يده سبحانه فوق كل يد.
ولما أتم الترهيب لأنه مقامه للحث على الوفاء الذي به قيام الدين على أبلغ وجه، أتبعه على عادته الترغيب إتماماً للحث فقال تعالى: {ومن أوفى} أي فعل الإتمام والإكثار والإطالة {بما عهد} وقدم الظرف اهتماماً به فقال: {عليه الله} أي الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً من هذه المبايعة وغيرها فإنما وفاؤه لنفسه {فسيؤتيه} أي بوعد لا خلف فيه {أجراً عظيماً} لا يسع عقولكم شرح وصفه، ومن قرأ بالنون أظهر ما ستر في الجلالة من التعظيم، والآية من الاحتباك: ذكر أولاً أن النكث عليه دليلاً على أن الوفاء له ثانياً، وإيتاء الأجر ثانياً دليلاً على إحلال العقاب أولاً وسره أنه بين أن ما يرديه الناكث من الأذى لغيره إنما هو واقع به، لأن ذلك أعظم في الترهيب عن النكث لما جبل الإنسان عليه من النفرة عن ضر نفسه وبعده عنه، وذكر الأجر للموفي لأنه أعظم في الترغيب، وسبب بيعة الرضوان هذه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فهم من بروك ناقته في الحديبية الإشارة من الله سبحانه وتعالى إلى أنه لم يأذن في دخولهم البلد الحرام في هذه السفرة، فمشى مع إرادته سبحانه وتعالى لأنه ليس فيها مخالفة لما أمر به سبحانه إلى أن وقع الصلح الذي كان الفتح هو بعينه، وكان في غضون ذلك أن أرسل عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه إلى مكة المشرفة ليخبر قريشاً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجئ لقتال وأنه لا يريد إلا الاعتمار، فأرجف مرجفون بأنه قد قتل، فعزم النبي صلى الله عليه وسلم على مناجزتهم فبايع الصحابة رضي الله عنهم على أن لا يفروا عنه، فبايع كل من كان معه إلا جد بن قيس، فإنه اختبأ تحت إبط بعيره فلم يبايع، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر».

.تفسير الآيات (11- 15):

{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)}
ولما ذكر سبحانه وتعالى أهل بيعة الرضوان، وأضافهم إلى حضرة الرحمن، تشوف السامع إلى الخبر عمن غاب عن ذلك الجناب، وأبطأ عن حضرة تلك العمرة، فاستؤنف الإخبار عما ينافقون به بقوله تعالى: {سيقول} أي بوعد لا خلف فيه، وأكد أمر نفاقهم تنبيهاً على جلدهم فيه ووقاصهم به ولطف النبي صلى الله عليه وسلم وشدة رحمته ورفقه وشفقته فقال: {لك} أي لأنهم يعلمون أنك ألطف الخلق عشرة وأعظمهم شفقة على عباد لله، فهم يطمعون في قبولك من فساد عذرهم ما لا يطمعون فيه من غيرك من خلص المؤمنين، وغاب عنهم- لما عندهم من غلظ الأكباد أن الكذب بحضرتك في غاية القباحة لأنك أعظم الخلق وأفطنهم، مع ما يأتيك من الأنباء عن علام الغيوب، وحقر أمرهم بسلب العقل عنهم وجعلهم مفعولين لا فاعلين إشارة إلى أنهم طردوا عن هذا المقام، لأنهم أشرار لئام، فقال تعالى: {المخلفون} أي الذين- خلفهم الله عنك ولم يرضهم لصحبتك في هذه العمرة، فجعلهم كالشيء التافه الذي يخلفه الإنسان، لأنه لا فائدة فيه فلا يؤبه له ولا يعبأ به، وذلك إنه صلى الله عليه وسلم لما أراد الاعتمار ندب أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين لذلك، وندب من الأعراب الذين حول المدينة الشريفة من كان قد أقر بالإسلام، فلم يرد الله حضورهم لأن إسلامهم لم يكن خالصاً فلو حضروا لفسد بهم الحال، وإن حفظ الله بحوله وقوته من الفساد، أعقب ذلك فساداً آخر وهو أن يقال: إنه لم يكف عنهم الأعداء إلا الكثرة، فتخلفوا لما علم الله في تخلفهم من الحكم.
ولما كان قد تخلف بالجسد من خلص الأنصار وغيرهم من كان حاضراً معه صلى الله عليه وسلم بالقلب أخرجهم بقوله: {من الأعراب} أي أهل البادية كذباً وبهتاناً جرأة على الله ورسوله {شغلتنا} أي عن إجابتك في هذه العمرة {أموالنا وأهلونا} أي لأنا لو تركناها ضاعت، لأنه لم يكن لنا من يقوم بها وأنت قد نهيت عن إضاعة المال والتفريط في العيال، ثم سببوا عن هذا القول المراد به السوء قولهم: {فاستغفر} أي اطلب المغفرة {لنا} من الله إن كنا أخطأنا أو قصرنا.
ولما كان هذا ربما يغتر به من لا خبرة له، رده تعالى بقوله منبهاً على أن من صدق مع الله لم يشغله عن شاغل، ومن شغله عنه شيء كان شوماً عليه: {يقولون} وعبر بالمضارع إشارة إلى أن هذا ديدن لهم لا ينفكون عنه. ولما صح بعد ذلك إيمان، لم يعبر بالأفواه دأبه، في المنافقين، بل قال: {بألسنتهم} أي في الشغل والاستغفار، وأكد ما أفهمه ذكر اللسان من أنه قول ظاهري نفياً للكلام الحقيقي الذي هو النفسي بكل اعتبار بقوله: {ما ليس في قلوبهم} لأنهم لم يكن شغل ولا كانت لهم نية في سؤال الاستغفار.
ولما كان فعلهم هذا من تخلفهم واعتلالهم وسؤالهم الاستغفار ظناً منهم أنهم يدفعون عن أنفسهم بذلك المكروه ويحصلون لها المحبوب وكان كأنه قيل: قد علم كذبهم، فماذا يقال لهم؟ استأنف سبحانه الجواب بقوله: {قل} أي لهؤلاء الأغبياء واعظاً لهم مسبباً عن مخادعتهم لمن لا يخفى عليه خافية إشارة إلى أن العاقل يقبح عليه أن يقدم على ما هو بحيث تخشى عاقبته: {فمن يملك لكم} أيها المخادعون {من الله} أي الملك الذي لا أمر لأحد معه لأنه لا كفوء له {شيئاً} يمنعكم منه {إن أراد بكم} أي خاصة {ضراً} أي نوعاً من أنواع الضرر عظيماً أو حقيراً، فأهلك الأموال والأهلين وأنتم محتاطون في حفظهما فلا ينفعها حضوركم أو أهلككم أنتم {أو أراد بكم نفعاً} بحفظهما به مع غيبتكم فلا يضرها بعدكم عنها، ويحفظكم في أنفسكم، وقد علم من تصنيفه سبحانه حالهم إلى صنفين مع الإبهام أنه يكون لبعضهم الضر لأن منهم من ارتد في زمن الردة، ولبعضهم النفع لأنه ثبت على الإسلام.
ولما كان التقدير قطعاً: لا أحد يملك منه سبحانه لهم شيئاً من ذلك بل هو قادر على كل ما يريد منه، فعلكم لما عندكم من الجلافة والغباوة والكثافة فعل من يظن أنه لا يقدر عليكم ولا يعلم كثيراً مما تعملون، فيخفى عليه كذبكم، وليس الأمر كما ظننتم فإنه لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، بنى عليه ما أرشد إلى تقديره فقال تعالى: {بل كان الله} أي المحيط أزلاً وأبداً بكل شيء قدرة علماً {بما تعملون} أي الجهلة {خبيراً *} أي يعلم بواطن أموركم هذه وغيرها كما يعلم ظواهرها.
ولما أضرب عن ظنهم أن كذبهم يخفى عليه بأمر عام، وقدمه لأنه أعم نفعاً بما فيه من الشمول، أتبعه الإضراب عن مضمون كلامهم فقال: {بل} أي ليس تخلفكم لما أخبرتم به من الاشتغال بالأهل والأموال {ظننتم} وأنتم واقفون مع الظنون الظاهرة، ليس لكم نفوذ إلى البواطن، وأشار إلى تأكد ظنهم على زعمهم فقال: {أن لن ينقلب} ولما كان الكلام فيما هو شأن الرسول من الانبعاث والمسير، قال مشيراً إلى أن من أرسل رسولاً إلى شيء وهو لا يقدر على نصره ليبلغ ذلك الشيء إلى الغاية التي أرادها منه كان عاجزاً عما يريد: {الرسول} وعظم التابعين فقال: {والمؤمنون} معبراً بما يحق لهم من الوصف المفهم للرسوخ وأفهم تأكيد ذلك عندهم بقوله تعالى: {إلى أهليهم أبداً} أي لما في قلوبكم من عظمة المشركين وحقارة المؤمنين فحملكم ذلك على أن قلتم: ما هم في قريش إلا أكلة رأس.
ولما كان الإنسان قد يظن ما لا يجب، قال مشيراً بالبناء للمفعول إلى أن ما حوته قلوبهم مما ينبغي أن ينزه سبحانه وتعالى عن نسبته إليه وإن كان هو الفاعل له في الحقيقة: {وزين ذلك} أي الأمر القبيح الذي خراب الدنيا {في قلوبكم} حتى أحببتموه.
ولما علم أن ذلك سوء، صرح به على وجه يعم غيره فقال: {وظننتم} أي بذلك وغيره مما يترتب عليه من إظهار الكفر وما يتفرع منه {ظن السوء} أي الذي لم يدع شيئاً مما يكره غاية الكراهة إلا أحاط به. ولما انكشف جميع أمره كشف أثره فقال: {وكنتم} أي بالنظر إلى جمعكم من حيث هو جمع في علمنا قبل ذلك بما جبلناكم عليه وعلى ما كشفه الحال عنه من له بصيرة {قوماً} أي مع قوتكم على ما تحاولونه {بوراً *} أي في غاية الهلاك والكساد والفساد، وعدم الخير لأنكم جبلتم على ذلك الفساد، فلا انفكاك لهم عنه، وهذا كما مضى بالنظر إلى الجميع من حيث هو جمع لا بالنسبة إلى كل فرد فإنه قد أخلص منهم بعد ذلك كثير، وثبتوا فلم يرتدوا.
ولما كان التقدير: ذلك لأنكم لم تؤمنوا، فمن آمن منكم ومن غيركم وأخلص، أبحناه جنة وحريراً، عطف عليه قوله معمماً: {ومن لم يؤمن} منكم ومن غيركم {بالله} أي الذي لا موجود في الحقيقة سواه {ورسوله} أي الذي أرسله لإظهار دينه وهو الحقيق بالإضافة إليه، معبراً عنه بالاسم الأعظم، وللزيادة في تعظيمه وتحقير شانئه وتوهية كيد التفت إلى مقام التكلم بمظهر العظمة فقال: {فإنا} أي على ما لنا من العظمة {أعتدنا} له أو لهم هكذا كان الأصل، ولكنه قال معلقاً للحكم بالوصف إيذاناً بأن من لم يجمع الإيمان بهما فهو كافر، وإن السعير لمن كان كفره راسخاً فقال تعالى: {للكافرين} أي الذين لا يجمعون الإيمان بالمرسل والرسول فيكونون بذلك كفاراً، ويستمرون على وصف الكفر لأنهم جبلوا عليه {سعيراً *} أي ناراً شديدة الإيقاد والتلهب، فهي عظيمة الحر توجب الجنون وإيقاد الباطن بالجوع بحيث لا يشبع صاحبه والانتشار بكل شر، فإن التنكير هنا للتهويل والتعظيم، وهذه الآية مع ما أرشد السياق إلى عطفها عليه ممن يؤمن دالة- وإن كانت في سياق الشرط- على أن أكثرهم يخلص إيمانه بعد ذلك.
ولما انقضى حديث الجنود عامة ثم خاصة من المنتدبين والمخلصين وختم بعذاب الكافرين، وكان المتصرف في الجنود ربما كان بعض خواص الملك، فلا يكون تصرفه فيهم تاماً، وكان الملك قد لا يقدر على عذاب من أراد من جنوده، وكان إذا قدر قد لا يقدر على العذاب بكل ما يريده من السعير الموصوف وغيره لعدم عموم ملكه قال تعالى عاطفاً على آية الجنود: {ولله} أي الملك الأعظم وحده {ملك السماوات والأرض} أي من الجنود وغيرها، يدبر ذلك كله كيف يشاء لا راد لحكمه ولا معقب.
ولما لم يكن في هؤلاء من عذب بما عذب الأمم الماضية من الريح وغيرها، لم يذكر ما بين الخافقين، وذكر نتيجة التفرد بالملك بما يقتضيه الحال من الترغيب والترهيب: {يغفر لمن يشاء} أي لا اعتراض لأحد عليه بوجه ما {ويعذب من يشاء} أي لأنه لا يجب عليه شيء ولا يكافيه شيء، وليس هو كالملوك الذين لا يتمكنون من مثل ذلك لكثرة الأكفاء المعارضين لهم في الجملة، وعلم من هذا التقسيم المبهم أيضاً أن منهم من يرتد فيعذبه، ومنهم من يثبت على الإسلام فيغفر له لأنه لا يعذب بغير ذنب وإن كان له أن يفعل ذلك، لأنه لا يسأل عما يفعل وملكه تام، فتصرفه فيه عدل كيفما كان. ولما كان من يفعل الشيء في وقت قد لا يستمر على وصف القدرة عليه قال تعالى: {وكان الله} أي المحيط بصفات الكمال أزلاً وأبداً، لم يتجدد له شيء لم يكن. ولما ابتدأ الآية بالمغفرة ترغيباً في التوبة، ختم بذلك لأن المقام له، وزاد الرحمة تشريفاً لنبي المرحمة بالترغيب والدلالة على أن رحمته غلبت غضبه فقال: {غفوراً} أي لذنوب المسيئين {رحيماً *} أي مكرماً بعد الستر بما لا تسعه العقول، وقدرته على الإنعام كقدرته على الانتقام. ولما ذم المخلفين بما منه- أي من الذم- أنهم هالكون بعد أن قدم أنه لعنهم، وكان قد وعد سبحانه أهل الحديبية فتح خيبر جبراً لهم بما منعهم من الاستيلاء على مكة المشرفة لما له في ذلك من الحكم البالغة الدقيقة، وختم بأنه نافذ الأمر، وكان ذلك مستلزماً لإحاطة العلم، دل على كلا الأمرين بقوله استئنافاً، جواباً لمن كأنه قال: هل يغفر للمخلفين حتى يكونوا كأنهم ما تخلفوا؟: {سيقول} أي بوعد لا خلف فيه.
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم بحيث لا مطمع لأحد في أن يظفر منه بشيء من خلاف الأمر الله، أسقط ما عبر به في ذكرهم أولاً من خطابه وقال: {المخلفون} أي لمن يطمعون فيه من الصحابة أن يسعى في تمكينهم من المسير في جيشه صلى الله عليه وسلم لخفاء الحكم عليه ونحو ذلك، ولم يقيدهم بالأعراب ليعم كل من كان يتخلف من غيرهم {إذا انطلقتم} بتمكين الله لكم {إلى مغانم}.
ولما أفهم اللفظ الأخذ، والتعبير بصيغة منتهى الجموع كثرتها، صرح بالأول رفعاً للمجاز فقال: {لتأخذوها} أي من خيبر {ذرونا} أي على أي حالة شئتم من الأحوال الدنية {نتبعكم} ولما كان يلزم من تمكينهم من ذلك إخلاف وعد الله بأنها تخص أهل الحديبية، وأنه طرد المنافقين وخيب قصدهم، علل تعالى قولهم بقوله: {يريدون} أي بذهابكم معكم {أن يبدلوا كلام الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً في الإخبار بلعنهم وإبارتهم، وأن فتح خيبر مختص بأهل الحديبية، لا يشركهم فيه إلا من وافقهم في النية والهجرة، ليتوصلوا بذلك إلى تشكيك أهل الإسلام فيه، والمراد أن فعلهم فعل من يريد ذلك، ولا يبعد أن يكونوا صنفين: منهم من يريد ذلك، ومنهم من لم يرده ولكن فعل من يريده.
ولما كان السامع جديراً بأن يسأل عما يقال لهم، قال مخاطباً لأصدق الخلق عليه الصلاة والسلام: {قل} أي يا حبيب لهم إذا بلغك كلامهم أنت بنفسك، فإن غيرك لا يقوم مقامك في هذا الأمر المهم، قولاً مؤكداً: {لن تتبعونا} وإن اجتهدتم في ذلك، وساقه مساق النفي وإن كان المراد به النهي، لأنه مع كونه آكد يكون علماً من أعلام النبوة، وهو أزجر وأدل على الاستهانة.
ولما أذن هذا التأكيد أنه من عند من لا يخالف أصلاً في مراده، بينه تعالى بقوله: {كذلكم} أي مثل هذا القول البديع الشأن العلي الرتبة {قال الله} أي الذي لا يكون إلا ما يريد وليس هو كالملوك الذين لا قدرة لهم على الغفران لمن شاؤوا والعقاب لمن شاؤوا {من قبل} هذا الوقت، وهو الذي لا يمكن الخلف في قوله، فإنه قضى أن لا يحضر خيبر المرادة بهذه الغنائم إلا من حضر الحديبية، وأمر بذلك فكان ما قال بعد اجتهاد بعض المخلفين في إخلافه فإنهم غيّرهم الطمع بعد سماعهم قول الله هذا، فطلبوا أن يخرجوا معه صلى الله عليه وسلم فمنعوا فلم يحضرها غيرهم أحد، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم رجع من الحديبية في ذي الحجة سنة ست، فأقام إلى أثناء محرم سنة سبع، وخرج بأهل الحديبية إلى خيبر ففتحها الله عليه، وأخذ جميع أموالها من المنقولات والعقارات، وأتى إليه صلى الله عليه وسلم وهو بها بعد فتحها ابن عمه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وبعض من معهم من مهاجرة الحبشة، فأشركهم النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل الحديبية لأنهم لم يكونوا مخلفين بل كانوا متخلفين لعذر عدم الإدراك.
ولما كانوا منافقين لا يعتقدون شيئاً من هذه الأقوال، بل يظنون أنها حيل على التوصل إلى المرادات الدنيوية، سبب عن قولهم له ذلك تنبيهاً على جلافتهم وفساد ظنونهم: {فسيقولون}: ليس الأمر كما ذكر مما ادعى أنه قول الله {بل} إنما ذلكم لأنكم {تحسدوننا} فلا تريدون أن يصل إلينا من مال الغنائم شيء. ولما كان التقدير: وليس الأمر كما زعموا، رتب عليه قوله: {بل كانوا} أي جبلة وطبعاً {لا يفقهون} أي لا يفهمون فهم الحاذق الماهر {إلا قليلاً} في أمر دنياهم، ومن ذلك إقرارهم بالإيمان لأجلها، وأما أمور الآخرة فلا يفهمون منها شيئاً.