فصل: تفسير الآيات (16- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (16- 19):

{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)}
ولما دلت هذه الجملة على سوء أعمالهم ومداومتهم عليها، أكد ذلك بقوله: {اتخذوا} أي كلفوا فطرهم الأولى المستقيمة لما لهم من العراقة في اعوجاج الطبع والمحبة للأذى {أيمانهم} الكاذبة التي لا تهون على من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان {جنة} أي وقاية وسترة من كل ما يفضحهم من النفاق كائناً ما كان، أو يوجب قتلهم بما يقع منهم من الكفران.
ولما كان علمهم بأنه يرضى منهم بالظاهر ويصدق أيمانهم هو الذي جرأهم على العظائم، فكانوا يرغبون الناس في النفاق بعاجل الشهوات ويثبطونهم عن الدين بما فيه من عاجل الكلف وآجل الثواب، سبب عن قبول إيمانهم قوله مظهراً بزيادة التوبيخ لهم: {فصدوا} أي كان قبول ذلك منهم وتأخير عقابهم سبباً لإيقاعهم الصد {عن سبيل الله} أي شرع الملك الأعلى الذي هو الطريق إلى رضوانه الذي هو سبب الفوز الأعظم، فإنهم كانوا يثبطون من لقوا عن الدخول في الإسلام ويوهون أمره ويحقرونه، ومن رآهم قد خلصوا من المكاره بأيمانهم الحانثة وردت عليهم الأرزاق استدراجاً وحصلت لهم الرفعة عند الناس بما يرضونهم من أقوالهم المؤكدة بالأيمان غره ذلك فاتبع سنتهم في أقوالهم وأفعالهم، ونسج على منوالهم، غروراً بظاهر أمرهم، معرضاً عما توعدهم الله سبحانه عليه من جزاء خداعهم ومكرهم، وأجرى الأمر على أسلوب التهكم باللام التي تكون في المحبوب فقال: {فلهم} أي فتسبب عن صدهم أنهم كان لهم {عذاب مهين} جزاء بما طلبوا بذلك الصد إعزاز أنفسهم وإهانة أهل الإسلام.
ولما كان لهم أموال وأولاد يتعززون بها، قال مستأنفاً دالاًّ على أن من استتر بجنة دون طاعته لتسلم دنياه وراءه تكشف لسهام التقدير من حيث لا يشعر، ثم لا دينه يبقى ولا دنياه تسلم: {لن تغني} أي بوجه من الوجوه {عنهم} أي في الدنيا ولا في الآخرة بالافتداء ولا بغيره {أموالهم} وأكد النفي بإعادة النافي للتنصيص على كل منهما فقال: {ولا أولادهم} أي بالنصرة والمدافعة {من الله} إي إغناء مبتدئاً من الملك الأعلى الذي لا كفوء له {شيئاً} أي من إغناء ولو قل جدّاً، فمهما أراد بهم سبحانه كان ونفد ومضى، لا يدفعه شيء تكذيباً لمن قال منهم: لئن كان يوم القيامة لتكونن أسعد فيه منكم كما نحن الآن ولننصرن بأنفسنا وأموالنا وأولادنا. ولما انتفى الإغناء المبتدئ من الله فانتفى بانتفائه كل إغنائه سواه، أنتج ذلك قوله: {أولئك} أي البعداء من كل خير {أصحاب النار} ولما أفهمت الصحبة الملازمة، أكدها بقوله: {هم} أي خاصة لاضمحلال عذاب غيرهم- لكونهم في الهاوية- في جنب عذابهم {فيها} أي خاصة دون شيء يقصر عنها {خالدون} أي مقيمون باقون دائمون لازمون إلى غير نهاية.
ولما كان إفسادهم لذات البين سراً، وحلفهم على نفي ذلك جهراً مع الإلزام بقبول ما ظهر من ذلك منهم مع علمه سبحانه وتعالى بأنه كذب غائظاً موجعاً، وكان ربما توهم متوهم أنه تعالى كما ألزم بقبولنا لما ظهر منهم في دار العمل يأمر بقبولهم في دار الجزاء، قال نافياً لذلك معزياً للمؤمنين بأنهم يفعلون ذلك معه سبحانه بعد كشف الغطاء وتحقيق الأمور، لأن الإنسان يبعث على ما مات عليه، لأن ذلك جبلته التي لا ينفك عنها، ولا ينفعهم ذلك، ذاكراً ظرف الخلود وإظهار التعذيب: {يوم يبعثهم الله} أي الملك الذي له جميع صفات الكمال بإحيائهم عما كانوا فيه من الموت وردهم إلى ما كانوا قبله {جميعاً} لا يترك أحداً منهم ولا من غيرهم إلا أعاده إلى ما كان عليه قبل موته {فيحلفون} أي فيتسبب عن ظهور القدرة التامة لهم ومعاينة ما كانوا يكبون به من البعث والنار أنهم يحلفون {له} أي الله في الآخرة أنهم مسلمون فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين، ونحوه من الأكذوبات التي تزيدهم ضرراً، ولا تغني عنهم شيئاً بوجه من الوجوه، جرياً على ما طبعوا عليه من إيثار الهوى والقصور على النظر في المحسوسات التي ألفوها {كما يحلفون} في الدنيا {لكم} لكونكم لا تعلمون الغيب مع توقعهم أن الله يفضحهم كما فعل لهم ذلك مراراً، وحلفهم ناشئ عن اعتقاد بعدهم من القبول فإنه لا يحلف لك إلا من يظن أنك تكذبه: قال القشيري: عقوبتهم الكبرى ظنهم الأجنبية، وغاية الجهد كبهم على مناخرهم في وهدة ندمهم.
ولما كان الذي يحملهم على الإقدام على ذلك ضعف عقولهم وتوغلهم في النفاق ومرودهم عليه حتى بعثوا على مثل ذلك مع علمهم بأن ذلك لا ينجيهم لإحاطة علمه سبحانه، عبر بالحسبان، فقال دالاًّ على أنهم في الغاية من الجهل وقلة العقل: {ويحسبون} أي في القيامة بأيمانهم الكاذبة {أنهم على شيء} أي يحصل لهم به نفع لتخيلهم أن أيمانهم تروج على الله فتنجيهم كما كانت في الدنيا تنجيهم.
ولما أفهم ذلك أن أمورهم لا حقائق لها لا في إخباراتهم ولا في أيمانهم ولا في حسبانهم، قال منادياً عليهم مؤكداً لتكذيب حسبانهم: {ألا إنهم} أي خاصة {هم الكاذبون} أي المحكوم بكذبهم في حسبانهم وفي أخبارهم في الدارين لعراقتهم في وصف الكذب حيث لا يستحيون من الكذب عند الله.
ولما كان هذا الانهماك فيما لا يغني مما يحصل لسامعه غاية العجب من وقوع عاقل فيه مرة من الدهر، فضلاً عن ملازمته، أخبر عن الحامل لهم عليه، فقال مستأنفاً: {استحوذ} أي طلب أن يغلب ويسوق ويسرع ويضرب الحوطة ويحث ويقهر ويستولي {عليهم الشيطان} مع أنه طريد ومحترق، ووجد منه جميع ذلك، ووصل منهم إلى ما يريده، وملكهم ملكاً لم يبق لهم معه اختيار فصاروا رعيته وأقطاعه، وصار هو محيطاً بهم من كل جهة، غالباً عليهم ظاهراً وباطناً، من قولهم: حذت الإبل أي استوليت عليها، وحاذ الحمار العانة- إذا جمعها وساقها غالباً لها، والحوذ: السوق السريع، ومنه الأحوذي: الخفيف في المشي لحدقه، وجاء على الأصل على حكم الصحيح لأنه لم يبن على حاذ كافتقر فإنه لا مجرد له، لم يقولوا: فقر: {فأنساهم} أي فتسبب عن استحواذه عليهم أنه أنساهم {ذكر الله} أي الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى بعد أن كان ذكره مركوزاً في فطرهم الأولى، فصاروا لا يذكرونه أصلاً بقلب، ولا لسان.
ولما كان ذلك، أنتج ولابد قوله: {أولئك} أي الذين أحلوا أنفسهم أبعد منزل {حزب الشيطان} أي أتباعه وجنده وجماعته وطائفته وأصحابه والمحدقون به والمتحيزون إليه لدفع ما حزبه أي نابه واشتد عليه، المبعدون المحترقون لأنهم تبعوه ولم يخافوا في مجازيته وإنفاذ ما يريد لومة لائم مع أنه كله نقائص ومعايب، وهم مطبوعون على بغضه، وتركوا من له الكمال كله، وكر وحبه مركوز في فطرهم، فلذلك كانت ترجمة هذا ونتيجته قوله: {ألا} وأكد لظنهم الريح بما لهم في الدنيا من الكثرة وظهرو التعاضد والاستدراج بالبسط والسعة فقال: {إن حزب الشيطان} أي الطريد المحترق {هم} أي خاصة {الخاسرون} أي العريقون في هذا الوصف لأنهم لم يظفروا بغير الطرد والاحتراق.

.تفسير الآيات (20- 22):

{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)}
ولما بين ما أوصلهم إليه نسيان الذكر من الخسار، بين أنه أوقعهم في العداوة، فقال معللاً الخسار والنسيان والتحزب، وأكد تكذيباً لحالفهم على نفي ذلك مظهراً موضع الإضمار للتنبيه على الوصف الموقع في الهلاك: {إن الذين يحادون} ولعل الإدغام لسترهم ذلك الإيمان، ويفهم منه الحكم على من جاهر بطريق الأولى {الله} أي يفعلون مع الملك الأعظم الذي لا كفوء له فعل من ينازع آخر في أرض فيغلب على طائفة منها فيجعل لها حداً لا يتعداه خصمه {ورسوله} الذي عظمته من عظتمه.
ولما كانوا لا يفعلون ذلك إلا لكثرة أعوانهم وأتباعهم، فيظن من رآهم أنهم الأعزاء الذين لا أحد أعز منهم، قالتعالى نفياً لهذا الغرور الظاهر: {أولئك} أي الأباعد الاسافل {في الأذلين} أي الذين يعرفون أنهم أذل الخلق بحيث يوصف كل منهم بأنه الأذل مطلقاً من غير مفضل عليه ليعم كل من يمكن منه ذل، وذلك في الدنيا والآخرة سواء كانوا فارس والروم أو أعظم منهم سواء كانوا ملوكاً كفرة كانوا أو فسقة، كما قال الحسن: إن للمعصية في قلوبهم لذلاً، وإن طقطقت بهم اللجم. ولما أنزلهم بالحضيض الأسفل، علل ذلك بما يدل على أنه سبحانه لا شريك له بإتمام كلماته بنصر أوليائه على ضعفهم وخذلان أعدائه على قوتهم لأنه سبحانه لا غيب محض لا دلالة عليه إلا بأفعاله فقال: {كتب} أي فعل فعل من أبرم أمراً ففرغ منه وكتبه فأوجب وحتم وقضى وبت {الله} أي الملك الذي لا كفوء له {لأغلبنَّ} أكد لما لهم من ظن الغلب بالكثرة والقوة {أنا ورسلي} أي بقوة الجدال وشدة الجلاد، فهو صادق بالنسبة إلى من بعث بالحرب، وإلى من بعث بالحجة، وعلل هذا القهر بقوله مؤكداً لأن أفعالهم مع أوليائه أفعال من يظن ضعفه: {إن الله} أي الذي له الأمر كله {قوي} فهو يفيض من باطن قوته من يظهر به ظاهر قدرته أوليائه، فإن القوي من له استقلال باطن بما يحمله القائم في الأمر ولو ضوعف عليه ما عسى أن يضاعف وحمايته مما يتطرق إلى الإجلال بشدة وبطش منبعث عن ذلك الاستقلال الباطن، وما ظهر من أثر ذلك فهو قدرة، فلا اقتدار يظهر من الخلق إلا بالاستناد إلى القوة بالله، ولا قيام بالحقيقة لباطن إلا بالله الذي بيده ملكوت كل شيء، فلذلك كان بالحقيقة لا قوي إلا هو.
ولما كان القوي من المخلوقات قد يكون غيره أقوى من غيره ولو في وقت، نفى ذلك بقوله: {عزيز} أي غالب غلبة لا يجد معها المغلوب نوع مدافعة وانفلات، ثابت له هذا الوصف دائماً.
ولما ظهر بهذا كالشمس أن من والاه سبحانه كان فائزاً، ومن عاداه كان خاسراً، كانت نتيجته قطعاً التحذير من موالاة أعداء الله في سياق النفي المفيد للمبالغة في النهي عنه والزجر عن قربانه فقال: {لا تجد} أي بعد هذا البيان {قوماً} أي ناساً لهم قوة على ما يريدون محاولته {يؤمنون} أي يجددون الإيمان ويديمونه {بالله} أي الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى {واليوم الآخر} الذي هو موضع الجزاء لكل عامل بكل ما عمل، الذي هو محط الحكمة {يوادون} أي يحصل منهم ودل لا ظاهراً ولا باطناً- بما أشار إليه الإدغام وأقله الموافقة في المظاهرة {من حاد الله} أي عادى بالمناصبة في الحدود الملك الأعلى لذلك فالمحادة لا تخفى وإن كانت باطنة يستتر بها زيادة النفرة منهم {ورسوله} فإن من حاده فقد حاد الذي أرسله، بل لا تجدهم إلا يحادونهم، لا أنهم يوادونهم، وزاد ذلك تأكيداً بقوله: {ولو كانوا آباءهم} الذين أوجب الله على الأبناء طاعتهم بالمعروف، وذلك كما فعل أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه، قتل أباه عبد الله بن الجرح يوم أحد {أو آبناءهم} الذي جبلوا على محبتهم ورحمتهم كما فعل أبو بكر رضي الله عنه فإنه دعا ابنه يوم بدر إلى المبارزة، وقال: دعني يا رسول الله أكن في الرعلة الأولى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «متعنا بنفسك يا أبا بكر، أما تعلم أنك بمنزلة سمعي وبصري» {أو إخوانهم} الذين هم أعضادهم كما فعل مصعب بن عمير رضي الله عنه، قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد وخرق سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الصفوف يومئذ على أخيه عتبة بن أبي وقاص غير مرة ليقتله فراع عنه روعان الثعلب، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أتريد أن تقتل نفسك وقتل محمد بن مسلمة الأنصاري رضي الله عنه أخاه من الرضاع كعب بن الأشرف اليهودي رأس بني النضير {أو عشيرتهم} الذين هم أنصارهم وأمدادهم كما فعل عمر رضي الله عنه، قتل خاله العاصي بن هشام بن المغيرة يوم بدر وعلي وحمزة وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم قتلوا يوم بدر بني عمهم عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة، وعن الثوري أن السلف كانوا يرون أن الآية نزلت فيمن يصحب السلطان- انتهى. ومدار ذلك على أن الإنسان يقطع رجاءه من غير الله، وإن لم يكن كذلك لم يكن مخلصاً في إيمانه.
ولما كان لا يحمل على البراءة ممن هذا شأنه إلا صريح الإيمان، أنتج قوله: {أولئك} أي الأعظمون شأناً الأعلون همماً {كتب} أي وصل وأثبت وصلاً وهو في لحمته كالخرز في الأديم، وكالطراز في الثوب الرقيم، فلا انفكاك له {في قلوبهم الإيمان} فجعلها أوعية له فأثمر ذلك نور الباطن واستقامة الأعمال في الظاهر {وأيدهم} أي قواهم وشددهم وأعانهم وشجعهم وعظمهم وشرفهم {بروح} أي نور شريف جداً يفهمون به ما أودع في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من كنوز العلم والعمل فهو لقلوبهم كالروح للأبدان، فلا يفعلون شيئاً من أحوال أهل الجاهلية كالمظاهرة، وزاد هذا التأييد شرفاً بقوله: {منه} أي أحياهم به فلا انفكاك لذلك عنهم في وقت من الأوقات فأثمر لهم استقامة المناهج ظاهراً وباطناً، فقهروا بالدلائل والحجج، وظهروا بالسيف المفني للمهج، وعملوا الأعمال الصالحة فكانوا للدنيا كالسرج، فلا تجد شيئاً أدخل في الإخلاص من موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه، بل هو عين الإخلاص، ومن جنح إلى منحرف عن دينه أو داهن مبتدعاً في عقده نزع الله نور التوحيد من قلبه.
ولما أخبر بما آتاهم في الدنيا وهو غير مفارق لهم في الآخرة، أخبر بما يؤتيهم في الآخرة فقال: {ويدخلهم جنات} أي بساتين يستر داخلها من كثرة أشجارها، وأخبر عن ريها بقوله: {تجري} ولما كانت المياه لو عمت الأرض لم يكن بها مستقر، أثبت الجار فقال: {من تحتها الأنهار} أي فهي لذلك كثيرة الرياض والأشجار والساحات والديار. ولما كان ذلك لا يلذ إلا بالدوام قال: {خالدين فيها}.
ولما كان ذلك لا يتم إلا برضا مالكها قال: {رضي الله} أي الملك الأعظم الذي له الأمر كله فلا التفات إلى غيره {عنهم} ولما كان ذلك لا يكمل سروره إلا برضاهم ليتم حسن المجاورة قال: {ورضوا عنه} أي لأنه أعطاهم فوق ما يؤملون. ولما أخبر عنهم بما يسر كل سامع فيشتاق إلى مصاحبتهم ومعاشرتهم ومرافقتهم ومقاربتهم ومدحهم وعرفهم بقوله: {أولئك} أي الذين هم في الدرجة العليا من العظمة لكونهم قصروا ودهم على الله علماً منهم بأنه ليس النفع والضر إلا بيده {حزب الله} أي جند الملك الأعلى الذي أحاط بجميع صفات الكمال وأولياءه، فإنهم هم يغضبون له ولا يخافون فيه لومة لائم. ولما تبين مما أعد لهم وأعد لأضدادهم أنهم المختصون بكل خير، قال على طريق الإنتاج مما مضى مؤكداً لما لأضدادهم من الأنكاد: {ألا إن حزب الله} أي جند الملك الأعلى وهم هؤلاء الموصوفون ومن والاهم {هم} أي خاصة لا غيرهم {المفلحون} أي الذين حازوا الظفر بكل ما يؤملون في الدارين، وقد علم من الرضى من الجانبين والحزبية والإفلاح عدم الانفكاك عن السعادة فأغنى ذلك عن تقييد الخلود بالتأييد، خصهم بذلك لأن له العزة والقوة والعلم والحكمة، فلذلك علم أمر المجادلة ورحم شكواها لأنها من حزبه وسمع لها، ومن سمع له فهو مرضي عنه، وحرم الظهار بسبب شكواها إكراماً لها بحكمته لأنه منابذ للحكمة لأنه تشبيه خارج عن قادة التشبيهات، وفيه امتهان للأم التي لها في دينه غاية الإكرام بالتسوية بالزوجة التي هي محل الافتراش، وختم آيها بأن من تعدى حدوده فعاود أحوال الجاهلية فهو مجادله سبحانه فهو من حزب الشيطان، فقد عاد آخرها إلى أولها بأدل دليل على أحسن سبيل، لأن هذا القرآن العظيم أشرف حديث وأقوم قيل وهذا مقصود التي بعدها، ولا شك أنه موجب للتنزيه مبعد عن التشريك والتشبيه، فسبحان من أنزله آية دائمة البيان، موجبة للإيمان، قامعة للطغيان، على مدى الدهور وتطاول الأزمان.