فصل: تفسير الآيات (11- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (11- 16):

{فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)}
ولما حقق العذاب وبين يومه، بين أهله بقوله مسبباً عن ذلك: {فويل} هي كلمة يقولونها لمن وقع في الهلاك، ومعناه حلول شر فاضح يكون فيه ندبة وتفجع {يومئذ} أي يوم إذ يكون ما تقدم ذكره {للمكذبين} أي العريقين في التكذيب وهم من مات على نسبة الصادقين إلى الكذب.
ولما كان التكذيب قد يكون في محله، بين أن المراد تكذيب ما محله الصدق فقال: {الذين هم} أي من بين الناس بظواهرهم وبواطنهم {في خوض} أي أعمالهم وأقوالهم أعمال الخائض في ماء، فهو لا يدري أين يضع رجله. ولما كان ذلك قد يكون من دهشة بهم أو غم، نفى ذلك بقوله: {يلعبون} فاجتمع عليهم أمران موجبان للباطل: الخوض واللعب، فهم بحيث لا يكاد يقع لهم قول ولا فعل في موضعه، فلا يؤسس على بيان أو حجة. ولما صور تكذيبهم بأشنع صورة، بين ويلهم ببيان ظرفه وما يفعل فيه فقال: {يوم يدّعون} أي يدفعون دفعاً عنيفاً بجفوة وغلظة من كل ما يقيمه الله لذلك، ذاهبين ومنتهين {إلى نار جهنم} وهي الطبقة التي تلقاهم بالعبوسة والكراهة والغليظ والزفير، وأكد المعنى وحققه بقوله: {دعاً} قال البغوي: وذلك أن خزنه جهنم يعلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم فم يدفعون دفعاً على وجوههم وزجاً في أقفيتهم، مقولاً لهم تبكيتاً وتوبيخاً: {هذه النار} أي الجسم المحرق المفسد لما أتى عليه، الشاغل عن اللعب {التي كنتم} بجبلاتكم الفاسدة. ولما كان تكذيبهم بها في أقصى درجات التكذيب، وكان سبباً لكل تكذيب، كان كأنه مقصور عليه فقال مقدماً للظرف إشارة إلى ذلك، {بها تكذبون} أي في الدنيا على التجديد والاستمرار.
ولما كانوا يقولون عناداً: إن القرآن بما فيه من الوعيد سحر، سبب عن ذلك الوعيد قوله مبكتاً موبخاً متهكماً: {أفسحر هذا} أي الذي أنتم فيه من العذاب مع هذا الإحراق الذي تصلون منه {أم أنتم} في منام ونحوه {لا تبصرون} بالقلوب كما كنتم تقولون في الدنيا {قلوبنا في أكنة} [فصلت: 5] ولا بالأعين كما كنتم تقولون للمذرين {من بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون} [فصلت: 5] أي أنتم عمي عن المخبر عنه مع إحراقه لهم كما كنتم عمياً عن الخبر أي هل تستطيعون أن تقولوا إنكم لا تبصرون المخبر عنه كما كنتم تقولون في الخبر كذباً وفجوراً، ثم يقال لهم بعد هذا التبكيت الذي يقطع بأن جوابهم يكون بأن يقولوا: لا وعزة ربنا ما هو بسحر ولا خيال، بل هو حقيقة، ونحن في غاية الإبصار على سبيل الإخزاء، والامتهان والإذلال: {اصلوها} أي باشروا حرها وقاسوه وواصلوه كما كنتم تواصلون أذى عبادي بما يحرق قلوبهم {فاصبروا} أي فيتسبب عن تكذيبكم في الدنيا ومباشرتكم لها الآن أن يقال لكم: اصبروا على هذا الذي لا طاقة لكم به {أو لا تصبروا} فإنه لا محيص لكم عنها {سواء عليكم} أي الصبر والجزع.
ولما كان المعهود أن الصبر له مزية على الجزع، بين أن ذلك حيث لا تكون المصيبة إلا على وجه الجزاء الواجب وقوعه فقال معللاً: {إنما تجزون} أي يقع جزاؤكم الآن وفيما يأتي على الدوام {ما كنتم} أي دائماً بما هو لكم كالجبلة {تعملون} مع الأولياء غير مبالين بهم، فكان هذا ثمرة فعلكم بهم.

.تفسير الآيات (17- 21):

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)}
ولما ذكر ما للمكذبين من العذاب المشار إليه بكلمات القسم، أتبعه ما لأضدادهم من الثواب المنبه عليه أيضاً بتلك الكلمات ليتم الخبر ترغيباً وترهيباً، فقال جواباً لمن كأنه قال: فما لمن عاداهم فيك؟ مؤكداً لما للكفار من التكذيب: {إن المتقين} أي الذين صارت التقوى لهم صفة راسخة {في جنات} أي بساتين دائماً في الدنيا حكماً وفي الآخرة.
ولما كانت البساتين ربما يشقى داخلها أو صاحبها، نفى هذا بقوله: {ونعيم} أي نعيم في العاجل، يعني بما هم فيه من الأنس، والآجل بالفعل، وزاد في تحقيق التنعم بقوله: {فاكهين} أي معجبين متلذذين {بما آتاهم ربهم} الذي تولى تربيتهم بعملهم بالطاعات إلى أن أوصلهم إلى ذهاب النعيم، فهو لأن عظمته من عظمته لا يبلغ كنه وصفه. ولما كان المتنعم قد تكون نعمته بعد عذاب، فبين أنهم ليسوا كذلك فقال: {ووقاهم} أي قبل ذلك {ربهم} أي المتفضل بتربيتهم بكفهم عن المعاصي والقاذورات {عذاب الجحيم} أي النار الشديدة التوقد.
ولما كان من باشر النعمة وجانب النقمة في هناء عظيم، قال مترجماً لذلك على تقدير القول: {كلوا} أي أكلاً هنيئاً {واشربوا} شرباً {هنيئاً} أي لا نقص فيه، وهو صفة في موضع المصدر أي هنأتم بمعنى أن كل ما تتناولونه مأمون العاقبة من التخمة والسقم ونحوها {بما كنتم} أي كوناً راسخاً {تعملون} أي مجددين له على سبيل الاستمرار حتى كأنه طبع لكم.
ولما كان النعيم لا يتم إلا بأن يكون الإنسان مخدوماً، نبه عليه بقوله: {متكئين} أي مستندين استناد راحة، لأنهم يخدمون فلا حاجة لهم إلى الحركة {على سرر مصفوفة} أي منصوبة واحداً إلى جنب واحد، مستوية كأنها السطور على أحسن نظام وأبدعه، قال الأصبهاني: والصفة: مد الشيء على الولاء. ولما كان السرور لا يتم إلا بالتنعم بالنساء قال: {وزوجناهم} أي تزويجاً يليق بما لنا من العظمة.
ولما كانت تلك الدار غنية عن الأسباب، فكانوا غنيين عن العقد، قال مشيراً بالباء إلى صرف الفعل عن ظاهره فإنه إذا كان بمعنى النكاح تعدى بنفسه، وتضمين الفعل قرناهم أي جعلناهم أزواجاً مقرونين {بحور} أي نساء هن في شدة بياض العين وشدة سوادها واستدارة حدقتها ورقة جفونها في غاية لا توصف {عين} أي واسعات الأعين في رونق وحسن.
ولما وصف حال المتقين من أعداء المكذبين وبدأ بهم لشرفهم، أتبعهم من هو أدنى منهم حالاً لتكون النعمة تامة فقال: {والذين آمنوا} يعني أقروا بالإيمان ولم يبدلوا ولا بالغوا في الأعمال الصالحة. ولما كان من هؤلاء من لا يتبعه ذريته بسبب إيمانه لأنه يرتد عنه، عطف على فعلهم تمييزاً لهم واحترازاً عمن لم يثبت قوله: {واتّبعتهم} أي بما لنا من الفضل الناشئ عما لنا من العظمة {ذرياتهم} الصغار والكبار وإن كثروا، والقرار لأعينهم بالكبار بايمانهم والصغار بإيمانهم آبائهم {بإيمان} أي بسب إيمان حاصل منهم، ولو كان في أدنى درجات الإيمان، ولكنهم ثبتوا عليه إلى أن ماتوا، وذلك هو شرط إتباعهم الذريات، ويجوز أن يراد وهو أقرب: بسبب إيمان الذرية حقيقة إن كانوا كباراً، وحكماً إن كانوا صغاراً، ثم أخبر عن الموصول بقوله: {ألحقنا بهم} أي فضلنا لأجل عمل آبائهم {ذرياتهم} وإن لم يكن للذرية أعمال، لأنه قيل في المعنى:
ولأجل عين ألف عين تكرم

ويلحق بالذرية من النسب الذرية بالسبب وهو المحبة، فإن كان معها آخذ لعلم أو عمل كانت أجدر، فتكون ذرية الإفادة كذرية الولادة، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب» في جواب من سأل عمن يحب القوم ولم يلحق بهم.
ولما كان ربما خيف أن ينقص الآباء بسبب إلحاق ذرياتهم بهم شيئاً من درجاتهم، قال: {وما ألتناهم} أي نقصنا الآباء وحبسنا عنهم {من عملهم} وأكد النفي بقوله: {من شيء} بسبب هذا الإلحاق وكان من فوق رتبتهم من الذين يؤمنون والمؤمنين والمتقين وغيرهم أولى منهم، وإنما فصلهم منهم لأن هؤلاء قد لا يوقنون قبل دخول الجنة العذاب، قال جامعاً للفريقين، أو يقال- ولعله أقرب- أنه لما ذكر اتباع الأدنى للأعلى في الخير فضلاً، أشفقت النفس من أن يكون إتباع في الشر فأجاب تعالى بأنه لا يفعل بقوله: {كل امرئ} أي من الذين آمنوا والمتقين وغيرهم {بما كسب} أي من ولد وغيره {رهين} أي مسابق ومخاطر ومطلوب وآخذ شيئاً بدل كسبه وموفي على قدر ما يستحقه ومحتبس به إن كان عاصياً، فمن كان صالحاً كان آخذاً بسبب صلاح ولده لأنه كسبه، ولا يؤخذ به ذلاً وهو حسن في نفسه لأجل الحكم بإيمانه سواء كان حقيقة أو حكماً وكل حسن مرتفع، فلذلك يلتحق بأبيه، وأما الإساءة فقاصرة على صاحبها يؤخذ بها ويرهن بذنبه ولا يؤخذ بذنب غيره، والحاصل أن المعالي التي هي كالحياة تفيض من صاحبها على غيره فتحييه، والمساوئ التي هي كالموت لا يتعدى صاحبها، قال الرازي في اللوامع: اعلم أن الذوات بقاؤها ودوامها ببقاء صورها، فحيث ما كانت الصورة المقومة لها أدوم كانت الذوات بها أقوم، وأن النفوس الإنسانية ذوات وصورها علومها وأخلاقها، فحيث ما كانت العلوم حق اليقين ثم عين اليقين، والأخلاق مقومة على نهج الشرع المبين، كانت النفوس دائمة بدوامها غير مستحيلة، إذ لا تتطرق الاستحالة إلى اليقين والعمل الحق، وغير كائنة ولا فاسدة إذ ليس عن اليقين ولا العلوم الحقيقية من عالم الكون والفساد، وإن لم تبلغ النفس إلى كمال اليقين فتعلقت بدليل صاحبه كما انخرطت في سلكها حتى يخرط الإنسان في سلك محبته، لو أحب أحدكم حجراً لحشر معه، فإن الدين هو الحب في الله والبغض في الله، ولهذا اكتفى الشرع من المكلفين بالإسلام وتسليم وتفويض وتحكيم دون الوقوف على المسائل العويصة بالبراهين الواضحة الصحيحة، وما لم يبلغ الولد حد التكليف واخترم ألحقوا بآبائهم وحكم عليهم بحكم عقائدهم وآرائهم حتى يكون حكم آبائهم جارياً عليهم وحكم القيامة نافذاً فيهم، وأما إذا كانت الصورة القائمة بالذوات مستحيلة بأن كانت جهلاً وباطلاً ينقص أوله آخره وآخره أوله، كانت ذات النفس لا تنعدم ولا تفنى بل تبقى على حال لا يموت فيها ولا يحي، فإنها لو فنيت لاستراحت ولو بقيت لاستطابت، فهي على استحالة بين الموت والحياة، وهذه الاستحالة لا تكون إلا في أجساد وأبدان {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها} [النساء: 56] انتهى. وهو كما ترى في غاية النفاسة، ويؤيده «يحشر المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» ويجوز أن تكون الجملة تعليلاً لما قبلها من النفي، أي ما نقصناهم لأنه قد سبق في حكمنا بأن يكون {كل امرئ} قدرنا أن يرتهن بما قد ينقصه {بما كسب} أي لا يضر ما كسب ما كسبه غيره {رهين} أي معوق عن النعيم حتى يأتيه بما يطلق من العمل الصالح.

.تفسير الآيات (22- 27):

{وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)}
ولما جمعهم في إلحاق الذرية بهم لأنهم من أعظم النعيم، وأمنهم مما قد يخشى من نقصهم بنقصه غيرهم، وعلل ذلك ليكون أرسخ في النفس، أتبعه بما يشاكله فقال: {وأمددناهم} أي آمنوا والمتقين ومن ألحق بهم من ذرياتهم بما لنا من العظمة زيادة على ما تقدم {بفاكهة}. ولما كانت الفاكهة ظاهرة فيما يعرفونه في الدنيا وإن كان عيش الجنة بجميع الأشياء تفكها ليس فيه شيء يقصد به حفظ البدن قال: {ولحم مما يشتهون} ليس فيه شيء منه مما لا يعجبهم غاية الإعجاب.
ولما كان هذا النعيم العظيم المقيم يدعو إلى المعاشرة، بالقرينة العاطرة، بين أن ذلك حالهم اللازمة الظاهرة، من الخصال اللائقة الطاهرة، فقال: {يتنازعون} أي يشربون متجاذبين مجاذبة الملاعبة لفرط المحبة والسرور وتحلية المصاحبة {فيها كأساً} أي خمراً من رقة حاشيتها تكاد أن لا ترى في كأسها. ولما كان في خمر الدنيا غوائل نفاها عنها فقال: {لا لغو} أي سقط مما يضر ولا ينفع {فيها} أي في تنازعها ولا بسبها لأنها لا تذهب بعقولهم ولا يتكلمون إلا بالحسن الجميل {ولا تأثيم} أي ولا شيء فيها مما يلحق شرَّابها إثما ولا يسوغ نسبه.
ولما كانت المعاطاة لا يكمل بسطها ولا يعظم إلا بخدم وسقاة قال: {ويطوف عليهم} أي بالكؤوس وغيرها من أنواع التحف {غلمان} ولما كان أحب ما إلى الإنسان ما يختص به قال: {لهم} ولم يضفهم لئلا يظن أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا فيشفق كل من خدم أحد في الدنيا بقول أو فعل أن يكون خادماً له في الجنة فيحزن بكونه لا يزال تابعاً، وأفاد التنكير أن كل من دخل الجنة وجد له خدماً لم يعرفهم قبل ذلك {كأنهم} في بياضهم وشدة صفائهم {لؤلؤ مكنون} أي مصون في الصدف لم تغيره العوارض، هذا حال الخادم فما ظنك بالمخدوم.
ولما كان ألذ ما إلى الحبيب وأعظم ما يكون من أربه ذكر محبوبه والثناء عليه بما منّ به، قال تعالى شارحاً لذلك عاطفاً على ما تقديره: فأقبلوا على تعاطي ما ذكر من النعم: {وأقبل بعضهم} لما ازدهاهم من السرور، وراقهم من اللذة والحبور {على بعض يتساءلون} أي يسأل بعضهم بعضاً عن السبب الموصل له إلى هذا النعيم الذي لا يقدر مخلوق على وصفه حق وصفه، ثم استأنف شرح ذلك بقوله: {قالوا} أي قال كل منهم مؤكداً استلذاذاً بما أداهم إلى ما هم فيه لأنه لا يكاد يصدق، مسندين النعمة بفعل الكون إلى الله الذي جبلهم جبلة خير، مسقطين الجار إشارة إلى دوام خوفهم، تنبيهاً على أن الخوف الحامل على الكف عن المعاصي يشترط فيه الدوام، بخلاف الرجاء الحامل على الطاعات، فإنه يكفي فيه ما تيسر كما تأتي الإشارة إليه بإثبات الجار: {إنا كنا قبل} أي في دار العمل {في أهلنا} على ما لهم من العدد والعدد والنعمة والسعة، ولنا بهم من جوالب اللذة والدواعي إلى اللعب {مشفقين} أي عريقين في الخوف من الله لا يلهينا عنه شيء مع لزومنا لما نقدر عليه من طاعته لعلمنا بأنا لا نقدره لما له من العظمة والجلال والكبرياء والكمال حق قدره، وأنه لو واخذنا بأصغر ذنوبنا أهلكنا، قال الرازي: والإشفاق: دوام الحذر مقروناً بالترحم، وهو أن يشفق على النفس قبل أن تجمح إلى العناد، وله أقسام: إشفاق على العمل أن يصير إلى الضياع، وإشفاق على الخليقة لمعرفة مقاديرها، وإشفاق على الوقت أن يشوبه تفرق وعلى القلب أن يمازجه عارض وعلى النفس أن يداخلها- انتهى.
ولما حكى عنهم سبحانه أنهم أثبتوا لأنفسهم عملاً تدريباً لمن أريدت سعادته، فكان بحيث يظن أنهم رأوه هو السبب لما وصلوا إليه، قالوا نافين لهذا الظن، مبينين أن ما هم فيه إنما هو ابتداء تفضل من الله تعالى لأن إشفاقهم منه سبحانه لكيلا يعتمد الإنسان على شيء من عمله فلا يزال معظماً لربه خائفاً منه: {فمنّ الله} الذي له جميع الكمال بسب إشفاقنا منه {علينا} بما يناسب كماله فأمّننا {ووقانا} أي وجنبنا بما سترنا به {عذاب السموم} أي الحر النافذ في المسام نفوذ السم.

.تفسير الآيات (28- 34):

{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)}
ولما ذكروا إشفاقهم، بينوه مؤكدين أيضاً لمثل ذلك بقولهم: {إنا كنا} أي بما طبعنا عليه وهيئنا له. ولما كان الدعاء بمعنى فعل العبادة، وكانت تقع في بعض الزمان، أثبت الجار إشارة إلى ذلك مع إسقاطه قبل هذا في الدعاء بالقوة إشارة إلى أن التحلي بالفضائل يرضى منه باليسر، والتخلي عن الرذائل لابد فيه من البراءة عن كل قليل وكثير فقيل: {من قبل} أي في الدنيا {ندعوه} أي نسأله ونعبده بالفعل، وأما خوفنا بالقوة فقد كان في كل حركة وسكنة، ثم عللوا دعاءهم إياه مؤكدين لأن إنعامه عليهم مع تقصيرهم مما لا يكاد يفعله غيره، فهو مما يعجب منه غاية العجب فقالوا: {إنه هو} أي وحده {البر} الواسع الجود الذي عطاؤه حكمة ومنعه رحمة، لأنه لا ينقصه إعطاء ولا يزيده منع، فهو يبر عبده المؤمن بما يوافق نفسه فربما بره بالنعمة وربما بره بالبؤس، فهو يختار له من الأحوال ما هو خير له ليوسع له في العقبى، فعلى المؤمن أن لا يتهم ربه في شيء من قضائه {الرحيم} المكرم لمن أراد من عباده بإقامته فيما يرضاه من طاعته، ثم بإفضاله عليه وإن قصر في خدمته.
ولما كان هذا مع تشويقه إلى الجنة والأعمال الموصله إليها وعظاً يرقق القلوب ويجلي الكروب، سبب عنه قوله: {فذكر} أي جدد التذكير بمثل هذا لكل من يرجو خيره ودم على ذلك، وسماه تذكيراً لأنه مما يعلمه الإنسان إذا أمعن النظر من نفسه أو من الآفاق، وعلل التذكير بقوله: {فما أنت} أي وأنت أشرف الناس عنصراً وأكملهم نفساً وأزكاهم خلائق هم بها معترفون لك قبل النبوة {بنعمت ربك} أي بسبب ما أنعم به عليك المحسن إليك من هذا الناموس الأعظم بعد تأهيلك له بما هيأك به من رجاحة العقل وعلو الهمة وكرم الفعال وجود الكف وطهارة الأخلاق وشرف النسب، وأكد النفي بقوله: {بكاهن} أي تقول كلاماً- مع كونه سجعاً متكلفاً- أكثره فارغ وتحكم على المغيبات بما يقع خلاف بعضه. ولما كان للكاهن والمجنون اتصال بالجن، أتبع ذلك قوله: {ولا مجنون} أي تقول كلاماً لا نظام له مع الإخبار ببعض المغيبات، فلا يفترك قولهم هذا عن التذكير فإنه قول باطل لا تلحقك به معرة أصلاً؛ وعما قليل يكون عيباً لهم لا يغسله عنهم إلا اتباعهم لك، فمن اتبعك منهم غسل عاره، ومن استمر على عناده استمر تبابه وخساره.
ولما كانت نسبته صلى الله عليه وسلم فيما أتاهم به من هذا القرآن الآمر بالحكمة إلى أنه أتى به عن الجن الذين طبعهم الفساد مما لا ينبغي أن يتخيله أحد فضلاً أن يقوله له صلى الله عليه وسلم، ولا يكاد يصدق أن أحداً يرميه به، فكان في طيه سؤال تقريع وتوبيخ، نبه على ذلك بالعطف على ما تقديره: أيقولون هذا القول البعيد من أقوال أهل العقول: {أم يقولون} ما هو أعجب في مجرد قوله فضلاً عن تكريره، فأم معادلة للاستفهام قبلها لا مقطوعة، وكذا جميع ما بعدها وهو معنى ما نقله البغوي عن الخليل أنه قال: ما في سورة الطور من ذكر {أم} كله استفهام وليس بعطف.
{شاعر} يقول كلاماً موزوناً بالقصد، يلزمه التكلف لذلك فيغلب إلزام الوزن قائله حتى يجعل اللفظ هو الأصل ويجعل المعنى تابعاً له، فيأتي كثير من كلامه ناقص المعاني هلهل النسج مغلوباً فيه على أمره معترفاً إذا وقف عليه بتقصيره متعذراً مما زانه بهزعم من أوزانه، وساق سبحانه هذا وكذا ما بعده من الأقسام على طريق الاستفهام مع أن نسبتها إليهم محققة، تنبيهاً على أن مثل هذا لا يقوله عاقل، وإن قاله أحد لم يكد الناقل عنه يصدق: {نتربص} أي ننتظر {به ريب المنون} أي حوادث الدهر من الموت وغيره القاطعة، من المن وهو القطع.
ولما كان كأنه قيل لهم: إنهم ليقولون ذلك، قال معلماً جوابهم: {قل تربصوا} ولم يعرج على محاججتهم في قولهم هذا تنبيهاً على أنه من السقوط بمنزلة لا يحتاج معها إلى رد مجادلة، ثم سبب عن أمره لهم بالتربص قوله: {فإني معكم} وأكده تنبيهاً على أنه يرجو الفرح بمصيبتهم كما يرجون الفرح بمصيبته وإن كانت كثرتهم وقوتهم عندهم مانعة من مثل هذا التربص {من المتربصين} أي العريقين في التربص وإن ظننتم خلاف ذلك، وأشار بالمعية إلى أنه مساو لهم في ذلك وإن ظنوا لكثرتهم وقوتهم ووحدته وضعفه أن الأمر خلاف ذلك، قال القشيري: جاء في التفسير أن جميعهم- أي الذي تربصوا به- ماتوا، قال: ولا ينبغي لأحد أن يؤمل نفاق سوقه بموت أحد لتنتهي النوبة إليه فقل من تكون هذه صفته إلا سبقته المنية، ولا يدرك ما تمناه من الأمنية.
ولما كان قولهم هذا مما لا يقال أصلاً وإن قيل على بعده كان قوله كأنه على جهة سبق اللسان أو نحو ذلك، نبه عليه بمعادلة ما تقديره: أقالوا ذلك ذهولاً: {أم تأمرهم} أي نزين لهم تزييناً يصير مآلهم إليه من الانبعاث كالأمر {أحلامهم} أي عقولهم التي يزعمون أنهم اختصوا بجودتها دون الناس بحيث إنه كان يقال فيهم: أولوا الأحلام والنهي {بهذا} أي وهم يعتقدون صحته وأنه العدل السواء لأنه متقيدون بالأحلام والنهي على ما فيه من الفساد بالتناقض بعد اختلال كل قول منه على حدته كما تقدم بيانه، وهو توبيخ عظيم بالإشارة إلى أنه ليست لهم عقول أصلاً لقولهم هذا، فإن الكاهن شرطه أن يكون في غاية المعرفة عندهم حتى أنهم يجعلونه حكماً وربما عبدوه، والمجنون لا يصلح لصالحة لأنه لا يعقل، والشاعر بعيد الأمر بوزن الكلام وكثرته من سجع الكاهن وغيره وكلام المجنون: {أم هم} بظواهرهم وبواطنهم {قوم} أي ذوو قوة على ما يحاولونه فهم لذلك {طاغون} أي مجازون للحدود، وذلك عادة لهم بما أفهمه الوصف، فهم لذلك لا يبالون بالعناد الظاهر في مخالفته لما تأمر به الأحلام والنهى، ولا يقوله إلا الطغاة السفهاء مع ظهور الحق لهم، فهم يقولون الكلام المتناقض غير مبالين بأحد ولا مستحيين من أن ينسبوا إلى العدوان والمبالغة في العصيان، والآية من الاحتباك: ذكر الأحلام أولاً دليلاً على ضدها ثانياً، والطغيان ثانياً على ضده العدل السواء أولاً، وسره أن ما ذكر أشد تنفيراً من السوء وأعظم تقبيحاً له وتحذيراً منه {أم يقولون} ما هو أفحش عاراً من التناقض: {تقوله} أي تكلف قوله من عند نفسه كذباً وليس بشعر ولا كهانة ولا جنون، وهم على كثرتهم وإلمام بعضهم بالعلم وعرافة آخرين في الشعر والخطب والترسل والسجع يعجزونه عن مثله بل عن مثل شيء منه.
ولما كان الكلام حقيقة في النفس، وكانوا يعلمون بطلان جميع ما يقولونه من ذلك، كان التقدير: لم يقولوا شيئاً من ذلك حقيقة واعتقاداً {بل لا يؤمنون} أي لا يقرون بالحق مع علمهم ببطلان قولهم وتناقضه عناداً منهم لا تكذيباً في الباطن.
ولما كان هذا القول أظهر بطلاناً من كل ما قالوه لأن تكذيبهم لهم على تقدير كذبه- على زعمهم- غير موقوف على شيء خارج عن القوة، طالبهم بالمعارضة لأنهم إذا عارضوه بمثله انفصل النزاع، ولذلك سبب عما مضى قوله تكذيباً لهم في قولهم هذا الذي أظهروه بألسنتهم يوقفون به غيرهم عن الخير: {فليأتوا} أي على تقدير أرادوه {بحديث} أي كلام مفرق مجدد إتيانه مع الأوقات لا تكلفهم أن يأتوا به جملة {مثله} أي القرآن في البلاغة وصحة المعاني والإخبار بالمغيبات مما كان أو يكون على ما هي عليه والحكم.
ولما كان المقصود هنا مطلق التعجيز للمكذبين لا بقيد الاجتماع كما في سبحان لأن نزول هذه أوائل ما نزل، تحداهم بالإتيان بالمثل في التنجيم والتطبيق على الوقائع سوراً أو آيات أو دون ذلك، تحدث وتتجدد شيئاً في أثر شيء- بما أشار إليه التعبير بالحدوث، ولذلك أعراه عن تظاهرهم بالاجتماع ودعاء المستطاع، ولكونهم كاذبين في جزمهم بنسبته إلى التقول وغيره، أشار إلى ذلك بقوله مقرعاً لهم إلهاباً إلى الخوض في المعارضة: {إن كانوا} أي كوناً هم راسخون فيه {صادقين} أي في أنه تقوله من عند نفسه شيئاً فشيئاً، كوناً هم عريقون فيه كما يزعمون سواء ادعوا أنه شاعر أو كاهن أو مجنون أو غير ذلك، لأن العادة تحيل أن يأتي واحد من قوم وهو مساوٍ لهم بما لا يقدرون كلهم على مثله، والعاقل لا يجزم بشيء إلا وهو عالم به، ويلزم من علمهم بذلك قدرتهم على مثل ما يأتي به، فإنه صلى الله عليه وسلم مثلهم في الفصاحة والبلد والنسب، وبعضهم يزيد عليه بالكتابة وقول الشعر ومخالطة العلماء، ومزاولة الخطب والرسائل وغير ذلك، فلا يقدر على ما يعجزون عنه إلا بتأييد إلهي، وهو المراد من تكذيبهم، وقد علم من هذا ومما تقدم من نحوه مفرقاً في السور التي فيها مثله أن المتحدى به في كل سورة غير المتحدى به في الأخرى- والله الهادي، وهذه الأقسام الماضية من تكذيبهم تتأتى أن تكون على تقدير الاعتقاد للإله على ما هو عليه من صفات الكمال فأتباعها قسماً على تقدير التعطيل، وإذا لم يكن إله لم يكن رسول فيأتي التكذيب، ثم أتبع ذلك قسماً آخر هو على تقدير إثبات الإله لكن مع الضعف بالشركة، ولكون الشركة تارة تكون من المتكلم وتارة من غيره، قدم منها ما للمتكلم على زعمه، وقدم تقدير شركته بالخلق ثم بضبط الخزائن ثم بالكتابة ثم بسماع الأسرار ثم بضعف السعة بالرضا بالصنف الأردأ.