فصل: تفسير الآيات (11- 12):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (11- 12):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)}
ولما ذكر ما يحزن من السر لكونه اختصاصاً عن الجليس بالمقال فينشأ عنه ظن الكدر وتباعد القلوب، أتبعه الاختصاص بالمجلس الذي هو مباعدة الأجسام اللازم لها من الظن ما لزم من الاختصاص بالسر في الكلام فينشأ عنه الحزن، معلماً لهم بكمال رحمته وتمام رأفته بمراعاة حسن الأدب بينهم وإن كان من أمور العادة دون أحكام العبادة، فقال مخاطباً لأهل الدرجة الدنيا في الإيمان لأنهم المحتاجون لمثل هذا الأدب: {يا أيها الذين آمنوا} حداهم بهذا الوصف على الامتثال {إذا قيل لكم} أي من أيّ قائل كان فإن الخير يرغب فيه لذاته: {تفسحوا} أي توسعوا أي كلفوا أنفسكم في إيساع المواضع {وفي المجلس} أي الجلوس أو مكانه لأجل من يأتي فلا يجد مجلساً يجلس فيه، والمراد بالمجلس جنس المكان الذي هم ماكثون به بجلوس أو قيام في صلاة أو غيرها لأنه أهل لأن يجلس فيه. وذلك في كل عصر، ومجلس النبي صلى الله عليه وسلم أولى بذلك، وقراءة عاصم بالجمع موضحة لإرادة الجنس {فافسحوا} أي وسعوا فيه عن سعة صدر {يفسح الله} أي الذي له الأمر كله والعظمة الكاملة {لكم} في كل ما تكرهون ضيقه من الدارين.
ولما كانت التوسعة يكفي فيها التزحزح مع دوام الجلوس تارة وأخرى تدعو الحاجة فيها إلى القيام للتحول من مكان إلى آخر قال: {وإذا قيل} أيّ من قائل كان- كما مضى- إذا كان يريد الإصلاح والخير {انشزوا} أي ارتفعوا وانهضوا إلى الموضع الذي تؤمرون به أو يقتضيه الحال للتوسعة أو غيرها من الأوامر كالصلاة أو الجهاد وغيرهما {فانشزوا} أي فارتفعوا وانهضوا {يرفع الله} الذي له جميع صفات الكمال، عبر بالجلالة وأعاد إظهارها موضع الضمير ترغيباً في الامتثال لما للنفس من الشح بما يخالف المألوف {الذين آمنوا} وإن كانوا غير علماء {منكم} أيها المأمورون بالتفسح السامعون للأوامر، المبادرون إليها في الدنيا والآخرة بالنصر وحسن الذكر بالتمكن في وصف الإيمان الموجب لعلو الشأن بطاعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم في سعة صدورهم بتوسعتهم لإخوانهم.
ولما كان المؤمن قد لا يكون من المشهورين بالعلم قال: {والذين} ولما كان العلم في نفسه كافياً في الإعلاء من غير نظر إلى مؤت معين، بنى للمفعول قوله: {أوتوا العلم} أي وهم مؤمنون {درجات} درجة بامتثال الأمر وأخرى بالإيمان، ودرجة بفضل علمهم وسابقتهم- روى الطبراني وأبو نعيم في كتاب العلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من جاءه أجله وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام لم يفضله النبيون إلا بدرجة واحدة»، رواه الدارمي وابن السني في رياضة المتعلمين عن الحسن غير منسوب، قال شيخنا: فقيل: هو البصري فيكون مرسلاً، وعن الزبير: العلم ذكر فلا يحبه إلا ذكور الرجال.
وكلما كان الإنسان أعلم كان أذكر، ولعله ترك التقييد ب من في هذا وإن كانت مرادة ليفهم أن العلم يعلي صاحبه مطلقاً، فإن كان مؤمناً عاملاً بعلمه كان النهاية، وإن كان عاصياً كان أرفع من مؤمن عاص وعار عن العلم، وإن كان كافراً كانت رفعته دنيوية بالنسبة إلى كافر لا يعلم، ودل على ذلك بختم الآية بقوله مرغباً مرهباً: {والله} أي والحال أن المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {بما تعملون} أي حال الأمر وغيره {خبير} أي عالم بظاهره وباطنه، فإن كان العلم مزيناً بالعمل بامتثال الأوامر واجتناب النواهي وتصفية الباطن كانت الرفعة على حسبه، وإن كان على غير ذلك فكذلك، وقدم الجار ومدخوله وإن كان علمه سبحانه بالأشياء كلها على حد سواء تنبيهاً على مزيد الاعتناء بالأعمال، لاسيما الباطنة من الإيمان والعلم اللذين هما الروح الأعظم، لأن المقام لنزول الإنسان عن مكانه بالتفسح والانخفاض والارتفاع، ولا يخفى ما في ذلك من حظ النفس الحامل على الجري مع الدسائس، فكان جديراً بمزيد الترهيب، وسبب الآية أن أهل العلم لما كانوا أحق بصدر المجلس لأنهم أوعى لما يقول صاحب المجلس، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ليليني أولو الأحلام منكم والنهى»، وكان صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء أناس من أهل بدر منهم ثابت بن قيس بن شماس وقد سبق غيرهم إلى المجلس فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم سلموا على القوم فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفعلوا فقال لمن حوله من غير أهل بدر: قم يا فلان وأنت يا فلان، فأقام من المجلس بقدر القادمين من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجوههم، فقال المنافقون: ألستم تزعمون أن صاحبكم يعدل، فوالله ما عدل على هؤلاء، إن قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيهم فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه مكانهم، فأنزل الله هذه الآية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن افسحوا يفسح الله لكم» رواه مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقال الحسن: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قاتل المشركين فصف أصحابه رضي الله عنهم للقتال تشاحوا على الصف الأول فيقول الرجل لإخوانه: توسعوا لنلقى العدو فنصيب الشهادة، فلا يوسعون له رغبة منهم في الجهاد والشهادة، فأنزل الله هذه الآية، وهي دالة على أن الصالح إن كره مجاورة فاسق منع من مجاورته لأنه يؤذيه ويشغله عن كثير من مهماته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» وقال: «أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة فإن جار البادية يتحول» وقال: «شر الناس من لا يآمن جاره بوائقه» فقال تعالى معظماً لرسوله صلى الله عليه وسلم وناهياً عن إبرامه صلى الله عليه وسلم بالسؤال والمناجاة، ونافعاً للفقراء والتمييز بين المخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب الدنيا، ولما نهى عما يحزن من المقال والمقام، وكان المنهي عنه من التناجي إنما هو لحفظ قلب الرسول صلى الله عليه وسلم عما يكدره فهو منصرف إلى مناجاتهم غيره، وكان ذلك مفهماً أن مناجاتهم له صلى الله عليه وسلم لا حرج فيها، وكان كثير منهم يناجيه ولا قصد له إلا الترفع بمناجاته فأكثروا في ذلك حتى شق عليه صلى الله عليه وسلم، وكان النافع للإنسان إنما هو كلام من يلائمه في الصفات ويشاكله في الأخلاق، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبعد الناس من الدنيا تقذراً لها لأجل بغض الله لها، أمر من أراد أن يناجيه بالتصدق ليكون ذلك أمارة على الاجتهاد في التخلق بأخلاقه الطاهرة من الصروف عن الدنيا والإقبال على الله، ومظهراً له عما سلف من الإقبال عليها فإن الصدقة برهان على الصدق في الإيمان، وليخفف عنه صلى الله عليه وسلم ما كانوا قد أكثروا عليه من المناجاة، فلا يناجيه إلا من قد خلص إيمانه فيصدق، فيكون ذلك مقدمة لانتفاعه بتلك المناجاة كما أن الهدية تكون مهيئة للقبول كما ورد: «نعم الهدية أمام الحاجة» فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا أنهم أوجدوا هذه الحقيقة أغنياء كانوا أو فقراء {إذا ناجيتم} أي أردتم أن تناجوا {الرسول} صلى الله عليه وسلم أي الذي لا أكمل منه في الرسلية فهو أكمل الخلق ووظيفته تقتضي أن يكون منه الكلام بما أرسله به الملك وتكون هيبته مانعة من ابتدائه بالكلام، فلا يكون من المبلغين إلا الفعل بالامتثال لا غير {فقدموا} أي بسبب هذه الإرادة العالية على سبيل الوجوب ومثل النجوى كشخص له يدان يحتاج ان يطهر نفسه ليتأهل للقرب من الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {بين يدي نجواكم} أي قبل سركم الذي تريدون أن ترتفعوا به {صدقة} تكون لكم برهاناً قاطعاً على إخلاصكم كما ورد أن الصدقة برهان، فهي مصدقة لكم في دعوى الإيمان التي هي التصديق بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وبكل ما جاء به عن الله تعالى، ومعظمه الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، ولذلك استأنف قوله: {ذلك} أي الخلق العالي جداً من تقديم التصدق قبل المناجاة يا خير الخلق، ولعله أفرده بالخطاب لأنه لا يعلم كل ما فيه من الأسرار غيره.
وعاد إلى الأول فقالك {خير لكم} أي في دينكم من الإمساك عن الصدقة {وأطهر} لأن الصدقة طهرة ونماء وزيادة في كل خير، ولذلك سميت زكاة {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} والتعبير بأفعل لأنهم مطهرون قبله بالإيمان.
ولما أمر بذلك، وكانت عادته أن لا يكلف بما فوق الوسع للتخفيف على عباده لاسيما هذه الأمة قال: {فإن لم تجدوا} أي ما تقدمونه.
ولما كان المعنى الكافي في التخفيف: فليس عليكم شيء، دل عليه بأحسن منه فقال: {فإن الله} أي الذي له جميع صفات الكمال، وأكده لاستبعاد مثله فإن المعهود من الملك إذا ألزم رعيته بشيء أنه لا يسقطه أصلاً ورأساً، ولاسيما إن كان يسيراً، ودل على أنه سبحانه لن يكلف بما فوق الطاقة بقوله: {غفور رحيم} أي له صفتا الستر للمساوئ والإكرام بإظهار المحاسن ثابتتان على الدوام فهو يغفر ويرحم تارة بعدم العقاب للعاصي وتارة للتوسعة للضيق بأن ينسخ ما يشق إلى ما يخف، وهذه الآية قيل: إنها نسخت قبل العمل بها، وقال علي رضي الله عنه: ما عمل بها أحد غيري، أردت المناجاة ولي دينار فصرفته بعشرة دراهم وناجيته عشر مرات أتصدق في كل مرة بدرهم، ثم ظهرت فشق ذلك على الناس، فنزلت الرخصة في ترك الصدقة، وروى النسائي في الكبرى والترمذي وقال: حسن غريب وابن حبان وأبو يعلى والبزار عن علي رضي الله عنه أنه قال: لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مرهم أن يتصدقوا. قلت: بكم يا رسول الله؟ قال: بدينار قلت: لا يطيقون. قال: فنصف دينار، قلت: لا يطيقون، قال: فبكم؟ قلت: بشعيرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لزهيد» فأنزل الله تعالى: {أأشفقتم} الآية. وكان علي رضي الله عنه يقول: بي خفف الله عن هذه الأمة. وعدم عمل غيره لا يقدح فيه لاحتمال أن يكون لم يجد عند المناجاة شيئاً أو أن لا يكون احتاج إلى المناجاة.

.تفسير الآيات (13- 15):

{أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15)}
ولما دل ختم الآية على التخفيف، وكان قد يدعي مدعون عدم الوجدان كذباً فيحصل لهم حرج، وكان تعالى شديد العناية بنجاة هذه الأمة، دل على لطفه بهم بنسخه بعد فرضه. فقال موبخاً لمن يشح على المال نادباً إلى الخروج عنه من غير إيجاب: {أأشفقتم} أي خفتم من العيلة لما يعدكم به الشيطان من الفقر خوفاً كاد أن يفطر قلوبكم {أن تقدموا} أي بإعطاء الفقراء وهم إخوانكم {بين يدي نجواكم} أي للرسول صلى الله عليه وسلم، وجمع لأنه أكثر توبيخاً من حيث إنه يدل على أن النجوى تتكرر، وذلك يدل على عدم خوفهم من مشقة النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ووجود خوفهم من فعل التصدق فقال: {صدقات} وكان بعضهم ترك وهو واجد فبين سبحانه رحمته لهم بنسخها عنهم لذلك في موضع العقاب لغيرهم عند الترك.
ولما كان من قبلنا إذا كلفوا الأمر الشاق وحملوا على التزامه بمثل رفع الجبل فوقهم، فإذا خالفوا عوقبوا، بين فضل هذه الأمة بأنه خفف عنهم، فقال معبراً بما قد يعشر بأن بعضهم ترك عن قدرة: {فإذ} أي فحين {لم تفعلوا} أي ما أمرتم به من الصدقة للنجوى بسبب هذا الإشفاق {وتاب الله} أي الملك الأعلى الذي كان من شأن ما هو عليه من العظمة أن يعاقب من ترك أمره {عليكم} أي رجع بمن ترك الصدقة عن وجدان، وبمن تصدق وبمن لم يجد إلى مثل حاله قبل ذلك من سعة الإباحة والعفو والتجاوز والمعذرة والرخصة والتخفيف قبل الإيجاب ولم يعاقبكم على الترك ولا على ظهور اشتغال ذلك منكم، قال مقاتل بن حيان: كان ذلك عشر ليال ثم نسخ، وقال الكلبي: ما كانت إلا ساعة من نهار. وعلى كل منهما فهي لم تتصل بما قبلها نزولاً وإن اتصلت بها تلاوة وحلولاً {فأقيموا} بسبب العفو عنكم شكراً على هذا الكرم والحلم {الصلاة} التي هي طهرة لأرواحكم ووصلة لكم بربكم {وآتوا الزكاة} التي هي نزاهة لأبدانكم وتطهير ونماء لأموالكم وصلة بإخوانكم، ولا تفرطوا في شيء من ذلك فتهملوه، فالصلاة نور تهدي إلى المقاصد الدنيوية والأخروية، وتعين على نوائب الدارين، والصدقة برهان على صحة القصد في الصلاة.
ولما خص أشرف العبادات البدنية وأعلى المناسك المالية، عم فقال حاثاً على زيادة النور والبرهان اللذين بهما تقع المشاكلة في الأخلاق فتكون المناجاة عن أعظم إقبال وإنفاق فقال: {وأطيعوا الله} أي الذي له الكمال كله فلم يشركه في إبداعه لكم على ما أنتم عليه أحد {ورسوله} الذي عظمته من عظمته في سائر ما يأمر به فإنه ما أمركم لأجل إكرام رسولكم صلى الله عليه وسلم إلا بالحنيفية السمحة، وجعل المحافظة على ذلك قائمة مقام ما أمركم به، ثم نسخه عنكم من تقديم الصدقة على النجوى.
ولما كان قد عفا عن أمر أشعر السياق بأنه وقع فيه تفريط، فكان ذلك ربما جرى على انتهاك الحرمات، رهب من جنابه بإحاطة العلم، وعبر بالخبر لأن أول الآية وبخ على أمر باطن ولم يبالغ بتقديم الجار لما فيها من الأمور الظاهرة. فقال عاطفاً على ما تقديره: فالله يحب الذين يطيعون: {والله} أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً {خبير بما تعملون} أي تجددون عمله، يعلم بواطنه كما يعلم ظواهره.
ولما أخبر بإحاطة علمه ردعاً لمن يغتر بطول حلمه، دل على ذلك باطلاعه على نفاق المنافقين الذي هو أبطن الأشياء، فقال معجباً مرهباً معظماً للمقام بتخصيص الخطاب بأعلى الخلق صلى الله عليه وسلم تنبيهاً على أنه لا يفهم ذلك حق فهمه غيره: {ألم تر} ودل على بعدهم عن الخير بحرف الغاية فقال: {إلى الذين تولوا} أي تكلفوا بغاية جهدهم أن جعلوا أولياءهم الذين ينزلون بهم أمورهم {قوماً} ابتغوا عندهم العزة اغتراراً بما يظهر لهم منهم من القوة {غضب الله} أي الملك الأعلى الذي لا ند له {عليهم} أي على المتولين والمتولَّين لأنهم قطعوا ما بينهم وبينه، والأولون هم المنافقون تولوا اليهود، وزاد في الشناعة عليهم بقوله مستأنفاً: {ما هم} أي اليهود المغضوب عليهم {منكم} أيها المؤمنون لتوالوهم خوفاً من السيف ورغبة في السلم {ولا منهم} أي المنافقين، فتكون موالاتهم لهم لمحبة سابقة وقرابة شابكة، ليكون ذلك لهم عذراً، بل هم مذبذبون، فهم مع المؤمنين بأقوالهم، ومع الكفار بقلوبهم، فما تولوهم إلا عشقاً في النفاق لمقاربه ما بينهم فيه، أو يكون المعنى: ما المنافقون المتولون من المسلمين ولا من اليهود المتولين، وزاد في الشناعة عليهم بأقبح الأشياء الحالم على كل رذيلة، فقال ذاكراً لحالهم في هذا الاتحاد: {ويحلفون} أي المنافقون يجددون الحلف على الاستمرار، ودل بأداة الاستعلاء على أنهم في غاية الجرأة على استمرارهم على الأيمان الكاذبة بأن التقدير: مجترئين {على الكذب} في دعوى الإسلام وغير ذلك مما يقعون فيه من عظائم الآثام، فإذا عوتبوا عليه بادروا إلى الإيمان.
ولما كان الكذب قد يطلق في اللغة على ما يخالف الواقع وإن كان عن غير تعمد بأن يكون الحالف يجهل عدم مطابقته للواقع، قال نافياً لذلك مبيناً أنهم جرؤوا على اليمين الغموس: {وهم يعلمون} أي أنهم كاذبون فهم متعمدون، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «يدخل عليكم رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان» فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق أسمر قصيراً خفيف اللحية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «علام تشتمني أنت وأصحابك، فحلف بالله ما فعل فقال له: فعلت. فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه، فنزلت».
ولما أخبر عن حالهم، أتبعه الإخبار عن مآلهم، فقال دالاًّ- كما قال القشيري- على أن- من وافق مغضوباً عليه أشرك نفسه في استحقاق غضب من هو غضبان عليه، فمن تولى مغضوباً عليه من قبل الله استوجب غضب الله وكفى بذلك هواناً وحزناً وحرماناً، معبراً بما دل على أنه أمر قد فرغ منه: {أعد الله} أي الذي له العظمة الباهرة فلا كفوء له، وعبر بما دل على التهكم بهم فقال: {لهم عذاباً} أي أمراً قاطعاً لكل عذوبة {شديداً} يعلم من رآه ورآهم أن ذواتهم متداعية إليه ضعيفة عنه.
ولما أخبر بعذابهم، علله بما دل على أنه واقع في أتم مواقعه فقال مؤكداً تقبيحاً على من كان يستحسن أفعالهم: {إنهم ساء} أي بلغ الغاية مما يسوء، ودل على أن ذلك كان لهم كالجبلة بقوله: {ما كانوا يعملون} أي يجددون عمله مستمرين عليه لا ينفكون عنه من غشهم المؤمنين ونصحهم الكافرين وعيبهم للإسلام وأهله، واجترائهم على الأيمان الكاذبة، وأصروا على ذلك حتى زادهم التمرن عليه جرأة على جميع المعاصي.