فصل: تفسير الآيات (35- 45):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (35- 45):

{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ (44) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)}
ولما سلب عنهم القدرة على النفوذ المذكور تنبيهاً على سلب جميع القدرة عنهم وعلى أن ما يقدرون عليه إنما هو بتقديره لهم نعمة منه عليهم، ولما كان منهم من بلغ الغاية في قسوة القلب وجمود الفكر فهو يحيل العجز عن بعض الأمور إلى أنه لم يجر بذلك عادة، لا إلى أنه سبحانه المانع من ذلك، فعمهم شيء من ذلك سطوته فقال {يرسل عليكما} أي أيها المعاندون، قال ابن عباس رضي الله عنهما: حين تخرجون من القبور بسوقكم إلى المحشر {شواظ} أي لهب عظيم منتشر مع التضايق محيط بكم من كل جانب له صوت شديد كهيئته ذي الخلق الضيق الشديد النفس.
ولما كان الشواظ يطلق على اللهب الذي لا دخان فيه وعلى دخان النار وحرها وعلى غير ذلك، بينه بقوله: {من نار ونحاس} أي دخان هو في غاية الفظاعة فيه شرر متطاير وقطر مذاب، قال ابن جرير: والعرب تسمي الدخان نحاساً بضم النون وكسرها، وأجمع القراء على ضمها- انتهى. وجرها أبو عمرو وابن كثير عطفاً على {نار} ورفعه الباقون عطفاً على {شواظ}.
ولما كان ذلك ممكناً عقلاً وعادة، وكانوا عارفين بأنهم لو وقعوا في مثل ذلك لم يتخلصوا منه بوجه، سبب عنه قوله: {فلا تنصران} قال ابن برجان: هذا مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «يخرج عنق من نار فيقول بكل جبار عنيد فيلتقطهم من بين الجمع لقط الحمام حب السمسم، ويغشي المجرمين دخان جهنم من بين المؤمنين ولا يضرهم، وآية الشواظ وعنق النار هنالك صواعق ما هنا وبروقه والنار المعهودة».
ولما كان التهديد بهذا لطفاً بهم فهو نعمة عليهم والعفو عن المعالجة بإرسالة لذلك، سبب عنه قوله: {فبأيِّ آلاء ربكما} أي المربي لكما بدفع البلايا وجلب المنافع {تكذبان} أبنعمة السمع من فوق أو غيرها، ألم يكن لكم فيما شهدتموه في الدنيا من دلائل ذلك وآياته ما يوجب لكم الإيمان. ولما كان هذا مما لم تجر عادة بعمومه وإن استطردت بجريانه منه في أشياء منه في أماكن متفرقة كأشخاص كثيرة، بين لهم وقته بقوله: {فإذا} أي فيتسبب عن هذا الإرسال إنه إذا {انشقت السماء} من هوله وعظمته فكانت أبواباً لنزول الملائكة وغيرهم، وغير ذلك من آيات الله {فكانت} لما يصيبها من الحر {وردة} أي حمراء مشرقة من شدة لهيبه، وقال البغوي: كلون الفرس الورد وهو الأبيض الذي يضرب إلى حمرة وصفرة. {كالدهان} أي ذائبة صافية كالشيء الذي يدهن به أو كالأديم الأحمر والمكان الزلق، وآية ذلك في الدنيا الشفقان عند الطلوع وعند الغروب، وجواب {إذا} محذوف تقديره: علمتم ذلك علماً شهودياً أو فما أعظم الهول حينئذ ونحو ذا أن يكون الجواب شيئاً دلت عليه الآيات الآتية نحو: فلا يسأل أحد إذ ذاك عن ذنبه، وحذفه أفخم ليذهب الوهم فيه كل مذهب.
ولما كان حفظ السماء عن مثل ذلك بتأخير إرسال هذا وغيره من الأسباب وجعلها محل الروح والحياة والرزق من أعظم الفواضل قال مسبباً عنه: {فبأيِّ آلاء ربكما} أي المربي لكما هذا التدبير المتقن {تكذبان} أبنعمة السمع من تحت أو غيرها وليس شيء بما أخبرتكم به من أحوال الآخرة إلا قد أقمت لكم في الدنيا ما تهتدون به إلى العلم بكونه. ولما كان يوم القيامة ذا ألوان كثيرة ومواقف مهولة طويلة شهيرة تكون في كل منها شؤون عظيمة وأمور كبيرة، ذكر بعض ما سببه هذا الوقت من التعريف بالعاصي والطائع بآيات جعلها الله سبباً في علمها فقال: {فيومئذ} أي فسبب عن يوم انشقت السماء لأنه {لا يسئل} سؤال تعرف واستعلام بل سؤال تقريع وتوبيخ وكلام، وذلك أنه لا يقال له: هل فعلت كذا؟ بل يقال له: لم فعلت كذا، على أنه ذلك اليوم طويل، وهو ذو ألوان تارة يسأل فيه وتارة لا يسأل، والأمر في غاية الشدة، وكل لون من تلك الألوان يسمى يوماً، فقد مضى في الفاتحة أن اليوم عبارة عن وقت يمتد إلى انقضاء أمر مقدر فيه ظاهر من ليل أو نهار أو غيرهما لقوله تعالى: {إلى ربك يومئذ المساق} [القيامة: 30] أي يوم إذا بلغت الروح التراقي وهو لا يختص بليل ولا نهار، وبناه للمفعول تعظيماً للأمر بالإشارة إلى أن شأن المعترف بالذنب لا يكون خاصاً بعهد دون عهد بل يعرفه كل من أراد علمه، وأضمر قبل الذكر لما هو مقدم في الرتبة ليفهم الاختصاص فوجد الضمير لأجل اللفظ فقال: {عن ذنبه} أي خاصة وقد سئل المحسن عن حسنته سؤال تشريف له وتنديم لمن دونه.
ولما كان الإنس أعظم مقصود بهذا، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم منهم، وكان التعريف بالشاهد المألوف أعظم في التعريف، وكان علم أحوال الشيء الظاهر أسهل، قدمهم فقال: {إنس} ولما كان لا يلزم من علم أحوال الظاهر علم أحوال الخفي، بين أن الكل عليه سبحانه هين فقال: {ولا جان} ولما كان هذا التمييز من أجل النعم لئلا يؤدي الالتباس إلى ترويع بعض المطيعين عاملاً أو نكاية بالسؤال عنه قال: {فبأيِّ آلاء ربكما} أي الذي ربى كلاًّ منكم بما لا مطمع في إنكاره ولا خفاء فيه {تكذبان} أبنعمة الشم من الأمام أم من غيرها.
ولما كان الكلام عاماً عرف انه خاص بتعرف المجرم من غيره دون التعزير بالذنب أو غيره من الأحوال فقال معللاً لعدم السؤال: {يعرف} أي لكل أحد {المجرمون} أي العريقون في هذا الوصف {بسيماهم} أي العلامات التي صور الله ذنوبهم فيها فجعلها ظاهرة بعد أن كانت باطنة، وظاهرة الدلالة عليهم كما يعرف أن الليل إذا جاء لا يخفى على أحد أصلاً وكذلك النهار ونحوهما لغير الأعمى، وتلك السيما- والله أعلم- زرقة العيون وسواد الوجوه والعمى والصمم والمشي على الوجوه ونحو ذلك، وكما يعرف المحسنون بسيماهم من بياض الوجوه وإشراقها وتبسمها، والغرة والتحجيل ونحو ذلك، وسبب عن هذه المعرفة قوله مشيراً بالبناء للمفعول إلى سهولة الأخذ من أي آخذ كان {فيؤخذ بالنواصي} أي منهم وهي مقدمات الرؤوس {والأقدام} بعد أن يجمع بينهما كما أنهم كانوا هم يجمعون ما أمر الله به أن يفرق، ويفرقون ما أمر الله به أن يجمع، فيسحبون بها سحباً من كل ساحب أقامه الله لذلك لا يقدرون على الامتناع بوجه فيلقون في النار.
ولما كان ذلك نعمة لا يقام بشكرها لكل من يسمعها لأن كل أحد ينتفي من الإجرام ويود للمجرمين عظيم الانتقام، سبب عنه قوله: {فبأيِّ آلاء ربكما} أي النعم الكبار من الذي دبر مصالحكم بعد أن أوجدكم {تكذبان} أبنعمة الشم من الوراء أم بغيرها مما يجب أن يفعل من الجزاء في الآخرة لكل شخص بما كان يعمل في الدنيا أو غير ذلك من الفضل.
ولما كان أخذهم على هذا الوجه مؤذناً بأنه يصير إلى خزي عظيم، صرح به في قوله، بانياً على ما هدى إليه السياق من نحو: أخذاً مقولاً فيه عند وصولهم إلى محل النكال على الحال التي ذكرت من الأخذ بنواصيهم وأقدامهم، {هذه} أي الحفرة العظيمة الكريهة المنظر القريبة منكم الملازمة للقرب لكم {جهنم التي يكذب} أي ماضياً وحالاً ومآلاً استهانة {ولو ردوا} [الأنعام: 28]- إلى الدنيا- بعد إدخالهم إياها- {لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام: 28] {بها المجرمون} أي العريقون في الإجرام، وهو قطع ما من حقه أن يوصل وهو ما أمر الله به، وخص هذا الاسم إشارة إلى أنها تلقاهم بالتجهم والعبوسة والكلاحة والفظاظة كما كانوا يفعلون مع الصالحين عند الإجرام المذكور، قال ابن برجان: وقرأ عبد الله «هذه جهنم التي كنتم بها تكذبان فتصليانها لا تموتان فيها ولا تحييان» ثم استأنف ما يفعل بهم فيها فقال: {يطوفون بينها} أي بين دركة النار التي تتجهمهم {وبين حميم} أي ماء حار هو من شدة حرارته ذو دخان.
ولما كان هذا الاسم يطلق على البارد، بين أمره فقال: {آن} أي بالغ حره إلى غاية ليس وراءها غاية، قال الرازي في اللوامع: وقيل: حاضر، وبه سمي الحال بالآن لأنه الحاضر الموجود، فإن الماضي لا تدارك له والمستقبل أمل وليس لنا إلا الآن، ثم الآن ليس بثابت طرفة عين، لأن الآن هوالجزء المشترك بين زمانين، فهم دائماً يترددون بين عذابي النار المذيبة للظاهر والماء المقطع بحره للباطن لا يزال حاضراً لهم تردد الطائف الذي لا أول لتردده ولا آخر.
ولما كانت عذاب المجرم- القاطع لما من شأنه أن يكون متصلاً- من أكبر النعم وأسرها لكل أحد حتى لمن سواه من المجرمين، سبب قوله: {فبأي آلاء ربكما} أي المحسن إليكما أيها الثقلان بإهلاك المجرم في الدارين وإنجاء المسلم مما أهلك به المجرم لطفاً بالمهددين ليرتدعوا وينزجروا عما يكون سبب إهلاكهم هم ومن والاهم {تكذبان} أبنعمة الشم من اليمين أمن من غيرها مما أراكم من آياته، وظاهر عليكم من بيناته، في السماوات والأرض، وما أراكم من مطالع الدنيا من الشمس التي هي آية النهار والقمر الذي هو آية الزمهرير، وغير ذلك من آياته المحكمة المرئية المسموعة، وقد كررت هذه الآية عقب ذكر النار وأهوالها سبع مرات تنبيهاً على استدفاع أبوابها السبعة كما مضى- والله المستعان.

.تفسير الآيات (46- 57):

{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57)}
ولما كان قد عرف ما للمجرم المجترئ على العظائم، وقدمه لما اقتضاه مقام التكبر من الترهيب وجعله سبعاً إشارة إلى أبواب النار السبعة، عطف عليه ما للخائف الذي أداه خوفه إلى الطاعة وجعله ثمانية على عدد أبواب الجنة الثمانية فقال: {ولمن} أي ولكل من، ووحد الضمير مراعاة للفظ {من} إشارة إلى قلة الخائفين {خاف} أي من الثقلين.
ولما كان ذكر الخوف من الزمان المضروب للحساب والتدبير والمكان المعد لهما أبلغ من ذكر الخوف من الملك المحاسب المدبر، والخوف مع ذكر وصف الإكرام أبلغ من ذكر الخوف عند ذكر أوصاف الجلال، قال دالاًّ بذلك على أن المذكور رأس الخائفين: {مقام ربه} أي مكان قيامه الذي يقيمه وغيره فيه المحسن إليه للحكم وزمانه الذي ضربه له وقيامه عليه وعلى غيره بالتدبير، فهو رقيب عليه وعليهم، فكيف إذا ذكر مقام المنتقم الجبار المتكبر فترك لهذا ما يغضبه وفعل ما يرضيه {جنَّتان} عن يمين وشمال، واحدة للعلم والعقل وأخرى للعمل، ويمكن أن يراد بالتثنية المبالغة إفهاماً لأنها جنان متكررة ومتكثرة مثل {ألقيا في جهنم كل كفَّارٍ عنيد} [ق: 24] ونحو ذلك.
ولما كانت هذه نعمة جامعة، سبب عنها قوله: {فبأيِّ آلاء ربكما} أي نعم المربي لكما والمحسن إليكم بإحسانه الكبار التي لا يقدر غيره على شيء منها {تكذبان} أبنعمة الشم من اليسار المنبعثة من القلب أو غيرها من تربة جنان الدنيا بنفس جهنم من حر الشمس وحرورها، فجعل من ذلك جميع الفواكه والزروع إلى غير ذلك من المرافق التي طبخها بها {وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون} [يوسف: 105] وغير ذلك من نعمه التي لا تحصى.
ولما كانت البساتين لا يكمل مدحها إلا بكثرة الأنواع والألوان والفروع المشتبكة والأغصان، قال واصفاً لهما: {ذواتا} أي صاحبتا برد عين الكلمة فإن أصلها ذوو {أفنان} أي جميع فن يتنوع فيه الثمار، وفنن وهو الغصن المستقيم طولاً الذي تكون به الزينة بالورق والثمر وكمال الانتفاع، قال عطاء: في كل غصن فنون من الفاكهة؛ ولهذا سبب عنه قوله: {فبأيّ آلاء ربكما} أي المربي لكما والمحسن إليكما {تكذبان} أبنعمة الشم من جهة الفوق أو غيرها مما ذكره لكم من وصف الجنة الذي جعل لكم من أمثاله ما تعتبرون به.
ولما كانت الجنان لا تقوم إلا بالأنهار قال: {فيهما عينان} أي في كل واحدة عين {تجريان} أي في كل مكان شاء صاحبهما وإن علا مكانه كما تصعد المياه في الأشجار في كل غصن منها، وإن زاد علوها جرى على عيني دموعه الجاريتين من خشية الله وذلك على مثال جنان الدنيا، والشمس صاعدة في البروج الشمالية من تكامل المياه وتفجرها عيوناً في أيام الربيع والصيف لقرب العهد بالأمطار {فبأي آلاء ربكما} أي المالك لكما والمحسن إليكما {تكذبان} أبنعمة الشم من جهة التحت أو غيرها مما ذكره وجعل له في الدنيا أمثالاً كثيراً.
ولما كان بالمياه حياة النبات وزكاؤه، قال ذاكراً أفضل النبات: {فيهما} أي هاتين الجنتين العاليتين، ودل على جميع كل ما يعلم وزيادة بقوله: {من كل فاكهة} أي تعلمونها أو لا تعلمونها {زوجان} أي صنفان يكمل أحدهما بالآخر كما لا يدرك كنه أحد الزوجين بسبب العمل بما يرضى والآخر بالانتهاء عما يسخط {فبأيِّ آلاء ربكما} أي النعم الكبار التي رباها الموجد لكما المحسن إليكما {تكذبان} أبنعمة اللمس من الأمام أو غيرها من أنه أوجد لكما جنان الدنيا بواسطة حر النار التي هي أعدى عدوكما إشارة إلى أنه قادر على أنه يوجد برضوانه ومحبته من موضع غضبه وانتقامه إكراماً، فقد جعل ما في الدنيا مثالاً لما ذكر في الآخرة، فبأي شيء من ذلك تكذبان، لا يكمل الإيمان حتى يصدق المؤمن أنه تعالى قادر على أن يجعل من جهنم جنة بأن يجعل من موضع سخطه رحمة ويشاء ذلك ويعتبر ذلك بما أرانا من نموذجه.
ولما كان التفكه لا يكمل حسنه إلا مع التنعم من طيب الفرش وغيره، قال مخبراً عن الذين يخافون مقام ربهم من قبيلي الإنس والجن مراعياً معنى {من} بعد مراعاة لفظها تحقيقاً للواقع: {متكئين} أي لهم ما ذكر في حال الاتكاء وهو التمكين بهيئة المتربع أو غيره من الكون على جنب، قال في القاموس: توكأ عليه: تحمل، واعتمد كأوكأ، والتكأة كهمزة: العصا، وما يتوكأ عليه، وضربه فأتكأه: ألقاه على هيئة المتكئ أو على جانبه الأيسر، وقال ابن القطاع: وضربته حتى أتكأته أي سقط على جانبه، وهو يدل على تمام التنعم بصحة الجسم وفراغ البال {على فرش} وعظمها بقوله مخاطباً للمكلفين بما تحتمل عقولهم وإلا فليس في الجنة ما يشبهه على الحقيقة شيء من الدنيا {بطائنها} أي فما ظنك بظواهرها ووجوهها {من إستبرق} وهو ثخين الديباج يوجد فيه من حسنه بريق كأنه من شدة لمعانه يطلب إيجاده حتى كأنه نور مجرد.
ولما كان المتكئ قد يشق عليه القيام لتناول ما يريد قال: {وجنا الجنتين} أي مجنيهما اسم بمعنى المفعول- كأنه عبر به ليفهم سهولة نفس المصدر الذي هو الاجتناء {دان} أي قريب من كل من يريده من متكئ وغيره لا يخرج إلى صعود شجرة، وموجود من كل حين يراد غير مقطوع ولا ممنوع.
ولما كان ربما وجد مثل من ذلك شاهد له من أغصان تنعطف بجملتها فتقرب وأخرى تكون قريبة من ساق الشجرة فيسهل تناولها قال: {فبأيِّ آلاء ربكما} أي النعم الكبار الملوكية التي أوجدها لكما هذا المربي لكما الذي يقدر على كل ما يريد {تكذبان} أبنعمة اللمس من جهة الوراء أم غيرها من قدرته على عطف الأغصان وتقريب الثمار.
ولما كان ما ذكر لا تتم نعمته إلا بالنسوان الحسان، قال دالاًّ على الكثرة بعد سياق الامتنان بالجمع الذي هو أولى من التثنية بالدلالة على أن في كل بستان جماعة من النسوان، لما بهن من عظيم اللذة وفرط الأنس: {فيهن} أي الجنان التي علم مما مضى أن لكل فرد من الخائفين منها جنتين. ولما كان سياق الامتنان معرفاً بأن جمع القلة أريد به الكثرة مع ما ذكر من محسناته في سورة ص قال معبراً به: {قاصرات الطرف} أي نساء مخدرات هن في وجوب الستر بحيث يظن من ذكرهن بغير الوصف من غير تصريح، قد قصرن طرفهن وهممهن على أزواجهن ولهن من الجمال ما قصرن به أزواجهن عن الالتفات إلى غيرهن لفتور الطرف وسحره وشدة أخذه للقلوب جزاء لهم على قصر هممهم في الدنيا على ربهم.
ولما كان الاختصاص بالشيء لاسيما المرأة من أعظم الملذذات قال: {لم يطمثهن} أي يجامعهن ويتسلط عليهن في هذا الخلق الذي أنشئن فيه نوع من أنواع السلطة سواء من إنسيات أو جنيات أو غير ذلك، يقال: طمثت المرأة كضرب وفرح: حاضت، وطمثها الرجل: افتضها وأيضاً جامعها، والبعير عقلته، فكأنه قيل: هن أبكار لم يخالط موضع الطمث منهن {إنس} ولما كان المراد تعميم الزمان أسقط الجارّ فقال: {قبلهم} أي المتكئين {ولا جان} وقد جمع هذا كل من يمكن منه جماع من ظاهر وباطن، وفيه دليل على أن الجني يغشى الإنسي كما نقل عن الزجاج {فبأيِّ آلاء ربكما} أي النعم الجسام من المربي الكامل العلم الشامل القدرة القيوم {تكذبان} أبنعمة اللمس من جهة اليمنى أم غيرها مما جعله الله لكم مثالاً لهذا من الأبكار الحسان، أو غير ذلك من أنواع الإحسان.