فصل: تفسير الآيات (7- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (7- 11):

{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)}
ولما دل سبحانه على تمام قدرته وكمال علمه وغير ذلك من صفات الكمال بآية السماء، أتبع ذلك الدلالة على أنه لا يقال فيه داخل العالم ولا خارجه لأنه متصل به ولا منفصل عنه، نبه على ذلك بالدلالة على آية الأرض، وأخرها لأن السماء أدل على المجد الذي هذا سياقه، لأنها أعجب صنعة وأعلى علوّاً وأجل مقداراً وأعظم أثراً، وأن الأرض لكثرة الملابسة لها والاجتناء من ثمارها يغفل الإنسان عن دلالتها، بما له في ذلك من الصنائع والمنافع، فقال: {والأرض} أي المحيطة بهم {مددناها} أي جعلناها لما لنا من العظمة مبسوطة لا مسنمة. ولما كان الممدود يتكفأ، قال: {وألقينا} بعظمتنا {فيها رواسي} أي جبالاً ثوابت كان سبباً لثباتها، وخالفت عادة المراسي في أنها من فوق، والمراسي تعالجونها أنتم من تحت.
ولما كان سكانها لا غنى لهم عن الرزق، قال ممتناً عليهم: {وأنبتنا} بما لنا من العظمة {فيها} وعظم قدرتها بالتبعيض فقال: {من كل زوج} أي صنف من النبات تزاوجه أشكاله بأرزاقكم كلها {بهيج} أي هو في غاية الرونق والإعجاب، فكان- مع كونه رزقاً- متنزهاً.
ولما ذكر هذه الصنائع الباهرة، عللها بقوله: {تبصرة} أي جعلنا هذه الأشياء كلها، أي لأجل أن تنظروها بأبصاركم، ثم تتفكروا ببصائركم، فتعبروا منها إلى صانعها، فتعلموا ما له من العظمة {وذكرى} أي ولتتذكروا بها تذكراً عظيماً، بما لكم من القوى والقدر فتعلموا بعجزكم عن كل شيء من ذلك أن صانعها لا يعجزه شيء، وأنه محيط بجميع صفات الكمال، لو ألم بجنابه شائبة من شوائب النقص لما فاض عنه هذا الصنع الغريب البديع.
ولما كان من لا ينتفع بالشيء كأنه عادم لذلك الشيء، قصر الأمر على المنتفع فقال: {لكل عبد} يتذكر بما له من النقص وبما دل عليه هذا الصنع من الكمال أنه عبد مربوب لصانعه. ولما كان الإنسان لما له من النقصان لا يزال كلما أعلاه عقله أسفله طبعه، فكان ربما ظن أنه لا يقبل إذا رجع، رغبة في الرجوع بقوله: {منيب} أي رجاع عما حطه عنه طبعه إلى ما يعليه إليه عقله، فيرجع من شهود هذه الأفعال إلى شهود هذه الصفات إلى علم الذات.
ولما كان إنزال الماء أبهر الآيات وأدلها على أنه أجلّ من أن يقال: إنه داخل العالم أو خارجه، أو متصل به أو منفصل عنه، مع أن به تكوّن النبات وحصول الأقوات وبه حياة كل شيء، أفرده تنبيهاً على ذلك فقال: {ونزلنا} أي شيئاً فشيئاً في أوقات على سبيل التقاطر وبما يناسب عظمتنا التي لا تضاهى بغيب، بما له من النقل والنبوع والنفوذ فنزل دفعة واحدة فأهلك ما نزل عليه فزالت المفقرة وعادت المنفعة مضرة {من السماء} أي المحل العالي الذي لا يمسك فيه الماء عن دوام التقاطر إلا بقاهر {ماء مباركاً} أي نافعاً جداً ثابتاً لا خيالاً محيطاً بجميع منافعكم.
ولما كان الماء سبباً في تكون الأشياء، وكان ذلك سبباً في انعقاده حتى يصير خشباً وحباً وعنباً، وغير ذلك عجباً، قال: {فأنبتنا} معبراً بنون العظمة {به جنات} من الثمر والشجر والزرع وغيره مما تجمعه البساتين فتجنّ- أي تستر- الداخل فيها. ولما كان القصب الذي يحصد فيكون حبه قوتاً للحيوان وساقه للبهائم، خصه بقوله: {وحب الحصيد} أي النجم الذي من شأنه أن يحصد من البر والشعير ونحوهما، وأومأ بالتقييد إلى أن هذه الحبوب أشرف من حب اللآلئ الذي ينبته الله من المطر لأنها لقيام النبتة؟ وتلك للزينة، ولما كان النخل من أعجبه ما يتكون منه مع ما له من المنافع التي لا يساويه فيها شجر، والطباق للرزع بالطول والقصر والاتساق بالاقتيات للآدميين والبهائم، قال: {والنخل باسقات} أي عاليات طويلات على جميع الأشجار المثمرة ذوات أثمار طيبة {لها} مع يبس ساقها {طلع نضيد} أي مصفوف متراكم بعضه فوق بعض، وهو حشو طلعه، والطلع ذلك الخارج من أعلى النخلة كأنه فعلان مطبقان، والحمل النضيد بينهما، والطرف محدد، أو الطلع ما يبدو من ثمر النخل أول ظهورها، وذلك القشر يسمى الكفرى لتعطيته إياه على أحكم مما يكون وأوثق، والطلع يشبه ما للناقة المبسق من اللبا المتكون في ضرعها قبل النتاج، ثم يصير بعد اتحاده في البياض وهو طلع إلى الافتراق حال الينوع إلى أحمر وأصفر وأخضر وغير ذلك من الألوان الغريبة، والأوصاف العجيبة، وهي محيطة المنافع بالتفكه على عدة أنواع والاقتيات وغير ذلك، وطلعها مخالف لعادة أكثر الأشجار فإن ثمارها مفردة، كل حبة منفردة عن أختها.
ولما ذكر سبحانه بعض ما له في الماء من العظمة، ذكر له علة هي غاية في المنة على الخلق فقال: {رزقاً للعباد} أي أنبتنا به ذلك لأجل أنه بعض ما جعلناه رزقهم.
ولما كان ذلك أعظم مذكر للبصراء بالبعث ولجميع صفات الكمال، أتبعه ما له من التذكير بالبعث بخصوصه فقال: {وأحيينا به} أي الماء بعظمتنا {بلدة} وسمها بالتاء إشارة إلى أنها في غاية الضعف والحاجة إلى الثبات والخلو عنه، وذكر قوله: {ميتاً} للزيادة في تقرير تمكن الحاجة فيها. ولما كان هذا خاصة من أوضح أدلة البعث، قال على سبيل النتيجة: {كذلك} أي مثل هذا الإخراج العظيم {الخروج} الذي هو لعظمته كأنه مختص بهذا المعنى، وهو بعث الموتى من قبورهم على ما كانوا عليه في الدنيا، لا فرق بين خروج النبات بعد ما تهشم في الأرض وصار تراباً كما كان من بين أصفره وأبيضه وأحمره وأخضره وأزرقه إلى غير ذلك، وبين إخراج ما تفتت من الموتى كما كانوا في الدنيا، قال أبو حيان: ذكر تعالى في السماء ثلاثة: البناء والتزيين ونفي الفروج، وفي الأرض ثلاثة: المد وإلقاء الرواسي والإنبات، قابل المد بالبناء لأن المد وضع والبناء رفع، وإلقاء الرواسي بالتزيين بالكواكب لارتكاز كل واحد منها- أي على سطح ما هو فيه والإنبات المترتب على الشق بانتفاء الفروج، فلا شق فيها، ونبه فيما تعلق به الإنبات على ما يقطف كل سنة ويبقى أصله، وما يزرع كل سنة أو سنتين ويقطف كل سنة، وعلى ما اختلط من جنسين، فبعض الثمار فاكهة لا قوت، وأكثر الزرع قوت والثمر فاكهة وقوت.

.تفسير الآيات (12- 16):

{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)}
ولما وصل الأمر إلى حد لا خفاء معه، فصح أنهم يعلمون ذلك ولم يحملهم على التصريح بالتكذيب به إلا المبادرة إلى ذلك بغلبة الهوى من غير تأمل لعاقبته، فصار من باب لزوم الغلط، وكان السياق لإنكار البعث الذي جاء به منذر من القوم المنذرين، كان كأنه قيل: إن إنكار هؤلاء أعجب، فهل وقع هذا لأحد قط، فقال تعالى مسلياً لهذا النبي الكريم لأن المصيبة إذا عمت هانت، مبيناً لمجد القرآن ولمجد آياته تحقيقاً للإنذار وتحذيراً به لا للنصيحة: {كذبت} وسم الفعل بالتاء إشارة إلى هوانهم في جنب هذا المجد ولما كان هؤلاء الأحزاب المذكورون لقوتهم وكثرتهم كأنهم أهل المجد قاطبة قد استغرقوا زمانها ومكانها، أسقط الجارّ فقال: {قبلهم}.
ولما لم تكن لهم شهرة يعرفون بها قال: {قوم نوح} وأشار إلى عظيم التسلية بأنهم جاءهم منذر منهم، وكانوا في القوة في القيام فيما يحاولونه والكثرة بحيث لا يسع الأفهام جميع أوصافهم، فآذوا رسولهم وطال أذاهم قريباً من عشرة قرون ولما كان آخر أمرهم أنه التقى عليهم الماءان: ماء السماء، وطلع إليهم ماء الأرض فأغرقهم، أتبعهم من طائفتهم قصتهم بأن نزل بهم الماء فأوبقهم لما بين حاليهم من الطباق دلالة على عظيم القدرة والفعل بالاختيار فقال: {وأصحاب الرس} أي البئر التي تقوضت بهم فخسفت مع ما حولها فذهبت بهم وبكل ما لهم كما ذكرت قصتهم في الفرقان. ولما كانت آية قوم صالح من أعظم الدلالات على القدرة على البعث، وكان إهلاكهم مناسباً لإهلاك من قبلهم، أما لأصحاب الرس فكان بالرجفة التي هي على مبدأ الخسف، وأما لقوم نوح فلأن الرجفة تأثرت عن الصيحة التي حملتها الريح التي من شأنها حمل السحاب الحامل للماء، أتبعهم بهم، وكانوا أصحاب بئر ولم يخسف بهم فقال: {وثمود} ولما اتفق قوم هود عليه السلام والقبط بالإهلاك بالريح التي أثرت بها صيحة ثمود، أولئك مع الحجارة والرمل وهؤلاء بالماء الذي فرقه الله بالريح عند ضرب العصي، وكان لكل منهما من ضخامة الملك وعز السلطان ما هو مشهور قدم أشدهما أبداناً وأوسعهما ملكاً لأن إهلاكهم كان أدل دليل على القدرة وأقرب شبهاً بهلاك ثمود فقال: {وعاد} وعطف عليه أقرب الطائفتين شبهاً بالهلاك بقوم نوح وأصحاب الرس فقال: {وفرعون} نص عليه لأنه ليس في مادة هذا الغرق كافر غيره، والنص عليه يفهم غيره، وما تقدم في غير هذه السورة غير مرة من وصفه بأنه ملك قاهر وأنه استخفهم فأطاعوه فيعلم كفرهم طاعة له، وأنه ليوافق ما قبله وما بعده. ولما كان السياق للعزة والشقاق، فلم يدع داع إلى إثبات ذي الأوتاد.
ولما كان هلاك المؤتفكات جامعاً في الشبهة بهلاك جميع من تقدم بالخسف وغمرة الماء بعد القلب في الهواء، أتبعهم بهم معبراً عنهم بأخصر من تسميه قبائلهم أو مدنهم لأنها عدة مدن، وعبر بالأخوة دون القوم لأن السياق لتكذيب من هو منهم لأنه أدخل في التسلية فقال: {وإخوان لوط} أي أصهاره الذين جبروا بينهم وبينه مع المصاهرة بالمناصرة لملوكهم ورعاياهم على من ناواهم بنفسه وعمه إبراهيم عليهما السلام كما مضى بيانه في البقرة ما صار كالأخوة، ومع ذلك عاملوه بما اشتق من لفظ هذا الجمع من الجناية له ولأنفسهم وغيرهم.
ولما كان الشجر مظنة الهواء البارد والروح، وكان أصحابه قد عذبوا بضد ذلك قال: {وأصحاب الأيكة} لمشاركتهم لهم في العذاب بالنار، وأولئك بحجارة الكبريت النازلة من العلو وهؤلاء بالنار النازلة من ظلمة السحاب، وعبر عنهم بالواحدة والمراد الغيضة إشارة إلى أنها من شدة التفافها كالشجرة الواحدة. ولما كان {تبع} مع كونه من قومه ملكاً قاهراً، وخالفوه مع ذلك، وكان لقومه نار في بلادهم يتحاكمون إليها فتأكل الظالم، ختم بهم فقال: {وقوم تبع} مع كونه مالكاً، وهو يدعوهم إلى الله، فلا يظن أن التكذيب مخصوص بمن كان قوياً لمن كان مستضعفاً، بل هو واقع بمن شئنا من قوي وضعيف، لا يخرج شيء عن مرادنا.
ولما لم يكن هنا ما يقتضي التأكيد مما مر بيانه في ص قال معرياً منه: {كل} أي من هذه الفرق {كذب الرسل} أي كلهم بتكذيب رسولهم، فإن الكل متساوون فيما يوجب الإيمان من إظهار العجز والدعاء إلى الله {فحقَّ} فتسبب عن تكذيبهم لهم أنه ثبت عليهم ووجب {وعيد} أي أي الذي كانوا يكذبون به عند إنذارهم لهم إياه، فعجلنا لهم منه في الدنيا ما حكمنا به عليهم في الأزل فأهلكناهم إهلاكاً عاماً كإهلاك نفس واحدة على أنحاء مختلفة كما هو مشهور عند من له بأمثاله عناية وأتبعناه ما هو في البرزخ وأخرنا ما هو في القيامة إلى البعث، بإهلاكنا لهم على تنائي ديارهم وتباعد أعصارهم وكثرة أعدادهم أن لنا الإحاطة البالغة فتسلَّ بإخوانك المرسلين وتأسَّ بهم، ولتحذر قومك ما حل بمن كذبهم إن أصروا.
ولما ذكر سبحانه التسلية بتكذيب هذه الأحزاب بعد ذكر تكذيب قريش وإقامة الأدلة القاطعة على ما كذبوا به وبطلان تكذيبهم، وختم بحقوق الوعيد الذي شوهدت أوائله بإهلاكهم، فثبت صدق الرسل وثبتت القدرة على كل ما يريد سبحانه بهذا الخلق من الإيجاد والإعدام أنكر عليهم التكذيب ووبخهم عليه تقريراً لحقوق الوعيد، فقال مسبباً عن تكذيبهم بعد ما ذكر أنه خلق جميع الوجود: {أفعيينا بالخلق} أي حصل لنا على ما لنا من العظمة الإعياء، وهو العجز بسبب الخلق في شيء من إيجاده وإعدامه {الأول} أي من السماوات والأرض وما بينهما حين ابتدأناه اختراعاً من العدم، ومن خلق الإنسان وسائر الحيوان مجدداً، ثم في كل أوان من الأطوار المشاهدة على هذه التدريجات المعتادة بعد أن خلقنا أصله على ذلك الوجه مما ليس له أصل في الحياة، وفي إعدامه بعد خلقه جملة كهذه الأمم أو تدريجاً كغيرهم ليظنوا بسبب العجز بالخلق الأول الذي هو أصعب في مجاري العادات من الإعادة أن نعجز عن الإعادة ثانياً، يقال: عيي بالأمر- إذا لم يهتد لأمره أو لوجه مراده أو عجز عنه، ولم يطق إحكامه.
ولما كان التقدير قطعاً بما دلت عليه همزة الإنكار: لم نعي بذلك بل أوجدناه على غاية الإحكام للظرف والمظروف وهم يعلمون ذلك ولا ينكرونه ويقرون بتمام القدرة عليه، وفي طيه الاعتراف بالبعث وهم لا يشعرون أضرب عنه لقولهم الذي يخل باعتقادهم إياه فقال: {بل هم في لبس} أي خلط شديد وشبهة موجبة للتكلم بكلام مختلط لا يعقل له معنى، بل السكوت عنه أجمل، قال علي رضي الله عنه: يا جار، إنه لملبوس عليك، اعرف بالحق تعرف أهله. ولبس الشيطان عليهم تسويله لهم أن البعث خارج عن العادة فتركوا لذلك القياس الصحيح والحكم بطريقة الأولى {من} أجل {خلق جديد} أي الإعادة. ولما ذكر خلق الخافقين، أتبعه خلق ما هو جامع لجميع ما هو فيها فقال: {ولقد} أي والحال أنا قد {خلقنا} بما لنا من العظمة {الانسان} وهو أعجب خلقاً وأجمع من جميع ما مضى ذكره بما فيه من الأنس والطغيان، والذكر والنسيان، والجهل والعرفان، والطاعة والعصيان، وغير ذلك من عجيب الشأن، ووكلنا به من جنودنا من يحفظه فيضبط حركاته وسكناته وجميع أحواله {ونعلم} أي والحال أننا نعلم بما لنا من الإحاطة {ما توسوس} أي تكلم على وجه الخفاء، {به} الآن وفيما بعد ذلك مما لم ينقدح بعد من خزائن الغيب إلى سر النفس كما علمنا ما تكلم {نفسه} وهي الخواطر التي تعترض له حتى أنه هو ربما عجز عن ضبطها، فنحن نعلم أن قلوبهم عالمة بقدرتنا على أكمل ما نريد وبصحة القرآن وإعجازه وصدق الرسول به صلى الله عليه وسلم وامتيازه، وإنما حملهم الحسد والنفاسة والكبر والرئاسة على الإنكار باللسان حتى صار ذلك لهم خلقاً وتمادوا فيه حتى غطى على عقولهم، فصاروا في لبس محيط بهم من جميع الجوانب.
ولما كان العالم بالشيء كلما كان قريباً منه كان علمه به أثبت وأمكن، قال ممثلاً لعلمه ومصوراً له بما نعلم أنه موجبه: {ونحن} بما لنا من العظمة {أقرب إليه} قرب علم وشهود من غير مسافة {من حبل الوريد} لأن أبعاضه وأجزاءه تحجب بعضها بعضاً، ولا يحجب علم الله شيء، والمراد به الجنس، والوريدان عرقان كالحبلين مكتنفان لصفحتي العنق في مقدمها متصلات من الرأس إلى الوتين وهو عرق القلب، وهذا مثل في فرط القرب، وإضافته مثل مسجد الجامع، وقد مضى في تفسير سورة المائدة عند قوله: {والله يعصمك من الناس} [المائدة: 67] ما ينفع هنا، قال القشيري: وفي هذه الآية هيبة وفزع وخوف لقوم، وروح وأنس وسكون قلب لقوم.