فصل: تفسير الآيات (16- 17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (16- 17):

{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)}
ولما كان ذلك يوقع في نفس السامع السؤال عن هذا الطرد: هل يستمر؟ أجيب بأنهم سيمتحنون بأمر شاق يحدثه الله للتمييز بين الخلص وغيرهم، فقال مكرراً لوصفهم بالتخلف إعلاماً بأنهم في الحقيقة ما تخلفوا، بل منعوا طرداً لهم وإبعاداً معذباً لهم بما خلفهم عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العمرة من الخوف من قتال قريش لشدة بأسهم كما أثاب المحبين له صلى الله عليه وسلم بضد ما عزموا عليه من القتال إلى النصر أو الموت من كف أيديهم عنهم بما جعله الله سبباً للفتح الأعظم والتفرغ لفتح خيبر وأخذ غنائمها الكثيرة من غير كبير كلفة {قل} يا أعظم الخلف {للمخلفين} وزاد في ذمهم بنسبتهم إلى الجلافة فقال: {من الأعراب} أي أهل غلظ الأكباد، ويجوز أن يكون هذا القيد للاحتراز عن المخلفين من أهل المدينة فيكون إشارة إلى أن الأعراب ينقسمون عند هذا الدعاء إلى مطيع وعاص- كما أشار إليه تقسيمه سبحانه لهم- وأن المخلفين من أهل المدينة لمثل ما اعتل به الأعراب لا مطمع في صلاحهم: {ستدعون} بوعد لا خلف فيه بإخبار محيط العلم والقدرة دعوة محيطة ونفيراً عاماً لما أفهمه الإسناد إلى جميعهم من داع صحت إمامته فوجبت طاعته، ودل على بعدهم من أرضهم بقوله تعالى: {إلى قوم}.
ولما أفهم التعبير بذلك أن لهم قوة وشدة على ما يحاولونه، أوضح المعنى بقوله: {أولي بأس} أي شدة في الحرب وشجاعة مع مكر ودهاء {شديد}. ولما كان المعنى كأنه قيل: لماذا؟ قال تعالى: {تقاتلونهم} أي بأمر إمامكم {أو يسلمون} أي يدعوكم إليهم ليكون أحد الأمرين المظهرين لأن كلمة الله هي العليا: المقاتلة منكم أو الإسلام منهم، فإن لم يسلموا كان القتال لا غير، وإن أسلموا لم يكن قتال، لأن الإمام لا غرض له إلا إعلاء كلمة الله، ولا يكون شيء غير هذين الأمرين من إبقاء بجزية أو مصالحة أو متاركة إلى مدة، ونحو ذلك، وهذا الداعي هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه والقوم بنو حنيفة وغيرهم من أهل الردة الذين كان الدعاء لهم أول خلافة الصديق رضي الله عنه، وأما قول من قال: إنهم ثقيف، فضعيف، لأن الدعاء لم يكن إليهم إنما كان المقصود بالذات فتح مكة، وكان أمر هوازن وثقيف وغيرهما تبعاً له في غزوته، لم يكن بينهم شيء، وأيضاً فإن ثقيف لما عسر أمرهم تركهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى أسلموا بعد ذلك، وترك أيضاً فلاّل هوازن فلم يتبعهم ولم يؤمر باتباعهم، فظاهر الآية أنه إذا انتشب القتال لم يترك إلا أن حصل الإسلام، والقول بأنهم فارس والروم ضعيف أيضاً، فإن كلاًّ منهم تقبل منه الجزية، وتأويله بأنه إسلام لغوي لا داع له مع إمكان الحقيقة، وقد كان ما أشار إليه التقسيم فإنهم لما دعوا إليهم انقسموا إلى مجيب وهم الأكثر، وقد آتاهم الله الأجر الحسن في الدنيا بالغنيمة والذكر الجميل وهو المرجو في الآخرة، ومرتد وهم قليل وقد أذاقهم الله العذاب الأليم في الدنيا بالقتل على أقبح حال، وهو يذيقهم في الآخرة أعظم النكال، وأما قتال غير العرب فأطاع فيه الكل ولم يحصل فيه ما أشير إليه من التقسيم، فتحقق بهذا أنهم أهل الردة- والله الموفق، ولذلك سبب عن دعوة الحق قوله مردداً القول في حالهم مبهماً له إشارة إلى أنهم عند الدعاء ينقسمون إلى مقبل ومتول: {فإن تطيعوا} أي توقعوا الطاعة للداعي إلى ذلك، وهو أبو بكر رضي الله عنه {يؤتكم الله} أي الذي له الإحاطة والقدرة على الإعطاء والمنع، لا راد لأمره {أجراً حسناً} دنيا وأخرى، جعل الله طاعة أبي بكر رضي الله عنه في هذا الأمر بالخصوص كطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي طاعته طاعة الله، جزاء له على خصوصه في مزيد تسليمه لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من الصلح وثباته بما أجاب به عمر رضي الله عنهما بمثل جواب النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يكون حاضراً له كما هو معلوم من السيرة.
ولما كانت مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن يقوم مقامه لا تكون إلا من منازعة في الفطرة الأولى ومعالجة لها، عبر بالتفعل فقال: {وإن تتولوا} عن قبول دعوته عصياناً {كما توليتم} أي عالجتم أنفسكم وكلفتموها التولي بالتخلف عن الرسول صلى الله عليه وسلم {من قبل} أي بعض الأزمان التي تقدمت على هذا الدعاء، وذلك في الحديبية {يعذبكم} أي يخالطكم بعقوبة تزيل العذوبة في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما {عذاباً أليماً} لأجل تكرر ذلك منكم.
ولما توعد المتخلفين بتخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم توعدهم في التقاعد عن هذا الإمام القائم بعده بالحق، وكان أهل الأعذار لا يتيسر لهم ما أريد بهذا الدعاء، وكان الدين مبنياً على الحنيفية السمحة، استأنف قوله تعالى مسكناً لما اشتثاره الوعيد من روعهم: {ليس على الأعمى} أي في تخلفه عن الدعاء إلى الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم أو مع غيره من أئمة الدعاء {حرج} أي ميل بثقل الإثم لأجل أن عماه موهن لسعيه وجميع بطشه، ولأجل تأكيد المعنى تسكيناً لما ثار من روع المؤمن كرر النافي والحرج في كل جملة مستقلة تأكيداً لهذا الأمر فقال: {ولا على الأعرج} وإن كان نقصه أدنى من نقص العمى {حرج} وجعل كل جملة مستقلة تأكيداً لهذا الحكم.
ولما ذكر هذين الأثرين الخاصين المزيد ضررهما في العاقة عن كمال الجهاد، عم بقوله: {ولا على المريض} أي بأيّ مرض {حرج} فلم يخرج أهل هذه الأعذار الذين لم يمنعهم إلا إعذارهم عن أهل الحديبية، وأطلب الحرج المنفي ليقبل التقدير بالتخلف ولا حاجة لأن حضورهم لا يخلو عن نفع في الجهاد، وذكر هكذا دون أسلوب الاستثناء إيذاناً بأنهم لم يدخلوا في الوعيد أصلاً حتى يخرجوا منه.
ولما بشر المطيعين لتلك الدعوة وتوعد القاعدين عنها وعذر المعذورين، وكانت إجابة المعذورين جائزة، بل أرفع من قعودهم، ولذلك لم ينف إجابتهم إنما نفى الحرج، قال معمماً عاطفاً على ما تقديره: فمن تخلف منهم فتخلفه مباح له: {ومن يطع الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال المفيض من آثار صفاته على من يشاء ولو كان ضعيفاً، المانع منها من يشاء وإن كان قوياً {ورسوله} من المعذورين وغيرهم فيما ندبا إليه من أي طاعة كانت إجابته {يدخله} أي الله الملك الأعظم جزاء له {جنات تجري} ونبه على قرب منال الماء بإثبات الجار في قوله: {من تحتها الأنهار} أي ففي أي موضع أردت أجريت نهراً {ومن يتول} أي كائناً من كان من المخاطبين الآن وغيرهم، عن طاعة من الطاعات التي أمرا بها من أي طاعة كانت {يعذبه} أي على توليه في الدارين أو إحداهما {عذاباً أليماً} وقراءة أهل المدينة والشام {ندخله ونعذبه} بالنون أظهر في إرادة العظمة لأجل تعظيم النعمة والنقمة.

.تفسير الآيات (18- 21):

{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)}
ولما وعد المطيع وأوعد العاصي، وكانت النفوس إلى الوعد أشد التفاتاً، دل عليه بثواب عظيم منه أمر محسوس يعظم جذبه للنفوس القاصرة عن النفوذ في عالم الغيب، فقال مؤكداً لأن أعظم المراد به المذبذبون، مفتتحاً بقد لأن السياق موجب للتوقع لما جرى من السنة الإلهية أنها إذا شوقت إلى شيء دلت عليه بمشهود يقرب الغائب الموعود: {لقد رضي الله} أي الذي له الجلال والجمال {عن المؤمنين} أي الراسخين في الإيمان، أي فعل معهم فعل الراضي بما جعل لهم من الفتح وما قدر له من الثواب، وأفهم ذلك أنه لم يرض عن الكافرين فخذلهم في الدنيا مع ما أعد لهم في الآخرة، فالآيات تقرير لما ذكر من جزاء الفريقين بأمور مشاهدة.
ولما ذكر الرضى، ذكر وقته للدلالة على سببه فقال: {إذ} أي حين، وصور حالهم إعلاماً بأنها سارة معجبة شديدة الرسوخ في الرضى فقال: {يبايعونك} في عمرة الحديبية لما صد المشركون عن الوصول إلى البيت، فبعثت عثمان رضي الله عنه إليهم ليخبرهم بأنك لم تجئ لقتال وإنما جئت للعمرة، فبلغك أنهم قتلوه فندبت إلى البيعة لمناجزتهم فبايعك كل من كان معك على أن لا يفروا لتناجز بهم القوم؛ وزاد الأمر بياناً وقيده تفضيلاً لأهل البيعة بقوله: {تحت الشجرة} واللام للعهد الذهني، وكانت شجرة في الموضع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم نازلاً به في الحديبية، ولأجل هذا الرضى سميت بيعة الرضوان، وروى البغوى من طريق الثعلبي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة».
ولما دل على إخلاصهم بما وصفهم، سبب عنه قوله: {فعلم} أي لما له من الإحاطة {ما في قلوبهم} أي من مطابقته لما قالوا بألسنتهم في البيعة، وأن ما حصل لبعضهم من الاضطراب في قبول الصلح والكآبة منه إنما هو لمحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإيثار ما يريد من إعلاء دينه وإظهاره لا عن شك في الدين، وسبب عن هذا العلم ترغيباً في مثل هذا المحدث عنهم قوله: {فأنزل السكينة} أي بثبات القلوب وطمأنيتها في كل حالة ترضي الله ورسوله، ودل على عظمها بحيث إنها تغلب الخوف وإن عظم بقوله: {عليهم} فأثر ذلك أنهم لم يخافوا عاقبة القتال لما ندبوا إليه وإن كانوا في كثرة الكفار كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، لا أثر الصلح بما يتراءى فيه من الضعف وغيره من مخايل النقص في قلوبهم في ذلك المقام الدحض والمواطن الضنك إلا ريثما رأوا صدق عزيمة الرسول صلى الله عليه وسلم ومضى أمره في ذلك بما يفعل ويقول.
ولما ذكر منّه سبحانه وتعالى عليهم بما هو الأصل الذي لا يبنى إلا عليه، أتبعه آثاره فقال: {وأثابهم} أي أعطاهم جزاء لهم على ما وهبهم من الطاعة والسكينة فيها جزاء، مقبلاً عليهم، يملأ مواضع احتياجهم، هو أهل لأن يقصده الإنسان ويتردد في طلبه لما له من الإقبال والمكنة والشمول {فتحاً} بما أوقع سبحانه من الصلح المترتب على تعجيز قريش عن القتال {قريباً} بترك القتال الموجب بعد راحتهم وقوتهم وجمومهم لاختلاط بعض الناس ببعض فيدخل في الدين من كان مباعداً له لما يرى من محاسنه، فسيكون الفتح الأعظم فتح المكة المشرفة الذي هو سبب لفتح جميع البلاد.
ولما ذكر الفتح ذكر بعض ثمرته فقال: {ومغانم} فنبه بصيغة منتهى الجموع إلى أنها عظيمة، ثم صرح بذلك في قوله: {كثيرة} ولما كان الشيء ربما أطلق على ما هو بالقوة دون الفعل، أزال ذلك بقوله تعالى: {يأخذونها} وهي خيبر. ولما كان ذلك مستبعداً لكثرة الكفار وقلة المؤمنين، بين سببه فقال عاطفاً على ما تقديره: بعزة الله وحكمته: {وكان الله} أي الذي لا كفوء له {عزيزاً} أي يغلب ولا يغلب {حكيماً} يتقن ما يريد فلا ينقض.
ولما قرب ذلك وتأكد وتحرر وتقرر، أقبل سبحانه وتعالى عليهم بالخطاب تأكيداً لمسامعهم فقال مزيلاً لكل احتمال يتردد في خواطر المخلفين: {وعدكم الله} أي الملك الأعظم {مغانم} وحقق معناها بقوله: {كثيرة تأخذونها} أي فيما يأتي من بلدان شتى لا تدخل تحت حصر، ثم سبب عن هذا الوعد قوله: {فعجل لكم} أي منها {هذه} أي القضية التي أوقعها بينكم وبين قريش من وضع الحرب عشر سنين، ومن أنكم تأتون في العام المقبل في مثل هذا الشهر معتمرين فإنها سبب ذلك كله، عزاه أبو حيان لابن عباس رضي الله عنهما وهو في غاية الظهور، ويمكن أن يكون المعنى: التي فتحها عليكم من خيبر من سببها وأموالها المنقولات وغيرها {وكف أيدي الناس} أي من أهل خيبر وحلفائهم أسد وغطفان أن يعينوا أهل خيبر أو يغيروا على عيالاتكم بعد ما وهموا بذلك بعد ما كف أيدي قريش ومن دخل في عهدهم بالصلح {عنكم} على ما أنتم فيه من القلة والضعف.
ولما كان التقدير: رحمة لكم على طاعتكم لله ورسوله وجزاء لتقوى أيديكم، وتروا أسباب الفتح القريبة بما يدخل من الناس في دينكم عند المخاطبة بسبب الإيمان، عطف عليه قوله: {ولتكون} أي هذه الأسباب من الفتح والإسلام {آية} أي علامة هي في غاية الوضوح {للمؤمنين} أي منكم على دخول المسجد الحرام آمنين في العمرة ثم في الفتح ومنكم ومن غيركم من الراسخين في الإيمان إلى يوم القيامة على جميع ما يخبر الله به على ما وقع التدريب عليه في هذا التدبير الذي دبره لكم من أنه لطيف يوصل إلى الأشياء العظيمة بأضداد أسبابها فيما يرى الناس فلا يرتاع مؤمن لكثرة المخالفين وقوة المنابذين أبداً، فإن سبب كون الله مع العبد هو الاتباع بالإحسان الذي عماده الرسوخ في الإيمان الذي علق الحكم به، فحيث ما وجد عليه وجد المعلق وهو النصر بأسباب جلية أو خفية {ويهديكم} في نحو هذا الأمر الذي دهمكم فأزعجكم بالثبات عند سماع الموعد والوعيد والثقة بمضمونه لأنه قادر حكيم، فهو لا يخلف الميعاد بأن يهديكم {صراطاً مستقيماً} أي طريقاً واسعاً واضحاً موصلاً إلى الكرامة من غير شك، وهذا من أعلام النبوة فإنه لم يزغ أحد من المخاطبين بهذه الآية وهم أهل الحديبية وكأنه والله أعلم لذلك لم يقل: ويهديهم- بالغيب على ما اقتضاه السياق لئلا يغم غيرهم ممن يظهر صدقه في الإيمان ثم يزيغ، ولذا أكثر تفاصيل هذه السورة من أعلام النبوة، فإنه وقع الإخبار به قبل وقوعه.
ولما سرهم سبحانه بما بشرهم به من كون القضية فتحاً ومن غنائم خيبر، أتبع ذلك البشارة دالاً على أنها لا مطمع لهم في حوزه ولا علاجه لولا معونته فقال: {وأخرى} أي ووعدكم مغانم كثيرة غير هذه وهي- والله أعلم- مغانم هوازن التي لم يحصل قبلها ما يقاربها. ولما كان في علمه سبحانه وتعالى أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم مقرون فيها إلا من لا يمكنه في العادة أن يهزمهم ليحوي الغنائم، فكان ما في علمه تعالى لتحققه كالذي وقع وانقضى، قال تعالى: {لم تقدروا} أي بما علمتم من قراركم {عليها} ولما توقع السامع بعد علمه بعجزهم عنها الإخبار عن السبب الموصل إلى أخذها بما تقرر عند من صدق الوعد بها، قال مفتتحاً بحرف التوقع: {قد أحاط الله} أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة {بها} فكانت بمنزلة ما أدير عليه سورة مانع من أن يغلب منها شيء عن حوزتكم أو يقدر غيركم أن يأخذ منها شيئاً، ولذلك وللتعميم ختم الآية بقوله: {وكان الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال أزلاً وأبداً {على كل شيء} منها ومن غيرها {قديراً} بالغ القدرة لأنه بكل شيء عليم.

.تفسير الآيات (22- 25):

{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)}
ولما قدم سبحانه أنه كف أيدي الناس عنكم أجمعين، ذكر حكمهم لو وقع قتال، فقال مقرراً لقدرته عاطفاً على نحو: فلو أراد لمكنكم من الاعتمار، مؤكداً لأجل استبعاد من يستبعد ذلك من الأعراب وغيرهم: {ولو قاتلكم} أي في هذا الوجه {الذين كفروا} أي أوقعوا هذا الوصف من الناس عموماً الراسخ فيه ومن دونه، وهم أهل مكة ومن لاقهم، وكانوا قد اجتمعوا وجمعوا الأحابيش ومن أطاعهم وقدموا خالد بن الوليد طليعة لهم إلى كراع الغميم، ولم يكن أسلم بعد {لولوا} أي بغاية جهدهم {الأدبار} منهزمين.
ولما كان عدم نصرهم بعد التولية مستبعداً أيضاً لما لهم من كثرة الإمداد وقوة الحمية، قال معبراً بأداة البعد: {ثم} أي بعد طول الزمان وكثرة الأعوان {لا يجدون} في وقت من الأوقات {ولياً} أي يفعل معهم فعل القريب من الحياطة والشفقة والحراسة من عظيم ما يحصل من رعب تلك التولية {ولا نصيراً}.
ولما كانت هذه عادة جارية قديمة مع أولياء الله تعالى حيثما كانوا من الرسل وأتباعهم، وأن جندنا لهم الغالبون، قال تعالى: {سنة الله} أي سن المحيط بهذا الخلق في هذا الزمان وما بعده كما كان محيطاً بالخلق في قديم الدهر، ولذلك قال: {التي قد خلت} أي سنة مؤكدة لا تتغير، وأكد الجار لأجل أن القتال ما وقع الزمان الماضي إلا بعد نزول التوراة فقال: {من قبل} وأما قبل ذلك فإنما كان يحصل الهلاك بأمر من عند الله بغير أيدي المؤمنين {ولن تجد} أيها السامع {لسنة الله} الذي لا يخلف قولاً لأنه محيط بجميع صفات الكمال {تبديلاً} أي تغيراً من مغير ما، يغيرها بما يكون بدلها.
ولما تقرر أن الكفار مغلوبون وإن قاتلوا، وكان ذلك من خوارق العادات مع كثرتهم دائماً وقلة المؤمنين حتى يأتي أمر الله موقعاً للعلم القطعي بأنه ما دبره إلا الواحد القهار القادر المختار، عطف عليه عجباً آخر وهو عدم تغير أهل مكة في هذه العمرة للقتال بعد تعاهدهم وتعاقدهم عليه مع ما لهم من قوة العزائم وشدة الشكائم، فقال عاطفاً على ما تقديره: هو الذي سن هذه السنة العامة: {وهو الذي كف} أي وحده من غير معين له على ذلك {أيديهم} أي الذين كفروا من أهل مكة وغيرهم، فإن الكل شرع واحد {عنكم وأيديكم} أيها المؤمنون {عنهم}.
ولما كان الكفار لو بسطوا أيديهم مع ما حتمه الله وسنه من تولية الكفار دخلوا مكة قال: {ببطن مكة} أي كائناً كل منكم ومنهم في داخل مكة هم حالاً وأنت مآلاً، وعن القفال أنه قال: يجوز أن يراد به الحديبية لأنها من الحرم- انتهى.
وعبر بالميم دون الباء كما في آل عمران إشارة إلى أنه فعل هنا ما اقتضاه مدلول هذا الاسم من الجمع والنقض والتنقية، فسبب لهم أسباب الاجتماع والتنقية من الذنوب- بما أشارت إليه آية العمرة حالاً وآيات الفتح مآلاً، ووفى بما يدل عليه اسمها من الأهل على خلاف القياس.
ولما كان هذا ليس مستغرقاً لجميع الزمان الآتي، بل لابد أن يبسط أيدي المؤمنين بها يوم الفتح، أدخل الجار فقال تعالى: {من بعد أن أظفركم} أي أوجد فوزكم بكل ما طلبتم منهم وجعل لكم الطول والعز {عليهم} وذلك فيما رواه أصحاب. السير قالوا: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم خراش بن أمية الخزاعي رضي الله عنه فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على بعير له فقال له التغلب: ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له فعقروا جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله، فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثت قريش أربعين رجلاً منهم أو خمسين وأمروهم أن يطوفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً فأخذوا أخذاً فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا في عسكره بالحجارة والنبل، ثم ذكروا إرساله صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله عنه إلى مكة ثم إرسال قريش لسهيل بن عمرو في الصلح، وروى مسلم في صحيحه عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: لما اصطلحنا واختلط بعضنا ببعض أتيت شجرة فاضطجعت في أصلها فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة، فجعلوا يقعون في النبي صلى الله عليه وسلم فأبغضتهم، فتحولت إلى شجرة أخرى، وعلقوا سلاحهم واضطجعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي: يا آل المهاجرين: قتل ابن زنيم، فاخترطت سيفي ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رقود فأخذت سلاحهم، فجعلته ضغثاً في يدي، ثم قلت والذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم! لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء عمي عامر رضي الله عنه برجل من العبلات يقال له مكرز يقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس مجفف في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه، فعفا عنهم فأنزل الله تعالى: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم} الآية- انتهى. وروى مسلم والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل التنعيم متسلحين، يريدون غرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وفي رواية النسائي: قالوا: نأخذ محمداً- صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذهم النبي صلى الله عليه وسلم سلماً فاستحياهم فأنزل الله عز وجل: {وهو الذي كف أيديهم عنكم} الآية.
ولما كان هذا ونحوه من عنف أهل مكة وغلظتهم وصلابتهم وشدتهم ورفق النبي صلى الله عليه وسلم ولينه لهم مما أحزن أغلب الصحابة رضي الله تعالى عنهم قال تعالى يسليهم: {وكان الله} أي المحيط بالجلال والإكرام {بما يعملون} أي الكفار- على قراءة أبي عمرو بالغيب، وأنتم- على قراءة الباقين بالخطاب في ذلك الوقت وفيما بعده كما كان قبله {بصيراً} أي محيط العلم ببواطن ذلك كما هو محيط بظواهره فهو يجريه في هذه الدار التي ربط فيها المسببات بأسبابها على أوثق الأسباب في نصركم وغلبكم لهم وقسركم، وستعلمون ما دبره من دخولكم مكة المشرفة آمنين لا تخافون في عمرة القضاء صلحاً ثم في الفتح بجحفل جرار قد نيطت أظفار المنايا بأسنة رماحه، وعادت كؤوس الحمام طوعاً لبيض صفاحه، فيؤمن أكثر أهل مكة وغيرهم ممن هو الآن جاهد عليكم، ويصيرون أحب الناس فيكم يقدمون أنفسهم في جهاد الكفار دونكم، فيفتح الله بكم البلاد، ويظهركم- وهو أعظم المحامين عنكم- على سائر العباد.
ولما كان ما مضى من وصفهم على وجه يشمل غيرهم من جميع الكفار، عينهم مبيناً لسبب كفهم عنهم مع استحقاقهم في ذلك الوقت للبوار والنكال والدمار فقال: {هم} أي أهل مكة ومن لافهم {الذين كفروا} أي أوغلوا في هذا الوصف بجميع بواطنهم وتمام ظواهرهم {وصدوكم} زيادة على كفرهم في عمرة الحديبية هذه {عن المسجد الحرام} أي مكة، ونفس المسجد الحرام، والكعبة، للإخلال بما أنتم فيه من شعائر الإحرام بالعمرة {والهدي} أي وصدوا ما أهديتموه إلى مكة المشرفة لتذبحوه بها وتفرقوه على الفقراء، ومنه أربعون، وفي رواية: سبعون بدنة، كان أهداها النبي صلى الله عليه وسلم {معكوفاً} أي حال كونه مجموعاً محبوساً مع رعيكم له وإصلاحه لما أهدى لأجله {أن يبلغ محله} أي الموضع الذي هو أولى المواضع لنحره، وهو الذي إذا أطلق انصرف الذهن إليه، وهو في العمرة المروة، ويجوز الذبح في الحج والعمرة في أي موضع كان من الحرم، فالموضع الذي نحر فيه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المرة عند الإحصار ليس محله المطلق.
ولما كان التقدير: فلولا ما أشار إليه من ربط المسببات بأسبابها لسلطكم عليهم فغلبتموهم على المسجد وأتممتم عمرتكم على ما أردتم، ثم عطف عليه أمراً أخص منه فقال: {ولولا رجال} أي مقيمون بين أظهر الكفار بمكة {مؤمنون} أي عريقون في الإيمان فكانوا لذلك أهلاً للوصف بالرجولية {ونساء مؤمنات} أي كذلك حبس الكل عن الهجرة العذر لأن الكفار لكثرتهم استضعفوهم فمنعوهم الهجرة، على أن ذلك شامل لمن جبله الله على الخير وعلم منه الإيمان وإن كان في ذلك الوقت مشركاً {لم تعلموهم} أي لم يحط علمكم بهم من جميع الوجوه لتميزوهم بأعيانهم عن المشركين لأنهم ليس لهم قوة التمييز زمنهم بأنفسهم وأنتم لا تعرفون أماكنهم لتعاملوهم بما هم له أهل ولاسيما في حال الحرب والطعن والضرب، ثم أبدل من الرجال والنساء قوله: {أن تطؤهم} أي تؤذوهم بالقتل أو ما يقاربه من الجراح والضرب والنهب ونحوه من الوطء الذي هو الإيقاع بالحرب منه قوله صلى الله عليه وسلم: «آخر وطأة وطئها الله بوج» يكون ذلك الأذى منكم لهم على ظن أنهم مشركون أذى الدائس لمدوس وتضغطوهم وتأخذوهم أخذاً شديداً بقهر وغلبة تصيرون به لا تردون يد لامس ولا تقدرون على مدافعة {فتصيبكم} أي فيتسبب عن هذا الوطء أن يصيبكم {منهم} أي من جهتهم وبسببهم {معرة} أي مكروه وأذى هو كالحرب في انتشاره وأذاه، وإثم وخيانة بقتال دون إذن خاص، وبعدم الإمعان في البحث، وغرم وكفارة ودية وتأسف وتعيير ممن لا علم له، ثم علق بالوطء المسبب عنه إصابة المعرة إتماماً للمعنى قوله: {بغير علم} أي بأنهم من المؤمنين.
ولما دل السياق على أن جواب {لولا} محذوف تقديره: لسلطكم عليهم وما كف أيديكم عنهم، ولكنه علم ذلك، وعلم أنه سيؤمن ناس من المشركين فمن عليكم بأن رفع حرج إصابتهم بغير علم عنكم، وسبب لكم أسباب الفتح الذي كان يتوقع بسبب تسليطكم عليهم بأمر سهل، وكف أيديكم ولم يسلطكم عليه {ليدخل الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {في رحمته} أي إكرامه وإنعامه {من يشاء} من المشركين بأن يعطفهم إلى الإسلام، ومن المؤمنين بأن يستنقذهم منهم على أرفق وجه، ولما كان ذلك، أنتج قوله تعالى: {لو تزيلوا} أي تفرقوا فزال أحد الفريقين عن الآخر زوالاً عظيماً بحيث لا يختلط صنف بغيره فيؤمن وطء المؤمنين له بغير علم {لعذبنا} أي بأيديكم بتسليطنا أبو بمجرد أيدنا من غير واسطة {الذين كفروا} أي أوقعوا ستر الإيمان.
ولما كان هذا عاماً لجميع من اتصف بالكفر من أهل الأرض، صرح بما دل عليه السياق فقال: {منهم} أي الفريقين وهم الصادون {عذاباً أليماً} أي شديد الإيجاع بأيديكم أو من عندنا لنوصلكم إلى قصدكم من الاعتمار والظهر على الكفار، ففيه اعتذار وتدريب على تأدب بعضهم مع بعض، وفي الإشارة إلى بيان سر من أسرار منع الله تعالى لهم من التسليط عليهم حث للعبد على أن لا يتهم الله في قضائه فربما عسر عليه أمراً يظهر له أن السعادة كانت فيه وفي باطنه سم قاتل، فيكون منع الله له منه رحمة في الباطن وإن كان نقمة في الظاهر، فألزم التسليم مع الاجتهاد في الخير والحرص عليه والندم على فواته وإياك والاعتراض، وفي الآية أيضاً أن الله تعالى قد يدفع عن الكافر لأجل المؤمن.