فصل: تفسير الآية رقم (2):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (2):

{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)}
ولما أتم تعالى الخبر عن إحاطة العلم، استأنف الإخبار عن حكم الأمر المجادل بسببه، فقال ذاماً للظهار، وكاسياً له ثوب العار: {الذين} ولما كان الظهار منكراً لكونه كذباً، عبر بصيغة التفعل الدالة عليه فقال: {يظهرون} أي يوجدون الظهار في أي رمضان كان وكأنه أدغم تاء التفعل والمفاعلة لأن حقيقته أنه يذهب ما أحل الله له من مجامعة زوجته. ولما كان الظهار خاصاً بالعرب دون سائر الأمم، نبه على ذلك تهجيناً له عليهم وتقبيحاً لعادتهم فيه، تنبيهاً على أن اللائق بهم أن يكونوا أبعد الناس من هذا الكلام لأن الكذب لم يزل مستهجناً عندهم في الجاهلية، ثم ما زاده الإسلام إلا استهجاناً فقال: {منكم} أي أيها العرب المسلمون الذين يستقبحون الكذب ما لا يستقبحه غيرهم وكذا من دان دينهم {من نسائهم} أي يحرمون نساءهم على أنفسهم تحريم الله عليهم ظهور أمهاتهم بأن يقول أحدهم لزوجته شيئاً من صرائحه مثل أنت عليّ كظهر أمي وكناياته كأنت أمي، وكل زوج صح طلاقه صح ظهاره من حر أو عبد مسلم أو ذمي دخل بالزوجة أو لا قادراً على الجماع أو عاجزاً، صغير كانت الزوجة أو كبيرة، عاقلة كانت أم مجنونة، سليمة كانت أو رتقاء، مسلمة كانت أو ذميمة، ولو كانت رجعية.
ولما كان وجه الشبه التحريم، وكان للتحريم رتبتان: عليا موصوفة بالتأبيد والاحترام، ودنيا خالية عن كل من الوصفين، وكان التقدير خبراً للمبتدأ: مخطئون في ذلك لأنه كذب، لأن التشبيه إن أسقطت أداته لم يكن حمله على الحقيقة ليكون من الرتبة العليا ولو على أدنى أحوالها من أنه طلاق لا رجعة فيه، كما كانوا يعتقدونه، وإن أثبتت ليكون من الدنيا لم يكن صحيحاً لأنه ممنوع منه لأن التشريع إنما هو لله، والله لم يكن يشرع ذلك، وكان تعليل شقي التشبيه يفيد معنى الخبر بزيادة التعليل، حذف الخبر، واكتفى بالتعليل فقال معللاً له مهجناً للظهار الذي تعوده العرب من غير أن يشاركهم فيه أحد من الأمم: {ما هن} أي نساؤهم {أمهاتهم} على تقدير إرادة أحدهم أعلى رتبتي التحريم، والحاصل أنهم لما كانوا يعتقدون أنه طلاق لا رجعة فيه جعلوا معتقدين أن المرأة أم لأن الحرمة المؤبدة من خصائص الأم فخوطبوا بذلك تقريعاً لهم لأنه أردع، وفي سورة الأحزاب ما يوضح هذا.
ولما كانوا قد مرنوا على هذا الحكم في الجاهلية، واستقر في أنفسهم استقراراً لا يزول إلا بغاية التأكيد، ساق الكلام كذلك في الشقين فقال: {إن} أي ما {أمهاتهم} أي حقيقة {إلا اللاَّئي ولدنهم} ونساؤهم لم تلدهم، فلا يحرمن عليهم حرمة مؤبدة للإكرام والاحترام، ولا هن ممن ألحق بالأمهات بوجه يصح وكأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإنهن أمهات لما لهن من حق الإكرام والاحترام والإعظام ما لم يكن لغيرهن لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم في أبوة الدين من أب النسب وكذلك المرضعات لما لهن من الإرضاع الذي هو وظيفة الأم بالأصالة، وأما الزوجة فمباينة لجميع ذلك.
ولما فرغ من تعليل الشق الأول على أتم وجه، أتبعه تعليل الآخر كذلك، فقال عاطفاً عليه مؤكداً لأنهم كانوا قد ألفوا قوله فأشربته قلوبهم: {وإنهم} أي المظهرون {ليقولون} أي في هذا التظهر على كل حالة {منكراً من القول} ينكره الحقيقة والأحكام، قال ابن الملقن في عمدة المحتاج: وهو حرام اتفاقاً كما ذكره الرافعي في الشهادات. {وزوراً} أي قولاً مائلاً عن السداد، منحرفاً عن القصد، لأن الزوجة معدة للاستمتاع الذي هو في الغاية من الامتهان، والأم في غاية البعد عن ذلك لأنها أهل لكل احترام، فلا هي أم حقيقة ولا شبيهة بها بأمر نصبه الشارع للاحترام كالإرضاع، وكونها فراشاً لعظيم كالنبي أو للأب أو للحرمة كاللعان، فقد علم أن ذلك الكلام ليس بصدق ولا جاء به مسوغ، فهو زور محض، وأخصر من هذا أن يقال: ولما كان ظهارهم هذا يشتمل على فعل وقول، وكان الفعل هو التحريم الذي هو موضع وجه الشبه، وكانت العادة في وجه الشبه أن يقنع منه بأدنى ما ينطلق عليه الاسم، وكانوا قد خالفوا ذلك فجعلوه في أعلى طبقاته وهو الحرمة المؤبدة التي يلزم منها أن تكون المشابهة من كل وجه في الحرمة مع أن ذلك بغير مستند من الله تعالى الذي لا حكم لغيره، ألزمهم أن يكون الشبه من كل وجه مطلقاً ليكونوا جاعلين الزوجة إما حقيقة لا دعوى كما جعلوا الحرمتين كذلك من غير فرق بل أولى لأن الشبه إنما وقع بين الحيثيتين لا بين الحرمتين- ثم وقفهم على جهلهم فيه فقال {ما هن} إلى آخره، ولما وقفهم على جهلهم في الفعل وقفهم على جهلهم في القول: فقال: وأنهم إلى آخره، قال النووي في الروضة: قال الأصحاب: الظهار حرام، وله حكمان: أحدهما تحريم الوطء إذا وجبت الكفارة إلى أن يكفر، والثاني وجوب الكفارة بالعود- انتهى، وهذا القول وإن أفاد التحريم فإنه يفيد لكونه ممنوعاً منه على وجه ضيق حرج المورد عسر المخرج ليكون عسره زاجراً عن الوقوع فيه، قال أبو عبد الله القزاز في ديوانه الجامع: وظاهر الرجل امرأته وظاهر من امرأته إذا قال: أنت عليّ كظهر أمي أو كذاب محرم، وإنما استخصوا الظهر في الظهار لأن الظهر موضع الركوب، والمرأة مركب الرجل في النكاح فكني به عن ذلك، فكأنه قال: ركوبك عليّ للنكاح كركوب أمي، وكان الظهار في الجاهلية طلاقاً، ولذلك أشكل معنى قوله تعالى: {ثم يعودون لما قالوا} وقال ابن الأثير في النهاية: ظاهر الرجل من امرأته ظهاراً وتظهر وتظاهر إذا قال لها: أنت عليّ كظهر أمي، وكان في الجاهلية طلاقاً، وقيل: إنهم أرادوا أنت عليّ كبطن أمي أي كجماعها، فكنوا بالظهر عن البطن للمجاورة، وقيل إن إتيان المرأة وظهرها إلى السماء كان حراماً عندهم، وكان أهل المدينة يقولون: إذا أتيت المرأة ووجهها إلى الأرض جاء الولد أحول، فلقصد الرجل المطلق منهم إلى التغليظ في تحريم امرأته عليه شبهها بالظهر ثم لم يقنع بذلك حتى جعلها كظهر أمه، وإنما عدى الظهار ب {من} لأنهم كانوا إذا ظاهروا المرأة تجنبوها كما يتجنبون المطلقة ويحترزون منها، فكأن قوله: ظاهر من امرأته، أي بعد واحترز منها كما قيل: آلى من امرأته، لما ضمن معنى التباعد عدى ب {من} انتهى، قال: وقال ابن الملقن في العمدة شرح المنهاج: وكان طلاقاً في الجاهلية، ونقل عن صاحب الحاوي أنه عندهم لا رجعة فيه، قال: فنقل الشارع حكمه إلى تحريم بعد العود ووجوب الكفارة- انتهى وقال أبو حيان: قال أبو قلابة وغيره: كان الظهار في الجاهلية يوجب عندهم فرقة مؤبدة.
ولما كان التقدير: فإن الله حرمه، عطف عليه مرغباً في التوبة وداعياً إليها قوله مؤكداً لأجل ما يعتقدون من غلظه وأنه لا مثنوية فيه {وإن الله} أي الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه في شرع ولا غيره {لعفو} من صفاته أن يترك عقاب من شاء {غفور} من صفاته أن يمحو عين الذنب وأثره حتى أنه كما لا يعاقب عليه لا يعاتب، فهل من تائب طلباً للعفو عن زلله، والإصلاح لما كان من خلله.

.تفسير الآيات (3- 4):

{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)}
ولما هجن سبحانه الظهار، وأثبت تحريمه على أبلغ وجه وآكده، وكان ما مضت عليه العوائد لابد أن يبقى منه بقايا، أتبع ذلك بيان حكم هذه الواقعة وما لعله يقع من نظائرها فقال: {والذين يظاهرون} ولما كان في بيان الحكم، أسقط التقييد إعلاماً بعمومه الكفار كعمومه المسلم ليفيد تغليظ العقاب عليه لئلا يتوهم أنه يخص العرب الذين قصد تهجينه عليهم بأنهم انفرادوا به عن سائر الناس فقال: {من نسائهم} بدون {منكم}.
ولما كان مقتضى اللفظ المباعدة ممن قيل ذلك فيها، لكان إمساكها بعده ينبغي أن يكون في غاية البعد، قال مشيراً إلى ذلك بأداة البعد {ثم يعودون} أي بعد هذا القول {لما قالوا} بالفعل بأن يعاد هذا القول مرة أخرى أو بالقوة بأن يمسكوا المقول ذلك لها زمناً يمكن أن يعاد فيه هذا القول مرة ثانية من غير مفاقة بلفظ مما ناط الله الفرقة به من طلاق أو سراح أو نحوهما، فيكون المظاهر عائداً إلى هذا القول بالقوة لإمكان هذا القول في ذلك الزمن، وذلك لأن العادة قاضية بأن من قال قولاً ولم يبته وينجزه ويمضه بأن يعود إلى قوله مرة أخرى وهلم جراً، أو يكون التقدير لنقض ما قالوا: فيحلوا ما حرموا على أنفسهم بعدم البت بالطلاق، فإن كان الظهار معلقاً لم يلزم حكمه إلا بالحنث، فإن طلق في الحال وإلا لزمته الكفارة، وحق العبارة التعبير باللام لدلالتها على الاتصال كما يقتضيه الحال بخلاف إلى فإنها تدل على مهلة وتراخ، هذا في الظهار المطلق، وأما الموقت بيوم أو شهر أو نحو ذلك فلا يكون عائداً فيه إلا بالوطء في الوقت المظاهر فيه، وأما مجرد إمساكها فليس بعود لأنه إنما أمسكها لما له فيها من الحل بعد وقت الظهار.
ولما كان المبتدأ الموصول مضمناً معنى الشرط، أدخل الفاء في خبره ليفيد السببية فيتكرر الوجوب بتكرر سببه فقال: {فتحرير} أي فعليهم بسبب هذا الظهار والعود تحرير {رقبة} أي سليمة عن عيب يخل بالعمل كاملة الرق مقيدة أيضاً بمؤمنة لأنها قيدت بذلك في كفارة القتل، فيحمل هذا على ذاك، ولأن معاوية بن الحكم رضي الله عنه كانت له جارية فقال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: عليّ رقبة أفأعتقها، فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله فأخبرته بما دل على توحيدها فقال: «من أنا؟ فقالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة» رواه مالك ومسلم، فعلل الإجزاء بالإيمان ولم يسأله عن سبب الوجوب، فدل على أنه لا فرق بين واجب وواجب، والموجب للكفارة الظهار والعود جميعاً كما أن الموجب في اليمين اليمين والحنث معاً.
ولما كان التحرير لا يستغرق زمن القبل بل يكون في بعضه، أدخل الجار فقال: {من قبل} ولما كان المراد المس بعد المظهارة لا مطلقاً قال: {أن يتماسا} أي يتجدد منهما مس وهو الجماع سواء كان ابتداء المباشرة منه أو منها بما أفادته صيغة التفاعل، وهو حرام قبل التكفير ولو كان على أدنى وجوه التماس وأخفاها بما أشار إليه الإدغام ولو كان بإيلاج الحشفة فقط مع الإنزال أو بدونه، وأما مقدمات الجماع فهي فيها كالحائض لا تحرم على الأظهر، فإن جامع عصى ولم تجب كفارة أخرى، لما روى الترمذي عن سلمة بن صخر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في المظاهر يواقع قبل أن يكفر، قال: «كفارة واحدة».
ولما كان الوعظ هو الزجر عن الفعل الموعوظ لأجله، قال مستأنفاً: {ذلكم} أي الزجر العظيم جد الذي هو عام لكم من غير شبهة {توعظون به} أي يكون بمشقة زاجراً لكم عن العود إلى مقاربة مثل ذلك فضلاً عن مقارفته لأن من حرم من أجلها الله تحريماً متأبداً على زعمه كان كأنه قد قتلها، ولكون ذلك بلفظ اخترعه وانتهك فيه حرمة أمه كان كأنه قد عصى معصية أوبق بها نفسه كلها إيباقاً أخرجه إلى أن يقتلها عضواً عضواً بإعتاق رقبة تماثل رقبته ورقبة من كان قتلها.
ولما كان التقدير: فالله بما يردعكم بصير، عطف عليه قوله: {والله} أي الذي له الإحاطة بالكمال، وقدم الجار إشارة إلى إرادة المبالغة للتنبيه على الاهتمام بإلزام الانتهاء. عن ذلك فقال: {بما تعملون} أي تجددون فعله {خبير} أي عالم بظاهره وباطنه، فهو عالم بما يكفره، فافعلوا ما أمر الله به وقفوا عند حدوده، قال القشيري: والظهار- وإن لم يكن له في الحقيقة أصل ولا بتصحيحه نطق ولا له شرع، بعد ما رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ولوح بشيء ما وقال: إنه حكمه لا يخل الله من بيان ساق إليه شرعه فقضى فيه بما انتظم فيه الجواب ارتفاع شكواها.
ولما كانت الكفارة مرتبة، وكان المظاهر كأنه قد قتل نفسه بقتل المظاهر عنها كما مضى، فكان مفتقراً إلى ما يحيي نفسه فشرع له العتق الذي هو كالإحياء، شرع له عند العجز عنه ما يميت نفسه التي إماتتها له إحياؤها، وكان الشهران نصف المدة التي ينفخ فيها الروح، فكان صومها كنصف قتل النفس التي قتلها إحياء الروح وإنعاش العقل، فكان كأنه إماتتها فجعله سبحانه بدلاً عن القتل الذي هو كالإحياء فقال: {فمن لم يجد} أي الرقبة المأمور بها بأن كان فقيراً، فإن كان غنياً وماله غائب فهو واجد {فصيام} أي فعليه صيام {شهرين}. ولما كان المراد كسر النفس كما مضى، وكانت المتابعة أنكى ولذلك سمي رمضان شهر الصبر، قيد بقوله: {متتابعين} أي على أكمل وجوه التتابع على حسب الإمكان بما أشار إليه الإظهار، فلو قطع التتابع بشيء ما ولو كان بنسيان النية وجب عليه الاستئناف والإغماء لا يقطع التتابع لأنه ليس في الوسع وكذا الإفطار بحيض أو نفاس أو جنون بخلاف الإفطار بسفر أو مرض أو خوف على حمل أو رضيع لأن الحيض معلوم فهو مستثنى شرعاً، وغيره مغيب للعقل- مزيل للتكليف، وأما المرض ونحوه ففيه تعمد الإفطار مع وجود العقل.
ولما كان الإمساك عن المسيس قد يكون أوسع من الشهرين، أدخل الجار فقال: {من قبل} وحل المصدر إفادة لمن يكون بعد المظاهرة فقال: {أن يتماسا} فإن جامع ليلاً عصى ولم ينقطع التتابع. ولما كان إطعام نفس قوت نصف يوم كإماتة نفسه بالصيام يوماً قال تعالى: {فمن لم يستطع} أي يقدر على الصيام قدرة تامة- بما أشار إليه إظهار التاء لهرم أو مرض أو شبق مفرط يهيجه الصوم {فإطعام} أي فعليه إطعام {ستين مسكيناً} لكل مسكين ما يقوته نصف يوم، وهو مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم وذلك نحو نصف قدح بالمصري، وهو ملء حفنتين بكفي معتدل الخلق من غالب قوت البلد، وهو كما في الفطرة سواء، وحذف قيد المماسة لذكره في الأولين، ولعل الحكمة في تخصيص هذا به أن ذكره في أول الخصال لابد منه، وإعادته في الثاني لطول مدته فالصبر عنه فيها مشقة، وهذا يمكن أن يفعل في لحظة لطيفة لا مشقة للصبر فيها عن المماسة، هذا إذا عاد، فإن وصل الظهار بالطلاق أو مات أحدهما في الحال قبل إمكان الطلاق فلا كفارة، قال البغوي: لأن العود في القول هو المخالفة، وفسر ابن عباس رضي الله عنهما العود بالندم فقال: يندمون ويرجعون إلى الألفة، وهذا يدل على ما قال الشافعي رضي الله عنه: فإن ظاهر عن الرجعية انعقد ظهاره فإن راجعها لزمته الكفارة لأن الرجعة عود.
ولما ذكر الحكم، بين علته ترغيباً فيه فقال: {ذلك} أي الترخيص العظيم لكم والرفق بكم والبيان الشافي من أمر الله الذي هو موافق للحنيفية السمحة ملة أبيكم إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان {لتؤمنوا} أي وهذا الفعل العظيم الشاق ليتجدد إيمانكم ويتحقق وجوده {بالله} أي الملك الذي لا أمر لأحد معه فتطيعوه بالانسلاخ من فعل الجاهلية {ورسوله} الذي تعظيمه من تعظيمه وقد بعث بملة أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، فلو ترك هذا الحكم الشديد على ما كان عليه في الجاهلية لكان مشككاً في البعث بتلك الملة السمحة.
ولما رغب في هذا الحكم، رهب من التهاون به فقال: {وتلك} أي هذه الأفعال المزكية وكل ما سلف من أمثالها في هذا الكتاب الأعظم {حدود الله} أي أوامر الملك الأعظم ونواهيه وأحكامه التي يجب امتثالها والتقيد بها لترعى حق رعايتها فالتزموها وقفوا عندها ولا تعتدوها فإنه لا يطاق انتقامه إذا تعدى نقضه أو إبرامه. ولما كان التقدير: فللمؤمنين بها جنات النعيم، عطف عليه قوله: {وللكافرين} أي العريقين في الكفر بها أو بشيء من شرائعه {عذاب أليم} بما آلموا المؤمنين به من الاعتداء.