فصل: تفسير الآيات (20- 26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (20- 26):

{بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)}
ولما كان التقاء المايعين ولاسيما مع الاضطراب الدائم الاختلاط فيحيل ما لأحدهما أو لكل منهما من الصفات إلى الصفات الأخرى، فتشوفت النفس إلى المانع من مثل ذلك في البحرين، قال مستأنفاً: {بينهما برزخ} أي حاجز عظيم من القدرة المجردة على الأول وتسيب الأرض على الثاني يمنعهما مع الالتقاء من الاختلاط، وقال ابن برجان: البرزخ ما ليس هو بصريح هذا ولا بصريح هذا، فكذلك السهل والجبل بينهما برزخ يسمى الخيف، كذلك الليل والنهار بينهما برزخ يسمى غبشاً، كذلك بين الدنيا والآخرة برزخ ليس من هذا ولا من هذا ولا هو خارج عنهما، وكذلك الربيعان هما برزخان بين الشتاء والصيف بمنزلة غبش أول النهار وغبش آخره، جعل بين كل صنفين من الموجودات برزخاً ليس من هذا ولا من هذا وهو منهما كالجماد والنبات والحيوان.
ولما كانت نتيجة ذلك كذلك قال: {لا يبغيان} أي لا يطغيان في هلاك الناس كما طغيا فأهلكا من على الأرض أيام نوح عليه الصلاة والسلام، ولا يبغي واحد منهما على الآخر بالممارجة، ولا يتجاوزان ما حده لهما خالقهما ومدبرهما لا في الظاهر ولا في الباطن، فمتى حفرت على جنب المالح وجدت الماء العذب، وإن قربت الحفرة منه بل كلما قربت كان أحلى، فخلطهما الله سبحانه في رأى العين وحجز بينهما في رأى عين القدرة، هذا وهما جمادان لا نطق لهما ولا إدراك، فكيف يبغي بعضكم على بعض أيها المدركون العقلاء.
ولما كان هذا أمراً باهراً دالاً دلالة ظاهرة على تمام قدرته لاسيما على الآخرة، قال مسبباً عنه: {فبأيَّ آلاء ربكما} أي الموجد لكما والمربي {تكذبان} أي بنعمة الإبصار من جهة اليسار أو غيره، فهلا اعتبرتم بهذه الأصول من أنواع الموجودات فصدقتم بالآخرة لعلمكم بهذه البرازخ أن موتتكم هذه برزخ وفصل بين الدنيا والآخرة كالعشاء بين الليل والنهار، ولو استقر أتم ذلك في آيات السماوات والأرض وجدتموه شائعاً في جميع الأكوان.
ولما ذكر المنة بالبحر ذكر النعمة بما ينبت فيه كما فعل بالبر، فقال معبراً بالمبني للمفعول لأن كلاً من وجوده فيه والتسليط على إخراجه منه خارق من غير نظر إلى مخرج معين، والنعمة نفس الخروج، ولذلك قرأ غير نافع والبصريين بالبناء للفاعل من الخروج: {يخرج منهما} أي بمخالطة العذب الملح من غير واسطة أو بواسطة السحاب، فصار ذلك كالذكر والأنثى، قال الرازي: فيكون العذب العذب كاللقاح للملح، وقال أبو حيان: قال الجمهور: إنما يخرج من الأجاج في المواضع التي يقع فيها الأنهار والمياه العذبة فناسب إسناد ذلك إليهما، وهذا مشهور عند الغواصين، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة مولاه رضي الله عنه: تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر لأن الصدف وغيرها تفتح أفواهها للمطر- انتهى.
فتكون الأصداف كالأرحام للنطف وماء البحر كالجسد الغاذي، والدليل على أنه من ماء المطر كما قال الأستاذ حمزة الكرماني: إن من المشهور أن السنة إذا أجدبت هزلت الحيتان، وقلت الأصداف والجواهر- انتهى. ثم لا شك في أنهما وإن كانا بحرين فقد جمعها وصف واحد بكونهما ماء، فيسوغ إسناد الخروج إليهما كما يسند خروج الإنسان إلى جميع البلد، وإنما خرج من دار منها كما نسب الرسل إلى الجن والإنس بجمعهما في خطاب واحد فقال: {رسل منكم} [الأنعام: 130] وكذا {وجعل القمر فيهن نوراً} [نوح: 16] ومثله كثير {اللؤلؤ} وهو الدر الذي هو في غاية البياض والإشراق والصفاء {والمرجان} أي القضبان الحمر التي هي في غاية الحمرة، فسبحان من غاير بينهما في اللون والمنافع والكون- نقل هذا القول ابن عطية عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقال: وهذا هو المشهور الاستعمال- انتهى، وقال جمع كثير: إن اللؤلؤ كبار الدر والمرجان صغاره.
ولما كان ذلك من جليل النعم، سبب عنه قوله: {فبأيِّ آلاء ربكما} أي المالك لكما الذي هو الملك الأعظم {تكذبان} مع هذه الصنائع العظمى، أبنعمة البصر من جهة الفوق أو غير ذلك من خلق المنافع في البحار وتسليطكم عليها وإخراج الحلي الغريبة وغيرها.
ولما كان قد ذكر الخارج منه بماء السماء، ذكر السائر عليه بالهواء، وأشار بتقديم الجار إلى أن السائر في الفلك لا تصريف له، وإن ظهر له تصريف فهو لضعفه كلا تصريف، فقال: {وله} أي لا لغيره، فلا تغتروا بالأسباب الظاهرة فتقوا معها فتسندوا شيئاً من ذلك إليها كما وقف أهل الاغترار بالشاهد، الذين أجمد أهل الأرض أذهاناً وأحقرهم شأناً فقالوا بالاتحاد والوحدة {الجوار} أي السفن الكبار والصغار الفارغة والمشحونة. ولما كانت حياة كل شيء كونه على صفة كماله، وكانت السفن تبنى من خشب مجمع وتوصل حتى تصير على هيئة تقبل المنافع الجمة، وكانت تربى بذلك الجمع كما تربى النبات والحيوان، وكانت ترتفع على البحر ويرفع شراعها وتحدث في البحر بعد أن كانت مستترة بجبال الأمواج قال تعالى: {المنشآت} من نشأ- إذا وربا، والسحابة: ارتفعت، وأصل الناشئ كل ما حدث بالليل وبدأ، ومعنى قراءة حمزة وأبي بكر بكسر الشين أنها رافعة شراعها بسبب استمساكها عن الرسوب ومنشئة للسير، ومعنى قراءة الباقين أنه أنشأها الصانع وأرسلها ورفع شراعها.
ولما كانت مع كونها عالية على الماء منغمسة فيه مع أنه ليس لها من نفسها إلا الرسوب والغوص قال: {في البحر} ولما كانت ترى على البعد كالجبال على وجه الماء قال: {كالأعلام} أي كالجبال الطوال.
ولما كان ما فيها من المنافع بالتكسب من البحر بالصيد وغيره والتوصل إلى البلاد الشاسعة للفوائد الهائلة، وكانت أعمالهم في البحر الإخلاص الذي يلزم منها الإخلاص في البر، لأنهما بالنسبة إلى إبداعه لهما وقدرته على التصرف فيهما بكل ما يريده على حد سواء، سبب عن ذلك قوله: {فبأيِّ آلاء ربكما} أي النعمة العظمى {تكذبان} أبنعمة البصر من تحتكم أو غيرها من الأسفار، في محل الأخطار، والإنجاء عند الاضطراب والريح في محل الخسار، والإرشاد إلى ذلك بعد خلق مواد السفن وتعليم صنعتها وتسخيرها والفلك لعدصي لوهما (؟) بمثابة جميع الكون، فخدامها كالملائكة في إقامة الملكوت وتحسين تماسكه بإذن ربهم، والمسافرون بها الذين أنشئت لأجلهم وزان المأمورين المكلفين المتهيئين الذين من أجلهم خلقت السماوات والأرض وما بينهما فعبر بهم من غربتهم إلى قرارهم، ومن غيبتهم إلى حضورهم ومشاهدهم، ومدبرها أمرها في أعلاها يأمرهم بأمره فيعدونه ويسمعون له، ثم قد يصرف الاعتبار إلى أن تكون آية على قطع المؤمن أيام الدنيا فالدنيا هي البحر، والسفينة جسمه، وباطن العبد هو المحمول فيها، العقل صاحب سياستها، والقوى خدمتها، وأمر الله وتدبيره محيط بها، والإيمان أمنتها، والتوفيق ريحها، والذكر شراعها، والرسول سائقها بما جاء به من عند ربه، والعمل الطيب يصلح شأنها- ذكر ذلك ابن برجان.
ولما أخبر تعالى أنه خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من المنافع من الأعيان والمعاني، واستوفى الأرض بقسميها براً وبحراً، مضمناً ذلك العناصر الأربعة التي أسس عليها المركبات، وكان أعجب ما للمخلوق من الصنائع ما في البحر، وكان راكبه في حكم العدم، دل على أنه المتفرد بجميع ذلك بهلاك الخلق، فقال مستأنفاً معبراً بالاسمية الدالة على الثبات وب {من} للدلالة على التصريح تهويلاً بفتاء العاقل على فناء غير العاقل بطريق الأولى: {كل من عليها} أي الأرض بقسميها والسماء أيضاً {فان} أي هالك ومعدوم بالفعل بعد أن كان هو وغيره من سائر ما سوى إليه، وليس لذل كله من ذاته إلا العدم، فهو فان بهذا الاعتبار، وإن كان موجوداً فوجوده بين عدمين أولهما أنه لم يكن، وثانيهما أنه يزول ثم هو فيما بين ذلك يتعاوره الإيجاد والإفناء في حين من أحواله وأعراضه وقواه، وأسباب الهلاك محيطة به حساً ومعنى وهو لا يراها كما أنها محيطة بمن هو في السفينة من فوقه ومن تحته ومن جميع جهاته.

.تفسير الآيات (27- 34):

{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34)}
ولما كان الوجه أشرف ما في الوجود، وكان يعبر به عما أريد به صاحب الوجه مع أنه لا يتصور بقاء الوجه صاحبه، فكان التعبير به عن حقيقة ذلك الشيء أعظم وأدل على الكمال، وكان من المقرر عند أهل الشرع أنه سبحانه ليس كمثله شيء فلا يتوهم أحد منهم من التعبير به نقصاً قال: {ويبقى} أي بعد فناء الكل، بقاء مستمراً إلى ما لا نهاية له {وجه ربك} أي المربي لك بالرسالة والترقية بهذا الوحي إلى ما لا يحد من المعارف، وكل عمل أريد به وجهه سبحانه وتعالى خالصاً. ولما ذكر مباينته للمخلوقات، وصفه بالإحاطة الكاملة بالنزاهة والحمد، وقال واصفاً الوجه لأن المراد به الذات الذي هو أشرفها معبراً به ولأنها أبلغ من صاحب وبما ينبه على التنزيه عما ربما توهمه من ذكر الوجه بليد جامد مع المحسوسات يقيس الغائب- الذي لا يعتريه حاجة ولا يلم بجنابه الأقدس نقص- بالشاهد الذي كله نقص وحاجة {ذو الجلال} أي العظمة التي لا ترام وهو صفة ذاته التي تقتضي إجلاله عن كل ما لا يليق به {والإكرام} أي الإحسان العام وهو صفة فعله.
ولما كان الموت نفسه فيه نعم لا تنكر، وكان موت ناس نعمة على ناس، مع ما ختم به الآية من وصفه بالإنعام قال: {فبأيّ آلاء ربكما} أي المربي لكما على هذا الوجه الذي مآله إلى العدم إلى أجل مسمى {تكذبان} أي أيها الثقلان الإنس والجان، أبنعمة السمع من جهة الأمام أو غيرها من إيجاد الخلق ثم إعدامهم وتخليف بعضهم في أثر بعض وإيراث البعض ما في يد البعض- ونحو ذلك من أمور لا يدركها على جهتها إلا الله تعالى.
ولما كان أدل دليل على العدم الحاجة، وعلى دوام الوجود الغنى، قال دليلاً على ما قبله: {يسئله} أي على سبيل التجدد والاستمرار {من في السماوات} أي كلهم {والأرض} أي كلهم من ناطق أو صامت بلسان الحال أو القال أو بهما، ولما كان كأنه قيل: فماذا يفعل عند السؤال، وكان أقل الأوقات المحدودة المحسوسة {اليوم} عبر به عن أقل الزمان كما عبر به عن أخف الموزونات بالذرة فقال مجيباً لذلك: {كل يوم} أي وقت من الأوقات من يوم السبت وعلى اليهود لعنة الله وغضبه حيث قالوا في السبت ما هو مناف لقوله سبحانه وتعالى: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} [ق: 38] {ولا يؤده حفظهما هو العلي العظيم} [البقرة: 255] {هو في شأن} أي من إحداث أعيان وتجديد معان أو إعدام ذلك، قال القشيري: في فنون أقسام المخلوقات وما يجريه عليها من اختلفا الصفات- انتهى.
وهو شؤون يبديها لا شؤون يبتدئها تتعلق قدرته على وفق إرادته على ما تعلق به العلم في الأزل أنه يكون أو يعدم في أوقاته، فكل شيء قانت له خاضع لديه ساجد لعظمته شاهد لقدرته دالّ عليه {وإن من شيء إلا يسبح يحمده} وذلك التعبير- مع أنه من أجل النعم- أدل دليل على صفات الكمال له وصفات النقص للمتغيرات وأنها عدم في نفسها ولأنها نعم قال: {فبأيّ آلاء ربكما} أي المربي لكما بهذا التدبير العظيم لكل ما يصلحكما {تكذبان} أبنعمة السمع من جهة الخلف أو غيرها من تصريفه إياكم فيما خلقكم له هو أعلم به منكم من معايشكم وجميع تقلباتكم، وقد تكررت في هذه الآية المقررة على النعم من أولها إلى هنا ثماني مرات عقب النعم إشارة- والله أعلم- إلى أن نعمة الله سبحانه وتعالى لا تحصى لأنها تزيد على السبعة التي هي العدد التام الواحد هو مبدأ لدور جديد من العدد إشارة إلى أنه كلما انقضى منها دور ابتدأ دور آخر، ووجه آخر وهو أن الأخيرة صرح فيها ب {من في السماوات والأرض} والسبع التي قبلها يختص بأهل الأرض إشارة إلى أن أمهات النعم سبع كالسماوات والأرض والكواكب السيارة ونحو ذلك.
ولما انقضى عد النعم العظام على وجه هو في غاية الإمكان من البيان، وكان تغير سائر الممكنات من النبات والجماد والملائكة والسماوات والأرض وما حوتا مما عدا الثقلين على نظام واحد لا تفاوت فيه، وأما الثقلان فأحوالهما لأجل تنازع العقل والشهوات لا تكاد تنضبط، بل تغير حال الواحد منهم في اللحظة الواحد إلى ألوان كثيرة متضادة لما فيهم من المكر وأحوال المغالبة والبغي والاستئثار باللهو بالأمر والنهي، وكان أكثرهم يموت بناره من غير أخذ ثأره، واقتضت الحكمة ولابد أنه لابد لهم من يوم يجتمعون فيه يكون بينهما فيه الفصل على ميزان العدل، خصهما بالذكر فقال آتياً في النهاية بالوعيد لأنه ليس للعصاة بعد الإنعام والبيان إلا التهديد الشديد للرجوع إلى طاعة الملك الديان، والالتفات في قراءة الجماعة بالنون إلى التكلم أشد تهديداً من قراءة حمزة والكسائي بالتحتية على نسق ما مضى: {سنفرغ} أي بوعد قريب لا خلف فيه من جميع الشؤون التي ذكرت {لكم} أي نعمل علم من يفرغ للشيء فلا يكون له شغل سواه بفراغ جنودنا من الملائكة وغيرهم مما أمرناهم به مما سبقت به كلمتنا ومضت به حكمتنا من الآجال والأرزاق وغير ذلك فينتهي كله ولا يكون لهم حينئذ عمل إلا جمعكم ليقضي بينكم: {أيّه الثقلان} بالنصفة، والثقل هو ما يكون به قوام صاحبه، فكأنهما سميا بذلك تمثيلاً لهما بذلك إشارة إلى أنهما المقصودان بالذات من الخلائق، وقال الرازي في اللوامع: وصفاً بذلك يعظم ذلك شأنهما، كأن ما عداهما لا وزن له بالإضافة إليهما- انتهى.
وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي» وقال جعفر الصادق: سميا بذلك لأنهما مثقلان بالذنوب.
ولما كان هذا من أجلّ النعم التي يدور عليها العباد، ويصلح بها البلاد، وتقوم بها السماوات والأرض، لأن مطلق التهديد يحصل به انزجار النفس عما لها من الانتشار فيما يضر ولا ينفع، فكيف بالتهديد بيوم الفصل قال: {فبأيّ آلاء ربكما} أي المحسن إليكما بهذا الصنع المحكم {تكذبان} أبنعمة السمع عن اليمين أو بغيرها من إثابة أمل طاعته وعقوبة أمل معصيته، وسمى ابن برجان هذا الإخبار الذي لا نون جمع فيه خطاب القبض يخبر فيه عن موجوداته وما هو خالقه، قال: وذلك إخبار منه عن محض الوحدانية، وما قبله من {سنفرغ} ونحوه وما فيه نون الجمع إخبار عن وصف ملكوته وجنوده وهو خطاب البسط.
ولما كان التهديد بالفراغ ربما أوهم أنهم الآن معجوز عنهم أو عن بعض أمرهم، بين بخطاب القبض المظهر لمحض الواحدانية أنهم في القبضة، لا فعل لأحد منهم بدليل أنهم لا يصلون إلى جميع مرادهم مما هو في مقدورهم، ولكنه ستر ذلك بالأسباب التي يوجد التقيد بها إسناد الأمور إلى مباشرتها فقال بياناً للمراد بالثقلين: {يا معشر} أي يا جماعة فيهم الأهلية والعشرة والتصادق {الجن} قدمهم لمزيد قوتهم ونفوذهم في المسام وقدرتهم على الخفاء والتشكل في الصور بما ظن أنهم لا يعجزهم شيء {والإنس} أي الخواص والمستأنسين والمؤانسين المبني أمرهم على الإقامة والاجتماع.
ولما بان بهذه التسمية المراد بالتثنية، جمع دلالة على كثرتهم فقال: {إن استطعتم} أي إن وجدت لكم طاعة الكون في {أن تنفذوا} أي تسلكوا بأجسامكم وتمضوا من غير مانع يمنعكم {من أقطار} أي نواحي {السماوات والأرض} التي يتخللها القطر لسهولة انفتاحها لشي تريدونه من هرب من الله من إيقاع الجزاء بينكم، أو عصيان عليه في قبول أحكامه وجري مراداته وأقضيته عليكم من الموت وغيره أو غير ذلك {فانفذوا} وهذا يدل على أن كل واحدة منها محيطة بالأخرى لأن النفوذ لا يكون حقيقة إلا مع الخرق.
ولما كان نفوذهم في حد ذاته ممكناً ولكنه منعهم من ذلك بأنه لم يخلق في أحد منهم قوته ولاسيما وقد منعهم منه يوم القيامة بأمور منها إحداق أهل السماوات السبع بهم صفاً بعد صف وسرادق النار قد أحاط بالكافرين ولا منفذ لأحد إلا على الصراط ولا يجوزه إلا كل ضامر يخف، أشار إليه بقوله مستأنفاً: {لا تنفذون} أي من شيء من ذلك {إلا بسلطان} إلا بتسليط عظيم منه سبحانه بأمر قاهر وقدرة بالغة وأنى لكم بالقدرة على ذلك، قال البغوي: وفي الخبر: يحاط على الخلق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادون: يا معشر الجن الآية.
انتهى، وهذا حكاية ما يكون من ذلك يوم القيامة لا أنه خاص بهم.
ولما كان هذا نظرهم فيما بينهم وبين بقية الحيوانات بما أعطاهم من القوى الحسية والمعنوية وما نصب لهم، المصاعد العقلية والمعارض النقلية التي ينفذون بها إلى غاية الكائنات ويتخللون بما يؤديهم إليه علمها إلى أعلى المخلوقات، ثم نظرهم فيما بين الحيوانات وبين النباتات ثم بينها وبين الجمادات دالاًّ دلالة واضحة على أنه سبحانه وتعالى يعطي من يشاء من يشاء، فلو أراد قواهم على النفوذ منها، ولو قواهم على ذلك لكان من أجل النعم، وأنه سبحانه قادر على ما يريد منهم، فلو شاء أهلكهم ولكنه يؤخرهم إلى آجالهم حلماً منه وعفواً منه عنهم، سبب عن ذلك قوله: {فبأيّ آلاء ربكما} أي المحسن إليكما المربي لكما بما تعرفون به قدرته على كل ما يريد {تكذبان} أبنعمة السمع من جهة اليسار أو غيرها من جعلكم سواء في أنكم لا تقدرون على مخالفة مراده سواء ابتدأ بخلقكم أو اليوم المشهود وقد أشهدكم قبل على أنفسكم وعهد إليكم أو بتكشيط السماوات وقد شاهدتم تكشيط السحاب بعد بسطه أو بالجزاء وقد رأيتم الجزاء العاجل وشاهدتم ما أصاب الأمم الماضية.