فصل: تفسير الآيات (43- 50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (43- 50):

{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)}
ولما فهم من التعبير ب {في} أنهم متمكنون من هذا جميعه تمكن المظروف من ظرفه، قال منبهاً على أنه أريد بالفاكهة جميع المآكل، وإنما عبر بها إعلاماً بأن كل أكل فيها تفكه ليس منه شيء لجلب نفع غير اللذة ولا دفع ضر: {كلوا} أي مقولاً لهم: تناولوا جميع المآكل على وجه التكفه والتلذذ لا لحفظ الصحة فإنها حاصلة بدونه {واشربوا} أي من جميع المشارب كذلك فإن عيونها ليست من الماء خاصة بل من كل شراب أكلاً وشرباً {هنيئاً} ليس في شيء من ذلك توقع ضر، وزاد في نعيمهم بأن جعل ذلك عوضاً فقال: {بما كنتم} أي بجبلاتكم التي جبلتكم عليها {تعملون} أي في الدنيا من الأعمال الصالحة المبنية على أساس العلم الذي أفاد التصديق بالجنة فأوجب دخولها كما أوجب تكذيب المجرمين بالنار دخولهم إياها وعذابهم بها، وتكذيبهم بالجنة طردهم عنها وحرمانهم لنعيمها جزاء وفاقاً.
ولما كان ربما توهم متوهم أن هذا لناس معينين في زمن مخصوص- قال معلماً بالتعميم مؤكداً رداً على من ينكر: {إنا} أي بما لنا من العظمة {كذلك} أي مثل هذا الجزاء العظيم {نجزي المحسنين} أي كل من كان عريقاً في وصف الإحسان لسنا كملوك الدنيا، يعوقهم عن الإحسان إلى بعض المحسنين عندهم بما يرونه جزاء لهم بعضُ أهل مملكتهم لما لهم من الأهوية ولملوكهم من الضعف.
ولما كان هذا النعيم عذاباً عظيماً على من لا يناله قال: {ويل يومئذ} أي إذ يكون هذا النعيم للمتقين المحسنين {للمكذبين} أي الذين يكذبون بأن الجبال تنسف فتكون الأرض كلها سهلة دمثة مستوية لا عوج فيها أصلاً صالح للعيون والاشجار والتبسط في أرجائها كيفما يريد صاحبها ويختار.
ولما ذكر نعيم أهل الجنة الذي لا ينقضي لأن لهم غاية المكنة فيه، وكان ذلك آجلاً، وكان المكذبون في اتساع في الدنيا، وتقدم قوله تعالى: {إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع} [الطور: 7] وكان الشقاء متى وقع بعد نعيم نسخه وعد النعيم- ولو كان كثيراً طويلاً- قليلاً، قال نتيجة لجواب القسم ضد ما يقال للمتقين تسلية لهم وتحزيناً للمكذبين بناء على ما تقديره: إن المكذبين في هذه الدنيا في استدراج وغرور، ويقول لهم لسان الحال المعرب عن أحوالهم في المآل توبيخاً وتهديداً: {كلوا} أي أيها المكذبون في هذه الدنيا {وتمتعوا} أي كذلك بمثل الجيفة، فإن المتاع من أسمائها كما مر غير مرة عن أهل اللغة {قليلاً} أي وإن امتد زمنه فإنه زائل مع قصر مدته في مدة الآخرة، ولا يؤثر ذلك على الباقي النفيس إلا خسيس الهمة، قال الرازي، وقال بعضهم: التمتع بالدنيا من أفعال الكافرين، والسعي لها من أفعال الظالمين، والاطمئنان إليها من أفعال الكاذبين، والسكون فيها على حد الإذن والأخذ منها على قدر الحاجة من أفعال عوام المؤمنين، والإعراض عنها من أفعال الزاهدين، وأهل الحقيقة أجل خطراً من أن يؤثر فيهم حب الدنيا وبغضها وجمعها وتركها.
ولما أحلهم هذا المحل الخبيث، وكان التقدير: فإنه لابد من وقوع العذاب بكم يوم الفصل، علل ذلك بقوله مؤكداً لأنهم ينكرون وصفهم بذلك: {إنكم مجرمون} أي عريقون في قطع كل ما أراد الله به أن يوصل، فلا جائز أن تعاملوا معاملة المحسنين، فلذلك كانت نتيجة هذا {ويل يومئذ} أي إذ تعذبون بأجرامكم {للمكذبين} أي بوصول الرسل إلى وقتها المعلوم الذي كانت تتوعد به المجرمين في الدنيا حيث كذبوهم لأجل تمتعهم هذا القليل الكدر، وعرضوا أنفسهم للعذاب الدائم المستمر.
ولما كان التقدير: فإنهم كانوا في دار العمل إذا قيل لهم آمنوا لا يؤمنوا، عطف عليه قوله: {وإذا قيل لهم} أي لهؤلاء المجرمين من أي قائل كان {اركعوا} أي صلوا الصلاة التي فيها الركوع، وأطلقه عليها تسمية لها باسم جزء منها، وخص هذا الجزء لأنه يقال على الخضوع والطاعة، ولأنه خاص بصلاة المسلمين، ولأن بعض العرب نفر عن الدين من أجله، وقال: لا أجبي لأن فيه- زعم- إبرازاً للاست فيكون ذلك مسبة، وكذلك السجود، قال في القاموس: جبى تجبئة: وضع يديه على ركبتيه أو على الأرض أو انكب على وجهه، والتجبئة أن تقوم قيام الركوع {لا يركعون} أي لا يخضعون ولا يوجدون الصلاة فلذلك كان وعيدهم، وفيه دلالة على أن الأمر للوجوب ليستحق تاركه العذاب وعلى أن الكفار مخاطبون بالفروع {ويل يومئذ} أي إذ يكون الفصل {للمكذبين} أي بذلك الذي تقدم في هذه السورة أو بشيء منه أو بغيره مما جاءت به الرسل، وقد كررت هذه الجملة بعدد أجزاء طرف القسم أو أجزاء الجواب لتكون كل جملة منها وعيداً على التكذيب بواحد من تلك الأجزاء، وتكون هذه الجملة العاشرة مؤكدة لتلك التسع، وتكملة لعدها ومعناها، ومعلمة بأن الويل لهم دائماً من غير انقضاء كما أن الواحد لا انقضاء له.
ولما أعلم هذا أن لهم الويل دائماً، ذكر أن سببه عدم الإيمان بالقرآن وأن من لم يؤمن بالقرآن لم يؤمن بشيء أبداً، فقال مسبباً عن معنى الكلام: {فبأيّ حديث} أي ذكر يتجدد نزوله على المرسل به في كل وقت تدعو إليه حاجة {بعده} أي بعد هذا القرآن الذي هو شاهد لنفسه عنه بصحة النسبة إلى الله تعالى من جهة ما حاز من البلاغة في تراكيبه بالنسبة إلى كل جملة وبالنسبة إلى نظم الجمل بعضها مع بعض، وبالإخبار بالمغيبات والحمل على المعالي والتنبيه على الحكم وغير ذلك من بحور العلم ورياض الفنون، فالله باعتبار ذلك هو الشاهد بأنه كلامه {يؤمنون} أي يجددون الإيمان بسببه بكل ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث الذي الله شاهد بأنه كلامه بما اشتمل عليه بعد إعجازه من الدلائل الواضحة، والمعاني الشريفة الصالحة، والنظوم الملائمة للطبع والرقائق المرققة لكل قلب، والبشائر المشوقة لكل سمع، فمن لم يؤمن به لم يؤمن بحديث غيره، فإنه لا شيء يقاربه ولا يدانيه، فكيف بأن يدعي شيء يباريه أو يراقيه، ومثل هذا إنما يقال عند مقاربة اليأس من الموعوظ والعادة قاضية بحلول العذاب إذ ذاك وإنزال البأس، فهو من أعظم أنواع التهديد، فقد رجع آخرها على أولها في وعيد المكذبين، وانطبق أولها على آخرها في إخزاء المجرمين- والله الهادي للصواب.

.سورة النبأ:

.تفسير الآيات (1- 9):

{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9)}
{عمَّ} أي عن أي شيء- خفف لفظاً وكناية بالإدغام، وحذف ألفه لكثرة الدور والإشارة إلى أن هذا السؤال مما ينبغي أن يحذف، فإن لم يكن فيخفى ويستحى من ذكره ويخفف {يتساءلون} أي أهل مكة لكل من يسأل عن شيء من القرآن سؤال شك وتوقف وتلدد فيما بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضي الله عنهم، ولشدة العجب سمي جدالهم وإنكارهم وعنادهم- إذا تليت عليهم آياته وجليت بيناته- مطلق سؤال.
ولما فخم ما يتساءلون عنه معجباً منهم فيه، بينه بقوله إعلاماً بأن ذلك الإيهام ما كان إلا للإعظام: {عن النبأ} أي من رسالة الرسول وإتيانه بالكتاب المبين، وإخباره عن يوم الفصل، والشاهد بكل شيء من ذلك الله بإعجاز هذا الحديث، وبوعده الجازم الحثيث. ولما كان في مقام التفخيم له، وصفه تأكيداً بقوله: {العظيم} مع أن النبأ لا يقال إلا لخبر عظيم شأنه، ففي ذلك كله تنبيه على أنه من حقه أن يذعن له كل سامع ويهتم بأمره، لا أن يشك فيه ويجعله موضعاً للنزاع؛ وعظم توبيخهم بقوله: {الذي هم} أي بضمائرهم مع ادعائهم أنها أقوم الضمائر {فيه مختلفون} أي شديد اختلافهم وثباتهم فبعضهم صدق وبعضهم كذب، والمكذبون بعضهم شك وبعضهم جزم وقال بعضهم: شاعر، وبعضهم: ساحر- إلى غير ذلك من الأباطيل، وذلك الأمر هو أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي أهمه البعث بعد الموت اشتد التباسه عليهم وكثرت مراجعتهم فيه ومساءلتهم عنه مع عظمه وعظم ظهوره، والعظيم لا ينبغي الاختلاف فيه بوجه، فإن ذا المروءة لا ينبغي له أن يدخل في أمر إلا وهو على بصيرة فكيف به إذا كان عظيماً فكيف به إذا تناهى عظمه فكيف به إذا كان أهم ما يهمه فإنه يتعين عليه أن يبحث عنه غاية البحث ويطلب فيه الأدلة ويفحص عن البراهين ويستوضح الحجج حتى يصير من أمره بعد علم اليقين إلى عين اليقين من حين يبلغ مبلغ الرجال إلى أن يموت فكيف إذا كان بحيث تتلى عليهم الأدلة وتجلى لديه قواطع الحجج وتجلب إليه البينات وهو يكابر فيه ويماري، ويعاند ويداري.
قال الإمام أبو جعفر بن الزبير: سورة النبأ أما مطلقها فمرتب على تساؤل واستفهام وقع منهم وكأنه وارد هنا في معرض العدول والالتفات، وأما قوله: {كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون} [النبأ: 4- 5] فمناسب للوعيد المتكرر في قوله: {ويل يومئذ للمكذبين} [المرسلات: 19] وكأن قد قيل: سيعلمون عاقبة تكذيبهم، ثم أورد تعالى من جميل صنعه وما إذا اعتبره المعتبر علم أنه لم يخلق شيء منه عبثاً بل يعتبر به ويستوضح وجه الحكمة فيه، فعلم أنه لابد من وقت ينكشف فيه الغطاء ويجازي الخلائق على نسبة من أحوالهم في الاعتبار والتدبر والخضوع لمن نصب مجموع تلك الدلائل، ويستشعر من تكرار الفصول وتجدد الحالات وإحياء الأرض بعد موتها، جرى ذلك في البعث واطراد الحكم، وإليه الإشارة بقوله:
{كذلك نخرج الموتى} [الأعراف: 57] وقال تعالى منبهاً على ما ذكرناه {ألم نجعل الأرض مهاداً} [النبأ: 6] إلى قوله: {وجنات ألفافاً} [النبأ: 16] فهذه المصنوعات المقصود بها الاعتبار كما قدم، ثم قال تعالى: {إن يوم الفصل كان ميقاتاً} [النبأ: 17] أي موعداً لجزائكم لو اعتبرتم بما ذكر لكم لعلمتم منه وقوعه وكونه ليقع جزاؤكم على ما سلف منكم فويل يومئذ للمكذبين ويشهد لهذا القصد مما بعد من الآيات قوله تعالى لما ذكر ما أعد للطاغين: {إنهم كانوا لا يرجون حساباً وكذبوا بآياتنا كذاباً وكل شيء أحصيناه كتاباً} [النبأ: 27- 29] ثم قال بعد: {إن للمتقين مفازاً حدائق وأعناباً} [النبأ: 31- 32] وقوله بعد: {ذلك اليوم الحق} وأما الحياة الدنيا فلعب ولهو وإن الدار الآخرة لهي الحيوان، وقوله بعد: {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً} [النبأ: 40] انتهى. ولما كان الأمر من العظمة في هذا الحد قال مؤكداً لأن ما اختلفوا فيه وسألوا عنه ليس موضعاً للاختلاف والتساؤل بأداة الردع، فقال تهديداً لهم وتوكيداً لوعيدهم: {كلا} أي ليس ما سألوا عنه واختلفوا فيه بموضع اختلاف أصلاً، ولا يصح أن يطرقه ريب بوجه من الوجوه فلينزجروا عن ذلك وليرتدعوا قبل حلول ما لا قبل لهم به.
ولما كان كأنه قيل: فهل ينطقع ما هم فيه؟ أجاب بقوله مهدداً حاذفاً متعلق العلم للتهويل لأجل ذهاب النفس كل مذهب: {سيعلمون} أي يصلون إلى حد يكون حالهم فيه في ترك العناد حال العالم بكل ما ينفعهم ويضرهم، وهذا عن قريب بوعد لا خلف فيه، ويكون لهم حينئذ عين اليقين الذي لا يستطاع دفاعه بعد علم اليقين الذي دافعوه، وعظم رتبة هذا الردع والتهديد والزجر والوعيد بقوله: {ثم كلا} أي أن أمره في ظهوره رادع عن الاختلاف في أمره {سيعلمون} أي بعد الموت بعد علمهم قبله ما يكون من أمره بوعد صادق لا شك فيه، ويصير حالهم إذا ذاك حال العالم في كفهم عن العناد، وهم بين ذلول وذليل وحقير وجليل، فأما من اخترناه منه للإيمان فيكون ذلولاً، ومن أردنا شقاءه بالكفران فتراه ناكساً ذليلاً، ويشترك الكل بالذوق في حق اليقين، وقد كان هذا كما قال الجليل بعد زمن قليل، عندما أوقعتهم أيام الله وأرغمت منهم الأنوف وأذلت الجباه، وقراءة ابن عامر على ما قيل عنه بتاء الخطاب في الوعيد وأدل على الاستعطاف للمتاب.
ولما حقق لهم أمره تحقيق من هو على غاية الوثوق بما يقول، دل على ذلك بما لا يحتمل شكاً ولا وقفة أصلاً، فقال مقرراً لهم ومنكراً عليهم التساؤل بما ندب إليه من التأمل وقرر به من النظر في باهر آياته وغرائب مخلوقاته التي أبدعها من العدم دلالة تامة عظمية على كمال القدرة مع تمام الحكمة الموجب للقطع بكل ما نبهت عليه الرسل من الشرائع والبعث والجزاء بادئاً بما هم له أشد ملابسة وهو الظرف: {ألم نجعل} أي بما لنا من العظمة {الأرض مهاداً} أي فراشاً لكم موطئاً مذللاً يمكن الاستقرار عليه لتتصرفوا فيها كما شئتم {والجبال} أي تعرفون شدتها وعظمتها وعجزكم عن أقل شيء من أمورها {أوتاداً} تثبتها كما أن البيت لا يثبت إلا بأوتاده، قال الأفوه الأودي:
والبيت لا يبتنى إلا له عمد ** ولا عماد إذا لم ترس أوتاد

وذلك لئلا تميد بكم فإنها معلقة على فضاء العلم ممسكة بيد القدرة، فلولا الجبال لعظم ثقلها لأنها بمنزلة السفينة العالية الفارغة على متن البحر فهي في غاية الحركة لاسيما إذا عظمت الريح فإنها حينئذ لا يستقر عليها قائم ولا يثبت قاعد ولا نائم، فالجبال بمنزلة الأمتعة الثقيلة التي تنزلها في الماء فتحفظ عن كثرة التقلب فكيف يصح بوجه أن يتوقف في إخبار من هذه قدرته لاسيما إذا كان ذلك المخبر به مما ركز سبحانه أمره في الفطر الأولى وقرر صحته في العقول التقرير الأوضح الأجلى.
ولما ذكر بما في الظرف الذي هو فرشهم من الدلالة على تمام القدرة، أتبعه التذكير بما في المظروف وهو أنفسهم لتجتمع آيات الأنفس والآفاق فيتبين لهم أنه الحق فقال: {وخلقناكم} أي بما دل على ذلك من مظاهر العظمة {أزواجاً} طوالاً وقصاراً وحساناً ودماماً وذكراناً وإناثاً لجميع أصنافكم على تباعد أقطارهم وتنائي ديارهم لتدوم أنواعكم إلى الوقت الذي يكون فيه انقطاعكم.
ولما ذكر ما هو سبب لبقاء النوع، ذكر ما هو سبب لحفظه من إسراع الفساد فقال: {وجعلنا} أي بما لنا من العظمة {نومكم} الذي ركبنا البدن على قبوله {سباتاً} أي قطعاً عن الإحساس والحركة التي أتعبتكم في نهاركم مع الامتداد والاسترسال إراحة للقوى الحيوانية والحواس الجثمانية وإزاحة لكلالها مع أنه قاطع لكمال الحياة، فهو مذكر بالموتة الكبرى والاستيقاظ مذكر بالعبث، قال الزجاج: السبات أن ينقطع عن الحركة والروح فيه.

.تفسير الآيات (10- 16):

{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)}
ولما ذكر النوم، اتبعه وقته الأليق به مذكراً بنعمة الظرف الزماني بعد التذكير بالظرف المكاني، فقال دالاً بمظهر العظمة على عظمه: {وجعلنا الّيل} أي بعد ذهاب الضياء حتى كأنه لم يكن {لباساً} أي غطاء وغشاء ساتراً بظلمته ما أتى عليه عن العيون كما يستره اللباس لتسكنوا فيه عن المعاش {وجعلنا النهار} أي الذي آيته الشمس {معاشاً} أي وقتاً للتقلب الذي هو من أسباب التحصيل الذي هو من أسباب المعاش، وهو العيش ووقته وموضعه، مظهراً لما ستره الليل، فالآية من الاحتباك: ذكر اللباس أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً والمعاش ثايناً دليلاً على حذف ضده أولاً.
ولما ذكر المهاد وما فيه، أتبعه السقف الذي بدورانه يكون الوقت الزمان وما يحويه من القناديل الزاهرة والمنافع الظاهرة لإحياء المهاد ومن فيه من العباد فقال: {وبنينا} أي بناء عظيماً {فوقكم} أي عاماً لجميع جهة الفوق، وهي عبارة تدل على الإحاطة {سبعاً} أي من السماوات {شداداً} أي هي في غاية القوة والإحكام، لا صدع فيها ولا فتق، لا يؤثر فيها كر العصور ولا مر الدهور، حتى يأتي أمر الله بإظهار عظائم المقدور.
ولما ذكر السقف: ذكر بعض ما فيه من أمهات المنافع فقال دالا بمظهر العظمة على عظمها: {وجعلنا} أي مما لا يقدر عليه غيرنا {سراجاً} أي نجماً منيراً جداً {وهاجاً} أي هو مع تلألئه وشدة ضيائه حار مضطرم الاتقاد وهو الشمس، من قولهم: وهج الجوهر: تلألأ، والجمر: اتقد.
ولما ذكر ما يمحق الرطوبة بحرارته، أتبعه ما يطفئ الحرارة برطوبته وبرودته فينشأ عنه المأكل والمشرب، التي بها تمام الحياة ويكون تولدها من الظرف بالمهاد والسقف، وجعل ذلك أشبه شيء بما يتولد بين الزوجين من الأولاد، فالسماء كالزوج والأرض كالمرأة، والماء كالمني، والنبات من النجم والشجر كالأولاد فقال: {وأنزلنا} أي مما يعجز غيرنا {من المعصرات} أي السحائب التي أثقلت بالماء فشارفت أن يعصرها الرياح فتمطر كما حصد الزرع- إذا حان له أن يحصد، قال الفراء: المعصر، السحابة التي تتحلى بالمطر ولا تمطر كالمرأة المعصرة وهي التي دنا حيضها ولم تحض، وقال الرازي: السحائب التي دنت أن تمطر كالمعصرة التي دنت من الحيض {ماء ثجاجاً} أي منصباً بكثرة يتبع بعضه بعضاً، يقال: ثجه وثج بنفسه.
ولما ذكر بدايته، أتبعها نهايته فقال: {لنخرج} أي بعظمتنا التي ربطنا بها المسببات بالأسباب {به} أي الماء تسبيباً {حباً} أي نجماً ذا حب هو مقصوده لأنه يقتاته العباد، صرح به لأنه المقصود وبدأ به لأنه القوت الذي به البقاء كالحنطة والشعير وغيرهما {ونباتاً} يتفكهون ويتنزهون فيه وتعتلفه البهائم. ولما كان من المشاهد الذي لا يسوغ إنكاره أن في الأرض من البساتين ما يفوت الحصر، عبر بجمع القلة تحقيراً له بالنسبة إلى باهر العظمة ونافذ الكلمة فقال: {وجنات} أي بساتين تجمع أنواع الأشجار والنبات المقتات وغيره {ألفافاً} أي ملتفة الأشجار مجتمعة بعضها إلى بعض من شدة الري، جمع لف كجذع، قال البغوي: وقيل: هو جمع الجمع، يقال: جنة لفاء، وجمعها لف- بضم اللام، وجمع الجمع ألفاف. وتضمن هذا الذي ذكره المياه النابعة الجارية والواقفة، فاكتفى بذكره عن ذكرها، قال مقاتل: وكل من هذا الذي ذكر أعجب من البعث.