فصل: تفسير الآيات (4- 9):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (4- 9):

{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)}
ولما قسمهم إلى القسمين، ذكر جزاء كل قسم فقال مستأنفاً جواب من يسأل عن ذلك مبشراً للشاكر الذي استعد بعروجه في مراقي العبادات إلى ملكوت العلويات لروح وريحان وجنة نعيم، ومنذراً للكافر الذي استعد بالهبوط في دركات المخالفات إلى التقيد بالسفليات لنزل من حميم وتصلية جحيم، مقدماً للعاصي لأن طريق النشر المشوش أفصح، وليعادل البداءة بالشاكر في أصل التقسيم ليتعادل الخوف والرجاء، وليكون الشاكر أولاً وآخراً، ولأن الانقياد بالوعيد أتم لأنه أدل على القدرة لاسيما في حق أهل الجاهلية الذين بعدت عنهم معرفة التكاليف الشرعية، وأكثر في القرآن العظيم من الدعاء بالترغيب والترهيب لأنه الذي يفهمه الجهال الذين هم أغلب الناس دون الحجج والبراهين، فإنها لا يفهمها إلا الخواص، وأكد لأجل تكذيب الكفار: {إنا} أي على ما لنا من العظمة {أعتدنا} أي هيأنا وأحضرنا بشدة وغلظة {للكافرين} أي العريقين في الكفر خاصة، وقدم الأسهل في العذاب فالأسهل ترقياً فقال: {سلاسلاً} يقادون ويرتقون بها، وقراءة من نوّن مشيرة إلى أنها عظيمة جداً، وكذا وقف أبي عمرو عليه بالألف مع المنع من الصرف {وأغلالاً} أي جوامع تجمع أيديهم إلى أعناقهم فيها فيهانون بها {وسعيراً} أي ناراً حامية جداً شديدة الاتقاد.
ولما أوجز في جزاء الكافر، أتبعه جزاء الشاكر وأطنب فيه تأكيداً للترغيب، فإن النفوس بعد كسر الوعيد لها تهتز لأدنى وعد وأقله فكيف بأتمه وأجله، فقال مستأنفاً مؤكداً لتكذيب الكافر مبيناً بذكر الخمر على هذه الصفة أنهم في أنهى ما يكون من رغد العيش لأنه يلزم من شربها جميع مقدماتها ومتمماتها: {إن الأبرار} بخصوصهم من عموم الشاكرين جمع بر كأرباب جمع رب، أو بار كأشهاد جمع شاهد، وهم الذين سمت هممهم عن المستحقرات فظهرت في قلوبهم ينابيع الحكمة فأنفقوا من مساكنة الدنيا {يشربون} أي ما يريدون شربه {من كأس} أي خمر- قاله الحسن وهو اسم لقدح تكون فيه {كان مزاجها} أي الذي تمزج به {كافوراً} أي لبرده وعذوبته وطيب عرفه، وذكر فعل الكون يدل على أن له شأناً في المزج عظيماً يكون فيه كأنه من نفس الجبلة لا كما يعهد.
ولما كان الكافور أعلى ما نعهده جامداً، بين أنه هناك ليس كذلك، فقال مبدلاً من كافور: {عيناً يشرب بها} أي بمزاجها كما تقول: شربت الماء بالعسل {عباد الله} أي خواص الملك الأعظم وأولياؤه أي شراب أرادوه.
ولما كان المزاج يتكلف لنقله قال: {يفجرونها تفجيراً} أي حال كونهم يشققونها ويجرونها بغاية الكثرة إجراء حيث أرادوا من مساكنهم وإن علت وغيرها.
ولما ذكر جزاءهم على برهم المبين لشكرهم، أتبعه تفصيله فقال مستأنفاً بياناً لأن شكرهم بالتعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وعمارة الظاهر والباطن لأنهم جمعوا بين كرم الطبع ولطافة المزاج الحامل على تجويز الممكن المقتضي للإيمان بالغيب: {يوفون} أي على سبيل الاستمرار {بالنذر} وهذا كناية عن وفائهم بجميع أنحاء العبادة لأن من وفى بما أوجبه على نفسه كان بما أوجبه الله من غير واسطة أوفى، ويجوز أن يكون النذر كل ما تقدم إليهم فيه سبحانه.
ولما دل وفاؤهم على سلامة طباعهم، قال عاطفاً دلالة على جمعهم للأمرين المتعاطفين فهم يفعلون الوفاء لا لأجل الخوف بل لكرم الطبع: {ويخافون} أي مع فعلهم للواجبات {يوماً كان} أي كوناً هو في جبلته {شره} أي ما فيه من الشدائد {مستطيراً} أي موجود الطيران وجوداً كأنه بغاية الرغبة فيه فهو في غاية الانتشار، والخوف أدل دليل على عمارة الباطن، قالوا: وما فارق الخوف قلباً إلا خرب، من خاف أدلج، ومن أدلج المنزل، فالخوف لاجتناب الشر والوفاء لاجتلاب الخير.
ولما كان من خاف شيئاً سعى في الأمن منه بكل ما عساه ينفع فيه، وكان قد ذكر تذرعهم بالواجب، أتبعه المندوب دلالة على أنهم لا ركون لهم إلى الدنيا ولا وثوق بها، فقد جمعوا إلى كرم الطبع بالوفاء ورقة القلب شرف النفس بالانسلاخ من الفاني فقال: {ويطعمون الطعام} أي على حسب ما يتيسر لهم من عال ودون على الدوام. ولما كان الإنسان قد يسمح بما لا يلذ له قال: {على حبه} أي حبه إياه حباً هو في غاية المكنة منهم والاستعلاء على قلوبهم لقلته وشهوتهم له وحاجتهم إليه كما قال تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] ليفهم أنهم للفضل أشد بذلاً، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم أي الصحابة رضي الله عنهم- ولا نصيفه» لقلة الموجود إذ ذاك وكثرته بعد {مسكيناً} أي محتاجاً احتياجاً يسيراً، فصاحب الاحتياج الكثير أولى {ويتيماً} أي صغيراً لا أب له ذكراً كان أو أنثى {وأسيراً} أي في أيدي الكفار أي أعم من ذلك، فيدخل فيه المملوك والمسجون والكافر الذي في أيدي المسلمين، وقد نقل في غزوة بدر أن بعض الصحابة رضي الله عنهم كان يؤثر أسيره على نفسه بالخبز، وكان الخبز إذ ذاك عزيزاً حتى كان ذلك الأسير يعجب من مكارمهم حتى كان ذلك مما دعاه إلى الإسلام، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دفعهم إليهم قال: «استوصوا بهم خيراً» ومن حكم الأسير الحقيقي كل مضرور يفعلون ذلك والحال أنهم يقولون بلسان الحال أو القال إن احتيج إليه إزاحة لتوهم المن أو توقع المكافأة مؤكدين إشارة إلى أن الإخلاص أمر عزيز لا يكاد أحد يصدق أنه يتأتى لأحد: {إنما نطعمكم} أيها المحتاجون {لوجه الله} أي لذات الملك الذي استجمع الجلال والإكرام لكونه أمرنا بذلك، وعبر به لأن الوجه يستحيى منه ويرجى ويخشى عند رؤيته.
ولما أثبتوا بهذا الإخلاص، حققوه بنفي ما يغير فيه، وفسروه لما لا يكون إلا به فقالوا: {لا نريد منكم} أي لأجل ذلك {جزاء} أي لنا من أعراض الدنيا {ولا شكوراً} بشيء من قول ولا فعل، وكأنه اختير هذا المصدر المزيد كالدخول والخروج والقعود إيماءً إلى أن المنفي ما يتكلف له، وأما مثل المحبة والدعاء فلا، ولو أرادوا شيئاً من ذلك لما كان لله، وروي في سبب نزول هذه الآية: «أن علياً وابنيه وأمهما فاطمة رضي الله عنهم أجمعين آثروا على أنفسهم ثلاثة أيام، وأصبحوا الرابع يرتعشون، فلما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ساءه ذلك، فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام بهذه السورة مهنئاً له بها» ولا يستبعد الصبر على الجوع هذه المدة لأنه ربما كانت للنفس هيئة قوية من استغراق في محبة الله تعالى أو غير ذلك، فهبطت إلى البدن فشغلت الطبيعة عن تحليل الأجزاء فلا يحصل الجوع كما أنا نشاهد الإنسان يبقى في المرض الحاد مدة من غير تناول شيء من غذاء ولا يتأثر بدنه لذلك، فلا بدع أن تقف الأفعال الطبيعية في حق بعض السالكين وهو أحد القولين في قول النبي صلى الله عليه وسلم «إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني».

.تفسير الآيات (10- 17):

{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17)}
ولما كانت الأنفس مجبولة على حب الجزاء والثناء، فكان لا يكاد يصدق أحد أن أحداً يفعل ما لا يقصد به شيئاً من ذلك، وكان الله سبحانه وتعالى قد منَّ علينا بأن جعل العبادة لأجل خوفه ورجائه لا يقدح في الإخلاص، عللوا قولهم هذا على وجه التأكيد بقولهم: {إنا نخاف} ولما كان الخوف من المحسن بالنظر إلى إحسانه موجباً للخوف منه بالنظر إلى عزه وجبروته وسلطانه من باب الأولى قالوا: {من ربنا} أي الخالق لنا المحسن إلينا {يوماً} أي أهوال يوم هو- في غاية العظمة، وبينوا عظمته بقولهم: {عبوساً} أي ضيقاً- قاله ابن عباس رضي الله عنهما، نسبوا العبوس إليه لأنه في شدته كالأسد الغضوب، فهو موجب لعبوس الوجوه فيه أو هو لعبوس أهله ك «ليله قائم ونهاره صائم وعيشة راضية» {قمطريراً} أي طويلاً- قاله ابن عباس رضي الله عنهما، أو شديد العبوس مجتمع الشر كالذي يجمع ما بين عينيه- مأخوذ من القطر لأن يومه يكون عابساً، وزيد فيه الميم وبولغ فيه بالصيغة، وهو يوم القيامة، يقال: اقمطر اليوم فهو مقمطر- إذا كان صعباً شديداً.
ولما كان فعلهم هذا خالصاً لله، سبب عنه جزاءهم فقال مخبراً أنه دفع عنهم المضار وجلب لهم المسار: {فوقاهم الله} أي الملك الأعظم بسبب خوفهم {شر ذلك اليوم} أي العظيم، وأشار إلى نعيم الظاهر بقوله: {ولقّاهم} أي تلقية عظيمة فيه وفي غيره {نضرة} أي حسناً ونعمة تظهر على وجوههم وعيشاً هنيئاً، وإلى نعيم الباطن بقوله: {وسروراً} أي دائماً في قلوبهم في مقابلة خوفهم في الدنيا وعبوس الكفار في الآخرة وخزيهم- وهذا يدل على أن وصف اليوم بالعبوس للدلالة على المبالغة في عبوس أهله، وأشار إلى المسكن بقوله: {وجزاهم بما صبروا} أي بسبب ما أوجدوه من الصبر على العبادة من لزوم الطاعة واجتناب المعصية ومنع أنفسهم الطيبات وبذل المحبوبات {جنة} أي بستاناً جامعاً يأكلون منه ما يشتهون جزاء على ما كانوا يطعمون. ولما ذكر ما يكسو الباطن، ذكر ما يكسو الظاهر فقال: {وحريراً} أي هو في غاية العظمة.
ولما ذكر أنه كفاهم المخوف وحباهم الجنة، أتبعه حالهم فيها وحالها فقال دالاًّ على راحتهم الدائمة: {متكئين فيها} أي لأن كل ما أرادوه حضر إليهم من غير حاجة إلى حركة أصلاً، ودل على الملك بقوله: {على الأرآئك} أي الأسرة العالية التي في الحجال، لا تكون أريكة إلا مع وجود الحجلة، وقال بعضهم: هي السرير المنجد في قبة عليه شواره ونجده أي متاعه، وهي مشيرة إلى الزوجات لأن العادة جارية بأن الأرائك لا تخلو عنهن بل هي لهن لاستمتاع الأزواج بهن فيها.
ولما كانت بيوت الدنيا وبساتينها تحتاج إلى الانتقال منها من موضع إلى موضع لأجل الحر أو البرد، بين أن جميع أرض الجنة وغرفها سواء في لذة العيش وسبوغ الظل واعتدال الأمر، فقال نافياً ضر الحر ثم البرد: {لا يرون فيها} أي بأبصارهم ولا بصائرهم أصلاً {شمساً} أي ولا قمراً {ولا} أي ولا يرون فيها أيضاً ببصائرهم أي لا يحسون بما يسمى {زمهريراً} أي برداً شديداً مزعجاً ولا حراً، فالآية من الاحتباك: دل بنفي الشمس أولاً على نفي القمر، لأن ظهوره بها لأن نوره اكتساب من نور الشمس، ودل بنفي الزمهرير الذي هو سبب البرد ثانياً على نفي الحر الذي سببه الشمس، فأفاد هذا أن الجنة غنية عن النيرين، لأنها نيرة بذاتها وأهلها غير محتاجين إلى معرفة زمان لأنه لا تكليف فيها بوجه، وأنها ظليلة ومعتدلة دائماً لأن سبب الحر الآن قرب الشمس من مسامته الرؤوس، وسبب البرد بعدها عن ذلك.
ولما كانت ترجمة هذا كما مضى: جنة ظليلة ومعتدلة، عطف عليه بالواو دلالة على تمكن هذا الوصف وعلى اجتماعه مع ما قبله قوله: {ودانية} أي قريبة من الارتفاع {عليهم ظلالها} من غير أن يحصل منها ما يزيل الاعتدال {وذللت قطوفها} جمع قطف بالكسر وهو العنقود واسم للثمار المقطوفة أي المجنية {تذليلاً} أي سهل تناولها تسيهلاً عظيماً لا يرد اليد عنها بعد ولا شوك لكل من يريد أخذها على أي حالة كان من اتكاء وغيره، فإن كانوا قعوداً تدلت إليهم، وإن كانوا قياماً وكانت على الأرض ارتقت إليهم، وهذا جزاء لهم على ما كانوا يذللون أنفسهم لأمر الله.
ولما كان الدوران بالآنية متجدداً، عبر فيه بالمضارع، وبناه للمفعول أيضاً لأنه المقصود مطلقاً من غير تعيين طائف فقال: {ويطاف} أي من أيّ طائف كان لكثرة الخدم {عليهم بآنية} جمع إناء جزاء على طوافهم على المحتاجين بما يصلحهم.
ولما كان مقصود هذه السورة ترهيب الإنسان الموبخ في سورة القيامة من الكفر، وكان الإنسان أدنى أسنان المخاطبين في مراتب الخطاب، اقتصر في الترغيب في شرف الآنية على الفضة دون الذهب المذكور في فاطر والحج المعبر فيهما بالناس، فلعل هذا لصنف وذاك لصنف- أعلى منه مع إمكان الجمع والمعاقبة، وأما من هو أعلى من هذين الصنفين من الذين آمنوا ومن فوقهم فلهم فوق هذين الجوهرين من الجواهر ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فقال: {من فضة} أي اسمه ذلك، وأما الحقيقة فأين الثريا من يد المتناول.
ولما جمع الآنية خص فقال: {وأكواب} جمع كوب وهو كوز لا عروة له، فيسهل الشهرب منه من كل موضع فلا يحتاج عند التناول إلى إدارة {كانت} أي تلك الأكواب كوناً هو من جبلتها {قواريراً} أي كانت بصفة القوارير من الصفاء والرقة والشفوف والإشراق والزهارة، جمع قارورة وهي ما قر فيه الشراب ونحوه من كل إناء رقيق صاف، وقيل: هو خاص بالزجاج.
ولما كان هذا رأس آية، وكان التعبير بالقارورة ربما أفهم أو أوهم أنها من الزجاج، وكان في الزجاج من النقص سرعة الانكسار لإفراط الصلابة، قال معيداً للفظ أول الآية الثانية، تأكيداً للاتصاف بالصالح من أوصاف الزجاج وبياناً لنوعها: {قواريراً من فضة} أي فجمعت صفتي الجوهرين المتباينين: صفاء الزجاج وشفوفه وبريقه وبياض الفضة وشرفها ولينها، وقراءة من نوّن الاثنين صارفاً ما من حقه المنع مشيرة إلى عظمتها وامتداد كثرتها وعلوها في الفضل والشرف، وقراءة ابن كثير في الاقتصار على تنوين الأول للتنبيه على أنه رأس آية والثاني أول التي بعدها مع إفهام العظمة لأن الثاني إعادة للأول لما تقدم من الإفادة، فكأنه منون، ووقف أبو عمرو على الأول بالألف مع المنع من الصرف لأن ذلك كاف في الدلالة على أنه رأس آية.
ولما كان الإنسان لا يجب أن يكون الإناء ولا ما فيه من مأكول أو مشروب زائداً عن حاجته ولا ناقصاً عنها قال: {قدروها} أي في الذات والصفات {تقديراً} أي على مقادير الاحتياج من غير زيادة ولا نقص لأن ما أراد كل منها كان، لا كلفة ولا كدر ولا نقص.
ولما ذكر الأكواب، أتبعها غايتها فقال تخصيصاً بالعطف على ما تقديره: يسقون فيها ما تشتهي أنفسهم وتلذ أعينهم: {ويسقون} ممن أرادوه من خدمهم الذين لا يحصون كثرة {فيها} أي الجنة أو تلك الأكواب {كأساً} أي خمراً في إناء {كان مزاجها} على غاية الإحكام {زنجبيلاً} هو في غاية اللذة، وكانت العرب تستلذ الشراب الممزوج به لهضمه وتطييبه الطعم والنكهة.

.تفسير الآيات (18- 22):

{عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)}
ولما كان الزنجبيل عندنا شجراً يحتاج في تناوله إلى علاج، أبان أنه هناك عين لا يحتاج في صيرورته زنجبيلاً إلى أن تحيله الأرض بتخميره فيها حتى يصير شجراً ليتحول عن طعم الماء إلى طعم الزنجبيل خرقاً للعوائد فقال: {عيناً فيها} أي الجنة يمزج فيها شرابهم كما يمزج بالماء.
ولما كان الزنجبيل يلذع الحق فتصعب إساغته قال: {تسمى} أي لسهولة إساغتها ولذة طعمها وسمو وصفها {سلسبيلاً} والسلسبيل والسلسل والسلسال ما كان من الشراب غاية في السلاسة، زيدت فيه الباء دلالة على المبالغة في هذا المعنى، قالوا: وشراب الجنة في برد الكافور وطعم الزنجبيل وريح المسك من غير لذع.
ولما ذكر المطوف به لأنه الغاية المقصودة، وصف الطائف لما في طوافه من العظمة المشهودة تصويراً لما هم فيه من الملك بعد ما نجوا منه من الهلك: {ويطوف عليهم} أي بالشراب وغيره من الملاذ والمحاب {ولدان} أي غلمان هم في سن من هو دون البلوغ «أقل أهل الجنة من يخدمه ألف غلام» {مخلدون} أي قد حكم من لا يرد حكمه بأن يكونوا كذلك دائماً من غير غلة ولا ارتفاع عن ذلك الحد مع أنهم مزينون بالخلد وهو الحلق والأساور والقرطة والملابس الحسنة {إذ رأيتهم} أي يا أعلى الخلق صلى الله عليه وسلم وأنت أثبت الناس نظراً أو أيها الرائي من كان في أي حالة رأيتهم فيها {حسبتهم} من بياضهم وصفاء ألوانهم ولمع أنوارهم وانعكاس شعاع بعضهم إلى بعض وانبثاثهم في المجالس ذهاباً وإياباً {لؤلؤاً منثوراً} وذلك كناية عن كثرتهم وانتشارهم في الخدمة وشرفهم وحسنهم؛ وعن بعضهم أن لؤلؤ الجنة في غاية الكبر والعظمة واختلاف الأشكال، وكأنه عبر بالحسبان إشارة إلى أن ذلك مطلق تجويز لا مع ترجيح، قال بعض المفسرين: هم غلمان ينشئهم الله لخدمة المؤمنين. وقال بعضهم: هم أطفال المشركين لأنهم ماتوا على الفطرة، وقال ابن برجان: وأرى والله أعلم أنهم من علم الله سبحانه وتعالى إيمانه من أولاد الكفار يكونون خدماً لأهل الجنة كما كانوا لهم في الدنيا سبياً وخداماً، وأما أولاد المؤمنين فيلحقون بآبائهم سناً وملكاً سروراً لهم، ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم في ابنه إبراهيم عليه الصلاة والسلام «إن له لظئراً يتم رضاعه في الجنة» فإنه يدل على استقبال شأنه فيما هنالك وتنقله في الأحوال كالدنيا، ولا دليل على خصوصيته بذلك.
ولما ذكر المخدوم والخدم شرع في ذكر المكان فقال: {وإذا رأيت} أي أجلت بصرك، وحذف مفعوله ليشيع ويعم {ثم} أي هناك في أي مكان كان وأي شيء كان {رأيت نعيماً} أي ليس فيه كدر بوجه من الوجوه، ولما كان النعيم قد يكون في حالة وسطى قال: {وملكاً كبيراً} أي لم يخطر على بال مما هو فيه من السعة وكثرة الموجود والعظمة أدناهم وما فيهم دني الذي ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه ومهما أراده كان.
ولما ذكر الدار وساكنيها من مخدوم وخدم، ذكر لباسهم بانياً حالاً من الفاعل والمفعول: {عليهم} أي حال كون الخادم والمخدوم يعلو أجسامهم على سبيل الدوام، وسكن نافع وحمزة الياء على أنه مبتدأ وخبر شارح للملك على سبيل الاستئناف {ثياب سندس} وهو ما رق من الحرير {خضر} رفعه الجماعة صفة لثياب، وجره ابن كثير وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم صفة لسندس حملاً على المعنى فإنه اسم جنس {وإستبرق} وهو ما غلظ من الديباج يعمل بالذهب، أو هو ثياب حرير صفاق نحو الديباج- قاله في القاموس، رفعه ابن كثير ونافع وعاصم نسقاً على ثياب، وجره الباقون على سندس.
ولما كان المقصود لأرباب اللباس الفاخر الحلية، أخبر عن تحليتهم، وبني الفعل للمفعول دلالة على تيسر ذلك لهم وسهولته عليهم فقال: {وحلّوا} أي وجدت تحلية المخدومين والخدم {أساور من فضة} وإن كانت تتفاوت بتفاوت الرتب، وتقدم سر تخصيص هذه السورة بالفضة والأساورة بجمع ما فيها من لذة الزينة لذة اتساع الملك فإنها كناية عنه فإنه- كما قال الملوي- كان في الزمن القديم إذا ملك ملك أقاليم عظيمة كثيرة لبس سواراً وسمي الملك المسور لاتساع مملكته وعظمتها وكثرة أقاليمها، وإن لم تجمع أقاليم لم يسور فما ظنك بمن أعطى من ذلك جمع الكثرة، وهي بالغة من الأعضاء ما يبلغ التحجيل في الوضوء كما قال صلى الله عليه وسلم: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» فلذا كان أبو هريرة رضي الله عنه يرفع الماء إلى المنكبين وإلى الساقين.
ولما كان ربما ظن بما تقدم من ذلك الممزوج شيء من نقص لأجله يمزج كما هو في الدنيا، وكان قد قال أولاً {يشربون} بالبناء للفاعل، وثانياً: يسقون بالبناء للمفعول، قال بانياً للفاعل بياناً لفضل ما يسقونه في نفسه وفي كونه من عند الإله الأعظم المتصف بغاية الإحسان على صفة من العظمة تليق بإحسانه سبحانه بما أفاده إسناد الفعل إليه: {وسقاهم} وعبر بصفة الإحسان تأكيداً لذلك فقال: {ربهم} أي الموجد لهم المحسن إليهم المدبر لمصالحهم {شراباً طهوراً} أي ليس هو كشراب الدنيا سواء كان من الخمر أو من الماء أو من غيرهما، بل هو بالغ الطهارة والوصف بالشرابية من العذوبة واللذة واللطافة، وهو مع ذلك آلة للتطهير البالغ للغير فلا يبقى في بواطنهم غش ولا وسواس، ولا يريدون إلا ما يرضي مليكهم مما أسس على غاية الحكمة وفاق كامل وسجايا مطهرة وأخلاق مصطفاة لا عوج فيها، ولا يستحيل شيء من شرابهم إلى نجاسة من بول ولا غيره، بل يصير رشحاً كرشح المسك ويعطي الرجل شهوة مائة رجل في الأكل وغيره، فإذا أكل شرب فطهر باطنه ورشح منه المسك فعادت الشهوة، بل الحديث يدل على أن شهوتهم لا تنقضي أصلاً فإنه قال: «يجد لآخر لقمة من اللذة ما يجد لأولها» يفعل بهم هذا سبحانه قائلاً لهم مؤكداً تسكيناً لقلوبهم لئلا يظنون أن ما هم فيه على وجه الضيافة ونحوها فيظنوا انقطاعه {إن هذا} أي الذي تقدم من الثواب كله {كان} أي كوناً ثابتاً {لكم} بتكويني إياه من قبل موتكم {جزاء} أي على أعمالكم التي كنتم تجاهدون فيها أنفسكم عن هواها إلى ما يرضي ربكم فكنتم كلما عملتم عملاً كونت من هذا ما هو جزاء له {وكان} أي على وجه الثبات {سعيكم} ولما كان المقصود القبول لأن القابل الشاكر هو المعمول له، بني للمفعول قوله: {مشكوراً} أي لا يضيع شيئاً منه ويجازى بأكثر منه أضعافاً مضاعفة.