فصل: تفسير الآيات (6- 7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (6- 7):

{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)}
ولما قرر سبحانه وتعالى شمول علمه أتبعه دليله من تمام قدرته فقال: وقال الحرالي: ولما كان كل تفصيل يتقدمه بالرتبة مجمل جامع، وكانت تراجم السورة موضع الإجمال ليكون تفصيلها موضع التفاصيل، وكان من المذكور في سورة الكتاب ما وقع من اللبس كذلك كان في هذه السورة التي ترجمها جوامع إلهية ما وقع من اللبس في أمر الإلهية في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، فكان في هذه الآيه الجامعة توطئة لبيان الأمر في شأنه عليه السلام من حيث إنه مما صور في الرحم وحملته الأنثى ووضعته، وأن جميع ما حوته السماء والأرض لا ينبغي أن يقع فيه لبس في أمر الإلهية؛ انتهى فقال مبيناً أمر قدرته بما لا يقدر عليه عيسى عليه الصلاة والسلام ولا غيره: {هو} أي وحده {الذي} وقرعهم بصرف القول من الغيبه إلى الخطاب ليعظم تنبههم على ما هم فيه من قهر المصور لهم على ما أوجدهم عليه مما يشتهونه ولا يفقهونه فقال: {يصوركم} أي أن كنتم نطفاً من التصوير وهو إقامه الصورة. وهي تمام البادي التي يقع عليها حس الناظر لظهورها، فصورة كل شيء تمام بدوه قال الحرالي: {في الأرحام} أي التي لا اطلاع لكم عليها بوجه، ولما كان التصوير في نفسه أمراً معجباً وشيناً للعقل إذا تأمله وإن كان قد هان لكثرة الإلف باهراً فكيف بأحواله المتباينه وأشكاله المتخالفة المتباينة أشار إلى التعجب من أمره وجليل سره بآلة الاستفهام وإن قالوا: إنها في هذا الوطن شرط، فقال: {كيف} أي كما {يشاء} أي على أي حالة أراد، سواء عنده كونكم من نطفتي ذكر وأنثى أو نطفة أنثى وحدها دليلاً على كمال العلم والقيومية، وإيماء إلى أن من صور في الأرحام كغيره من العبيد لا يكون إلا عبداً، إذ الإله متعال عن ذلك لما فيه من أنواع الاحتياج والنقص. وقال الحرالي: فكان في إلاحة هذه الآية توزيع أمر الإظهار على ثلاثة وجوه تناظر وجوه التقدير الثلاثة التي في فاتحة سورة البقرة، فينتج هدى وإضلالاً وإلباساً أكمل الله به وحيه، كما أقام بتقدير الإيمان والكفر والنفاق خلقه فطابق الأمر الخلق فأقام الله سبحانه وتعالى بذلك قائم خلقه وأمره، فكان في انتظام هذه الإفهامات أن بادي الأحوال الظاهرة عند انتهاء الخلق إنما ظهرت لأنها مودعة في أصل التصوير فصورة نورانية يهتدي بها وصورة ظلمانية يكفر لأجلها، وصورة ملتبسة عيشية علمية يفتتن ويقع الإلباس والالتباس من جهتها، مما لا يفي ببيانها إلا الفرقان المنزل على هذه الأمه، ولا تتم إحاطة جميعها إلا في القرآن المخصوصة به أئمة هذه الأمه انتهى.
فقد علم أن التصوير في الرحم أدق شيء علماً وقدرة، فعلم فاعله بغيره والقدرة عليه من باب الأولى فثبت أنه لا كفوء له؛ فلذلك وصل به كلمه الإخلاص وقال الحرالي: ولما تضمنت إلاحة هذه الآية ما تضمنته من الإلباس والتكفير أظهر سبحانه وتعالى كلمه الإخلاص ليظهر نورها أرجاس تلك الإلباسات وتلك التكفيرات فقال: {لا إله إلا هو} إيذاناً بما هي له الإلباس والتكفير من وقوع الإشراك بالإلهية والكفر فيها والتلبس والإلتباس في أمرها؛ فكان في طي هذا التهليل بشرى بنصرة أهل الفرقان وأهل القرآن على أهل الالتباس والكفران وخصوصاً على أهل الإنجيل الذين ذكرت كتبهم صريحاً في هذا التنزيل بل يؤيد إلاحته في التهليل إظهار الختم في هذه الآية بصفتي العزة المقتضية للانتقام من أهل عداوته والحكمة المقتضية لإكرام أهل ولايته؛ انتهى فقال: {العزيز} أي الغالب غلبة لا يجد معها المغلوب وجه مدافعة ولا انفلات، ولا معجز له في إنفاذ شيء من أحكامه {الحكيم} أي الحاكم بالحكمة، فالحكم المنع عما يترامى إليه المحكوم عليه وحمله على ما يمتنع منه من جميع أنواع الصبر ظاهراً بالسياسة العالية نظراً له، والحكمة العلم بالأمر الذي لأجله وجب الحكم من قوام أمر العاجله وحسن العقبى في الآجلة؛ ففي ظاهر ذلك الجهد، وفي باطنه الرفق، وفي عاجله الكره، وفي آجله الرضى والروح؛ ولايتم الحكم وتستوي الحكمة إلا بحسب سعة العلم، فبذلك يكون تنزيل أمر العزة على وزن الحكمة قاله الحرالي بالمعنى.
ولما ختم سبحانه وتعالى بوصف العزة الدالة على الغلبة الدالة على كمال القدرة والحكمة المقتضي لوضع كل شيء في أحسن محاله وأكملها المستلزم لكمال العلم، تقديراً لما مر من التصوير وغيره، وكان هذا الكتاب أكمل مسموعات العباد لنزوله على وجه هو أعلى الوجوه، ونظمه على أسلوب أعجز الفصحاء وأبكم البلغاء إلى غير ذلك من الأمور الباهرة والأسرار الظاهرة، وعلى عبد هو أكمل الخلق؛ أعقب الوصفين بقوله بياناً لتمام علمه وشمول قدرته: {هو} أي وحده {الذي} ولما فصل أمر المنزل إلى المحكم والتشابه نظر إليه جملة كما اقتضاه التعبير بالكتاب فعبر بالإنزال دون التنزيل فقال: {أنزل عليك} أي خاصة {الكتاب} أي القرآن، وقصر الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذا موضع الراسخين وهو رأسهم دلالة على أنه لا يفهم هذا حق فهمه من الخلق غيره. قال الحرالي: ولما كانت هذه السورة فيما اختصت به من علن أمر الله سبحانه وتعالى مناظرة بسورة البقرة فيما أنزلت من إظهار كتاب الله سبحانه وتعالى كان المنتظم بمنزل فاتحتها ما يناظر المنتظم بفاتحة سورة البقرة، فلما كانت سورة البقرة منزل كتاب هو الوحي انتظم بترجمتها الإعلام بأمر كتاب الخلق الذي هو القدر، فكما بين في أول سورة البقرة كتاب تقدير الذي قدره وكتبه في ذوات من مؤمن وكافر ومردد بينهما هو المنافق فتنزلت سورة كتاب للوحي إلى بيان قدر الكتاب الخلقي لذلك كان متنزل هذا الافتتاح الإلهي إلى أصل منزل الكتاب الوحي؛ ولما بين أمر الخلق أن منهم من فطره على الإيمان ومنهم من جبله على الكفر ومنهم من أناسه بين الخلقين، بين في الكتاب أن منه ما أنزله على الإحكام ومنه ما أنزله على الاشتباه؛ وفي إفهامه ما أنزله على الافتنان والإضلال بمنزله ختم الكفار؛ انتهى فقال: {منه آيات محكمات} أي لا خفاء بها.
قال الحرالي: وهي التي أبرم حكمها فلم ينبتر كما يبرم الحبل الذي يتخذ حكمة أي زماماً يزم به الشيء الذي يخاف خروجه على الانضباط، كأن الآيه المحكمة تحكم النفس عن جولانها وتمنعها من جماحها وتضبطها إلى محال مصالحها، ثم قال: فهي آي التعبد من الخلق للخلق اللائي لم يتغير حكمهن في كتاب من هذه الكتب الثلاث المذكورة، فهن لذلك أم انتهى.
ولما كان الإحكام في غاية البيان فكان في تكامله ورد بعض معانيه إلى بعض كالشيء الواحد، وكان رد المتشابه إليه في غايه السهولة لمن رسخ إيمانه وصح قصده واتسع علمه ليصير الكل شيئاً واحداً أخبر عن الجمع بالمفرد فقال: {هن أم الكتاب} والأم الأمر الجامع الذي يؤم أي يقصد، وقال الحرالي: هي الأصل المقتبس منه الشيء في الروحانيات والنابت منه أو فيه في الجسمانيات {وأخر} أي منه {متشابهات} قال الحرالي: والتشابه تراد التشبه في ظاهر أمرين لشبه كل واحد منهما بالآخر بحيث يخفى خصوص كل واحد منهما؛ ثم قال: وهن الآي التي أخبر الحق سبحانه وتعالى فيهن عن نفسه وتنزلات تجلياته ووجوه إعانته لخلقه وتوفيقه وإجرائه ما أجرى من اقتداره وقدرته في بادئ ما أجراه عليهم، فهن لذلك متشبهات من حيث إن نبأ الحق عن نفسه لا تناله عقول الخلق، ولا تدركه أبصارهم، وتعرف لهم فيما تعرف بمثل أنفسهم، فكأن المحكم للعمل والمتشابه لظهور العجز، فكان لذلك حرف المحكم أثبت الحروف عملاً، وحرف المتشابه أثبت الحروف إيماناً، واجتمعت على إقامته الكتب الثلاث، واختلفت في الأربع اختلافاً كثيراً فاختلف حلالها وحرامها وأمرها ونهيها، واتفق على محكمها ومتشابهها انتهى. فبين سبحانه وتعالى بهذا أنه كما يفعل الأفعال المتشابهه مثل تصوير عيسى عليه الصلاة والسلام من غير نطفة ذكر، مع إظهار الخوارق على يديه لتبين الراسخ في الدين من غيره كذلك يقول الأقوال المتشابهه، وأنه فعل في هذا الكتاب ما فعل في غيره من كتبه من تقسيم آياته إلى محكم ومتشابه ابتلاء لعباده ليبين فضل العلماء الراسخين الموقنين بأنه من عنده، وأن كل ما كان من عند الله سبحانه وتعالى فلا اختلاف فيه في نفس الأمر، لأن سبب الاختلاف الجهل أو العجز، وهو سبحانه وتعالى متعال جده منزه قدره عن شيء من ذلك، فبين فضلهم بأنهم يؤمنون به، ولا يزالون يستنصرون منه سبحانه وتعالى فتح المنغلق وبيان المشكل حتى يفتحه عليهم بما يرده إلى المحكم، وهذا على وجه يشير إلى المهمة الذي تاه فيه النصارى، والتيه الذي ضلوا فيه عن المنهج، واللج الذي أغرق جماعاتهم، وهو المتشابه الذي منه أنهم زعموا أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يقول له القائل: يا رب! افعل لي كذا ويسجد له، فيقره على ذلك ويجيب سؤاله، فدل ذلك على أنه إله، ومنه إطلاقه على الله سبحانه وتعالى أباً وعلى نفسه أنه ابنه، فابتغوا الفتنه فيه واعتقدوا الأبوة والنبوة على حقيقتهما ولم يردوا ذلك إلى المحكم الذي قاله لهم فأكثر منه، كما أخبر عنه أصدق القائلين سبحانه وتعالى في الكتاب المتواتر الذي حفظه من التحريف والتبديل:
{لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} [فصلت: 42]، وهو {إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً} [مريم: 30، 31] {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم} [المائدة: 117] {إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [مريم: 51]، هذا مما ورد في كتابنا الذي لم يغيروا ما عندهم فإن كانوا قد بدلوه فقد ولله الحمد منه في الأناجيل الأربعة التي بين أظهرهم الآن في أواخر هذا القرن التاسع من المحكم ما يكفي في رد المتشابه إليه، ففي إنجيل لوقا أن جبريل عليه الصلاة والسلام ملاك الرب لما تبدى لمريم مبشراً بالمسيح عليه السلام وخافت منه قال لها: لا تخافي يا مريم ظفرت بنعمة من عند الله سبحانه وتعالى، وأنت تقبلين حبلاً وتلدين ابناً يدعى يسوع، يكون عظيماً، وابن العذراء يدعى؛ ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه؛ وفي إنجيله أيضاً وإنجيل متى أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال وقد أمره إبليس أن يجرب قدره عند الله بأن يطرح نفسه من شاهق: مكتوب: لا تجرب الرب إلهك، وقال وقد أمره أن يسجد له: مكتوب: للرب إلهك اسجد، وإياه وحده اعبد، وصرح أن الله سبحانه وتعالى واحد في غير موضع؛ وفي إنجيل لوقا أنه دفع إلى المسيح سفر أشعيا النبي فلما فتحه وجد الموضع الذي فيه مكتوب: روح الرب عليّ، من أجل هذا مسحني وأرسلني لأبشر المساكين وأبشر بالسنة المقبولة للرب، والأيام التي أعطانا إلهنا، ثم طوى السفر ودفعه إلى الخادم؛ وفيه وفي غيره من أناجيلهم: من قبل هذا فقد قبلني، ومن قبلني فقد قبل الذي أرسلني، ومن سمع منكم فقد سمع مني، ومن جحدكم فقد جحدني، ومن جحدني فقد شتم الذي أرسلني ومن أنكرني قدام الناس أنكرته قدام الناس، أنكرته قدام ملائكة الله، وفي إنجيل يوحنا أنه قال عن نفسه عليه الصلاة والسلام: الذي أرسله الله إنما ينطق بكلام الله لأنه ليس بالكيس، أعطاه الله الروح، وقال: قد سأله تلاميذه أن بأكل فقال لهم: طعامي أن أعمل مسرة من أرسلني وأتم عمله؛ وفيه في موضع آخر: الحق الحق أقول لكم! أن من يسمع كلامي وآمن بمن أرسلني وجبت له الحياة المؤبده، لست أقدر أعمل شيئاً من ذات نفسي، وإنما أحكم بما أسمع، وديني عدل لأني لست أطلب مسرتي بل مسرة من أرسلني؛ وفي إنجيل مرقس أنه قال لناس: تعلمتم وصايا الناس وتركتم وصايا الله، وزجر بعض من اتبعه فقال: اذهب يا شيطان! فإنك لم تفكر في ذات الله، وتفكر في ذات الناس؛ فقد جعل الله إلهه وربه ومعبوده، واعترف له بالوحدانيه وجعل ذاته مبايناً لذات الناس الذي هو منهم؛ وفي جميع أناجيلهم نحو هذا، وأنه كان يصوم ويصلي لله ويأمر تلاميذه بذلك، ففي إنجيل لوقا أنهم قالوا له: يا رب! علمنا نصلي كما علم يوحنا تلاميذه، فقال لهم: إذا صليتم فقولوا: أبانا الذي في السماوات يتقدس اسمك! كفافنا أعطنا في كل يوم، واغفر لنا خطايانا لأنا نغفر لمن لنا عليه، ولا تدخلنا في التجارب، لكن نجنا من الشرير؛ ولما دخل الهيكل بدأ يخرج الذين يبيعون ويشترون فيه، فقال لهم: مكتوب أن بيتي هو بيت الصلاة وأنتم جعلتموه مفازة اللصوص! فعلم من هذا كله أن إطلاق اسم الرب عليه لأن الله سبحانه وتعالى أذن له أن يفعل بعض أفعاله التي ليست في قدرة البشر، والرب يطلق على السيد أيضاً، كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام:
{اذكرني عند ربك} [يوسف: 42]. ثم وجدت في أوائل إنجيل يوحنا أن الرب تأويله العلم، ولو ردوا أيضاً الأب والابن إلى هذا المحكم وأمثاله وهي كثيرة في جميع أناجيلهم لعلموا بلا شبهة أن معناه أن الله سبحانه وتعالى يفعل معه ما يفعل الوالد مع ولده من الترية والحياطة والنصرة والتعظيم والإجلال، كما لزمهم حتماً أن يأولوا قوله فيما قدمته: أبانا الذي في السماوات، وقوله في إنجيل متى لتلاميذه: هكذا فليضئ نوركم قدام الناس ليروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات، وقال: وأحسنوا إلى من أبغضكم، وصلوا على من يطردكم ويخزيكم لكيما تكونوا بني أبيكم الذي في السماوات، لأنه المشرق شمسه على الأخيار والأشرار، والممطر على الصديقين والظالمين، انظروا! لا تصنعوا أمراً حكم قدام الناس لكي يروكم، فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات، وإذا صنعت رحمة فلا تضرب قدامك بالبوق، ولا تصنع كما يصنع المراؤون في المجامع وفي الأسواق لكي يمجدوا من الناس، الحق أقول لكم! لقد أخذوا أجرهم؛ وأنت إذا صنعت رحمة لا تعلم شمالك ما صنعته يمينك، لتكون صدقة في خفية، وأبوك الذي يرى الخفية يعطيك على نية؛ وقل في الفصل العاشر منه: وصل لأبيك سراً، وأبوك يرى السر فيعطيك علانية.
وهكذا في جميع آيات الأحكام من الإنجيل كرر لهم هذه اللفظة تكريراً كثيراً، فكما تأول لها النصارى بأن المراد منها تعظيمهم له أشد من تعظيمهم لآبائهم ليعتني بهم أكثر من اعتناء الوالد بالولد فكذلك يأولون ما في إنجيل لوقا وغيره أن أم عيسى وإخواته أتوا اليه فلم يقدروا لكثره الجمع على الوصول إليه فقالوا له أملك وإخواتك خارجاً يريدون أن ينظروا إليك، فأجاب: أمي وأخوتي الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها؛ فكذلك يلزمهم تأويلها في حق عيسى عليه الصلاة والسلام لذلك ليرد المتشابه إلى المحكم. وإن لم يأولوا ذلك في حق أنفسهم وحملوه على الظاهر كما هو ظاهر قوله سبحانه وتعالى: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه} [المائدة: 18] كانوا مكابرين في المحسوس بلا شبهة، فإن كل أحد منهم مساو لجميع الناس وللبهائم في أن له أبوين، وكانت دعواهم هذة ساقطة لا يردها عليهم إلا من تبرع بإلزامهم بمحسوس آخر هم به يعترفون، وقد أقام هو نفسه عليه الصلاة والسلام أدلة على صرفها عن ظاهرها، منها غير ما تقدم أنه كثيراً ما كان يخبر عن نفسه فيقول: ابن الإنسان يفعل كذا، ابن البشر قال كذا يعني نفسه الكريمة، فحيث نسب نفسه إلى البشر كان مريداً للحقيقة، لأنه ابن امرأة منهم، وهو مثلهم في الجسد، والمعاني حيث نسبها إلى الله سبحانه وتعالى كان على المجاز كما تقدم. وأما السجود فقد ورد في التوراة كثيراً لأحاد الناس من غير نكير، فكأنه كان جائزاً في شرائعهم فعله لغير الله سبحانه وتعالى على وجه التعظيم والله سبحانه وتعالى أعلم، وأما نحن فلا يجوز فعله لغير الله، ولا يجوز في شريعتنا أصلاً إطلاق الأب ولا الابن بالنسبة إليه سبحانه وتعالى، وكذا كل لفظ أوهم نقصاً سواء صح أن ذلك كان جائزاً في شرعهم أم لا، وإذا راجعت تفسير البيضاوي لقوله سبحانه وتعالى في البقرة {إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} [البقرة: 117] زادك بصيرة فيما هنا؛ والحاصل أنهم لم يصرفوا ذلك في حق عيسى عليه الصلاة والسلام عن ظاهره وحقيقته وتحكموا بأن المراد منه المجاز وهو هنا إطلاق اسم الملزوم على اللازم، وكذا غيره من متشابه الإنجيل، كما فعلنا نحن بمعونة الله سبحانه وتعالى في وصف الله سبحانه وتعالى بالرضى والغضب والرحمة والضحك وغير ذلك مما يستلزم حمله على الظاهر وصفات المحدثين، وكذا ذكر اليد والكف والعين ونحو ذلك فحملنا ذلك كله على أن المراد منه لوازمه وغاياته مما يليق بجلاله سبحانه وتعالى مع تنزيهنا له سبحانه وتعالى عن كل نقص وإثباتنا له كل كمال، فإن الله سبحانه وتعالى عزه وجده وجل قدره ومجده أنزل حرف المتشابه ابتلاء لعباده لتبين الثابت من الطائش والموقن من الشاك.
قال الحرالي في كتابه عروة المفتاح: وجه إنزال هذا الحرف تعرف الحق للخلق بمعتبر ما خلقهم عليه ليلفتوا عنه وليفهموا خطابه، وليتضح لهم نزول رتبهم عن علو ما تعرف به لهم، وليختم بعجزهم عن إدراك هذا الحرف علمهم بالأربعة يعني الأمر والنهي والحلال والحرام، وحبسهم بالخامس وتوقفهم عنه والاكتفاء بالإيمان منه ما تقدم من عملهم بالأربعة، واتصافهم بالخامس ليتم لهم العبادة بالوجهين من العمل والوقوف والإدراك والعجز {فارجع البصر هل ترى من فطور} [الملك: 3] علماً وحساً {ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير} [الملك: 4] عجزاً، أعلمهم بحظ من علم أنفسهم وغيرهم بعد أن أخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً ثم أعجزهم عن علم أمره وأيامه الماضية والآتية وغائب الحاضرة ليسلموا له اختيار فيرزقهم اليقين بأمره وغائب أيامه، كما أسلموا له في الصغر اضطراراً، فرزقهم حظاً من علم خلقه، فمن لم يوقفه في حد الإيمان اشتباه خطابه سبحانه وتعالى عن نفسه وما بينه وبين خلقه وحاول تدركه بدليل أو فكر أو تأويل حرم اليقين بعلي الأمر والتحقيق في علم الخلق، وأوخذ بما أضاع من محكم ذلك المتشابه حين اشتغل لما يعنيه من حال نفسه بما لا يعنيه من أمر ربه، فكان كالمتشاغل بالنظر في ذي الملك، وتنظره يرمي نفسه عن مراقبة ما يلزمه من تفهم حدوده وتذلله لحرمته؛ وجوامع منزل هذا الحرف في رتبتين: مبهمة ومفصلة، أما انبهامه فلوقوف العلم به على تعريف الله سبحانه وتعالى من غير واسطة من وسائط النفس من فكر ولا استدلال، وليتدرب المخاطب بتوقفه على المبهم على توقفه عن مفصله ومبهمه، وهو جامع الحروف المنزلة في أوائل السور التسع والعشرين من سوره وبه افتتح الترتيب في القرآن، ليتلقى الخلق بادي أمر الله بالعجز والوقوف والاستسلام إلى أن يمن الله سبحانه وتعالى بعلمه بفتح من لدنه، ولذلك لم يكن في تنزيله في هذه الرتبة ريب لمن علمه الله سبحانه وتعالى كنهه من حيث لم يكن للنفس مدخل في علمه، وذلك قوله سبحانه وتعالى: {آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه} [البقرة: 1، 2] لمن علمه الله إياه {هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب} [البقرة: 2، 3] وقوفاً عن محاولة علم ما ليس في وسع الخلق علمه، حتى تلحقه العنايه من ربه فعلمه ما لم يكن في علمه؛ وأما الرتبة الثانية فمتشابه الخطاب المفصل المشتمل على إخبار الله عن نفسه وتنزيلات أمره، ورتب إقامات خلقه بإبداع كلمته وتصيير حكمته وباطن ملكوته وعزيز جبروته وأحوال أيامه؛ وأول ذلك في ترتيب القرآن إخباره عن استوائه في قوله:
{ثم استوى إلى السماء} [البقرة: 29] إلى قوله سبحانه وتعالى {فأينما تولوا فثم وجه الله} [لبقرة: 115] إلى سائر ما أخبر عنه من عظم شأنه في جملة آيات متعددات لقوله سبحانه وتعالى {إلا لنعلم من يتبع الرسول} [البقرة: 143]، {فإني قريب} [البقرة: 186] {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظل من الغمام والملائكة} [البقرة: 210]، {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [البقرة: 255] {فأذنوا بحرب من الله ورسوله} [البقرة: 279]، {هو الذي يصوركم في الأرحام} [آل عمران: 6]، {ويحذركم الله نفسه} [آل عمران: 128]، {ولله ملك السماوات والأرض} [آل عمران: 189]، {والله على كل شيء قدير} [البقرة: 284]، {وكان الله سميعاً بصيراً} [النساء: 85]، {بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} [المائده: 64]، {وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم} [الأنعام: 3]، {خلق السماوات والأرض} [الأعراف: 54]، {ثم استوى على العرش} [الأعراف: 54]، {ولتصنع على عيني} [طه: 39]، {قل من بيده ملكوت كل شيء} [المؤمنون: 88]، {فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله} [القصص: 30]، {كل شيء هالك إلا وجهه} [القصص: 88]، {هو الذي يصلي عليكم وملائكته} [الأحزاب: 43]، {إن الله وملائكته يصلون علىلنبي} [الأحزاب: 56]، {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} [الأعراف: 12]، {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} [الزخرف: 84]، {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه} [الجاثيه: 13]، {وله الكبرياء في السماوات والأرض} [الجاثيه: 37]، {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك} [الرحمن: 26، 27]، {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} [الحديد: 3]، {وهو معكم أين ما كنتم} [الحديد: 4]، {ما يكون من نجوى ثلاثه إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا} [المجادلة: 7]، {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا} [الحشر: 2]، {تبارك الذي بيده الملك} [الملك: 1]، {تعرج الملائكة والروح اليه} [المعارج: 4]، {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} [القيامة: 22، 23]، {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} [الإنسان: 30]، {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} [الفجر: 22] إلى سائر ما أخبر فيه عن تنزلات أمره وتسوية خلقه وما أخبرعنه حبيبه صلى الله عليه وسلم من محفوظ الأحاديث التي عرف بها أمته ما يحملهم في عبادتهم على الانكماش والجد والخشية والوجل والإشفاق وسائر الأحوال المشار إليها في حرف المحكم من نحو حديث النزول والقدمين والصورة والضحك والكف والأنامل، وحديث عناية لزوم التقرب بالنوافل وغير ذلك من الأحاديث التي ورد بعضها في الصحيحين، واعتنى بجمعها الحافظ المتقن أبو الحسن الدارقطني رحمه الله تعالى، ودوَّن بعض المتكلمين جملة منها لقصد التأويل، وشدد النكير في ذلك أئمة المحدثين، يؤثر عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه ورحمة أنه قال: آيات الصفات وأحاديث الصفات صناديق مقفلة مفاتيحها بيد الله سبحانه وتعالى، تأويلها تلاوتها، ولذلك أئمة الفقهاء وفتياهم لعامة المؤمنين والذي اجتمعت عليه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ولقنته العرب كلها أن ورود ذلك عن الله ومن رسوله ومن الأئمة إنما هو لمقصد الإفهام، لا لمقصد الإعلام، فلذلك لم يستشكل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم شيئاً قط، بل كلما كان وارده عليهم أكثر كانوا به أفرح، وللخطاب به أفهم، حتى قال بعضهم لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يضحك من عبده: لا نعدم الخير من رب يضحك» وهم وسائر العلماء بعدهم صنفان: إما متوقف عنه في حد الإيمان، قانع بما أفاد من الإفهام، وإما مفتوح عليه بما هو في صفاء الإيقان، وذلك أن الله سبحانه وتعالى تعرف لعباده في الأفعال والآثار في الآفاق وفي أنفسهم تعليماً، وتعرف للخاصة منهم بالأوصاف العليا والأسماء الحسنى مما يمكنهم اعتباره تعجيزاً، فجاوزوا حدود التعلم بالإعلام إلى عجز الإدراك فعرفوا أن لا معرفة لهم، وذلك هو حد العرفان وإحكام قراءة هذا الحرف المتشابه في منزل القرآن، وتحققوا أن {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] و{لم يكن له كفواً أحد} [الإخلاص: 4] فتهدفوا بذلك لما يفتحه الله على من يحبه من صفاء الإيقان، والله يحب المحسنين. ثم قال فيما به تحصل قراءة هذا الحرف: اعلم أن تحقيق الإسلام بقراءة حرف المحكم لا يتم إلا بكمال الإيمان بقراءة حرف المتشابه تماماً لأن حرف المحكم حال يتحقق للعبد. ولما كان حرف المتشابه إخباراً عن نفسه سبحانه وتعالى بما يتعرف به لخلقه من أسماء وأوصاف كانت قراءته بتحقق العبد أن تلك الأسماء والأوصاف ليست مما تدركه حواس الخلق ولا ما تناله عقولهم، وإن أجرى على تلك الاسماء والأوصاف على الخلق فيوجه، لا يلحق أسماء الحق ولا أوصافه منها تشبيه في وهم ولا تمثيل في عقل {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11]، {ولم يكن له كفواً أحد} [الإخلاص: 4]، فلاذي يصح به قراءة هذا الحرف أما من جهة القلب فالمعرفة بأن جميع أسماء الحق وأوصافه تعجز عن معرفتها إدراكات الخلق وتقف عن تأويلها إجلالاً وإعظاماً معلوماتُهم، وأن حسبها معرفتها بأنها لا تعرفها، وأما من جهة حال النفس والاستكانة لما يوجبه تعرف الحق بتلك الأسماء والأوصاف من التحقق بما يقابلها والبراءة من الاتصاف بها لأن ما صلح للسيد حرم على العبد لتحقق فقر الخلق من تسمي الحق بالغنى، ولا يتسمى بالغنى فيقدح في هداه، فيهلك باسمه ودعواه، ولتحقق ذلهم من تسميته تعالى بالعزة وعجزهم عن تسميته بالقدرة، واستحقاق تخليهم من جميع ما تعرف به من أوصاف الملك والسلطان والغضب والرضى والوعد والوعيد والترغيب والترهيب إلى سائر ما تسمى به في جميع تصرفاته مما ذكر في المتشابه من الآي، وأشير إليه من الأحاديث، وما عليه اشتملت واردات الأخبار في جميع الصحف والكتب، ومرائي الصالحين ومواقف المحدثين ومواجد المروّعين؛ وأما من جهة العمل فحفظ اللسان عن إطلاق ألفاظ التمثيل والتشبيه تحقيقاً لما في مضمون قوله سبحانه وتعالى: {ولم يكن له كفواً أحد} [الإخلاص: 4] لأن مقتضاها الرد على المشبه من هذه الأمة، وليس لعمل الجوارح في هذا الحرف مظهر سوى ما ذكر من لفظ اللسان، فقراءته كالتوطئة لتخليص العبادة بالقلب في قراءة مفرد حرف الأمثال؛ والله العلي الكبير انتهى.
وقد تقدم حرف الأمثال عند قوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} [البقرة: 7] وقد بين سبحانه وتعالى أنه لا يضل بحرف المتشابه إلا ذوو الطبع العوج الذين لم ترسخ أقدامهم في الدين ولا استنارت معارفهم في العلم فقال: {فأما الذين في قلوبهم زيغ} أي اعوجاج عدلوا به عن الحق. وقال الحرالي: هو ميل المائل إلى ما يزين لنفسه الميل إليه، والمراد هنا أشد الميل الذي هو ميل القلب عن جادة الاستواء وفي إشعاره ما يلحق بزيغ القلوب من سيئ الأحوال في الأنفس وزلل الأفعال في الأعمال، فأنبأ تعالى عما هو الأشد وأبهم ما هو الأضعف: {فيتبعون} في إشعار هذه الصيغة بما تنبئ عنه من تكلف المتابعه بأن من وقع له الميل فلفته لم تلحقه مذمه هذا الخطاب، فإذا وقع الزلل ولم يتتابع حتى يكون اتباعاً سلم من حد الفتنة بمعالجة التوبة {ما تشابه منه} فأبهمه إبهاماً يشعر بما جرت به الكليات فيما يقع نبأ عن الحق وعن الخلق من نحو أوصاف النفس كالتعليم والحكيم وسائر أزواج الأوصاف كالغضب والرضى بناء على الخلق في بادئ الصورة من نحو العين واليد والرجل والوجه وسائر بوادي الصورة، كل ذلك مما أنه متشابهات أنزلها الله تعالى ليتعرف للخلق بما جبلهم عليه مما لو لم يتعرف لهم به لم يعرفوه، ففقائدة إنزالها التعرف بما يقع به الامتحان بإحجام الفكر عنه والإقدام على التعبد له، ففائدة إنزاله عملاً في المحكم وفائدة إنزاله فيه توقفاً عنه ليقع الابتلاء بالوجهين: عملاً بالمحكم ووقوفاً عن المتشابه، قال عليه الصلاة والسلام: «لا تتفكروا في الله» وقال علي رضي الله عنه: من تفكر في ذات الله تزندق ووافق العلماء إنكار الخلق عن التصرف في تكييف شيء منه، كما ذكر عن مالك رحمه الله تعالى في قوله: الكيف مجهول والسؤال عنه بدعة، فالخوض في المتشابه بدعة، والوقوف عنه سنة؛ وأفهم عنه الإمام أحمد يعني فيما تقدم في آيات الصفات من أن تأويلها تلاوتها، هذا هو حد الإيمان وموقفه، وإليه أذعن الراسخون في العلم، وهم الذين تحققوا في أعلام العلم، ولم يصغوا إلى وهم التخييل والتمثل به في شيء مما أنبأ الله سبحانه وتعالى به نفسه ولا في شيء مما بينه وبين خلقه وكان في توقفهم عن الخوض في المتشابه تفرغهم للعمل في المحكم، لأن المحكم واضح وجداني، متفقه عليه مدارك الفطن وإذعان الجبلات ومنزلات الكتب، لم يقع فيه اختلاف بوجه حتى كان لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، للزوم الواجب من العمل بالمحكم في إذعان النفس، فكما لا يصلح العراء عن الاتصاف بالمحكم لا يصلح الترامي إلى شيء من الخوض في المتشابه لأحد من أهل العلم والإيمان أهل الدرجات، لأن الله سبحانه وتعالى جبل الخلق وفطرهم على إدراك حظ من أنفسهم من أحوالهم، وأوقفهم عن إدراك ما هو راجع إليه، فأمر الله وتجلياته لا تنال إلا بعنايه منه، يزج العبد زجه يقطع به الحجب الظلمانية والنورانية التي فيها مواقف العلماء؛ فليس في هذا الحرف المتشابه إلا أخذ لسانين: لسان وقفة عن حد الإيمان للراسخين في العلم المشتغلين بالاتصاف بالتذلل والتواضع والتقوى والبر الذي أمر صلى الله عليه وسلم أن يتبع فيه حتى ينتهي العبد إلى أن يحبه الله، فيرفع عنه عجز الوقفه عن المتشابه، وينقذه من حجاب النورانية، فلا يشكل عليه دقيق ولا يعييه خفي بما أحبه الله، وما بين ذلك من خوض دون إنقاذ هذه العناية فنقص عن حد رتبة الإيمان والرسوخ في العلم، فكل خائض فيه ناقص من حيث يحب أن يزيد، فهو إما عجز إيماني من حيث الفطر الخلقي، وإما تحقق إيقاني توجبه العناية والمحبة انتهى.
ولما ذكر سبحانه وتعالى اتباعهم له ذكر علته فقال: {ابتغاء الفتنة} أي تمييل الناس عن عقائدهم بالشكوك {وابتغاء تأويله} أي ترجيعه إلى ما يشتهونه وتدعوا إليه نفوسهم المائلة وأهويتهم الباطلة بادعاء أنه مآله. قال الحرالي: والابتغاء افتعال: تكلف البغي، وهو شدة الطلب، وجعله تعالى ابتغاءين لاختلاف وجهيه، فجعل الأول فتنة لتعلقه بالغير وجعل الثاني تأويلاً أي طلباً للمآل عنده، لاقتصاره على نفسه، فكان أهون الزيغين انتهى.
ولما بين زيغهم بين أن نسبة خوضهم فيما لا يمكنهم علمه فقال: {وما} أي والحال أنه ما {يعلم} في الحال وعلى القطع {تأويله} قال الحرالي: هو ما يؤول إليه أمر الشيء في مآله إلى معاده {إلا الله} أي المحيط قدرة وعلماً، قال: ولكل باد من الخلق مآل كما أن الآخرة مآل الدنيا {يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق} [الأعراف: 53] لذلك كل يوم من أيام الآخرة مآل للذي قبله، فيوم الخلود مآل يوم الجزاء، ومآل الأبد مآل يوم الخلود؛ وأبد الأبد مآل الأبد، وكذلك كل الخلق له مآل من الأمر فأمر الله مآل خلقه وكذلك الأمر، كل تنزيل أعلى منه مآل التنزيل الأدنى إلى كمال الأمر، وكل أمر الله مآل من أسمائه وتجلياته، وكل تجل أجلى مآل لما دونه من تجل أخفى، قال عيه الصلاة والسلام: «فيأتيهم ربهم في غير الصورة التي يعرفونها الحديث إلى قوله: أنت ربنا» فكان تجليه الأظهر لهم مآل تجليه الأخفى عنهم؛ فكان كل أقرب للخلق من غيب خلق وقائم أمر وعلى تجل إبلاغاً إلى ما وراءه فكان تأويله، فلم تكن الإحاطة بالتأويل المحيط إلا لله سبحانه وتعالى. ولما ذكر الزائغين ذكر الثابتين فقال: {والراسخون في العلم} قال الحرالي: وهم المتحققون في أعلام العلم من حيث إن الرسوخ النزول بالثقل في الشيء الرخو ليس الظهورعلى الشيء، فلرسوخهم كانوا أهل إيمان، ولو أنهم كانوا ظاهرين على العلم كانوا أهل إيقان، لكنهم راسخون في العلم لم يظهروا بصفاء الإيقان على نور العلم، فثبتهم الله سبحانه وتعالى عند حد التوقف فكانوا دائمين على الإيمان بقوله: {يقولون آمنا به} بصيغة الدوام انتهى أي هذا حالهم في رسوخهم.
ولما كان هذا قسيماً لقوله: {وأما الذين في قلوبهم زيغ} كان ذلك واضحاً في كونه ابتداء وأن الوقوف على ما قبله، ولما كان هذا الضمير محتملاً للمحكم فقط قال: {كل} أي من المحكم والمتشابه. قال الحرالي: وهذه الكلمة معرفة بتعريف الإحاطة التي أهل النحاة ذكرها في وجوه التعريف إلا من ألاح معناها منهم فلم يلقن ولم ينقل جماعتهم ذلك؛ وهو من أكمل وجوه التعريف، لأن حقيقة التعريف التعين بعيان أو عقل، وهي إشارة إلى إحاطة ما أنزله على إبهامه، فكان مرجع المتشابه والمحكم عندهم مرجعاً واحداً، آمنوا بمحل اجتماعه الذي منه نشأ فرقانه، لأن كل مفترق بالحقيقة إنما هو معروج من حد اجتماع، فما رجع إليه الإيمان في قلولهم: آمنا به، هو محل اجتماع المحكم والمتشابه في إحاطة الكتاب قبل تفصيله انتهى. {من عند ربنا} أي المحسن إلينا بكل اعتبار، ولعله عبر بعند وهي بالأمر الظاهر بخلاف لدن إشارة إلى ظهور ذلك عند التأمل، وعبروه عن الاشتباه.
ولما كان مع كل مشتبه أمر إذا دقق النظر فيه رجع إلى مثال حاضر للعقل إما محسوس وإما في حد ظهور المحسوس قال معمماً لمدح المتأملين على دقة الأمر وشدة عموضه بإدغام تاء التفعل مشيراً إلى أنهم تأهلوا بالرسوخ إلى الارتقاء عن رتبته، ملوحاً إلى أنه لا فهم لغيرهم عاطفاً على ما تقديره: فذكرهم الله من معاني المتشابه ببركه إيمانهم وتسليمهم بما نصبه من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم ما يمكن أن يكون إرادة منه سبحانه وتعالى وإن لم يكن على القطع بأنه إرادة: {وما يذكر} أي من الراسخين بما سمع من المتشابه ما في حسه وعقله من أمثال ذلك {إلا أولوا الألباب} قال الحرالي: الذين لهم لب العقل الذي للراسخين في العلم ظاهره، فكان بين أهل الزيغ وأهل التذكر مقابلة بعيدة، فمنهم متذكر ينتهي إلى إيقان، وراسخ في العلم يقف عند حد إيمان، ومتأول يركن إلى لبس بدعة، وفاتن يتبع هوى؛ فأنبأ جملة هذا البيان عن أحوال الخلق بالنظر إلى تلقي الكتاب كما أنبأ بيان سورة البقرة عن جهات تلقيهم للأحكام انتهى.