فصل: تفسير الآيات (5- 6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (5- 6):

{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)}
ولما ذكر حدوده، ولوح بالعطف على غير معطوف عليه إلى بشارة حافظها، وصرح بتهديد متجاوزيها أتبع ذلك تفصيل عذابهم الذي منه بشارة المؤمنين بالنصر عليهم، فقال مؤكداً لأجل إنكارهم لأن يغلبوا على كثرتهم وقوتهم وضعف حزبه وقلتهم: {إن الذين يحادّون الله} أي يغالبون الملك الأعلى على حدوده ليجعلوا حدوداً غيرها، وذلك صورته صورة العداوة، مجددين ذلك مستمرين عليه بأي محادة كانت ولو كانت خفية- بما أشار إليه الإدغام كمحادة أهل الاتحاد الذين يتبعون المتشابه فيجرونه على ظاهره فيخلون به المحكم لتخل الشريعة بأسرها، فإن كثيراً من السورة نزل في المنافقين واليهود والمهادنين كما يأتي في النجوى وغيرها {ورسوله} الذي عزه من عزه {كبتوا} أي صرعوا وكبوا لوجوههم وكسروا وأذلوا وأخزوا فلم يظفروا وردوا بغيظهم في كل أمر يرومونه من أي كانت كان بأيسر أمر وأسهله، وعبر بالماضي إشارة إلى تحقق وقوعه والفراغ من قضائه كما فرغ مما مضى، فلا قال لتكون الدعوى مقرونة بدليلها: {كما كبت الذين} ولما كان المحادون لم يستغرقوا جميع الأزمان الماضية والأماكن، أدخل الجارّ فقال: {من قبلهم} أي المحادين كقوم نوح ومن بعدهم ممن أصر على العصيان، ولم ينقد لدليل ولا برهان، قال القشيري: ومن ضيع لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة وأحدث في دينه بدعة انخرط في هذا السلك، ووقع في هذا الذل.
ولما استوفى المقام حظه بياناً وترغيباً وترهيباً، عطف على أول السورة أو على ما يقدر من نحو: فقد كان لكم فيما مضى من أول الإسلام إلى هذا الأوان مما يدل على كونه سبحانه بالنصر والمعونة مع نبيه صلى الله عليه وسلم وأتباعه رضي الله عنهم معتبر، قوله: {وقد أنزلنا} أي بما لنا من العظمة عليكم وعلى من قبلكم {آيات بينات} أي دلالات عظيمة هي في غاية البيان لذلك ولكل ما يتوقف عليه الإيمان بترك المحادة ويحصل الإذعان. ولما كان التقدير: فللمؤمنين بها نعيم مقيم في مقام أمين، عطف عليه قوله: {وللكافرين} أي الراسخين في الكفر بها وتغيرها من أمر الله {عذاب مهين} بما تكبروا واغتروا على أولياء الله وشرائعه، يهينهم ذلك العذاب ويذهب عزهم وشماختهم ويتركون به محادتهم.
ولما ذكر عذابهم، ذكر وقته على وجه مقرر لما مضى من شمول علمه وكمال قدرته فقال: {يوم يبعثهم الله} أي يكون ذلك في وقت إعادة الملك الأعظم للكافرين المصرح بهم والمؤمنين المشار إليهم أحياء كما كانوا {جميعاً} في حال كونهم مجتمعين في البعث. ولمان كان لا أوجع من التبكيت بحضرة بعض الناس فكيف إذا كان بحضرتهم كلهم فكيف إذا كان بمرأى من جميع الخلائق ومسمع، سبب عن ذلك وعقب قوله: {فينبئهم} أي يخبرهم إخباراً عظيماً مستقصى {بما عملوا} إخزاء لهم وإقامة للحجة عليهم.
ولما كان ضبط ذلك أمراً عظيماً، استأنف قوله بياناً لهوانه عليه: {أحصاه الله} أي أحاط به عدداً كمّاً وكيفاً وزماناً ومكاناً بما له من صفات الجلال والجمال. ولم ذكر إحصاءه له، فكان ربما ظن أنه مما يمكن في العادة إحصاؤه، نفى ذلك بقوله: {ونسوه} أي كلهم مجتمعين لخروجه عن الحد في الكثرة فكيف بكل واحد على انفراده ونسوا ما فيه المعاصي تهاوناً بها، وذلك عين التهاون بالله والاجتراء عليه، قال القشيري: إذا حوسب أحد في القيامة على عمل عمله تصور له ما فعله ثم يذكر حتى كأنه في تلك الحالة قام من بساط الزلة فيقع عليه من الخجل والندم ما ينسى في جنبه كل عقوبة، فسبيل المسلم أن لا يخالف أمر مولاه ولا يحوم حوله مخالفة أمره، فإن جرى المقدور ووقع في هجنة التقصير فليكن من زلته على بال، وليتضرع إلى الله بحسن الابتهال.
ولما كان التقدير بما أرشد إليه العطف على غير مذكور: فالله بكل شيء من ذلك وغيره عليم، عطف عليه قوله: {والله} أي بما له من القدرة الشاملة والعلم المحيط {على كل شيء} على الإطلاق من غير مثنوية أصلاً {شهيد} أي حفيظ حاضر لا يغيب، ورقيب لا يفعل، حفظه له ورقبه وحضوره إياه مستعل عليه قاهر له بإحاطة قهره بكل شيء ليمكن حفظه له على أتم وجه يريده.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما نزه سبحانه نفسه عن تقول الملحدين، وأعلم أن العالم بأسره ينزهه عن ذلك بألسنة أحوالهم لشهادة العوالم على أنفسها بافتقارها لحكيم أوجدها، لا يمكن أن يشبه شيئاً منها بل يتنزه من أوصافها ويتقدس عن سماتها، فقال {سبح لله ما في السماوات والأرض} [الحديد: 1] ومضت أي تعرف بعظيم سلطانه وعليّ ملكه، ثم انصرف الخطاب إلى عباده في قوله: {آمنوا بالله ورسوله} [الحديد: 7] إلى ما بعد ذلك من الآي، وكان ذلك ضرب من الالتفات، والواقع هنا منه أشبه بقوله سبحانه في سورة البقرة {وإذ قال ربك للملائكة} [البقرة: 30] فإنه بعد تفصيل حال المتقين وحال من جعل في طرف منهم وحال من يشبه بظاهره بالمتقين وهو معدود في شرار الكافرين، فلما تم هذا النمط عدل بعده إلى دعاء الخلق إلى عبادة الله وتوحيده {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} [البقرة: 21] ثم عدل بالكلام جملة وصرف الخطاب إلى تعريف نبيه عليه الصلاة والسلام بين أيدي الخلق {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30] فجاء ضرباً من الالتفات فكذا الواقع هنا بين سبحانه حال مشركي العرب وقبح عنادهم وقرعهم ووبخهم في عدة سور غالب آيها جارٍ على ذلك ومجدد له أولها سورة ص كما نبه عليه في سورة القمر، وإلى الغاية التي ذكرت فيها إلى أن وردت سورة القمر منبئة بقطع دابرهم، وانجر فيها الإعذار المنبه عليه وكذا في سورة الرحمن بعدها، ثم أعقب ذلك بالتعريف بحال النزل الأخراوي في سورة الواقعة مع زيادة تقريع وتوبيخ على مرتكبات استدعت تسبيحه تعالى وتقديسه عن شنيع افترائهم فأتبعت بسورة الحديد، ثم صرف فيها الخطاب إلى المؤمنين، واستمر ذلك إلى آخر السورة، جرت سورة المجادلة على هذا القصد مصروفاً خطابها إلى نازلة تشوف المؤمنين إلى تعرف حكمها، وهو الظهار المبين أمره فيها، فلم يعد في الكلام بعد كما كان قد صرف إليه في قوله: {آمنوا بالله ورسوله} بأكثر من التعرض لبيان حكم يقع منهم، ثم أن السور الواردة بعد إلى آخر الكتاب استمر معظمها على هذا الغرض لانقضاء ما قصد من التعريف بأخبار القرون السالفة والأمم الماضية، وتقريع من عاند وتوبيخه، وذكر مثال الخلق واستقرارهم الأخراوي، وذكر تفاصيل التكاليف والجزاء عليها من الثواب والعقاب، وما به استقامة من استجاب وآمن وما يجب أن يلتزمه على درجات التكاليف وتأكيدها، فلما كمل ذلك صرف الكلام إلى ما يخص المؤمنين في أحكامهم وتعريفهم بما فيه من خلاصهم، فمعظم آي سورة بعد هذا شأنها، وإن اتجر غيرها فلا استدعاء موجب وهو الأقل كما بينا- انتهى.

.تفسير الآية رقم (7):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)}
ولما كان هذا الإخبار عن إحاطة علمه وشمول قدرته مع أنه بديهي التصور- يحتاج عند من جره الهوى إلى الشرك المقتضي للنقص إلى دليل معه فقد كان العرب ينكرون أن يسع الناس كلهم إله واحد، قال تعالى دالاًّ على ذلك بدليل شهودي ليفيد الإنسان بما يراه من المحسوسات، قاصراً الخطاب على أعلى الخلق إشارة إلى أنه لا يفهم ذلك حق فهمه غيره: {ألم تر} أي تعلم علماً هو في وضوحه كالرؤية بالعين {أن الله} أي الذي له صفات الكمال كلها {يعلم ما في السماوات} كلها. ولما كان الخطاب لأعلى الخلق، وكان المقام لإحاطة العلم، وكان خطابه صلى الله عليه وسلم بذلك إشارة للسامعين إلى وعورة هذا المقام وأنه بحيث لا يكاد يتصوره ولا يفهمه حق فهمه إلا هو صلى الله عليه وسلم ومن ألحق به ممن صفا فهمه وسوى ذهنه وانخلع من الهوى والعوائق، جمع وأكد بإعادة الموصول، فإفراده صلى الله عليه وسلم بالخطاب بعد أن كان مع المظاهرين ثم المحادين إشارة إلى التعظيم وتأكيده تنبيه على صعوبة المقام بالتعميم ليرعى حق الرعي توفية بحق التعليم كما رعته الصديقة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في قولها: «سبحان من وسع سمعه الأصوات» يعني في سماعه مجادلة المرأة وهو في غاية الخفاء فقال تعالى: {وما في الأرض} أي كليات ذلك وجزئياته، لا يغيب عنه شيء منه، بدليل أن تدبيره محيط بذلك على أتم ما يكون، وهو يخبر من يشاء من أنبيائه وأصفيائه بما يشاء من أخبار ذلك، القاصية والدانية، الحاضرة والغائبة، الماضية والآتية، فيكون كما أخبر.
ولما كان ذلك وإن كان معلوماً يتعذر إحاطة الإنسان بكل جزئي منه، دل عليه بما هو أقرب منه فقال: {ما تكون} بالفوقانية في قراءة أبي جعفر لتأنيث النجوى إشارة إلى العلم بها ولو ضعفت إلى أعظم حد، وقرأ الباقون بالتحتانية للحائل، ولأن التأنيث غير حقيقي، وهي على كل حال من كان التامة، وعمم النفي بقوله: {من نجوى} أي تناجي متناجين، جعلوا نجوى مبالغة، والنجوى: السر والمسارون، اسم ومصدر- قاله في القاموس، وقال عبد الحق في الواعي: النجوى الكلام بين الاثنين كالسر والتشاور- انتهى. وأصله من النجوى- للمرتفع من الأرض، والنجو: الخلوص والقطع وكشط الجلد والحدث والكشف، لأن المسارر يرفع ما كان في ضميره إلى صاحبه ويخلصه بمساررته له ويقطعه من ضميره ويكشطه منه ويحدثه ويكشفه.
ولما كانت النجوى لا تكمل إلا بثالث يحفظ الأنس بإدامة الاجتماع لأن الاثنين ينفردان عند عروض حاجة لأحجهما ويكونان في التناجي والتشاور كالمتنازعين، والثالث وسط بينهما مع أنه سبحانه وتر يحب الوتر، والثلاثة أول أوتار العدد، كما كان حافظاً لها في أزل الأزل قال: {ثلاثة} أي في حال من الأحوال {إلا هو رابعهم} أي مصيرهم أربعة، فهو اسم فاعل والمعنى بعلمه وقدرته كما يكون كل من المتناجين عالماً بنجوى البعض، فروح النجوى العلم بالسر.
ولما كان الثلاثة قد يريد أحدهم أن ينفرد بآخر منهم، فيصير الثالث وحده، فإذا كانوا أربعة دام الأنس بينهم ثم لا يكمل إلا بخامس يحفظ الاجتماع إذا عرضت لأحد الاثنين حاجة قال: {ولا خمسة} أي من نجواهم {إلا هو سادسهم} كذلك، فالحاصل أنه ما يكون من وتر إلا كان هو سبحانه شافع وتريته، وأما وتريته هو سبحانه فقد كانت ولا شيء معها أصلاً، وستكون ولا حي معها، فلا وتر في الوجود على الحقيقة غيره.
ولما علم بالتكرير أن ما ذكر على سبيل المثال لا لمعنى يخصه من جهة بالعلم، عم بقوله: {ولا أدنى} فبدأ بالقليل لأنه قبل الكثير وهو أخفى منه {من ذلك} أي الذي ذكر وهو الواحد والاثنان والأربعة الذي بعيد عن رتبته وإن كان قد شرفه سبحانه بإطلاق معيته بعد أن لا نسبة له منها.
ولما كان العلم بالكثير أعسر من أجل انتشاره قال: {ولا} أي يكون من نجوى {أكثر} أي من ذلك كالستة فما فوقها لا إلى نهاية- هذا التقدير على قراءة الجماعة بالجر بفتحة الراء ورفع يعقوب على محل من {نجوى} {إلا هو معهم} أي يعلم ما يجري منهم وبينهم، ويلزم من إحاطة علمه إحاطة قدرته كما تقدم في طه لتكمل شهادته.
ولما كان العموم في المكان يستلزم العموم في الزمان، وكان المكان أظهر في الحس قال: {أين ما} أي في أيّ مكان {كانوا} فإنه لا مسافة بينه وبين شيء من الأشياء لأنه الذي خلق المسافة، وعلمه بالأشياء ليس لقرب مكان حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة ولا بسبب من الأسباب غير وجوده على ما هو عليه من صفات الكمال، قال الرازي: ما فارق الأكوان الحق ولا قارنها، كيف يفارقها وهو موجدها وحافظها ومظهرها، وكيف يقارن الحدث القدم وهو به قوام الكل، وهو القيوم على الكل- انتهى. والحاصل أنه سبحانه لا يخفى عليه شيء من العالم وإن بلغ في دقته إلى ما لا ينقسم، وهو شاهد لذلك كله حفظاً وعلماً وإحاطة وحضوراً، وآية ذلك في خلقه أن جملة الجسم يحيا بالروح، فلا يبقى جزء منه إلا وهو محفوظ بالروح يحس بسببها وهو سبحانه لا يحجب علمه ولا شيئاً من صفاته حجاب، فقد صحت المعية وهو بحيث لا يحويه المكان ولا يحصره العد، يقبض المخلوق ويبسطه، لا يصعد المخلوق ولا صفته ولا فعله ولا معنى من معانيه إلى صفة من صفاته، إنما له من المكان المكانة، ومن العلم العلا، ومن الأسماء والصفات مقتضاها- أشار إلى لك ابن برجان وقال: ومن تدبر ما قرأه وتفهم ما تعلمه أدرك من التحقيق ما نحن بسبيل تبيانه ما قدر له، ألا ترى إلى الجن أين مكانهم وإن كانوا موصوفين به ثم الملائكة أرفع قدراً ومكانة، بل إن الروح من جميع الجملة التي تحمله، به حييت وبه تدبيرها وبه قيامها بإن الله خالقه، قال عليه الصلاة والسلام في خطبته الكبرى وهي آخر خطبة خطبها أخرجها الحارث بن أبي أسامة: رقي المنبر وقال: «أيها الناس ادنو وأوسعوا لمن خلقكم» ثلاث مرات، فدنا الناس وانضم بعضهم إلى بعض، التفتوا فلم يروا أحداً، فقال رجل منهم بعد الثالثة: لمن نوسع يا رسول الله أللملائكة؟ فقال: «لا إنهم إذ كانوا معكم لم يكونوا بين أيديكم ولا من خلفكم ولكن عن أيمانكم وعن شمائلكم» وعلى ذلك فليسوا في مكان الأيمان هنا والشمائل بل في المكان من ذلك، فالله جل جلاله أعلى وأجل وأنزه مكانة وأكرم استواء انتهى.
ولما كان الإنسان نساءً ولاسيما إن تمادى به الزمان، قال عاطفاً على ما تقديره، فيضبط عليهم حركاتهم وسكناتهم من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، ويحفظها على طول الزمان كما كان حافظاً لها قبل خلقها ثم أزل الأزل {ثم ينبئهم} أي يخبر أصحابها إخباراً عظيماً {بما عملوا} دقيقة وجليلة {يوم القيامة} الذي هو المراد الأعظم من الوجود لإظهار الصفات العلى فيه أتم إظهار. ولما أخبر تعالى بهذا الأمر العظيم، علله بما هو دليل على الشهادة فقال مؤكداً لما لهم من الإنكار قولاً أو فعلاً بالاشتراك الذي يلزم منه النقص {إن الله} أي الذي له الكمال كله. ولما كان المقام للإبلاغ في إحاطة العلم، قدم الجار كما مضت الإشارة إليه غير مرة قال: {بكل شيء} مما ذكر وغيره {عليم *} أي بالغ العلم فهو على كل شيء قدير، فهو على كل شيء شهيد، لأن نسبة ذاته الأقدس إلى الأشياء كلها على حد سواء لا فرق أصلاً بين شيء وآخر، قال القشيري: معية الحق سبحانه وإن كانت على العموم بالعلم والرؤية وعلى الخصوص بالفضل والنصرة، فلهذا الخطاب في قلوب أهل المعرفة أثر عظيم إلى أن ينتهي الأمر بهم إلى التأويل، فللوله والهيمان في خمار هذا عين رغد.

.تفسير الآيات (8- 10):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)}
ولما كان هذا الدليل أيضاً تتعذر الإحاطة به، قال دالاًّ عليه بأمر جزئي واقع بعلم المحدث عنه حقيقة، فإن عاند بعده سقط عنه الكلام إلا بحد الحسام: {ألم تر} أي تعلم علماً هو كالرؤية، ودل على سفول رتبه المرئي بإبعاده عن أعلى الناس قدراً بحرف الغاية فقال: {إلى الذين} ولما كان العاقل من إذا زجر عن شيء انزجر حتى يتبين له أنه لا ضرر عليه في فعل ما زجر عنه، عبر بالبناء للمفعول فقال: {نهوا} أي من ناه ما لا ينبغي للمنهي مخالفته حتى يعلم أنه مأمون الغائلة {عن النجوى} أي الإسرار لإحلال أنفسهم بذلك في محل التهمة بما لا يرضى من رسول الله صلى الله عليه وسلم- كما قال أبو العلاء المعري:
والخل كالماء يبدي لي ضمائره ** مع الصفاء ويخفيها من الكدر

ولما كان الناهي هو الله، فكان هذا للنهي أهلاً لأن يبعد منه غاية البعد، عبر بأداة التراخي فقال: {ثم يعودون} أي على سبيل الاستمرار لأنه إذا وقعت مرة بادروا إلى التوبة منها أو فلتة وقعت معفواً عنها {لما نهوا عنه} أي من غير أن يعدوا لما يتوقع من جهة الناهي من الضرر عدة {ويتناجون} أي يقبل جميعهم على المناجاة إقبالاً واحداً، فيفعل كل منهم ما يفعله الآخر مرة بعد أخرى على سبيل الاستمرار، وقراءة حمزة {وينتجون} بصيغة الافتعال يدل على التعمد والمعاندة {بالإثم} أي بالشيء الذي يكتب عليهم به الإثم بالذنب وبالكذب وبما لا يحل. ولما ذكر المطلق أتبعه المقيد بالشدة فقال: {والعدوان} أي العدو الذي هو نهاية في قصد الشر بالإفراط في مجاوزة الحدود. ولما كان ذلك شراً في نفسه أتبعه الإشارة إلى أن الشيء يتغير وصفه بالنسبة إلى من يفعل معه فيكبر بكبر المعصي فقال: {ومعصيت الرسول} أي الذي جاء إليهم من الملك الأعلى، وهو كامل الرسلية، لكونه مرسلاً إلى جميع الخلق وفي كل الأزمان، فلا نبي بعده، فهو لذلك يستحق غاية الإكرام.
ولما أنهى تعظيم الذنب إلى غايته آذن بالغضب بأن لفت الكلام إلى الخطاب فقال: {وإذا جاؤوك} أيها الرسول الأعظم الذي يأتيه الوحي ممن أرسله ولم يغب أصلاً عنه لأنه المحيط علماً وقدرة {حيوك} أي واجهوك بما يعدونه تحية من قولهم: السام عليك ونحوه، وعم كل لفظ بقوله: {بما لم يحيك به الله} أي الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه فمن تجاوز ما شرعه فقد عرض نفسه لسخطه، ومما دخل فيه قوله بعض الناس لبعض: صباح الخير ونحوه معرضاً عن السلام. ولما كان المشهور عنهم أنهم يخفون ذلك جهدهم ويعلنون بإملاء الله لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطلع عليه، وإن اطلع عليه لم يقدر على أن ينتقم منهم، عبر عن ذلك بقوله: {ويقولون} أي عند الاستدراج بالإملاء مجددين قولهم مواظبين عليه {في أنفسهم} من غير أن يطلعوا عليه أحداً: {لولا} أي هلا ولم لا {يعذبنا الله} أي الذي له الإحاطة بكل شيء على زعم من باهانا {بما نقول} مجددين مع المواظبة إن كان يكرهه- كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم.
ولما تضمن هذا علمه سبحانه وتعالى بهذه الجزئية من هؤلاء القوم ثبت بذلك علمه سبحانه بجميع ما في الكون، لأن نسبة الكل إليه على حد سواء، فإذا ثبت علمه بالبعض ثبت علمه بالكل فثبتت قدرته على الكل فكان على كل شيء شهيداً، قال مهدداً لهم مشيراً إلى أنه لا ينبغي لأحد أن يقول مثل هذا إلا إن كان قاطعاً بأنه لا يحصل له عذاب، أو يحصل له منه ما لا يبالي به ثم يرده بقوته: {حسبهم} أي كفايتهم في الانتقام منهم وفي عذابهم ورشقهم بسهام لهيبها ومنكئ شررها وتصويب صواعقها {جهنم} أي الطبقة التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة والتكره والفظاظة. فإن حصل لهم في الدنيا عذاب كان زيادة على الكفاية، فاستعجالهم بالعذاب محض رعونة {يصلونها} أي يقاسون عذابها دائماً إني أعددتها لهم. ولما كان التقديرية فإنهم يصيرون إليها ولا بد، تسبب عنه قوله: {فبئس المصير} أي مصيرهم، وسبب ذلك أن اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم ينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون يوهمونهم أنهم يتناجون فيما يسوءهم فيظنون أنه بلغهم شيء من إخوانهم الذين خرجوا في السرايا غزاة في سبيل الله من قتل أو هزيمة فيحزنهم ذلك، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن التناجي في هذه الحالة فلم ينتهوا، وروى أحمد والبزار والطبراني بإسناد- قال الهيثمي في المجمع إنه جيد لأن حماداً سمع من عطاء بن السائب في حالة الصحة- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: سام عليك. ثم يقولون في أنفسهم: لولا يعذبنا الله بما نقول، فنزلت. وروى أبو يعلى عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند ذلك: «إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا وعليك».
ولما نهى عن النجوى وذم على فعلها وتوعد عليه فكان ذلك موضع أن يظن أن النهي عام لكل نجوى وإن كانت بالخير، استأنف قوله منادياً بالأداة التي لا يكون ما بعدها له وقع عظيم، معبراً بأول أسنان الإيمان باقتضاء الحال له: {يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا أنهم أوجدوا هذه الحقيقة {إذا تناجيتم} أي قلع كل منكم الكلام من نفسه فرفعه وكشفه لصاحبه سراً {فلا تتناجوا} أي توجدوا هذه الحقيقة ظاهرة كتناجي المنافقين {بالإثم} أي الذنب وكل فعل يكتب بسببه عقوبة.
ولما عم خص فقال: {والعدوان} أي الذي هو العدو الشديد بما يؤذي وإن كان العادي يظن أنه لا يكتب عليه به إثم. ولما كان السياق لإجلال النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه لا تعرف حقيقة الإثم إلا منه قال تعالى: {ومعصيت الرسول} أي الكامل في الرسلية فإن ذلك يشوش فكره فلا يدعه يبلغ رسالات ربه وهو منشرح الصدر طيب النفس.
ولما علم أن نهيهم إنما هو عن شر يفسد ذات البين هو ما لا يريدون إطلاع النبي صلى الله عليه، صرح بقوله حثاً على إصلاح ذات البين لأن خير الأمور ما عاد بإصلاحها، وشر الأمور ما عاد بإفسادها: {وتناجوا بالبر} أي بالخير الواسع الذي فيه حسن التربية، ولما كان ذلك قد يعمل طبعاً، حث على القصد الصالح بقوله: {والتقوى} وهي ما يكون في نفسه ظاهراً أنه يكون سترة تقي من عذاب الله بأن يكون مرضياً لله ولرسوله.
ولما كانت التقوى أم المحاسن، أكدها ونبه عليها بقوله: {واتقوا الله} أي اقصدوا قصداً يتبعه العمل أن تجعلوا بينكم وبين سخط الملك الأعظم وقاية. ولما كانت ذكرى الآخرة هي مجمع المخاوف ولاسيما فضائح الأسرار على رؤوس الأشهاد قال: {الذي إليه} أي خاصة {تحشرون} أي تجمعون بأيسر أمر وأسهله بقهر وكره، وهو يوم القيامة، فيتجلى فيه سبحانه للحكم بين الخلق والإنصاف بينهم بالعدل ومحاسبتهم على النقير والقطمير لا يخفى عليه خافية ولا تقي منه واقية تنكشف فيه سرادقات العظمة، ويظهر ظهوراً تاماً نفوذ الكلمة، ويتجلى في مجالي العز سطوات القهر، وتنبث لوامع الكبر، فإذا فعلتم ذلك مستحضرين لذلك لم تقدموا على شيء تريدون إخفاءه من النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون ذلك أقر لعينه وأطهر لكم.
ولما شدد سبحانه في أمر النجوى وكان لا يفعلها إلا أهل النفاق، فكان ربما ظن ظان أنه يحدث عنها ضرر لأهل الدين، قال ساراً للمخلصين وغاماً للمنافقين ومبيناً أن ضررها إنما يعود عليهم: {إنما النجوى} أي المعهودة وهي المنهي عنها، وهي ما كره صاحبه أن يطلع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: ما خيله الشيطان من الأحكام المكروهة للإنسان {من الشيطان} أي مبتدئه من المحترق بطرده عن رحمة الله تعالى فإنه الحامل عليها بتزيينها ففاعلها تابع لأعدى أعدائه مخالفة لأوليائه.
ولما بين أنها منه، بين الحامل له على تزيينها فقال: {ليحزن} أي الشيطان ليوقع الحزن في قلوب {الذين آمنوا} أي يتوهمهم أنهم بسبب شيء وقع ما يؤذيهم، والحزن: هم غليظ وتوجع يرق له القلب، حزنه وأحزنه بمعنى، وقال في القاموس: أو أحزنه: جعله حزيناً، وحزنه: جعل فيه حزناً.
فعلى هذا قراءة نافع من أحزن أشد في المعنى من قراءة الجماعة.
ولما كان ربما خيل هذا من من في قلبه مرض أن في يد الشيطان شيئاً من الأشياء، سلب ذلك بقوله: {وليس} أي الشيطان وما حمل عليه من التناجي، وأكد النفي بالجار فقال: {بضارّهم} أي الذين آمنوا {شيئاً} من الضرر وإن قل وإن خفي- بما أفهمه الإدغام {إلا بإذن الله} أي تمكين الملك المحيط بكل شيء علماً وقدرة، روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه» ولما كان التقدير: فقد علم أنه لا يخشى أحد غير الله لأنه لا ينفذ إلا ما أراده، فإياه فليخش المربوبون، عطف عليه قوله: {وعلى الله} أي الملك الذي لا كفوء له، لا على أحد غيره {فليتوكل المؤمنون} أي الراسخون في الإيمان في جميع أمورهم، فإنه القادر وحده على إصلاحها وإفسادها، ولا يحزنوا من أحد أن يكيدهم بسره ولا بجهره، فإنه إذا توكلوا عليه وفوضوا أمورهم إليه، لم يأذن في حزنهم، وإن لم يفعلوا أحزنهم، وخص الراسخين لإمكان ذلك منهم في العادة، وأما أصحاب البدايات فلا يكون ذلك منهم إلا خرق عادة.