فصل: تفسير الآيات (6- 9):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (6- 9):

{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)}
ولما أفهم هذا أن التهجد في غاية العظمة، أكد ذلك حاثاً على عدم الرضى بدون الأفضل الأجمل الأكمل بقوله: مؤكداً ليخف أمر القيام على النفس: {إن ناشئة الّيل} أي ساعاته التي كل واحدة منها ناشئة والعبادة تنشأ فيه بغاية الخفة، من نشأ أي نهض من مضجعه بغاية النشاط لقوة الهمة ومضاء العزيمة التي جعلتها كأنها نشأت بنفسها، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما كان بعد العشاء فهو ناشئة، وما كان قبله فليس بناشئة، وقالت عائشة رضي الله عنها: الناشئة القيام بعد النوم، وقال الأزهري: الناشئة القيام، مصدر جاء على فاعلة كالعافية بمعنى العفو.
ولما كان ذلك في غاية الصعوبة لشدة منافرته للطبع، زاد في التأكيد ترغيباً فيه فقال: {هي} أي خاصة لما لها من المزايا {أشد} أي أثقل وأقوى وأمتن وأرصن {وطأً} أي كلفة ومشقة لما فيها نم ترك الراحة وفراق الألف والمحبوب، وأشد ثبات قدم- على أنه مصرد وطئ في قراءة الجماعة- بفتح ثم سكون، ومواطأة بين القلب واللسان في الحضور وفي التزام الدين بالإذعان والخضوع على أنه مصدر واطأ مثل قاتل على قراءة أبي عمرو وابن عامر بالكسر والمد وهي أبلغ لأن صيغة المفاعلة تكون بين اثنين يغالبان فيكون الفعل أقوى.
ولما كان التهجد يجمع القول والفعل، وبين ما في الفعل لأنه أشق، فكان بتقديم الترغيب بالمدحة أحق، أتبعه القول فقال: {وأقوم قيلاً *} أي وأعظم سداداً من جهة القيل في فهمه ووقعه في القلوب بحضور القلب ورياقة الليل بهدوء الأصواء وتجلي الرب سبحانه وتعالى بحصول البركات، وأخلص من الرياء والقصود الدنيات.
ولما بين سبحانه من أول السورة إلى هنا ما به صلاح الدين الذي عصمه الأمر وبه صلاح الدارين، وأظهر ما للتهجد من الفضائل، فكان التقدير حتماً: فواظب عليه لتناول هذه الثمرات، قال معلّلاً محققاً له مبيناً ما به صلاح الدنيا التي هي فيها المعاش، وصلاحها وسيلة إلى صلاح المقصود، وهو الدين وهو الذي ينبغي له لئلا يكون كلاًّ على الناس ليحصل من الرزق ما يعينه على دينه ويوسع به على عيال الله من غير ملل ولا ضجر ولا كسل ولا مبالغة، مؤكداً لما للنفس من الكسل عنه: {إن لك} أي أيها المتهجد أو يا أكرم العباد إن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ليكون آكد في إلزام الأمة به {في النهار} الذي هو محل السعي في مصالح الدنيا.
ولما كان الإنسان يهتم في سعيه لنفسه حتى يكون كأنه لشدة عزمه وسرعة حركته كالسابح فيما لا عائق له فيه قال: {سبحاً طويلاً *} أي تقلباً ممتد الزمان، قال البغوي: وأصل السبح سرعة الذهاب، وقال الرازي: سهولة الحركة.
ولما كان التقدير: فاجتهد في التهجد، عطف عليه قوله حاثاً على حضور الفكر: {واذكر اسم ربك} أي المحسن إليك والموجد والمدبر لك بكل ما يكون ذكراً من اسم وصفة وثناء وخضوع وتسبيح وتحميد وصلاة وقراءة ودعاء وإقبال على علم شرعي وأدب مرعي ودم على ذلك، فإذا عظمت الاسم بالذكر فقد عظمت المسمى بالتوحيد والإخلاص، وذلك عون لك على مصالح الدارين، أما الآخرة فواضح، وأما الدنيا فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أعز الخلق عليه فاطمة ابنته رضي الله عنها لما سألته خادماً يقيها التعب إلى التسبيح والتحميد والتكبير عند النوم.
ولما كان الذكر قد يكون مع التعلق بالغير، أعلم أن الذاكر في الحقيقة إنما هو المستغرق فيه سبحانه وبه يكون تمام العون فقال: {وتبتل} أي اجتهد في قطع نفسك عن كل شاغل، والإخلاص في جميع أعمالها بالتدريج قليلاً قليلاً، منتهياً: {إليه} ولا تزل على ذلك حتى يصير لك ذلك خلقاً فتكون نفسك كأنها منقطعة بغير قاطع ومقطعة تقطعياً كثيراً بكل قاطع، فيكون التقدير- بما أرشد إليه المصدر تبتلاً وبتلها {تبتيلاً} فأعلم بالتأكيد بالمصدر المرشد إلى الجمع بين التفعل والتفعيل بشدة الاهتمام وصعوبة المقام، وهو من البتل وهو القطع، صدقة بتلة أي مقطوعة عن صاحبها، ولذلك قال زيد بن أسلم: التبتل رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله تعالى، والبتول مريم عليها السلام لانقطاعها إلى الله تعالى، عن جميع خلقه، وكذا فاطمة الزهراء البتول أيضاً لانقطاعها عن قرين ومثيل ونظير، فالمراد بهذا هو المراد بكلمة التوحيد المقتضية للإقبال عليه والإعراض عن كل ما سواه، وذلك بملازمة الذكر وخلع الهوى، والآية من الاحتباك وهو ظاهر: ذكر فعل التبتل دليلاً على حذف مصدره، وذكر مصدر بتل ديليلاً على حذف فعله.
ولما كان الواجب على كل أحد شكر المنعم، بين أنه سبحانه الذي أنعم يسكن الليل الذي أمر بالتهجد فيه ومنتشر النهار الذي أمر بالسبح فيه، فقال واصفاً الرب المأمور بذكره في قراءة ابن عامر ويعقوب والكوفيين غير حفص معظماً له بالقطع في قراءة الباقين بالرفع: {رب المشرق} أي موجد محل الأنوار التي بها ينمحي هذا الليل الذي أنت قائم فيه ويضيء بها الصباح وعند الصباح يحمد القوم السرى بما أنالهم من الأنوار في مرائي قلوبهم وما زينها به من شهب المعاني كما أوجد لهم في آفاق أفلاكهم من شموس المعاني المثمرة ليدور الأنس في مواطن القدس، فلا يطلع كوكب في الموضع الذي هو ربه إلا بإذنه، وهو رب كل مكان، وما أحسن ما قال الإمام الرباني تقي الدين بن دقيق العيد:
كم ليلة فيك وصلنا السرى ** لا نعرف الغمض ولا نستريح

واختلف الأصحاب ماذا الذي ** يزيح من شكواهم أو يريح

فقيل تعريسهم ساعة ** وقلت بل ذكراك وهو الصحيح

ولما ذكر مطالع الأنوار، لأنها المقصود لما لها من جلي الإظهار، ووحد لأنه أوفق لمقصود السورة الذي هو محطة لانجماح المدلول عليه بالتزمل، أتبعه مقابله فقال: {والمغرب} أي الذي يكون عنه الليل والذي هو محل السكن وموضع الخلوات ولذيذ المناجاة، فلا تغرب شمس ولا قمر ولا نجم إلا بتقديره سبحانه، وإذا كان رب ما فيه هذه الصنائع التي هي أبدع ما يكون كان رب ما دون ذلك.
لما علم بهذا أنه المختص بتدبير الكائنات، المتفرد بإيجاد الموجودات، كان أهلاً لأن يفرد بالعبادة وجميع التوجه فقال مستأنفاً: {لا إله} أي معبود بحق {إلا هو} أي ربك الذي دلت تربيته لك على مجامع العظمة وأنهى صفات الكمال والتنزه عن كل شائبة نقص. ولما علم تفرده سبحانه كان الذي ينبغي لعباده أن لا يوجه أحد منهم شيئاً من رغبته لغيره فلذلك سبب عنه قوله: {فاتخذه} أي خذه بجميع جهدك وذلك بإفرادك إياه بكونه تعالى {وكيلاً} أي على كل من خالفك بأن تفوض جميع أمورك إليه فإنه يكفيكها كلها ويكلؤها غاية الكلاية فإنه المتفرد بالقدرة عليها، ولا شيء أصلاً في يد غيره، فلا تهتم بشيء أصلاً، وليس ذلك بأن يترك الإنسان كل عمل، فإن ذلك طمع فارغ بل بالإجمال في طلب كل ما ندب الإنسان إلى طلبه، ليكون متوكلاً في السبب لا من دون سبب، فإنه يكون حينئذ كمن يطلب الولد من غير زوجة، وهو مخالف لحكمة هذه الدار المبنية على الأسباب، ولو لم يكن في إفراده بالوكالة إلا أنه يفارق الوكلاء بالعظمة والشرف والرفق من جميع الوجوه فإن وكيلك من الناس دونك وأنت تتوقع أن يكلمك كثيراً في مصالحك وربك أعظم العظماء وهو يأمرك أن تكلمه كثيراً في مصالحك وتسأله طويلاً ووكيلك من الناس- إذا حصّل مالك سألك الأجرة وهو سبحانه يوفر مالك ويعطيك الأجر، ووكيلك من الناس ينفق عليك من مالك وهو سبحانه يرزقك وينفق عليك من ماله، ومن تمسك بهذه الآية عاش حراً كريماً، ومات خالصاً شريفاً، ولقي الله تعالى عبداً صافياً مختاراً تقياً، ومن شرط الموحد أن يتوجه إلى الواحد ويقبل على الواحد ويبذل له نفسه عبودية ويأتمنه على نفسه ويفوض إليه أموره ويترك التدبير ويثق به ويركن إليه ويتذلل لربوبيته، ويتواضع لعظمته ويتزين ببهائه ويتخذه عدة لكل نائبة دنيا وآخرة.

.تفسير الآيات (10- 15):

{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15)}
ولما كانت الوكالة لا تكون إلا فيما يعجز، وكان الأمر بها مشيراً إلى أنه لابد أن يكون عن هذا القول الثقيل خطوب طوال وزلازل وأهوال، قال: {واصبر} وأشار إلى عظمة الصبر بتعديته بحرف الاستعلاء فقال: {على ما} وخفف الأمر بالإشارة إلى أنهم لا يصلون إلى غير الأذى بالقول، وعظمه باستمرارهم عليه فقال: {يقولون} أي المخالفون المفهومون من الوكالة من مدافعتهم الحق بالباطل في حق الله وحقك.
ولما كانت مجانبة البغيض إلا عند الاضطرار مما يخفف من أذاه قال: {واهجرهم} أي أعرض عنهم جهاراً دافعاً للهرج مهما أمكن {هجراً جميلاً} بأن تعاشرهم بظاهرك وتباينهم بسرك وخاطرك، فلا تخالطهم إلا فيما أمرك الله به على ما حده لك من دعائهم إليه سبحانه ومن موافاتهم في أفراحهم وأحزانهم فتؤدي حقوقهم ولا تطالبهم بحقوقك لا تصريحاً ولا تلويحاً.
ولما كان في أمره هذا بما يفعل ما يشق جداً بما فيه من احتمال علوهم، أعلم بقرب فرجه بتهديدهم بأخذهم سريعاً فقال: {وذرني} أي اتركني على أي حالة اتفقت مني في معاملتهم، وأظهر في موضع الإضمار تعليقاً للحكم بالوصف وتعميماً فقال: {والمكذبين} أي العريقين في التكذيب فإني قادر على رحمتهم وتعذيبهم.
ولما ذكر وصفهم الذي استحقوا به العذاب، ذكر الحامل عليه تزهيداً فيه وصرفاً عن معاشرة أهله لئلا تكون المعاشرة فتنة فتكون حاملة على الاتصاف به وجارّة إلى حب الدنيا فقال: {أولي النعمة} أي أصحاب التنعم بغضارة العيش والبهجة التي أفادتهموها النعمة- بالكسر وهي الإنعام وما ينعم به من الأموال والأولاد، والجاه الذي أفادته النعمة- بالضم وهي المسرة التي تقتضي الشكر وهم أكابر قريش وأغنياؤهم.
ولما كان العليم القدير إذا قال مثل هذا لولي من أوليائه عاجل عدوه، قال محققاً للمراد بما أمر به من الصبر من هذا في النعم الدنيوية بأن زمنها قصير: {ومهلهم} أي اتركهم برفق وتأن وتدريج ولا تهتم بشأنهم.
ولا سره بوعيدهم الشديد بهذه العبارة التي مضمونها أن أخذهم بيده صلى الله عليه وسلم وهو سبحانه يسأل في تأخيره لهم، زاد في البشارة بقوله: {قليلاً} أي من الزمان والإمهال إلى موتهم أو الإيقاع بهم قبله، وكان بين نزول هذه الآية وبين وقعة بدر يسير- قاله المحب الطبري، وفيه بشارة له صلى الله عليه وسلم بالبقاء بعد أخذهم كما كان، وأنه ليس محتاجاً في أمرهم إلى غير وكلهم سبحانه وتعالى بإلقائهم عن باله صلى الله عليه وسلم وتفريغ ظاهره وباطنه لما هو مأمور به من الله سبحانه وتعالى من الإقبال على الله سبحانه، ففي الآية أن من اشتغل بعدوه وكله الله إلى نفسه، فكان ذلك كالمانع من أخذ الله له، فإذا توكل عليه فقد أزال ذلك المانع-.
ولما كان هذا منادياً بعذابهم، وكان وصفهم بالنعمة مفهماً لأنهم معتادون بالمآكل الطيبة، وكان منع اللذيذ من المآكل لمن اعتاده لا يبلغ في نكاية النفس بحد نكاية البدن إلاّ بعد تقدم إهانة، استأنف قوله بياناً لنوع ما أفهمه التهديد من مطلق العذاب، وأكد لأجل تكذيبهم: {إن} وأشار إلى شدة غرابته وجلالته وعظمته وخصوصيته وتحقق حضوره بقوله: {لدينا} دون عندنا ولما كان أشد ما على الإنسان منعه مما يريد من الانبساط به بالحركات، قال ذاكراً ما يضاد ما هم فيه من النعمة والعز: {أنكالاً} جمع نكل بالكسر وهو القيد الثقيل الذي لا يفك أبداً إهانة لهم لا خوفاً من فرارهم، جزاء على تقييدهم أنفسهم بالشهوات عن اتباع الداعي وإيساعهم في المشي في فضاء الأهوية. ولما كان ذلك- محرقاً للباطن أتبعه حريق الظاهر فقال: {وجحيماً} أي ناراً حامية جداً شديدة الاتقاد بما كانوا يتقيدون به من تبريد الشراب، والتنعم برقيق اللباس والثياب، وتكلف أنواع الراحة.
ولما أتم ما يقابل تكذيبهم، أتبعه ما يقابل النعمة فقال: {وطعاماً ذا غصة} أي صاحب انتشاب في الحلق كالضريع والزقوم يشتبك فيه فلا يسوغ: لا ينزل ولا يخرج بما كانوا يعانونه من تصفية المآكل والمشارب، وإفراغ الجهد في الظفر بجميع المآرب. ولما خص عم فقال: {وعذاباً أليماً} أي مؤلماً شديد الإيلام لا يدع لهم عذوبة بشيء من الأشياء أصلاً بما كانوا يصفون به أوقاتهم ويكدرون على من يدعوهم إلى ما ينفعهم بالخلاص من قيود المشاهدات والعروج من حضيض الشهوات إلى أوج الباقيات الصالحات.
ولما ذكر هذا العذاب ذكر ظرفه فقال: {يوم ترجف} أي تضطرب وتتزلزل زلزالاً شديداً {الأرض} أي كلها {والجبال} التي هي أشدها. ولما كان التقدير: فكانت الأرض قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، عطف عليه قوله: {وكانت الجبال} أي التي هي مراسي الأرض وأوتادها، وعبر عن شدة الاختلاط والتلاشي بالتوحيد فقال: {كثيباً} أي رملاً مجتمعاً، فعيل بمعنى مفعول، من كثبه- إذا جمعه، ومادة كثب بتركيبها كثب- وكبث تدور على الجمع مع القرب، وتلزمه القلة، فإن حقيقة القرب قلة المسافة زماناً أو مكاناً، والنعومة، من كثبت التراب: درسته، وكثب عليه- بمعنى حمل أوكر، معناه قارب أن يخالطه، وكثيب الرمل: قطعة تنقاد محدودبة- ناظر إلى القلة من معنى قطعة، وكل ما انصب كذلك أيضاً لأن الانصاب عادة يكون لما قل وأما نعم كثاب بتقديم الثاء وبتأخيرها أيضاً أي كثير فجاءته الكثرة من الصيغة، والكاثبة من الفرس هو أضيق موضع في عرضها، والكثبة من الأرض: المطمئنة بين الجبال- لأنها تكون صغيرة غالباً، والكباث كسحاب: النضيج من ثمر الأراك، وقيل: ما لم ينضج، وقيل: حمله إذا كان متفرقاً، فإن أريد النضيج منه فتسميته به لأنه مجتمع، وإن أريد ما لم ينضج فهو من مقاربة النضج، وإن أريد المتفرق فلقرب بعضه من بعض لأن الأراك نفسه صغير الشجر، وكبث اللحم- كفرح: بات مغموماً فتغير أو أروح أي جمع على إنائه الذي هو فيه إناء آخر، أو جمع ما هو فيه حتى تضايق فهو من الجمع لهذا، وأما الكنبث كقنفذ والثاء مؤخرة: الصلب الشديد، فهو في الغالب من تجمع أجزائه وتداخل بعضها في بعض، وتكبيث السفينة أن تجنح إلى الأرض، هو من الجمع والقرب معاً، وأما كثبت كنانته- بمعنى نكثها، فكان فعل استعمل هنا للإزالة، أي أزال اجتماعها أو بمعنى أنه قربها نم رميه بتسييرها لسرعة التناول.
ولما كان الكثيب ربما أطلق مجازاً على ما ارتفع وإن لم يكن ناعماً قال: {مهيلاً} أي رملاً سائلاً رخواً ليناً منثوراً، من هاله إذا نثره، وقال الكلبي: هو الذي إذا أخذت منه شيئاً تبعك ما بعده، ولما ذكر العذاب ووقته وقدمهما ليكون السامع أقبل لما يطلب منه، أتبعهما السبب فيه مشيراً إلى ما به إصلاح أمر الآخرة التي فيها المعاد وإليها المنتهى والمآب، فقال مؤكداً لأجل تكذيبهم: {إنا أرسلنا} أي بما لنا من العظمة {إليكم} يا أهل مكة شرفاً لكم خاصة، وإلى كل من بلغته الدعوة عامة {رسولاً} أي جداً هو محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمامهم صلى الله عليه وسلم {شاهداً عليكم} أي بما تصنعون ليؤدي الشهادة عند طلبها منه بما هو الحق يوم ننزع من كل أمة شهيداً وهو يوم القيامة.
ولما كانت هذه السورة من أول ما نزل والدين ضعيف وأهله في غاية القلة والذلة ليعتبر بهم من آل به أمره إلى أن كان في زمان صار فيه الدين غريباً كغربته إذ ذاك، وكان فرعون أعتى الناس في زمانه وأجبرهم، وأشدهم خداعاً وأمكرهم وكان بنو إسرائيل في غاية الذل له والطواعية لأمره، ومع ذلك فلما أرسل الله إليه موسى عليه السلام الذي ذبح فرعون أبناء بني إسرائيل لأجل أن يكون في جملة من ذبحه لأنه قيل له أنه يولد لبني إسرائيل مولود يكون هلاك القبط على يده أظهره به وأهلكه على قوته وأنجى منه بني إسرائيل على ضعفهم، قال تعالى تنبيهاً لقريش والعرب وغيرهم على أن من كان الله معه لا ينبغي أن يقاوي ولو أنه أضعف الخلق، وتنبيهاً لهم على الاعتبار بحال هذا الطاغية الذي يزيد عليهم بالملك وكثرة الجنود والأموال: {كما أرسلنا} أي بما لنا من العظمة {إلى فرعون} أي ملك مصر {رسولاً} ولعله نكره للتنبيه على أنه ليس من قوم فرعون فلا مانع له منه من حميم ولا شفيع يطاع، ليعلم أنه من كانت له قبيلة تحامي عنه أولى بالنصرة.