فصل: تفسير الآيات (23- 25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (23- 25):

{إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25)}
ولما كان من المعلوم أن هذا شيء لا مثنوية فيه، وكانت الرتب التي دون شريف رتبته سبحانه كثيرة جداً لما له من العلو المطلق وكان ما يليها له حكم شرفها وحقيقها، وكان أول ذلك البلاغ منه سبحانه بلا واسطة ثم البلاغ بواسطة ملائكته الكرام منه، استثنى من {ملتحداً} على طريق لا ملجأً ولا منجى منك إلا إليك ففروا إلى الله فقال: {إلا بلاغاً} أي يبلغني كائناً {من الله} أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً، ولكنه لسعة رحمته يجري الأمور على ما يتعارفونه في أنه لا يأخذ أحداً إلا بحجة يعترفون بأنها حجة. ولما بين الرتبة الأولى التي هي أعلى، أتبعها التي تليها فقال: {ورسالاته} التي أوحي إليّ بها بواسطة الملك فإني أتلقى ذلك حق تلقيه بحفظه والعمل به فيكون، ذلك عاصماً من كل سوء في الدنيا والآخرة.
ولما كان التقدير لبيان أن الله شرف الرسل بأن أعطاهم عظمة من عظمته فجعل عصيانهم عصيانه، فيكون جزاء من عصاهم هو جزاء من عصاه سبحانه وتعالى لأنهم إنما يتكلمون بأمره، فمن يطع الله ورسوله فإن له جنة نعيم يكونون فيها مدى الدهر سعداء، عطف عليه قوله: {ومن يعص الله} أي الذي له العظمة كلها {ورسوله} الذي ختم به النبوة والرسالة فجعل رسالته محيطة بجميع خلقه في التوحيد أو غيره على سبيل الجحد {فإن له} أي خاصة {نار جهنم} أي التي تلقاه بالعبوسة والغيظ، ولما عبر بالإفراد نظراً إلى لفظ {من} لأنه أصرح في كل فرد، عبر بالجمع حملاً على معناها لأنه أدل على عموم الذل فقال: {خالدين فيها} وأكد المعنى وحققه لقول من يدعي الانقطاع فقال: {أبداً *} وأما من يدعي أنها تحرق وأن عذابها عذوبة فليس أحد أجنّ منه إلا من يتابعه على ضلاله وغيه ومحاله، وليس لهم دراء إلا السيف في الدنيا والعذاب في الآخرة بما سموه عذوبة وهم صائرون إليه وموقوفون عليه.
ولما ذكر تلبدهم عليه وقدم ما هو الأهم من أمره من كشف غمومهم بإعلامهم أن ذلك الذي أنكروه عليه هو الذي يحق له، ومن أنه مع ضعفه عن مقاواتهم هو عن الإعراض عن الله أضعف لأن الله أقوى من كل شيء وأنه لا يسعه إلا امتثال أمره، وأشار إلى أنهم عاجزون عن سطواته سبحانه بعدم القدرة على الإجارة عليه، صرح بذلك مهدداً لهم، فقال مغيياً لتلبدهم عليه: {حتى إذا رأوا} أي بأبصارهم فيه {ما} أي الشيء الذي. ولما كان المنكي من الوعيد بروكه على كل من كان لأجله الوعيد لا كونه من معين قال: {يوعدون} أي ما حصل الإيعاد في الدنيا أو في الآخرة أما في الآخرة فواضح، وأما في الدنيا فمثل إخراج النبي صلى الله عليه وسلم مع اجتماع المشركين على المكر به لقتله واجتهادهم في ذلك ثم سراياه وغزواته مثل غزوة بدر وغيرها من أيام الله التي ملأت الأرض نوراً وأهل الحق سروراً وحبوراً، وأهل الباطل خسراً وبوراً ورعباً وهلاكاً وقبوراً {فسيعلمون} أي من ذلك اليوم الذي يكون فيه تأويله بوعد لا خلف فيه ولا طولاً لأمده {من أضعف ناصراً} أي من جهة الناصر أنا وإن كنت في هذا الوقت وحيداً مستضعفاً أو هم {وأقل عدداً *} وإن كانوا الآن بحيث لا يحصيهم عدداً إلا الله سبحانه، فيا لله ما أعظم كلام الرسل حيث يستضعفون أنفسهم من حيث هي، ويذكرون قوتهم من جهة مولاهم الذي بيده الملك وله جنود السماوات والأرض بخلاف أهل الإلحاد فإنه لا كلام لهم إلا في تعظيم أنفسهم وازدراء من سواهم، وإذا حاققت أحداً من أتباع أحد منهم قال هذا على لسان النبوة- ونحو هذا من مخادعاتهم.
ولما كان من المعلوم أنهم إذا سمعوا هذا الوعيد قالوا استهزاء وعمى عن طريق الصواب واستعلاء: متى يكون عجل به، استأنف قوله جواباً لهم جواب من لا يستخفه عجلة ولا ضجر لأنه لا يخاف الفوت ولا يلحقه ضرر ببقاء العدو واجتهادهم في أذى أوليائه ميبناً ما يجوز على الرسل من أنه يخفى عليهم ما على البشر ويطلعهم الله تعالى ما يخفي على غيرهم: {قل} أي في جوابهم إن كذبوا بإتيانهم العذاب وسألوا استهزاء منه عن وقت وقوعه أما كونه فلابد منه لأنه قد برز الوعيد به ممن لا يخلف الميعاد، وأما تعيين وقته فقد أخفاه سبحانه لأنه أقعد في التهديد وهو معنى قوله: {إن} أي ما {أدري} بوجه من الوجوه وإن عالجت ذلك وتسببت فيه، وزاد في تقرير خفائه وأنه لا يزال في حيز ما يسأل عنه بصيغة الاستفهام فقال مقدماً ما يخفيهم: {أقريب ما توعدون} أي يكون الآن أو قريباً من هذا الأوان بحيث يتوقع عن قرب {أم} بعيد {يجعل له} أي لهذا الوعي. ولما كان التأخير ربما أفهم تهاوناً بالولي. فقال دافعاً لذلك: {ربي} أي المحسن إليّ إن قدمه أو أخره {أمداً *} أي أجلاً مضروباً عظيماً بكل اعتبار حتى في البعد لا يتأتى مع ذلك أن يكون الآن ولا أن يتوقع دون ذلك الأمد، فهو في كل حال متوقع فكونوا على غاية الحذر لأنه لابد من وقوعه فوقوعه لا كلام فيه، وإنما الكلام في تعيين وقته.

.تفسير الآيات (26- 28):

{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)}
ولما نفى صلى الله عليه وسلم علمه عن نفسه الشريفة، نفى ذلك عن غيره على وجه عام لجميع الغيب جالٍ من عظمة مرسله ما تنقطع دونه الأعناق فقال واصفاً له: {عالم الغيب} أي كله وهو ما لم يبرز إلى عالم الشهادة فهو مختص سبحانه بعلمه، فلذلك سبب عنه قوله: {فلا يظهر} أي بوجه من الوجوه في وقت من الأوقات {على غيبه} أي الذي غيبه عن غيره فهو مختص به {أحداً *} لعزة علم الغيب ولأنه خاصة الملك. ولما كان لا يعلم الغيب إلا ببروزه على عالم الشهادة، وكان لأول من يطلع عليه شرف ينبغي أن يعرف له قال: {إلا من ارتضى} أي عمل الله تعالى في كونه رضي عمل من يتعمد ذلك ويجتهد فيه، وبين {من} بقوله: {من رسول} أي من الملائكة ومن الناس فإنه يظهر عليه ذلك المرتضى الموصوف لا كل مرتضى بأن يظهره على ما شاء منه لأن الغيب جنس لا تحقق له إلا في ضمن أفراده، فإذا ظهر فرد منه فقد ظهر فيه الجنس لظهور حصة منه، وتارة يكون ذلك الرسول ملكاً، وتارة يكون بشراً يكلمه الله بغير واسطة كموسى عليه الصلاة والسلام في أيام المناجاة، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج في العالم الأعلى في حضرة قاب قوسين أو أدنى، وإذا ظهر عليه الرسول خرج عن كونه غيباً، وأوصله الرسول إلى من أذن له في إيصاله له تارة بالوحي للأنبياء وتارة بالنفث والإلهام للأولياء، وذلك عند تهييء نفوسهم بسكون قواها عن منازعة العقل بالشهوات والحظوظ كما يكون للنفوس عامة حين سكون القوى عن المنازعة بالنوم فتكون متهيئة للنفث فيها فمن أعرض عن جانب الحس وأقبل على جناب القدس فقده هيأ نفسه لنفث الملك في ورعه بعلم ما لم يكن يعلم وليس أحد من الناس إلا وقد علم من نفسه أنه إذا أقبل على شيء بكليته حدث له فيه أمور حدسية إلهامية بغتة من غير سابقة فكر وطلب، وعلى قدر التهيئة يكون النفث من قبل الله سبحانه وتعالى، وربما كان النفث شيطانياً بما تلقته الشياطين من الاستراقات من الملائكة إما من الأرض بعد نزولهم أو من السماء بالاستراق فيها- والله أعلم، ويجوز أن يكون للأولياء مشافهة من الملك كما كان لمريم عليها السلام من الملائكة، وقال جبريل عليه الصلاة والسلام عن بعضهم إنه لو سلم رد عليه. ولما دل هذا السياق على عزة علم الغيب وكانت عزته سبباً لحراسة من يطلع عليه ليؤديه إلى من أمر به كما أمر به، أعلم سبحانه وتعالى بذلك بقوله مؤكداً تمييزاً له من علم الكهان الذي أصله من الجان دالاًّ على إجلال الرسل وإعظامهم وتبجيلهم وإكرامهم: {فإنه} أي الله سبحانه وتعالى يظهر ذلك الرسول على ما يريد من الغيب.
وذلك أنه إذا أراد إظهاره عليه {يسلك} أي يدخل إدخال السلك في الجوهرة في تقومه ونفوذه من غير أدنى تعريج إلى غير المراد. ولما كان الغرض يحصل بمن يقيمه سبحانه من جنوده للحراسة ولو أنه واحد من كل جهة بل وبغير ذلك، وإنما جعل هذا الإخراج للأمر على ما يتعارفه العباد، عبر بالجارّ دليلاً على عدم استغراق الرصد للجهات إلى منقطع الأرض مثلاً فقال: {من بين يديه} إلى الجهة التي يعلمها ذلك الرسول {ومن خلفه} أي الجهة التي تغيب عن علمه، فصار ذلك كفاية عن كل جهة، ويمكن أن يكون ذكر الجهتين دلالة على الكل وخصهما لأن العدو متى أعريت واحدة منهما أتى منها، ومتى حفظت لم يأت من غيرها، لأنه يصير بين الأولين والآخرين {رصداً *} أي حرساً من جنوده يحرسونه ويحفظونه بحفظ ما معه من الغيب من اختطاف الشياطين أو غيرهم لئلا يسترقوا شيئاً من خبره- قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وقال مقاتل وغيره رضي الله عنهما: يخبرونه بمن أنكره بأن يحذروه منه إن كان شيطاناً أو يأمروه بالسماع منه إن كان ملكاً، وذلك أن إبليس كان يأتي الأنبياء في صورة جبريل عليه السلام ولكن الله عصمهم منه.
ولما كان هذا الدأب من الحفظ في كل رسول بين الغاية جامعاً تعييناً لما اقتضاه الجنس، وبياناً لأن الأفراد أولاً مراد به الجمع، وأنه ما عبر به إلا لتشمل الحراسة كل فرد منهم فقال: {ليعلم} أي الله علماً كائناً واقعاً على هذه الصفة التي تعلق بها علمه في الأزل قبل وجودها بما لا يعلمه إلا هو سبحانه أنها ستكون {أن} أي إن الرسل عليهم الصلاة والسلام {قد أبلغوا} أي إلى من أرسلوا إليه {رسالات ربهم} أي الذي أوجدهم ودبر جميع أمورهم واختارهم لرسالاته على ما هي عليه لم يشبها شائبة ولا لحقها غبر. ولما كان هذا ربما أوهم أنه محتاج في الحفظ إلى الرصد أزال ذلك بقوله: {وأحاط} أي فعل ذلك والحال أنه قد أحاط {بما لديهم} أي الرسل والمرسل إليهم من الملائكة والبشر على أدق الوجوه وأعظمها وأغربها بما أشار إليه التعبير بلدى، ولما كان هذا كافياً في المقصود، لكنه قاصر على محل الحاجة عم تعريفاً بالأمر على ما هو عليه، فقال حاملاً على شدة الوثوق بما تقوله الرسل عن ربهم وأنه لا لبس فيه ولا غائلة بوجه، مبيناً غاية البيان كذب حديث الغرانيق الذي ذكره بعض المفسرين وغيرهم في سورة والنجم: {وأحصى} أي الله سبحانه وتعالى {كل شيء} أي على العموم من غير استثناء أصلاً {عدداً *} أي من جهة العدد لكل ما يمكن عده ولو على أقل مقادير الذر فيما لم يزل وفيما لا يزال، فهو دليل قاطع على علمه تعالى بالجزئيات كعلمه بالكليات، وقد التقى أول السورة وآخرها وباطنها الغيبي وظاهرها، فدل آخرها على الأول المجمل، وأولها على الآخر المفصل، وذلك أن أول السورة بين عظمة الوحي بسبب الجن، ثم بين في أثنائها حفظه من مسترقي السمع، وختم بتأكيد حفظه وحفظ جميع كلماته واستمر في تأكيد أمره حتى بانت عظمة هذا القرآن، وظهرت عزة هذا الفرقان، على كل كتاب، بكل اعتبار وحساب، فافتتح المزمل بمثل ذلك وختمها بالأمر بقراءة ما تيسر منه، وذكر في المدثر طعن الطاعن فيه وما ناله بسبب ذلك الطعن من الخزي والعذاب في الدنيا والآخرة مع ضمان الحفظ منه، ثم نهى نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة القيامة عن العجلة في أمره لئلا يختل حفظه، أو يزيغ أدنى زيغ لفظه، وتشريعاً لأمته في ترك الاستعجال، فإنه ليس من دأب الرجال، ثم أكد أمر تنزيله في الإنسان، وبين أن علة الإعراض عنه حب العاجلة التي هي عين النقصان، وختم المرسلات بنهاية ما تخيل الأوهام والظنون، فقال: {فبأي حديث بعده يؤمنون} [الأعراف: 185] فسبحان من نظمه هذا النظام، وجعله أقصى المراد وغاية المرام، وصلى الله على من لا نبي بعده على الدوام.

.سورة المزمل:

.تفسير الآيات (1- 5):

{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)}
لما تقدم في آخر الجن من تعظيم الوحي وأن من تعظيمه حفظ المرسل به من جميع الآفات المفترة عن إبلاغه بما له سبحانه من إحاطة العلم والقدرة وندب نبيه الذي ارتقاه لرسالته والاطلاع على ما أراده من غيبه صلى الله عليه وسلم أول هذه إلى القيام بأعباء النبوة بالمناجاة بهذا الوحي في وقت الأنس والخلوة بالأحباب، والبسط والجلوة لمن دق الباب، للاعتلاء والمتاب، المهيئ لحمل أعباء الرسالة، والمقوي على أثقال المعالجة لأهل الضلالة، فقال معبراً بالأداة الصالحة للقرب والبعد المختصة بأنه لا يقال بعدها إلا الأمور التي هي في غاية العظمة، أشار إلى أنه صلى الله عليه وسلم يراد به غاية القرب بالأمور البعيدة عن تناول الخلق بكونها خوارق للعادات ونواقض للمألوفات المطردات، وأما التزمل فهو وإن كان من آلات ذلك إلا أنه من الأمور العادية، فهو دون ما يراد من التهيئة لذلك الاستعداد، وبالتزمل لكونه منافياً للقيام في الصلاة: {يا أيها المزمل *} أي الذي أخفى شخصه وستر أمره وما أمرناه به- بما أشار إليه التزمل الذي مدلوله التلفف في الثوب على جميع البدن والاختفاء ولزوم مكان واحد، ولأنه يكون منطرحاً على الأرض كما قال صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد: «زملوهم بثيابهم ودمائهم» مع الإشارة إلى الإخفاء أيضاً بإدغام تاء التفعل، وربما أشار الإدغام إلى أن الستر بالثوب لم يعم جميع البدن، كما يأتي في المدثر على أن فيه مع ذلك إشارة إلى البشارة بالقوة على حمل أعباء ما يراد به، من قولهم: زمل الشيء- إذا رفعه وحمله، والازدمال: احتمال الشيء، وزملت الرجل على البعير وغيره- إذا حملته عليه، ومن زملت الدابة في عدوها- إذا نشطت، والزامل من حمر الوحش الذي كأنه يظلع من نشاطه، ورجل إزميل: شديد، والزاملة: بعير يستظهر به الرجل لحمل طعامه ومتاعه عليه، ويقال للرجل العالم بالأمر: هو ابن زوملتها، وقال ابن عطاء: يا أيها المخفي ما تظهره عليه من آثار الخصوصية! هذا أوان كشفه، وقال عكرمة: يا أيها الذي حمل هذا الأمر، وقال السدي: أراد يا أيها النائم، وقال غيره: كان هذا في ابتداء الوحي بالنبوة، والمدثر في ابتداء الوحي بالرسالة، ثم خوطب بعد ذلك بالنبي والرسول: {قم} أي في خدمتنا بحمل أعباء نبوتنا والازدمال بالاجتهاد في الاحتمال، واترك التزمل فإنه مناف للقيام.
ولما كان الاجتهاد في الخدمة دالاًّ على غاية المحبة، وكانت النية خيراً من العمل، وكان الإنسان مجبولاً على الضعف، وكان سبحانه لطيفاً بهذه الأمة تشريفاً لإمامها صلى الله عليه وسلم، رضى منا سبحانه بصدق التوجه إلى العمل وجعل أجورنا أكثر من أعمالنا، فجعل إحياء البعض إحياء للكل، فأطلق اسم الكل وأراد البعض فقال: {الليل} أي الذي هو وقت الخلوة والخفية والستر، فصل لنا في كل ليلة من هذا الجنس وقف بين يدينا بالمناجاة والأنس بما أنزلنا عليك من كلامنا فإنا نريد إظهارك وإعلاء قدرك في البر والبحر والسر والجهر، وقيام الليل في الشرع معناه الصلاة فلذا لم يقيده، وهي جامعة لأنواع الأعمال الظاهرة والباطنة، وهي عمادها، فذكرها دال على ما عداها.
ولما كان للبدن حظ في الراحة قال مستثنياً من الليل: {إلا قليلاً} أي من كل ليلة، ونودي هذا النداءلأنه صلى الله عليه وسلم لما جاءه الوحي بغار حراء رجع إلى خديجة زوجته رضي الله تعالى عنها يرجف فؤاده فقال: «زملوني زملوني! لقد خشيت على نفسي». فسألته رضي الله عنها عن حاله، فلما قص عليها أمره- قال: «خشيت على نفسي» يعني أن يكون هذا مبادئ شعر أو كهانة، وكل ذلك من الشياطين وأن يكون الذي ظهر له بالوحي ليس بملك، وكان صلى الله عليه وسلم يبغض الشعر والكهانة غاية البغضة، فقالت له وكانت وزيرة صدق: كلا والله! لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكل وتعين على نوائب الحق، ونحو هذا من المقال الذي يثبت، وفائدة التزمل أن الشجاع الكامل إذا دهمه أمر هو فوق قواه ففرق أمره فرجع إلى نفسه، وقصر بصره وبصيرته على حسه، اجتمعت قواه إليه فقويت جبلته الصالحة على تلك العوارض التخييلية فهزمتها فرجع إلى أمر الجبلة العلية، وزال ما عرض من العلة البدنية.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما كان ذكر إسلام الجن قد أحرز غاية انتهى مرماها وتم مقصدها ومبناها، وهي الإعلام باستجابة هؤلاء وحرمان من كان أولى بالاستجابة، وأقرب في ظاهر الأمر إلى الإنابة، بعد تقدم وعيدهم وشديد تهديدهم، صرف الكلام إلى أمره صلى الله عليه وسلم بما يلزمه من وظائف عبادته وما يلزمه في أذكاره من ليله ونهاره، مفتتحاً ذلك بأجمل مكالمة وألطف مخاطبة {يا أيها المزمل} [المزمل: 1] وكان ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم كما ورد {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} [فاطر: 8] إلى آخره، وليحصل منه الاكتراث بعناد من قدم عناده وكثرة لججه، وأتبع ذلك بما يشهد لهذا الغرض ويعضده وهو قوله تعالى: {فاصبر صبراً جميلاً} [المعارج: 5] {واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً} [المزمل: 10- 11] وهذا عين الوارد في قوله تعالى: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} [فاطر: 8] وفي قوله: {نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار} [ق: 45] ثم قال: {إن لدينا أنكالاً} [المزمل: 12] فذكر ما أعد لهم، وإذا تأملت هذه الآي وجدتها قاطعة بما قدمناه، وبان لك التحام ما ذكره، ثم رجع الكلام إلى التلطف به عليه الصلاة والسلام وبأصحابه- رضي الله عنهم أجمعين- وأجزل جزاءهم مع وقوع التقصير ممن يصح منه تعظيم المعبود الحق جل جلاله {علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} [المزمل: 20] ثم ختم السورة بالاستغفار من كل ما تقدم من عناد الجاحدين المقدم ذكرهم فيما قبل من السور إلى ما لا يفي العباد المستجيبون به مما أشار إليه قوله تعالى: {علم أن لن تحصوه} [المزمل: 20] انتهى.
ولما كان الليل اسماً لما بين غروب الشمس وطلوع الفجر، وكان قيامه في غاية المشقة، حمل سبحانه من ثقل ذلك، فقال مبيناً لمراده بما حط عليه الكلام بعد الاستثناء، ومبدلاً من جملة المستثنى والمستثنى منه: {نصفه} أي الليل، فعلم أن المراد بالقليل المستثنى النصف، وسماه قليلاً بالنسبة إلى جميع الليل، وبالنسبة إلى النصف الذي وقع إحياؤه، لأن ما يلي بالعمل أكثر مما لا عمل فيه، ويجوز أن يكون {نصفه} بدلاً من الليل، فيكون كأنه قيل: قم نصف الليل إلا قليلاً وهو السدس أو انقص منه إلى الربع، وجاءت العبارة هكذا لتفيد أن من قام ثلث الليل بل ربعه فما فوقه كان محيياً لليل كله.
ولما كانت الهمم مختلفة بالنسبة إلى الأشخاص وبالنسبة إلى الأوقات قال: {أو انقص منه} أي هذا النصف الذي أمرت بقيامه، أو من النصف المستثنى منه القليل على الوجه الثاني وهو الثلث {قليلاً} فلا تقمه حتى لو أحييت ثلث الليل على الوجه الأول أو ربعه على الوجه الثاني كنت محيياً له كله في فضل الله بالتضعيف {أو زد عليه} أي على النصف قليلاً كالسدس مثلاً، فيكون الذي تقومه الثلثين مثلاً، وعلى كل تقدير من هذه التقادير يصادف القيام- وهو لا يكون إلا بعد النوم: الوقت الذي يباركه الله بالتجلي فيه فإنه صح أنه ينزل سبحانه عن أن يشبه ذاته شيئاً أو نزوله نزول غيره بل هو كناية عن فتح باب السماء الذي هو كناية عن وقت استجابة الدعاء- حين يبقى ثلث الليل- وفي رواية: حين يبقى شطر الليل الآخر- إلى سماء الدنيا فيقول: هل من سائل فأعطيه، هل من تائب فأتوب عليه، هل من كذا هل من كذا حتى يطلع الفجر. وكان هذا القيام في أول الإسلام فرضاً عليهم على التخيير بين هذه المقادير الثلاثة فكانوا يشقون على أنفسهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب، وكذا بعض أصحابه رضي الله تعالى عنهم واشتد ذلك عليهم حتى انتفخت أقدامهم، وكان هذا قبل فريضة الخمس، فنزل آخرها بالتخفيف بعد سنة: {علم أن لن تحصوه} [المزمل: 20] الآيات، فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة.
ولما أمر بالقيام وقدر وقته وعينه، أمر بهيئة التلاوة على وجه عام للنهار معلم بأن القيام بالصلاة التي روحها القرآن فقال: {ورتل القرآن} أي اقرأه على تؤدة وبين حروفه بحيث يتمكن السامع من عدها وحتى يكون المتلو شبيهاً بالثغر المرتل وهو المفلج المشبه بنور الأقحوان، فإن ذلك موجب لتدبره فتكشف له مهماته وينجلي عليه أسراره وخفياته، قال ابن مسعود رضي الله عنه: ولا تنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هذ الشعر، ولكن قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة. روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قام حتى أصبح بآية، والآية {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}» [المائدة: 118] ولما أعلم سبحانه بالترتيل أعلم بشرفه بالتأكيد بالمصدر فقال: {ترتيلاً}.
ولما كان المراد منه صلى الله عليه وسلم الثبات للنبوة ومن أمته الثبات في الاقتداء به في العمل والأمر والنهي، وكان ذلك في غاية الصعوبة، وكان الإنسان عاجزاً إلا بإعانة مولاه، وكان العون النافع إنما يكون لمن صفت نفسه عن الأكدار وأشرقت بالأنوار، وكان ذلك إنما يكون بالاجتهاد في خدمته سبحانه، علل هذا الأمر بقوله مبيناً للقرآن الذي أمر بقراءته ما هو وما وصفه، معلماً أن التهجد يعد للنفس من القوى ما به يعالج المشقات، مؤكداً لأن الإتيان بما هو خارج عن جميع أشكال الكلام لا يكاد يصدق: {إنا} أي بما لنا من العظمة {سنلقي} أي قريباً بوعد لا خلف فيه فتهيأ لذلك بما يحق له.
ولما كان المقام لبيان الصعوبة، عبر بأداة الاستعلاء فقال: {عليك} وأشار إلى اليسر مع ذلك إشارة إلى {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} [القمر: 17] بالتعبير بما تدور مادته على اليسر والخفة فقال: {قولاً} يعني القرآن {ثقيلاً} أي لما فيه من التكاليف الشاقة من جهة حملها وتحميلها للمدعوين لأنها تضاد الطبع وتخالف النفس، ومن جهة رزانة لفظه لامتلائه بالمعاني مع جلالة معناه وتصاعده في خفاء فلا يفهمه المتأمل ويستخرج ما فيه من الجواهر إلا بمزيد فكر وتصفية سر وتجريد نظر، فهو ثقيل على الموافق من جميع هذه الوجوه وغيرها، وعلى المخالف من جهة أنه لا يقدر على رده ولا يتمكن من طعن فيه بوجه مع أنه ثقيل في الميزان وعند تلقيه وله وزن وخطر وقدر عظيم، روي في الصحيح: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه الوحي يفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشاتي الشديد البرد وكان- إذا أنزل عليه الوحي وهو راكب على ناقته وضعت جرانها فلا تكاد تتحرك حتى يسري عنه قال القشيري: وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن سورة الأنعام نزلت عليه جملة واحدة وهو راكب فبركت ناقته من ثقل القرآن وهيبته، وهو مع ثقله على الأركان خفيف على اللسان سهل التلاوة والحفظ على الإنسان.