فصل: سورة الطلاق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.سورة الطلاق:

.تفسير الآية رقم (1):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)}
لما ختمت التغابن بأنه تعالى شكور حليم عزيز حكيم مع تمام العلم وشمول القدرة، بعد التحذير من النساء بالعداوة، وكانت العداوة تجر إلى الفراق، افتتح هذه بزم لأنفس عند ثوران الحظوظ بزمام التقوى، وأعلى الخطاب جداً بتوجيهه إلى أعلى الخلق تنبيهاً على عظمة الأحكام الواردة في هذه السورة فإنها مبنية على الأسماء الأربعة لتتلقى بغاية الرغبة فقال: {يا أيها النبي} مخصصاً له صلى الله عليه وسلم، ذاكراً الوصف الذي هو سبب التلقي لغرائب العلوم ورغائب الحكم والفهوم.
ولما علم من الإقبال عليه صلى الله عليه وسلم عظمة الحكمة، ومن التعبير في النداء بأداة التوسط التي لا تذكر في أمر مهم جداً أن الذي هو أقرب أهل الحضرة غير مقصود بها من كل وجه، وأن القصد التنبيه لجلالة هذه الأحكام، وبذل الجهد في تفهيمها والعمل بها، فلذا أقبل على الأمة حين انتبهوا وألقوا أسماعهم، فقال معبراً بأداة التحقق لأنه من أعظم مواضعها: {إذا طلقتم} وعلم من ذلك عموم الحكم له صلى الله عليه وسلم لكن لما كان للإنسان مع نسائه حالان أحدهما المشاححة، كان غيره أولى بالخطاب فيه، وثانيهما الجود والمصالحة بالحلم والعفو، فكان هو صلى الله عليه وسلم أولى بذلك فجاءت له سورة التحريم {النساء} أي أردتم طلاق هذا النوع واحدة منه فأكثر {فطلقوهن} أي إن شئم مطلق طلاق ثلاثاً أو دونها، وكلما قل كان أحب بدليل ما يأتي من لواحق الكلام من الإشارة إلى الرجعة {لعدتهن} أي في وقت أو عند استقبال العدة أي استقبال طهر يحسب منها، وهو الطهر الذي لم يجامع فيه إن كانت مدخولاً بها، ذلك معنى قراءة ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم: {في قبل عدتهن} فهذا طلاق السنة وغيره طلاق البدعة، فإن الطلاق في الحيض تطويل للعدة لأنه غير محسوب، ولابد أن يكون الطهر لم يجامع فيه لأنها إذا جومعت ربما حملت فطالت العدة، وهذه اللام للوقت مثلها في كتب هذا لخمس بقين من شهر كذا واختير التعبير بها لأنها تفهم مع ذلك أن ما دخلت عليه كالعلة الحاملة على متعلقها، فصار كأنه قيل: طلقوا لأجل العدة وإذا كان لأجلها علم أن المراد تخفيفها على المرأة بحسب الطاقة لأن مبنى الدين على اليسر، وذلك دال على أن العدة بالأسهار، وأن الطلاق في الحيض حرام لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، ولا يدل على عدم الوقوع لأن النهي غير مستلزم للفساد، وقد بين ذلك كله حديث ابن عمر رضي الله عنهما في طلاقه زوجته في الحيض الذي كان سبب النزول، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وأمره أن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمس، وعلم أن من عدتها بغير الأقراء التي يمكن طولها وقصرها وهي غير المدخول بها والتي لم تحض والآئسة والحامل لا سنة في طلاقها ولا بدعة، وكذا للخالعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لثابت بن قيس رضي الله عنه في الخلع من غير استفصال عن حال امرأته لأنه إنما يكون في الغالب عن تشاجر وتساؤل من المرأة، ويقع الطلاق البدعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر رضي الله عنهما بالمراجعة منه، ويأثم به بعد العلم، ولو طلق في الحيض وراجع جاز له أن يطلق حال انقضاء الحيض قبل المجامعة، والأمر بالإمساك إلى كمال الطهر والحيض الذي بعده للندب حتى لا يكون في صورة من راجع للطلاق، ولا بدعة في جمع الثلاثة لأنه لا إشارة إليه في الآية ولا في حديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي هو سببها، نعم قد يدعي ذلك في آية البقرة في قوله تعالى: {الطلاق مرتان} [البقرة: 229] و«الطلاق أبغض الحلال إلى الله» كما رواه أبو داود وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما فأبغضه إليه أنهاه «وما حلف به ولا استحلف إلا منافق» كما في الفردوس عن أنس رضي الله عنه.
ولما كان نظر الشارع إلى العدة شديداً لما فيها من الحكم بالتأني لاحتمال الندم وبالظن لبراءة الرحم احتياطاً للأنساب وبقطع المنازعات والمشاجرات المفضية إلى ذهاب الأموال والارواح، وقد أفهمه التعبير باللام، صرح به بصيغة الأمر فقال: {وأحصوا} أي اضبطوا ضبطاً كأنه في إتقانه محسوس بعد الحصي {العدة} لتكملوها ثلاثة أقراء كما تقدم الأمر به ليعرف زمان النفقة والرجعة والسكنى وحل النكاح لأخت المطلقة مثلاً ونحو ذلك من الفوائد الجليلة. ولما كان الطلاق على غير هذا الوجه حراماً للضرار ومخالفة الأمر وكذا التهاون في الضبط حتى يحتمل أن تنكح المرأة قبل الانقضاء، أمر بمجانبة ذلك كله بقوله: {واتقوا} أي في ذلك {الله} أي الملك الأعظم الذي له الخلق والأمر لذاته في الزمن والإحصاء لأن في ذلك ما هو حقه {ربكم} أي لإحسانه في تربيتكم في حملكم على الحنيفية السمحة ودفع جميع الآصار عنكم.
ولما أمر بالتقوى وناط بعضها بصفة الإحسان فسره بقوله: {لا تخرجوهن} أي أيها الرجال في حال العدة {من بيوتهن} أي المساكن التي وقع وهي سكنهن، وكأنه عبر بذلك إشارة إلى أن استحقاقها لإيفاء العدة به في العظمة كاستحقاق المالك، ولأنها كانت في حال العصمة كأنها مالكة له، فليس من المروءة إظهار الجفاء بمنعها منه، ولأنها إن روجعت كانت حاصلة في الحوزة ولم يفحش الزوج في المقاطعة، وإن لم يحصل ذلك فظهر أنها حامل لم تحصل شبهة في الحمل.
ولما كان ذلك ربما أفهم أنه لحقهن فقط نفاه بقوله: {ولا يخرجن} أي بأنفسهن إن أردن ذلك من غير مخرج من جهة الزوج أو غيره، فعلم من ذلك تحتم استكمال العدة في موضع السكنى وأن الإسكان على الزوج، وتخرج لضرورة بيع الغزل وجذاذ النخل ونحوه. ولما كان منطوق ذلك أنه لا يجوز له إخراجها كارهة، ولا يجوز لها أن تخرج بنفسها فقط وهو كاره فأفهم ذلك أنهما لو اتفقا جاز لأن ذلك خارج عن المنهي، استثنى من كلا شقي المنهي عنه بقوله. {إلآ أن يأتين} أي جنس المطلقات الصادق بواحدة وأكثر {بفاحشة} أي خصلة محرمة شديدة القباحة {مبينة} أي ظاهرة في نفسها ظهوراً بيناً عند كل من أريد بيانها له، وذلك كالبذاءة منها على الزوج أو أقاربه فإنه كالنشوز يسقط حقها من السكنى، فيجوز له إخراجها لقطع الشر، وهو معنى قراءة أبي رضي الله عنه: إلا أن يفحشن عليكم، وكالزنا فتخرج بنفسها ويخرجها غيرها من الزوج وغيره لإقامة الحد عليها وغير ذلك من الفواحش كما أنه يطلقها للنشوز فإنه لا سكنى لها حينئذ.
ولما كان التقدير: هذه أحكام هذا الفرع، عطف عليه تعظيماً لها قوله تعالى: {وتلك} أي الأحكام العالية جداً بما فيها من الجلالة وبانتسابها إلى الملك الأعلى من هذا الذي ذكر في هذه السورة وغيره {حدود الله} أي الملك الأعظم الذي هو نور السماوات والأرض. ولما كان التقدير: فمن تحاماها فقد أنصف نفسه بأخذه النور المبين، عطف عليه قوله: {ومن يتعد} أي يقع منه في وقت من الأوقات أنه يتعمد أن يعدو {حدود الله} أي الملك الأعظم {فقد ظلم نفسه} بأن مشاها في الظلام فصارت تضع الأشياء في غير مواضعها، فصار بمعرض الهلاك بالعقاب كما أن الماشي في الظلام معرض للوقوع في حفرة والدوس على شوكة أو حية أو عقرب أو سبع، أو لأن ينفرد بقاطع، أو أن يضل عن الطريق إلى مهالك لا يمكن النجاة منها، ومثال ذلك الحكيم إذا وصف دواء بقانون معلوم في وقت محدود ومكان مخصوص فخولف لم يضر المخالف ذلك الحكيم وإنما ضر نفسه.
ولما كان له الخلق جميعاً تحت أوامره سبحانه مع أنها كلها خير لا شر فيه بوجه إسرار وإغوار، لا تدرك ولا تحصى، وقد يظهر بعضها لسان الحدثان بيد القدرة، وكان متعديها ظالماً وكان من أقرب ظلمه وأبينه الإيقاع في مهاوي العشق، فسره سبحانه بقوله مبيناً عظمته بخطاب الإعلاء: {لا تدري} أي يا أيها النبي الكريم ما يكون عن ذلك من الأمور التي يحدثها الله لتشير على المطلق بشيء مما يصلحه فغيرك من باب الأولى.
ولما نفى عنه العلم المغيب لاختصاصه سبحانه به وحذف المتعلق إعراقاً في التعميم، وكان كل أحد فيما يحدث له من الأمور ما بين رجاء وإشفاق، عبر عن ذلك بأداة صالحة لها فقال: {لعل الله} أي الذي بيده القلوب ومقاليد جميع الأمور {يحدث} أي يوجد شيئاً حادثاً لم يكن إيجاداً ثابتاً لا يقدر الخلق على التسبب في زواله فيكون مستغرقاً لزمان العمر كما أشار إليه نزع الخافض في قوله تعالى: {بعد ذلك} أي الحادث من الإشارة بالضرار بالإخراج أو تطويل العدة أو غير ذلك {أمراً} أي من الأمور المهمة كالرغبة المفرطة في الزوجة فلا يتأتى ذلك إما بأن كان الضرار بالطلاق الثلاث أو بأن كانت من ذوي الأنفة فأثرت فيها الإساءة وفيمن ينتصر لها فمنعت نفسها منه.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تقدم قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله} [المنافقين: 9] وقوله في التغابن: {إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم} [التغابن: 14] وقوله تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} [التغابن: 15] والمؤمن قد يعرض له ما يضطره إلى فراق من نبه على فتنته وعظيم محنته، وردت هذه السورة منبهة على كيفية الحكم في هذا الافتراق، وموضحة أحكام الطلاق، وأن هذه العداوة وإن استحكمت ونار هذه الفتنة، إن اضطرمت لا توجب التبرؤ بالجملة وقطع المعروف {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً} [الطلاق: 1] ووصى سبحانه بالإحسان المجمل في قوله: {أو تسريح بإحسان} [البقرة: 229] وبين تفصيل ذلك وما يتعلق به، فهذا الرفق المطلوب بإيقاع الطلاق في أول ما تستعده المطلقة في عدتها وتحسبه من مدتها تحذيراً من إيقاع الطلاق في الحيض الموجب تطويل العدة وتكثير المدة، وأكد هذا سبحانه بقوله: {واتقوا الله ربكم} [الطلاق: 1] ثم نبه سبحانه على حقهن أيام العدة من الإبقاء في مستقرهن حين إيقاع الطلاق إلى انقضاء العدة فقال: {لا تخرجوهن من بيوتهن} [الطلاق: 1] إلى ما استمرت عليه السورة من بيان الأحكام المتعلقة بالطلاق وتفصيل ذلك كله. ولما كان الأولاد إذا ظهر منهم ما يوجب فراقهم وإبعادهم غير مفترقين إلى ما سوى الرفض والترك بخلاف المرأة، لم يحتج إلى ما احتيج إليه في حقهن فقد وضح وجه ورود سورة الطلاق في هذا الموضع- والله سبحانه وتعالى أعلم انتهى.

.تفسير الآيات (2- 3):

{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)}
ولما حد سبحانه ما يفعل في العدة، أتبعه ما يفعل عند انقضائها فسبب عما أمره بها فيها معبراً بأداة التحقق لأن الخطاب على تقدير الحياة، معلماً أن له الرجعة إلى آخر جزء من العدة لأنها إذا ثبتت في آخرها البعيد من الطلاق كان ما قبله أولى لأنه أقرب إلى الطلاق فقال: {فإذا بلغن} أي المطلقات {أجلهن} أي شارفن انقضاء العدة مشارفة عظيمة {فأمسكوهن} أي بالمراجعة، وهذا يدل على أن الأولى من الطلاق ما دون البائن لاسيما الثلاث. ولما كان الإنسان لما له من النقصان لا يقدر على كمال الإحسان قال منكراً: {بمعروف} أي حسن عشرة لا بقصد المضارة بطلاق آخر لأجل إيجاب عدة أخرى ولا غير ذلك {أو فارقوهن} أي بعدم المراجعة لتتم العدة فتملك نفسها {بمعروف} بإيفاء الحق مع حسن الكلام وكل أمر عرفه الشرع- أي حسنه- فلا يقصد أذاها بتفريقها من ولدها مثلاً أو منه إن كانت محبة له مثلاً بقصد الأذى فقط من غير مصلحة وكذا ما أشبه ذلك من أنواع الضرر بالفعل أو القول، فقد تضمنت الآية بإفصاحها الحث على فعل الخيرات وبإبهامها اجتناب المنكرات.
ولما كان كل من المرافقة والمفارقة أمراً عظيماً، تبنى عليه أحكام فتحرم أضدادها، فيكون الخلاف فيها في غاية الخطر، وكان الإشهاد أليق بالمراد، وأقطع للنزاع، قال تعالى حاثاً على الكيس واليقظة والبعد عن أفعال المغفلين العجزة: {وأشهدوا} أي على المراجعة أو المفارقة {ذوي عدل} أي مكلفين حرين ثقتين يقظين {منكم} أي مسلمين وهو أمر إرشاد مندوب إليه، وعن الشافعي رضي الله تعالى عنه وجوبه في الرجعية والصحيح الأول، ومن فوائده أن لا يموت أحدهما فيدعي الآخر الزوجية ببقاء علقة العدة ليرث.
ولما كان أداء الشهادة يعسر على الشاهد لترك مهماته وعسر لقاء الحكم الذي يؤدي عنده، وربما بعد مكانه، وكان للعدل في الأداء عوائق أيضاً، وكان الشهود من المأمورين بالإشهاد، حث على الأداء على وجه العدل بقوله: {وأقيموا} أي أيها المأمورون حيث كنتم شهوداً {الشهادة} أي التي تحملتموها بأدائها على أكمل أحوالها كما يفعل من يريد إقامة شيء ليصير واقفاً بنفسه غير محتاج إلى ما يدعمه. ولما كان ربما ميل أحد من المشهود عليهما الشاهد بشيء من المرغبات فأداها على وجهها لذلك الشيء لا لكونه الحق، قال مرغباً مرهباً {لله} أي مخلصين لوجه الملك الأعلى المحيط بكل شيء علماً وقدرة وهو ذو الجلال والإكرام في أدائها على وجه الحق ظاهراً وباطناً، لا لأجل المشهود له ولا المشهود عليه، ولا شيء سوى وجه الله.
ولما كانت أحكامه سبحانه وتعالى لاسيما في الكتاب المعجز مقرونة بعللها وفيها عند التأمل رقائق ودقائق تخشع لها القلوب وتجب الأفئدة في داخل الصدور قال {ذلكم} أي الذي ذكرت لكم أيتها الأمة من هذه الأمور البديعة النظام العالية المرام، وأولاها بذلك هنا الإشهاد وإقامة الشهادة.
ولما كانت أوامر الله تعالى وقصصه وأحكامه وجميع كلامه مختصاً من بين كلام الناس بأنه يرقق القلوب ويلين الشكائم لكونه روحاً لما فيه العدل الذي تهواه النفوس، وتعشقه الألباب، وتميل إليه الطبائع، وقامت به السماوات والأرض، ولما فيه أيضاً من ذكر من تعشقه الفطر القويمة من جميع أهل الخير من الأنبياء والملائكة والأولياء، مع تشريف الكل بذكر الله، سمي وعظاً، وبني للمجهول إشارة إلى أن الوعظ بنفسه نافع ولو لم يعرف قائله، وإلى أن الفاعل معروف أنه الله لكونه سمي وعظاً مع كونه أحكاماً فقال: {يوعظ به} أي يلين ويرقق {من كان} أي كوناً راسخاً، من جميع الناس {يؤمن بالله} أي يوقع ويجدد منكم ومن غيركم على سبيل الاستمرار من صميم قلبه الإيمان بالملك الذي له الكمال كله.
ولما كان البعث محط الحكمة لأن الدنيا مزرعة للآخرة، ولا يكون زرع بغير حصاد، كان خلو الإيمان عنه معدماً للإيمان فقال: {واليوم الآخر} فإنه المحط الأعظم للترقيق، أما من لم يكن متصفاً بذلك فكأنه لقساوة قلبه ما وعظ به لأنه لم ينتفع به أبداً.
ولما كانت العبادة لا تكون إلا بالإعانة، وكان التقدير: فمن اتعظ بذلك كان اتعاظه شاهداً له بإيمانه بذلك، وكان متقياً، عطف عليه قوله اعتراضاً بين هذه الأحكام تأكيداً للترغيب في الإعانة المترتبة على التقوى: {ومن يتق الله} أي يخف الملك الأعظم فيجعل بينه وبين ما يسخطه وقاية مما يرضيه، وهو اجتلاب ما أمر به واجتناب ما نهى عنه من الطلاق وغيره ظاهراً وباطناً، وذلك صلاح قوي العلم بالإيمان والعمل بفعل المأمور به وترك المنهي عنه لأنه تقدم أن التقوى إذا انفردت في القرآن عن مقارن عمت الأمر والنهي، وإذا قرنت بغيرها نحو إحسان أو رضوان خصت المناهي: {يجعل} أي الله سبحانه بسبب التقوى {له مخرجاً} بدفع المضار من كل ضيق أحاط به في نظير ما اجتنب من المناهي {ويرزقه} بحوله وقوته بجلب المسار في الدين والدنيا والآخرة في نظير ما اجتلب من فعل الأوامر.
ولما كان أحلى الهبات ما جاء من مكان لا يرجى قال: {من حيث لا يحتسب} أي لا يقوى رجاؤه له، ولما أكد في هذا وأعظم الوعد لأنه وإن كان عاماً لكل متق فتعلقه بما تقدم أقوى والنظر فيما تقدم إلى حقوق العباد أكثر، والمضايقة فيها أشد، والدواعي إليها أبلغ، فالاتقاء فيه بعدم الطلاق في الحيض والإضرار بالمرأة بتطويل العدة أو الإخراج من المسكن وكتمان الشهادة والعسر في أدائها والإخلال بشيء منها والتأكيد والإبلاغ في الوعد لأجل ما جبل عليه الإنسان من القلق في أموره، عطف على ذلك قوله: {ومن يتوكل} أي يسند أموره كلها ويفوضها معتمداً فيها {على الله} أي الملك الذي بيده كل شيء ولا كفوء له فقد جمع الأركان الثلاثة التي لا يصلح التوكيل إلا بها، وهي العلم المحيط لئلا يدلس عليه، والقدرة التامة لئلا يعجز، والرحمة بالمتوكل والعناية به لئلا يحيف عليه، والتوكل يكون مع مباشرة الأسباب وهو من المقامات العظيمة وإلا كان اتكالاً، وليس بمقام بل خسة همة وعدم مروءة، لأنه إبطال حكمة الله التي أحكمها في الدنيا من ترتيب المسببات على الأسباب- قاله الملوي {فهو} أي الله في غيب غيبه فضلاً عن الشهادة بسبب توكله {حسبه} أي كافيه، وحذف المتعلق للتعميم، وحرف الاستعلاء للاشارة إلى أنه قد حمل أموره كلها عليه سبحانه لأنه القوي الذي لا يعصيه شيء، والكريم الذي يحسن حمل ذلك ورعيه، والعزيز الذي يدفع عنه كل ضار ويجلب له كل سار، إلى غير ذلك من المعاني الكبار، فلا يبدو له في عالم الشهادة شيء يشقيه لا من الغيب ولا من غيب الغيب، وفي الحديث: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً».
ولما كان ذلك أمراً لا يكاد يحيط به الوهم، علله بقوله مهولاً له بالتأكيد والإظهار في موضع الإضمار: {إن الله} أي المحيط بكل كمال المنزه عن كل شائبة نقص {بالغ أمره} أي جميع ما يريده فلابد من نفوذه سواء حصل توكل أم لا، وسماه أمراً إشارة إلى أنه مما يستحق أن يؤمر به وإلى أنه في سرعة الكون إذا أريد لم يتخلف بوجه بل يكون كالمؤتمر الحقير للملك الجليل الكبير.
ولما كان ضرب المقادير من القادر موجباً لعدم الإخلال بشيء منها، علل ذلك بما اقتضى تحتم الوعد والتوكل فقال: {قد جعل الله} أي الملك الذي لا كفوء له ولا معقب لحكمه جعلاً مطلقاً من غير تقيد بجهة ولا حيثية {لكل شيء قدراً} أي تقديراً لا يتعداه في مقداره وزمانه ومكانه وجميع عوارضه وأحواله وإن اجتهد جميع الخلائق في أن يتعداه، فمن توكل استفاد الأجر وخفف عنه الألم، وقذف في قلبه السكينة، ومن لم يتوكل لم ينفعه ذلك، وزاد ألمه وطال غمه بشدة سعيه وخيبة أسبابه التي يعتقد أنها هي المنجحة، فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط، جف القلم فلا يزاد في المقادير شيء ولا ينقص منها شيء، ويحكى أن رجلاً أتى عمر رضي الله عنه فقال: أولني مما أولاك الله فقال: أتقرأ القرآن؟ قال: لا، قال: إنا لا نولي من لا يقرأ القرآن، فانصرف الرجل واجتهد حتى تعلم القرآن رجاء أن يعود إلى عمر فيوليه، فلما تعلم القرآن تخلف عن عمر فرآه ذات يوم فقال: يا هذا! أهجرتنا، فقال: يا أمير المؤمنين! لست ممن يهجر؟ ولكني تعلمت القرآن فأغناني الله عن عمر وعن باب عمر، قال: أي آية أغنتك؟ قال: قوله تعالى:
{ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويزرقه من حيث لا يحتسب} [الطلاق: 2 و3] انتهى. ومن توكل على غيره سبحانه وتعالى ضاع لأنه لا يعلم المصالح وإن علمها لم يعلم أين هي، وإن علم لم يعلم متى يستعملها وإن علم لم يعلم كم المقدار المستعمل، وإن علم لم يعلم كيف يستعملها وهو سبحانه المنفرد بعلم ذلك كله وما لا يعلمه حق علمه غيره، والآية تفهم أن من لم يتق الله يقتر عليه، وهو موافق لما روى ابن حبان في صحيحه والحاكم واللفظ له- وقال: صحيح الإسناد- عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» وتفهم أن من لم يتوكل لم يكف شيئاً من الأشياء.