فصل: تفسير الآيات (35- 38):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (35- 38):

{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)}
ولما مضت فضيحتهم بالتحدي، وكانت عندهم فضيحة التناقض دون فضيحة المعارضة، فكانوا يقدمونها عليها، فلم يحدث أحد منهم يوماً من الأيام بشيء مما يعارضه به علماً منهم بأنهم يصيرون بذلك إلى خزي لا يمكن أن يغسل عاره كما صار مسيلمة، لأنهم كانوا أعقل العرب وكان التقدير كما هدى إليه السياق: فإنك مستوٍ معهم بالنسبة إلى إيجاد الله لكم، هو سبحانه خالقهم كما أنه خالقك، ولا خصوصية لك منه على زعمهم: أهو خالقهم كما هو خالقك فيلزمهم أن يأتوا بمثل ما تأتي به، وكان ذلك على تقدير إقرارهم بالله وادعائهم لكذبه صلى الله عليه وسلم، عادله سبحانه تبكيتاً لهم وإظهاراً لفضائح هي أشنع مما فروا منه من المعارضة بقوله على تقدير أن يكونوا منكرين للإله أو مدعين لأن يكونوا آلهة: {أم خلقوا} أي وقع خلقهم على هذه الكيفية المتقنة {من غير شيء} فيكونوا مخالفين لصريح العقل إذ تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الاسم كتعلقه بالمخلوق ليسلم لهم أنك تأتي بما لا يقدرون على معارضته لأنك أقوى منهم بكونك مستنداً إلى خالق وهم ليسوا مستندين إلى شيء أو ليكونوا لذلك أقوى منك وأعلى، فيكون لهم التكبر عليك {أم هم الخالقون} أي الذين لهم هذا الوصف فيكونون قد خلقوا أنفسهم ليكونوا بذلك شركاء فيكون الخالق والمخلوق واحداً، وهو مثل القسم الذي قبله في عدم الاستناد إلى شيء أو يكون ثبوت هذا الوصف لهم موجباً لأن يكونوا على ثقة مما يقولون وللتكبر عليك، فإن ادعوا ذلك حكم أدنى الخلق بجنونهم؛ {أم خلقوا} أي على وجه الشركة {السماوات والأرض} فهم لذلك عالمون بما فيها على وجه الإحاطة واليقين حتى علموا أنك تقولته ليصير لهم رده والتهكم عليه.
ولما كان التقدير: لم يكن شيء من ذلك ليكون لهم شبهة في الكلام فيك، عطف عليه قوله: {بل لا يوقنون} أي ليس لهم نوع يقين ليسكنوا إلى شيء واحد لكونه الحق أو ليعلموا أن هذه الملازم الفاضحة تلزمهم فيكفوا عن أمثالهم {أم عندهم} أي خاصة دون غيرهم {خزائن} ولما كان ذكر الرحمة لا يقتضيه مقصود السورة الذي هو العذاب، لم تذكر كما في ص وسبحان فقيل: {ربك} المحسن إليك بإرسالك بهذا الحديث فيعلموا أن هذا الذي أثبت به ليس من قوله لأنه لا تصرف له في الخزائن إلا بهم، فيصح قولهم: إنك تقولته وحينئذ يلزمهم فضائح لا آخر لها، منها أن يأتوا بحديث مثله بل أحسن منه من تلك الخزائن {أم هم} لا غيرهم {المسيطرون} أي الرقباء الحافظون والجبارون والمسلطون الرؤساء الحكماء الكتبة، ليكونوا ضابطين للأشياء كلها كما هو شأن كتّاب السر عند الملوك فيعلموا أنك تقولت هذا الذكر لأنهم لم يكتبوا به إليك {أم لهم سلّم} يصعدون به إلى السماء {يستمعون} أي يتعمدون السمع لكل ما يكون فيها ومنها {فيه} أي في ذلك السلم وبسببه كما يكون بعض من يحضر مجالس الملوك في الدنيا ويعلم ما يقع فيها ليكونوا ضابطين لما يأتي من الملك فيعلموا أن ما قالوه فيك حق ولما كان من يكون هكذا متمكناً من الإتيان منها بالعجائب، سبب عنه قوله: {فليأت مستمعهم} إن ادعوا ذلك {بسلطان مبين} أي حجة قاهرة بينة في نفسها، موضحة لأنها من السماء على صحة ما يرمونك به.

.تفسير الآيات (39- 43):

{أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)}
ولما كان ما مضى على تقدير وجود الإله مع الشركة، وكان ادعاؤهم الولد عظيماً جداً لدلالته على حاجته وضعفه، وكان جعله بنات أعظم لأنه دال مع ضعفه على سفهه، دل على استعظامه بالالتفات إلى خطابهم بعذابهم فقال: {أم له البنات} أي كما ادعيتم {ولكم} أي خاصة {البنون} لتكونوا أقوى منه فتكذبوا رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم وتردوا قوله من غير حجة فتكونوا آمنين من عذاب يأتيكم منه لضعفه وقوتكم، وهذه الأقسام كلها على تقدير التكذيب، وهي هنا بذكر ما على تقدير التصديق، وإنما وقع الرد فيها لعارض عرض.
ولما كان المكذب بشيء قد يكون معترفاً بأنه من عند إله، وأن إلهه متصف بجميع صفات الكمال فلا شريك له، وإنما تكذيبه لقادح لا يقدر عليه، وكرب رمى بجميع أنكاده إليه، أعرض عنهم التفاتاً إلى الأسلوب الأول فقال مخاطباً له صلى الله عليه وسلم تنويهاً بذكره ورفعاً لعظيم قدره وتسلية لما يعلم من نفسه الشريفة البراءة منه: {أم تسألهم} أي أيها الطاهر الشيم البعيد عن مواضع التهم {أجراً} على إبلاغ ما أتيتهم به {فهم من مغرم} ولو قل، والمغرم: التزام ما لا يجب {مثقلون} أي حمل عليهم حامل بذلك ثقلاً فهم لذلك يكذبون من كان سبباً في هذا الثقل بغير مستند ليستريحوا مما جره لهم من الثقل.
ولما كان من يدعي الانفراد بشيء يحسد من يدعي مشاركته فيه قال: {أم عندهم} أي خاصة بهم {الغيب} أي علمه {فهم يكتبون} أي يجددون للناس كتابة جميع ما غابة عنهم مما ينفعهم ويضرهم حتى يحسدونك فيما شاركتهم به منه، فيردوه لذلك، وينسبوك إلى ما نسبوك إليه مما يعلم كل أحد ترافعك عنه وبعدك منه {أم يريدون} بهذا القول الذي يرمونك به {كيداً} أي مكراً أو ضرراً عظيماً يطفئون به نور الله بزعمهم مع علمهم بأنك صادق فيه، فهم بسبب إرادتهم ذلك هكذا كان الأصل، ولكنه قال تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف: {فالذين كفروا} أي ستروا الأجلة تارة عناداً وتارة بالإعراض عن تأملها {هم} أي خاصة {المكيدون} أي يختص وبال الكيد بلزومه لهم وقطعه لدابرهم لأن من كان الإله عليه كان خاسراً، وأقرب مآلهم من الكيد الظاهر في بدر عن انتهاء سنين عدتها عدة ما هنا من {أم} وهي خمسة عشرة مرة لأن بدراً كانت في الثانية من الهجرة، وهي الخامسة عشرة من النبوة، فقد سبب الله فيها من الأسباب ما أوجب سعيهم إلى هلاكهم بأمور خارقة للعادة، فلو كانت لهم بصائر لكفتهم في الهداية، والرد عن الضلالة والغواية.
ولما كان التقدير: أكذلك الأمر عادله بقوله: {أم لهم إله} يمنعهم من التصديق بكتابنا، أو يستندون إليه للأمان من عذابنا {غير الله} الذي أحاط بجميع صفات الكمال، فلا يمكن بوجه من الوجوه ولا على تقدير من التقادير أن يكون معه إله، ولذلك وصل به قوله: {سبحان الله} أي الملك الأعظم الذي تعالى أن يداني جنابه شائبة نقص {عما يشركون} من الأصنام وغيرها، وأخر سبحانه هذا القسم وهو من الشركة لكن بالغير لأنه آت على تقدير التصديق للرسول صلى ولأنه دينهم الذي أوقفهم عن الهدى، فأوقعهم في الردى، ليحتم بنفسه والتنزيه عن الإقسام فيحصل به غاية القصد والمرام.
والحاصل أنه قسم به سبحانه حالهم في ردهم القرآن إلى التكذيب وغيره، ولما كان التكذيب- وهو النسبة إلى الكذب وهو عدم المطابقة للواقع- إما في الإرسال، وإما في المعاني، وما وقع به الإرسال إما لنقص في الرسول وإما النقص في المرسل، والذي في الرسول إما أن يكون لأمر خارج عنه أو لأمر داخل فيه، ولما كان الخارج قد يكون معه نقص دخل بذاته، ولما كان ذلك قد يكون فيه ما يمدح به ولو من وجه، وهو الكهانة بدأ بها، وأتبعه الداخل لذلك بادئاً بما قد يمدح به وهو الشعر. ولما كان القول بجمع الكهانة والشعر والجنون في شخص واحد على غاية من ظهور التناقص لا يخفى، أتبعها الرمي بالتهكم على عقولهم. ولما كان الكذب في الرمي بالتقول قد يخفى، أتبعه دليله بالعجز عن المعارضة. ولما قسم ما رموا به الرسول، أتبعهم ما ألزمهم به في المرسل، ولما كان ذلك إما أن يكون بالتعطيل أو لا، وكان التعطيل أشد، بدأ به وهو الخلق من غير شيء، ولما كان النقص مع الإقرار بالوجود إما أن يكون بالشركة أولاً، وكان بالشركة إما أن يكون المكذب هو المشارك أولاً، وكانت الشركة المكذب أقعد في التكذيب بدأبها، ولما كانت شركة المكذب إما أن تكون في الخلق أو لا، وكان الأول إما أن يكون بخلق النفس أو الغير، وكانت الشركة بخلق النفس ألصق، بدأ بها قوله: {أم هم الخالقون} ولما كانت الشركة بغير الخلق إما أن يكون بضبط الحواس أو لا، وكان الثاني إما أن يكون بضبط الكتاب فيها وإليه الإشارة بالمسيطر، أو بضبط ما يؤمر به فيها وإليه الإشارة بالسلم أو بسفه صاحب الخزائن لرضاه بالبنات، وكان كل قسم أشد مما بعده رتبه هكذا. ولما انتهى ما يرجع إلى التكذيب، أتبعه الرد لا للتكذيب بل لأمر آخر، ولما كان ذلك الأمر إما من الآتي أو من المأتي إليه أو من غيرهما، كان ما من الآتي ألصق بدأ به وهو المغرم، ولما كان ما من المأتي إليه إما لحسد أو غيره، وكان أمر الحسد أشد، بدأ به وهو المشاركة في الأبناء بما يكون به الفخر والرئاسة وهو علم الغيب- الناظر بوجه للكهانة المبدوء بها في قسم التكذيب، وآخر ما من الغير وهو الشريك المانع لهم من القبول، وخلطه بهذا القسم مع كونه قسيماً لما فرض فيه المكذب مشاركاً لخلوه عما قارن تلك الأقسام من التكذيب، هذا تمام القول في إبطال ما لزمهم فيما تقولوه في أمر القرآن، وقد تضمن ما ترى من تأصيله وتقسيمه وتفصيله من بيان مقدورات الله وعجائب مصنوعاته ما ألزمهم حتماً التوحيد الملزم بتصديق الرسالة والإذعان للحق مع ما له من الإعجاز في ترتيبه ونظمه وتهذيبه وتسهيله وتقريبه مجلوا أسلوبه العظيم بألفاظ هي الدر النظيم، ومعان علت عن لاحق بغريزة أو تعليم، يكاد لها أثبت القلوب يهيم فيطير، وأبلغ البلغاء في افنان روحها يتدله ويحير، فكان ذلك كما قال جبير بن مطعم رضي الله عنه كما روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالطور، وقال البخاري في التفسير: فلما بلغ هذه الآية {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} {أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون} كاد قلبي يطير، وقال ابن ماجه: فلما سمعه يقرأ {أم من غير شيء أم هم الخالقون} إلى قوله- {فليأت مستمعهم بسلطان مبين} كاد قلبي يطير.
وسبق في أول السورة ما ذكره البغوي من هذا الحديث.

.تفسير الآيات (44- 49):

{وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)}
ولما كان التقدير تسكيناً لقلب من يريد إجابتهم إلى الآيات المقترحات طمعاً في إيمانهم: فلقد تلونا عليهم في هذه السورة وغيرها من الآيات، وخلونا من المعجزات البينات، وأتينا من تناقضهم في هذه التقسيمات، بما يهد الجبال الشامخات، وبينا من فضائحهم بحسن سوقها وحلاوة ذوقها، وصحة معانيها وإحكام مبانيها، ما يزلزل الراسيات، ويحل العزمات، ويفرج الأزمات، ويصد ذوي المروات عن أمثال هذه النقائص الفاضحات، لما لها من الأدلة الواضحات، ولكنهم لما ألزمناهم به من العكس لا يؤمنون، وكدناهم بما أعمينا من بصائرهم فهم لا يعلمون أنهم المكيدون، عطف عليه قوله: {وإن يروا} أي معاينة {كسفاً} قطعة، وقيل: قطعاً واحدتها كسفة مثل سدرة وسدر {من السماء} نهاراً جهاراً {ساقطاً يقولوا} لدداً وتجلداً في البغي إصراراً، وتعلقهم بما أمكنهم من الشبه تخييلاً على العقول وإيقافاً لذوي الآراء والفهوم دأب الأصيل في نصر الباطل ومكابرة الحق لما لهم من العراقة في عمى القلوب بما لنا من القدرة على صرفهم عن وجوه الأمر: هذا {سحاب} فإن قيل لهم: هو مخالف للسحاب بصلابته، قالوا: {مركوم} أي تراكم بعضه على بعض فتصلب، ولذلك سبب عن هذا الحال الدال على أنهم وصلوا في عمى البصائر إلى أنه لو جاءتهم كل آية لا يؤمنون، قوله لنبيه صلى الله عليه وسلم ومن تبعه: {فذرهم} أي اتركهم على شر أحوالهم {حتى يلاقوا} سعياً بسوء أعمالهم {يومهم} كما أنه هو يسعى إليهم لاستحقاقهم لما فيه {الذي فيه} لا في غيره لأن ما حكمنا به لا يتقدم ولا يتأخر {يصعقون} بالموت من شدة الأهوال وعظيم الزلزال كما صعق بنو إسرائيل في الطور، ولكنا لانقيمهم كما أقمنا أولئك إلا عند النفخ في الصور لنحشرهم إلى الحساب الذي يكذبون به، والظاهر أن هذا اليوم يوم بدر فإنهم كانوا قاطعين بالنصرة فيها فما أغنى أحد منهم عن أحد شيئاً كما قال أبو سفيان بن الحارث: ما هو إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤوا ويأسروننا كيف شاؤوا. {يوم لا يغني} أي بوجه من الوجوه {عنهم كيدهم} الذي يرمونه بهذه الأقوال المتناقضة {شيئاً} أي من الإغناء في دفع شيء يكرهونه من الموت ولا غيره كما يظنون أنه يغني عنهم في غير ذلك من أحوال هذه الدار بتثبيط الناس عن اتباع القرآن بما يصفونه به من البهتان {ولا هم ينصرون} أي لا يتجدد لهم نصر من أحد ما في ساعة ما.
ولما أفهم هذا الكلام السابق أن التقدير: فإن لكل ظالم في ذلك اليوم عذاباً لا يحيط به الوصف، فإن الإصعاق من أشد ما يكون من العذاب، عطف عليه قوله مؤكداً لما لهم من الإنكار أي ينصر عليهم المؤمنون وهم من الكثرة والقوة بحيث لا مطمع فيهم لأحد لاسيما لمن هم مثل في الضعف والقلة {وإن} وكان الأصل لهم، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال: {للذين ظلموا} أي أوقعوا الأشياء في غير مواقعها كما يقولونه في القرآن، ويفعلونه من العصيان ويعتقدون من الشرك والبهتان {عذاباً دون ذلك} أي غير عذاب ذلك اليوم الصعب المرير، أو أدنى رتبة منه، إن كان المراد بالعصق ما يكون بعد البعث فبعذاب البزرخ في القبور، وإن كان المراد به الموت فيما يلقونه في الدنيا من عذابي بواسطتكم مثل تحيزكم إلى الأنصار في دار الهجرة ومعدن النصرة وصيرورتكم في القوة بحيث تناصبونهم الحرب، وتعاطونهم الطعن والضرب، فتكونوا بعد أن كنتم طوع أيديهم قذى في أعينهم وشجاً في حلوقهم ودحضاً لأقدامهم ونقضاً لإبرامهم، ومثل القحط الذي حصل لهم والسرايا التي لقيتموها فيها مثل سرية حمزة أسد الله وأسد رسوله، وعبيدة بن الحارث وعبيد الله بن جحش التي كانت مقدمة لغزوة بدر.
ولما كان بعضهم يبصر هذا مثل عتبة بن ربيعة والوليد بن مغيرة والنضر بن الحارث ويقولون: والله ما هو شاعر ولا كاهن ولا ساحر ولا مجنون، وليكونن لقوله الذي يقول نبأ، قال: {ولكن أكثرهم} بسبب ما يرون من كثرتهم وحسن حالهم في الدنيا وقوتهم {لا يعلمون} أي يتجدد لهم علم بتقويتكم عليهم لأنهم لا علم لهم أصلاً حتى يروا ذلك معاينة.
ولما كان العلم المحيط من الملك القاهر أعظم مسل للولي وأكبر مخيف للعدو، قال عاطفاً على {فذرهم} أو على ما تقديره: فكن أنت العلماء بذلك ليكون فيه لك أعظم تسلية: {واصبر} أي أوجد هذه الحقيقة لتصبر على ما أنت فيه من أداء الرسالة وما لها من الكلف من أذى الناس وغيره ولكونه في مقام الإعراض عن الكفار وكون إعراضه عنهم أصعب عليه من مقاساة إنذاره وإن نشأ عنها تكذيبهم واستهزاؤهم، اشتدت العناية هنا بالصبر فقدم، وأيضاً فإن الإعراض عنهم مقتض لعدهم فانين، وذلك هو مقام الجمع، والجمع لا يصلح إلا بالفرق، فلذلك قدم الأمر بالصبر، وذكر الحكم إشارة إلى أنه متمكن في مقام الفرق كما أنه عريق في مقام الجمع بخلاف المدثر، فإن سياقها للإنذار الناشئ عنه غاية الأذى فاشتدت العناية هناك بتقديم ذكر الإله نظراً إلى الفناء عن الفانين وإن كان مباشراً لدعائهم، وعبر بما يذكر بحسن التربية زيادة في التعزية فاقتضى هذا السياق أن رغبه سبحانه بقوله: {لحكم ربك} أي المحسن إليك فإنه هو المريد لذلك ولو لم يرده لم يكن شيء منه، فهو إحسان منه إليك وتدريب لك وترقية في معارج الحكم، وسبب عن ذلك قوله لما يغلب على الطبع البشري في بعض أوقات الامتحان من نوع نسيان: {فإنك بأعيننا} جمع لما اقتضته نون العظمة التي هذا سياقها، وهي ظاهرة في الجمع وإشارة إلى أنه محفوف بالجنود الذين رؤيتهم من رؤيته سبحانه فهو مكلوء مرعى به وبجنوده وفاعل في حفظه فعل من له أعين محيطة بمحفظه من كل جهة من جهاته.
ولما كانت الطاعة أعظم ناصر وأكبر معز، وكانت الصلاة أعظمها قال: {وسبح} أي أوقع التنزيه عن شائبة كل نقص بالقلب واللسان والأركان، متلبساً {بحمد ربك} أي المحسن إليك، فأثبت له كل كمال مع تنزيهه له عن كل نقص، فلا يكون في ملكه ما لا يريد ولا يريد إلا ما هو حكمة بالغة {حين تقوم} أي من الليل في جميع الأوقات التي هي مظنة القيام على الأمور الدنيوية والأشغال النفسانية، وهي أوقات النهار الذي هو للانتشار بصلاة الصبح والظهر والعصر، وتحتمل العبارة التسبيح عند كل قيام بكفارة المجلس وهو «سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله أنت أستغفرك وأتوب إليك» فإنها تكفر ما كان في المجلس- كما رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح غريب والنسائي وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم {ومن الليل} الذي هو محل السكون والراحة {فسبحه} كذلك بالنية والقول كلما انتبهت وبالفعل بصلاة المغرب والعشاء وصلاة الليل، ولتعظيمه صرح بذلك وقدمه على الفعل، والضمير يعود على المضاف إليه، وأشار إلى التهجد بعد دخوله فيما قبله بقوله: {وإدبار النجوم} أي وسبحه في وقت إدبارهم أي إذا أدبرت، وذلك من آخر الليل في نصفه الثاني: وكلما قارب الفجر كان أعلى وبالإجابة أولى، وإلى قرب الفجر تشير قراءة الفتح جمع دابر أي في أعقابها عند خفائها أو أفولها، وذلك بصلاة الفجر سنة وفرضاً أحق وأولى لأنه وقت إدبارها حقيقة، فصارت عبادة الصبح محثوثاً عليها مرتين تشريفاً لها وتعظيماً لقدرها فإن ذلك ينجي من العذاب الواقع، وينصر على العدو الدارع، من المجاهر المدافع، والمنافق المخادع، وقد رجع آخرها على أولها، ومقطعها على موصلها، بحلول العذاب على الظالم، وبعده عن الطائع السالم- والله الموفق.