فصل: تفسير الآيات (40- 44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (40- 44):

{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آَلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)}
ولما كرر هذا التكرير، علم منه أن سبب العذاب التكذيب بالإنذار لأي رسول كان، وكان استئناف كل قصة منبهاً على أنها أهل على حدتها لأن يتعظ بها، علم أن التقدير: فلقد بلغت هذه المواعظ النهاية لمن كان له قلب، فعطف عليه قوله مذكراً بالنعمة التي لا عدل لها: {ولقد يسرنا} أي تعالى جدنا وتناهى مجدنا {القرآن} الجامع الفارق {للذكر} ولو شئنا لأعليناه بما لنا من العظمة إلى الحد حتى تعجز القوي عن فهمه، كما أعليناه إلى رتبة وقفت القوى عن معارضته في نظمه، أو مطلع لا يتشبث بأذيال أدنى علمه، إلا الأفراد من حذاق العباد، فكيف بما فوق ذلك.
ولما كانوا مع ذلك واقفين عن المبادرة إليه والإقبال عليه، قال تلطفاً بهم وتعطفاً عليهم مسبباً عن ذلك: {فهل} وأكد فقال: {من مدكر} مفتك لنفسه من مثل هذا الذي أوقع فيه هؤلاء أنفسهم ظناً منهم أن الأمر لا يصل إلى ما وصل إليه جهلاً منهم وعدم اكتراث بالعواقب.
ولما كان الآخر ينبغي له أن يحذر ما وقع للأول، وكان قوم فرعون قد جاء بعد قوم لوط عليه السلام، فكان ربما ظن أنهم لم ينذروا لأن من علم أن العادة جرت أن من كذب الرسل هلك أنكر أن يحصل ممن تبع ذلك تكذيب، قال مقسماً: {ولقد جاء آل فرعون} أي ملك القبط بمصر وأشرافه الذين إذا رؤوا كان كأنه رئي فيهم لشدة قربهم منه وتخلقهم بأخلاقهم {النذر} أي الإنذارات والمنذرون بنذارة موسى وهارون عليهما السلام، فإن نذارة بعض الأنبياء كنذارة الكل لأنه يأتي أحد منهم إلا وله من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، والمعجزات كلها متساوية في خرق العادة، وكان قد أنذرهم يوسف عليه السلام، ولما كان كأنه قيل: فما فعلوا عند مجيء ذلك إليهم، قال: {كذبوا} أي تكذيباً عظيماً متسهينين {بآياتنا} التي أتاهم بها موسى عليه السلام وغيرها لأجل تكذيبهم بها على ما لها من العظمة المعرفة قطعاً عن أنها من عندنا.
ولما كانت خوارق العادات كما مضى متساوية الأقدام في الدلالة على صدق الآتي بها، وكانوا قد صمموا على أنه مهما أتاهم بآية كذبوا بها، كانوا كأنهم قد أتتهم كل آية فلذلك قال: {كلها} وسبب عن ذلك القول: {فأخذناهم} أي بما لنا من العظمة بنحو ما أخذنا به قوم نوح من الإغراق {أخذ عزيز} أي لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء {مقتدر} أي لا يعجل بالأخذ لأنه لا يخاف الفوت ولا يخشى معقباً لحكمه، بالغ القدرة إلى حد لا يدرك الوصف كنهه لأن صيغة الافتعال مبناها على المعاجلة من عاجل فعلاً أجهل نفسه فيه، فكان على أتم الوجوه، وهذه الغاية هي المرادة ليس غيرها، فهو تمثيل لأنه سبحانه يخاطبنا بما نعبده، وبهذه المبالغة فلم يلفت منهم أحد، وقد ختمت القصص بمثل ما افتتحت به من عذاب المفسدين بالإغراق ليطابق الختم البدء، وكانت نجاة المصلحين من الأولين بالسفينة، وكانت نجاة المصلحين من الآخرين بأرض البحر كانت هي سفينتهم، ليكون الختم أعظم من البدء كما هو شأن أهل الاقتدار.
ولما بلغت هذه المواعظ الانتهاء، وعلت أقدامها على رتبة السها، ولم يبين ذلك كفار قريش عن شرادهم، ولا فتر من جحودهم وعنادهم، كان لسان حالهم قائلاً: إنا لا نخاف شيئاً من هذا، فكان الحال مقتضياً لأن يقال لهم إلزاماً بالحجة: {أكفاركم} الراسخون منكم في الكفر الثابتون عليه يا أيها المكذبون لهذا النبي الكريم الساترون لشموس دينه {خير} في الدنيا بالقوة والكثرة أو الدين عند الله أو عند الناس {من أولائكم} أي الكفار أي الكفار العظماء الجبابرة الأشداء الذين وعظناكم بهم في هذه السورة ليكون ذلك سبباً لافتراق حالهم منهم فيأمنوا العذاب مع جامع التكذيب وإن لم يكن لهم براءة من الله {أم لكم} أجمعين دونهم كفاركم وغير كفاركم {براءة} من العذاب من الله {في الزبر} أي الكتب الآتية من عنده أأمنتم بها من العذاب مع أنهم خير منكم، فالآية من الاحتباك: أثبت الخيرية أولاً دليلاً على حذفها ثانياً، والبراءة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً.
ولما بلغوا إلى هذا الحد من التمادي في الكفر مع المواعظ البالغة والاستعطاف المكين، استحقوا أعظم الغضب، فأعرض عنهم الخطاب إيذاناً بذلك وإهانة لهم واحتقاراً وإقبالاً على النبي صلى الله عليه وسلم تسلية فقال عاطفاً على ما تقديره: أيدعون جهلاً ومكابرة شيئاً من هذين الأمرين: {أم يقولون} أي هؤلاء الذي أنت بين أظهرهم تعاملهم باللين في القال والقيل والصفح الجميل امتثالاً لأمرنا تعظيماً لقدرك فاستهانوا بك: {نحن جميع} أي جمع واحد مبالغ في اجتماعه فهو في الغاية من الضم فلا افتراق له {منتصر} أي على كل من يناويه لأنهم على قلب رجل واحد، فالإفراد للفظ {جميع} ولإفهام هذا المعنى، أو أن كل واحد محكوم له بالانتصار.

.تفسير الآيات (45- 48):

{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)}
ولما كان لسان الحال ناطقاً بأنهم يقولون: هذا كله فأي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً ونحوها، وقال بعضهم: لئن بعثنا لأوتينا وولداً، ولا شك أنهم كانوا في غاية الاستحالة لغلبة المؤمنين لهم على قلتهم وضعفهم، استأنف الجواب بقوله: {سيهزم} بأيسر أمر من أي هازم كان بوعد لا خلف فيه، وقراءة الجمهور بالبناء للمفعول مفهمة للعظمة بطريقة كلام القدرين، فهي أبلغ من قراءة يعقوب بالنون والبناء للفاعل الدالة على العظمة صريحاً {الجمع} الذي تقدم أنه بولغ في جمعه فصدق الله وعده وهزموا في يوم بدر وغيره في الدنيا عن قريب، ولم يزالوا يضعفون حتى اضمحل أمرهم وزال بالكلية سرهم، وهي من دلائل النبوة البينة {ويولون الدبر} أي يقع توليتهم كلهم بهذا الجنس بأن يكون والياً لها من منهم مع الهزيمة لأنه لم يتولهم في حال الهزيمة نوع مسكنة يطمعون بها في الخيار، وكل من إفراد الدبر والمنتصر وجمع المولين أبلغ مما لو وضع غيره موضعه وأقطع للتعنت.
ولما ونقع هذا في الدنيا، وكان في يوم بدر، وكان ذلك من أعلام النبوة، وكان ربما ظن ظان أن ذلك هو النهاية، كان كأنه قيل: ليس ذلك الموعد الأعظم: {بل الساعة} القيامة التي يكون فيها الجمع الأعظم والهول الأكبر {موعدهم} أي الأعظم للجزاء المتوعد به {والساعة أدهى} من كل ما يفرض وقوعه في الدنيا، أفعل تفضيل من الداهية وهي أمر هائل لا يهتدي لدوائه {وأمر} لأن عذابها للكافر غير مفارق ومزايل. ولما أخبر عن الساعة بهذا الإخبار الهائل، علله مقسماً لأهلها مجملاً بعض ما لهم عند قيامها بقوله مؤكداً لما أظهروا من التكذيب: {إن المجرمين} أي القاطعين لما أمر الله بأن يوصل {في ضلال} أي عمى عن القصد بتكذيبهم بالبعث محيط بهم مانع من الخلاص من دواهي الساعة وغيرها، ومن الوصول إلى شيء من مقاصدهم التي هم عليها الآن معتمدون {وسعر} أي نيران تضطرم وتتقد غاية الاتقاد {يوم} أي في ذلك اليوم الموعود به {يسحبون} أي في الساعة دائماً بأيسر وجه إهانة لهم من أي صاحب كان {في النار} أي الكاملة في النارية {على وجوههم} لأنهم في غاية الذل والهوان جزاء بما كانوا يذلون أولياء الله تعالى، مقولاً لهم من أي قائل اتفق: {ذوقوا} أي لأنهم لا منعة لهم ولا حمية عندهم بوجه {مس سقر} أي ألم مباشرة الطبقة النارية التي تلفح بحرها فتلوح الجسم وتذيبه فيسيل ذهنه... وعصاراً كما يسيل الدبس وعصارة الرطب فتسمى النخلة بذلك مسقاراً.

.تفسير الآيات (49- 55):

{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)}
ولما أخبر بقيام الساعة وما يتفق لهم فيها جزاء لأعمالهم التي قدرها عليهم وهي ستر فرضوا بها لاتباع الشهوات واحتجوا على رضاه بها، وكان ربما ظن ظان أن تماديهم على الكفر لم يكن بإرادته سبحانه، علل ذلك منبهاً على أن الكل فعله، وإنما نسبته إلى العباد بأمور ظاهرية، تقوم عليهم بها الحجة في مجاري عاداتهم، فقال: {إنا} أي بما لنا من العظمة {كل شيء} أي من الأشياء المخلوقة كلها صغيرها وكبيرها.
ولما كان هذا التعميم في الخلق أمراً أفهمه النصب، استأنف قوله تفسيراً للعامل المطوي وإخباراً بجعل ذلك الخلق كله على نظام محكم وأمر مقدر مبرم {خلقناه بقدر} أي قضاء وحكم وقياس مضبوط وقسمة محدودة وقودة بالغة وتدبير محكم في وقت معلوم ومكان محدود مكتوب في ذلك اللوح قبل وقوعه تقيسه الملائكة بالزمان وغيره من العد وجميع أنواع الأقيسة- فلا يخرم عنه مثقال ذرة لأنه لا منازع لنا مع ما لنا من القدرة الكاملة والعلم التام، فهذا العذاب بقدرتنا ومشيئتنا فاصبروا عليه وارضوا به كما كنتم ترضون أعمالكم السيئة ثم تحتجون على عبادنا بأنها مشيئتنا بنحو {ولو شاء الله ما أشركنا} [الأنعام: 148] فقد أوصلكم إلى ما ترون وانكشف أتم انكشاف أنه لا يكون شيء على خلاف مرادنا، ولا يقال لشيء قدرناه: لم؟ قال الرازي في اللوامع: الكمية ساقطة عن أفعاله كما أن الكيفية والكمية ساقطتان عن ذاته وصفته- انتهى. ولا يكون شيء من أمره سبحانه إلا ما هو على غاية الحكمة، ولو كان الخلق لا يبعثون بعد الموت ليقع القصاص والقياس العدل ليكون القياس جزافاً لا بقدر وعدل، لأن المشاهد أن الفساد في هذه الدار من المكلفين من الصلاح أضعافاً مضاعفة، وقرئ في الشواذ برفع {كل} وجعله ابن جني أقوى من النصب، وليس كذلك لأن الرفع لا يفيد ما ذكرته، وما حمله على ذلك إلا أنه معتزلي، والنصب على ما قدرته قاصم لأهل الاعتزال.
ولما بين أن كل شيء بفعله، بين يسر ذلك وسهولته عليه فقال: {وما أمرنا} أي كل شيء أردناه وإن عظم أثره، وعظم القدر وحقر المقدورات بالتأنيث فقال: {إلا واحدة} أي فعلة يسيرة لا معالجة فيها وليس هناك إحداث قول لأنه قديم بل تعلق القدرة بالمقدور على وفق الأرادة الأزلية، ثم مثل لنا ذلك بأسرع ما يعقله وأخفه فقال؛ {كلمح بالبصر} فكما أن لمح أحدكم ببصره لا كلفة عليه فيه، فكذلك الأفعال كلها، بل أيسر من ذلك.
ولما أخبر بتمام قدرته، وكان إهلاك من ذكر من الكفار وإنجاء من ذكر من الأبرار في هذه السورة نحواً مما ذكر من أمر الساعة في السهولة والسرعة، دل على ذلك بإنجاء أوليائه وإهلاك أعدائه فذكر بهم جملة وبما كان من أحوالهم بأيسر أمر لأن ذلك أوعظ للنفوس وأزجر للعقول، فقال مقسماً تنبيهاً على عادتهم في الكفر مع هذا الوعظ فعل المكذب بهلاكهم لأجل تكذيبهم عاطفاً على ما تقديره: ولقد أنجينا رسلنا وأشياعهم من كل شيء خطر: {ولقد أهلكنا} أي بما لنا من العظمة {أشياعكم} الذين أنتم وهم شرع واحد في التكذيب، والقدرة عليكم كالقدرة عليهم، فاحذروا أن يصيبكم ما أصابهم، فلذلك سبب عنه قوله: {فهل من مدكر} أي بما وقع لهم أنه مثل من مضى بل أضعاف.
..، وأن قدرته سبحانه عليه كقدرته عليهم ليرجع عن غيه خوفاً من سطوته سبحانه.
ولما تمت الدلالة على إحاطة القدرة بما شوهد من الأفعال الهائلة التي لا تسعها قدرة غيره سبحانه، وكانوا يظنون أن أحواله غير مضبوطة لأنه لا يمكن ضبطها ولا يسعها علم عالم ولاسيما إذا ادعى أنه واحد، شرع في إتمام الإخبار بعظمة القدر بالإخبار بأن أفعالهم كلها مكتوبة فضلاً عن كونها محفوظة فقال: {وكل شيء فعلوه} أي الأشياء في أيّ وقت كان، كأن بالكتابة {في الزبر} أي كتب الحفظة فليحذروا من أفعالهم فإنها غير منسية، هذا ما أطبق عليه القراء مما أدى إلى هذا المعنى من رفع كل، لأنه لو نصب لأوهم تعلق الجار بالفعل فيوهم أنهم فعلوا في الزبر كل شيء من الأشياء وهو فاسد.
ولما خصهم، عم بقوله واعظاً ومخوفاً ومحذراً بأن كل شيء محفوظ فمكتوب فمعروض على الإنسان يوم الجمع: {وكل صغير وكبير} من الجواهر والمعاني منهم ومن غيرهم {مستطر} أي مكتوب على وجه عظيم من اجتهاد الحفظة في كتابته وتحريره مع يسر ذلك وسهولته.
ولما أخبر عن أحوال الكفرة في الدنيا والآخرة واعظاً بها وإعلاماً بعظمته وعليّ صفاته وسعة مملكته وشامل علمه وقدرته، ختم بأحوال القسم الآخر من أهل الساعة وهم أهل طاعته تتميماً لذلك وإشارة وبشارة للسالك في أحسن المسالك، فقال مؤكداً رداً على المنكر: {إن المتقين} أي العريقين في وصف الخوف من الله تعالى الذي أداهم إلى أن لا يفعلوا شيئاً إلا بدليل. ولما كان من البساتين والمياه وما هو ظاهر بكل مراد على عكس ما عليه الضال البعيد عن القصد الواقع في الهلاك والنار قال: {في جنات} أي في بساتين ذات أشجار تسر داخلها، قال القشيري: والجمع إذا قوبل بالجمع فالأحاد تقابل الأحاد. ولما كانت الجنان لا تقوم وتدوم إلا بالماء قال: {ونهر} وأفرده لأن التعبير ب {في} مفهم لعمومهم به عموم ما كأنه ظرف وهم مظروفون له، ولكثرة الأنهار وعظمها حتى أنها لقرب بعضها من بعض واتصال منابعها وتهيئ جميع الأرض لجري الأنهار منها كأنها شيء واحد، وما وعد به المتقون من النعيم في تلك الدار فرقائقه معجلة لهم في هذه الدار، فلهم اليوم جنات العلوم وأنهار المعارف، وفي الآخرة الأنهار الجارية والرياض والأشجار والقصور والزخارف، وهو يصلح مع ذلك لأن يكون مما منه النهار فيكون المعنى: أنهم في ضياء وسعة لا يزايلونه أصلاً بضد ما عليه المجرم من العمى الناشئ عن الظلام، ولمثل هذه الأغراض أفرد مع إرادة الجنس لا للفاصلة فقط.
ولما كانت البساتين لا تسكن في الدنيا لأنه ليس فيها جميع ما يحتاجه الإنسان، بين أن حال تلك غير حال هذه، فقال مبدلاً مما قبله: {في مقعد} أي تلك الجنان محل إقامتهم التي تراد للقعود {صدق} أي فيما أراده الإنسان صدق وجوده الإرادة ولا يقعد فيه إلا أهل الصدق، ولا يكون فيه إلا صدقه، لا لغو فيه ولا تأثيم، والتوحيد لإرادة الجنس مع أن الإبدال يفهم أنه لا موضع في تلك الجنان إلا وهو الصالح للتسمية بهذا الاسم ولأنهم لاتحاد قلوبهم ورضاهم كأنهم في مقعد واحد على أنه قرئ بالجمع.
ولما كان هذا غير معهود، بين أن سببه تمكين الله لهم منه لاختصاصه لهم وتقريبه إياهم لإرضائه لهم، فقال مقيداً لذلك بالتعبير بالعندية لأن عنديته سبحانه تعالى منزهة عن قرب الأجسام والجهات: {عند مليك} أي ملك تام الملك {مقتدر} أي شامل اقدرة بالغها إلى حد لا يمكن إدراكه لغيره سبحانه كما تقدم قريباً، فهو يوصلهم إلى كل خير ويدفع عنهم كل ضير، وكما أن لهم في الآخرة عندية الإشهاد فلهم في الدنيا عندية الإمداد، ولهذا الاسم الشريف سر في الانتصار على الظالمين، ولقد ختمت السورة كما ترى كما ابتدئت به من أمر الساعة، وكانت البداية للبداية والنهاية للنهاية، وزادت النهاية بيان السبب الموجد لها، وهو قدرته سبحانه وعز شأنه وعظمت رحمته وإحسانه، وعفوه ومغفرته ورضوانه، ولتصنيف الناس فيها إلى كافر مستحق للانتقام، ومؤمن مؤهل لغاية الإكرام، لم يذكر الاسم الأعظم الجامع الذي يذكر في سياق مقتضى جمع الجلال والإكرام لصنف واحد وهو من يقع منه الإيمان ولا يتدنس بالعصيان، وهم الذين آمنوا، ولمشاركتها للسورتين اللتين بعدها في هذا العرض، وهو الكلام في حق الصنفين فقط من غير ذكر عارض ممن آمن، أشرك الثلاثة في الخلو عن ذكر الاسم الأعظم. فلم يذكر في واحدة منها وجاء فيها من الصفات ما يقتضي العظمة على أهل الكفران، وما ينبئ عن الإكرام والإحسان لأهل الإيمان {ولمن خاف مقام ربه جنتان} [الرحمن: 46] ولهذا ختمت هذه بصفة الملك المقتضي للسطوة التامة والإكرام البالغ وعدم المبالاة بأحد كائناً من كان، لأن الملك من حيث هو ملك إما يقتضي مقامه إهانة العدو وإكرام الولي، وجعل ذلك على وجه المبالغة أيضاً، كل ذلك للإعلام بأن تصريفه سبحانه لأحوال الآخرة كما قصد في هذه السورة من تصريفه في أحوال الدنيا من إهلاك الأعداء وإنجاء الأولياء، وكأن هذه السورة كانت هكذا لأنها جاءت عقب النجم التي شرح فيها الإسراء وكان للنبي صلى الله عليه وسلم من العظمة بخرق العوائد باختراق السماوات، والوصول إلى أنهى الغاية من المناجاة، وغيره من سر الملكوت ومحل الجبروت، بعد أن لوح بمقامه عليه الصلاة والسلام بالطور ليعلم الفرق ويوصف كل بما هو الحق، فكان ذلك مقتضياً لئلا يكون بعده من الناس إلا مؤمن خالص، فإن كان غيره فهو معاند شديد الكفر، وكأنها جعلت ثلاثاً لإرادة غاية التأكيد لهذا المعنى الشديد، فلما انقضت الثلاثة كان متبركاً به في معظم آيات الحديد ثم توجت كل آية من آيات المجادلة به إشارة إلى أنه قد حصل غاية التشوف إليه ترهيباً لمن يعصي ولاسيما من يظاهر، وترغيباً في الطاعة للملك الغافر، والله الموفق لما يريد إنه قوي فعال لما يريد.