فصل: تفسير الآيات (17- 22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (17- 22):

{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآَبًا (22)}
ولما ذكر ما دل على غاية القدرة ونهاية الحكمة فدل قطعاً على الوحدانية لأنه لو كان التعدد لم تكن الحكمة ولم تتم القدرة، فأثمر المحبة لمن اتصف بذلك، فأنتج للطائع الشوق إلى لقائه والترامي إلى مطالعة كمال نعمائه، وللعاصي ما هو حقيق به من الخوف من لقائه ليرده ذلك عن إعراضه وإبائه، أتبع ما أعلم أنه ما ذكره إلا للدلالة على النبأ العظيم في لقاء العزيز الرحيم، فقال منتجاً عما مضى من الوعيد وما دل على تمام القدرة مؤكداً لأجل إنكارهم: {إن يوم الفصل} أي الذي هو النبأ العظيم، وتقدم الإنذار به في المرسلات وما خلق الخلق إلا لجمعهم فيه وإظهار صفات الكمال ليفصل فيه بين كل ملبس فصلاً لا شبهة فيه ويؤخذ للمظلوم من الظالم {كان} أي في علم الله وحكمته كوناً لابد منه جعل فيه كالجبلة في ذوي الأرواح {ميقاتاً} أي حداً يوقت به الدنيا وتنتهي عنده مع ما فيها من الخلائق.
ولما ذكره، ذكر ما فيه تعظيماً له وحثاً على الطاعة فقال مبدلاً منه أو مبيناً له: {يوم} ولما كان الهائل المفزع النفخ، لا كونه من معين، بنى للمفعول قوله: {ينفخ} أي من نافخ أذن الله له {في الصور} وهو قرن من نور على ما قيل سعته أعظم ما بين السماء والأرض وهي نفخة البعث وهي الثانية من النفخات الأرض كما مر في آخر الزمر، ولذلك قال: {فتأتون} أي بعد القيام من القبور إلى الموقف أحياء كما كنتم أول مرة لا تفقدون من أعضائكم وجلودكم وأشعاركم وأظفاركم وألوانكم الأصلية شيئاً يجمعكم من الأرض بعد أن تمزقتم فيها، واختلط تراب من بلي منكم بترابها وتراب بعضكم ببعض، وتمييز ذلك وجمعه وتركيبه كما كان وإعادة الروح فيه يسير عليه سبحانه وتعالى كما فعل ذلك كله من نطفة بعد أن فعله في آدم عليه السلام من تراب لا أصل له في الحياة، حال كونكم {أفواجاً} أي أمماً وزمراً وجماعات مشاة مسرعين كل أمة بإمامها، روى الثعلبي وابن مردويه عن البراء رضي الله عنهم- وقال شيخنا ابن حجر في ترجمة محمد بن زهير في لسان الميزان: إنه ظاهر الوضع- أن معاذاً رضي الله عنه سأل عن هذه الأفواج فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أمتي تحشر على عشرة أصناف: على صور القردة، وعلى صور الخنازير، وبعض منكسون يسحبون على وجوههم، وبعض عمي وبعض صم بكم، وبعض يمضغون ألسنتهم، فهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع، وبعض منقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعض مصلوبون على جذوع من نار، وبعض أشد نتناً من الجيف، وبعض ملبسون جباباً سابغة من قطرن لازقة بجلودهم، فسرهم بالقتات وآكلي السحت وأكلة الربا والجائرين في الحكم والمعجبين بأعمالهم والعلماء الذين يخالف قولهم فعلهم والمؤذين للجيران والساعين بالناس للسلطان، والتابعين للشهوات المانعين حق الله تعالى والمتكبرين خيلاء».
ولما ذكر الآية في أنفسهم ذكر بعض آيات الآفاق، وبدأ بالعلوي لأنه أشرف فقال بانياً للمفعول لأن المفزع مطلق التفتيح، ولأن ذلك أدل على قدرة الفاعل وهوان الأمور عليه: {وفتحت السماء} أي شقق هذا الجنس تشقيقاً كبيراً، وقرأ الكوفيون بالتخفيف لأن التكثير يدل عليه ما سبب عن الفتح من قوله: {فكانت} أي كلها كينونة كأنها جبلة لها {أبواباً} أي كثيرة جداً لكثرة الشقوق الكبيرة بحيث صارت كأنها لا حقيقة لها إلا الأبواب.
ولما ذكر السقف، ذكر أقرب الأرض إليه وأشدها، فقال على طريقة كلام القادرين أيضاً: {وسيرت} أي حملت بأيسر أمر على السير {الجبال} على ما تعلمون من صلابتها وصعوبتها في الهواء كأنها الهباء المنثور، وعلى ذلك دل قوله: {فكانت} أي كينونة راسخة {سراباً} أي لا نرى فيها إلا خيالاً يتراءى وهي سائرة تمر مر السحاب ثم تخفى لتناثر أجزائها كالهباء- يا لها من عظمة تجب لها القلوب وتتعاظم الكروب.
ولما بين أن يوم الفصل هو النبأ العظيم بعد أن دل عليه وذكر ما فيه من المسير، ذكر ما إليه من الدارين المصير، فقال بعد التذكير بما في الجبال من العذاب بحزونتها وما فيها من السباع والحشرات والأشجار الشائكة والقواطع المتشابكة وغير ذلك من عجائب التقدير مؤكداً لتكذيبهم: {إن جهنم} أي النار التي تلقى أصحابها متجهمة لهم بغاية ما يكرهون {كانت} أي جبلة وخلقاً {مرصاداً} أي موضع رصد لأعداء الله ترصدهم فيها خزنة النار، فإذا رأوهم كردسوهم فيها، ولأولياء الله ترصدهم فيها خزنة الجنة لإنجائهم من النار عند ورودها أو هي راصدة بليغة الرصد للكفار حتى صارت مجسدة من الرصد لتجمع أصحابها فلا يفوت منهم واحد كالمطعان لكثير الطعن، والمكثار للمبالغ في الإكثار، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن على جسر جهنم سبعة مجالس يسأل عند أولها عن شهادة أن لا إله إلا الله، فإن جاء بها تامة جاز إلى الثاني فيسأل عن الصلاة، فإن جاء بها تامة جاز إلى الثالث فيسأل عن الزكاة فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابع فيسأل عن الصوم، فإن جاء به تاماً جاز إلى الخامس فيسأل عن الحج، فإن جاء به تاماً جاز إلى السادس فيسأل عن العمرة فإن جاء بها تامة جاز إلى السابع فينسأل عن المظالم، فإن خرج منها وإلا قيل: انظروا فإن كان له تطوع تكمل به أعماله. فإذا فرغ انطلق به إلى الجنة.
ولما كان درء المفاسد أولى من جلب المصالح، قدم ذكر المخوف فقال: {للطاغين} أي المجاوزين لحدود الله {مآباً} أي مرجعاً ومأوى بعد أن كان الله ذرأهم لها فكأنهم كانوا فيها ثم هيأهم للخروج منها والبعد عنها بفطرهم الأولى، ثم بما أنزل الله من الكتب وأرسل من الرسل فكأنه بذلك أخرجهم منها، ثم رجعوا إليها بما أحدثوا من التكذيب.

.تفسير الآيات (23- 28):

{لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا (28)}
ولما ذكر مصيرهم إليها ذكر إقامتهم فيها فقال حالاً من ضمير الطاغين: {لابثين فيها} ولما كان جمع القلة يستعار للكثرة فكان الحقب يطلق على الزمان من غير حد، ويطلق على زمان محدود، فقيل على ثمانين سنة، وعلى سبعين ألف سنة، فكان السياق من تصدير السورة بالنبأ وبوصفه مع التعبير بالنبأ العظيم وما بعد ذلك يفهم أن المراد الدوام إن أريد ما لا حد له وأن المراد إن أريد المحدود جمع الكثرة، وأكثر ما فسر به الحقب، وأنه للمبالغة لا التحديد، كان جمع القلة هنا غير مشكل، فمن حمله على ما دون ذلك فكفاه زاجراً لم يضره التعبير به، ومن اجترأ عليه واستهان به كان فتنة له كما كان حصر عدد الخزنة للنار بتسعة عشر فلم يضر إلا نفسه، فلذلك عبر عن ظرف اللبث بقوله: {أحقاباً} أي دهوراً عظيمة متتابعة لا انقضاء لها على أن التبعير به- ولو حمل على الأقل وجعل منقضياً- لا ينافي ما صرح فيه بالخلود لأنه أثبت شيئاً ولم ينف ما فوقه، وعن الحسن أنه قال: لا يكاد يذكر الحقب إلا حيث يراد تتابع الأزمنة وتواليها من غير انقضاء.
ولما كان المسكن لا يصلح إلا بالاعتدال والماء الذي هو حياة كل شيء، قال ذاكراً حال هذا اللبث: {لا يذوقون} أي ساعة ما فكيف بما فوق الذوق {فيها} أي النار خاصة، وكأنه أشار بتقديمه إلى أنهم يذوقون في دار أخرى الزمهرير {برداً} أي روحاً وراحة لنفعهم من الحر أو مطلق البرد {ولا شراباً} من ماء أو غيره يغنيهم من العطش على حال من الأحوال {إلا} حال كون ذلك الشراب {حميماً} أي ماء حاراً يشوي الوجوه قد انتهى حره {و} حال كون ذلك الشراب مع حرارته، أو البر د {غساقاً} أي عصارة أهل النار من القيح والصديد البارد المنتن، فالاستثناء على هذا موزع الحميم من الشراب والغساق من البرد، فالحميم شرابهم في دولة السعير، والغساق في دولة الزمهرير.
ولما حكم عليهم بهذا العذاب الذي لا يطاق، ذكر حكمته فقال إنه جزاهم بذلك {جزاء وفاقاً} أي ذا وفاق لأعمالهم لأنهم كانوا يأخذون أموال الناس فيحرقون صدورهم عليها ويبردون بها الشراب ويصفونه ويبخرونه، فهم يحرقون الآن بعصارة غيرهم المنتنة، وكأنهم بعد الأحقاب- إن جعلت منقضية- يبدلون عذاباً غير الحميم والغساق، ثم علل عذابهم بقوله، مؤكداً تنبيهاً على أن الحساب من الوضوح بحالة يصدق به كل أحد، فلا يكاد يصدق أن أحداً يكذب به فلا يجوزه فقال: {إنهم كانوا} أي بما هو لهم كالجبلة التي لا تقبل غير ذلك فهم يفسدون القوى العلمية بأنهم {لا يرجون} أي في حال من الأحوال ولو رأوا كل آية {حساباً} فهم لا يعملون بغير الشهوات، فوافق هذا خلودهم في النار، وعبر عن تكذيبهم بنفي الرجاء لأنه أبلغ، وذلك لأن الإنسان يطمع في الخير بأدنى احتمال.
ولما دل انتفاء رجائهم على تكذيبهم المفسد للقوة العلمية، صرح به على وجه أعم فقال: {وكذبوا بآياتنا} أي على ما لها من العظمة الدالة أنها من عندنا {كذاباً} أي تكذيباً هو في غاية المبالغة بحيث لو سمعوا أكذب الكذب ما كذبوا به كما كذبوا بها، فكان تجريعهم لما لا يصح أن يشربه أحد- وإن جرع منه شيئاً مات في الحال من غير موت- لهم جزاء على تكذيبهم بالحوارق التي يجرعون بها الصادقين أنواع الحرق، وقرئ بالتخفيف للدلالة على أنهم كذبوا في تكذيبهم.

.تفسير الآيات (29- 35):

{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35)}
ولما كان التقدير: فكل شيء جعلنا له وزاناً، عطف عليه قوله: {وكل شيء} أي مطلقاً من أعمالهم وغيرها أو كل ما يقع عليه الحساب {أحصيناه} ولما كان الإحصاء موافقاً للكتابة في الضبط، أكد فعله بها فقال: {كتاباً} فلا جائز أن نترك شيئاً من الأشياء بغير جزاء، ويمكن تنزيل الآية على الاحتباك وهو أحسن: دل فعل الإحصاء على حذف مصدره، وإثبات مصدر كتب عليه أي أحصيناه إحصاء وكتبناه كتاباً، وذلك الإحصاء والكتب لعدم الظلم.
ولما ذكر عذابه ووجه موافقته لجزائهم، سبب عن تكذيبهم ما يقال لهم بلسان الحال أو المقال إهانة وزيادة في الجزاء على طريق الالتفات المؤذن بشدة الخزي والغضب عليهم وكمال القدرة له سبحانه وتعالى فقال: ويجوز أن يكون سبباً عن مقدر بعد {كتاباً} نحو: ليجازيهم على كل شيء منه، قائلاً لهم على لسان الملائكة أو لسان الحال: {فذوقوا} أي من هذا العذاب في هذا الحال بسبب تكذيبكم بالحساب، وأكد ذوقهم في الاستقبال فقال: {فلن نزيدكم} أي شيئاً من الأشياء في وقت من الأوقات {إلا عذاباً} فإن داركم ليس بها إلا الجحيم كما أن الجنة ليس بها إلا النعيم، فأفهم هذا أن حصول شيء لهم غير العذاب محال.
ولما ذكر جزاء الكافرين وأشعر آخره بكونه إخزاء، ذكر جزاء المؤمنين المخالفين لهم فقال مستأنفاً مؤكداً لتكذيب الكافرين به: {إن للمتقين} أي الراسخين في الخوف المقتضي لاتخاذ الوقاية مما يخاف فوقوا أنفسهم من سخط الله بما يرضيه من الأعمال والأقوال والأحوال {مفازاً} أي فوزاً وموضع فوز وزمان فوز بالراحة الدائمة من جميع ما مضى ذكره للطاغين الذين هم أضدادهم، وقد كشفوا أنفسهم للعذاب كل الكشف، ثم فسره أو أبدل منه على حذف مضاف أي فوز: {حدائق} أي بساتين فيها أنواع الأشجار ذوات الثمار والرياحين لتجمع مع لذة المطعم لذة البصر والشم، قد أحدقت بها الجدران وحوطت بها، قال ابن جرير: فإن لم تكن بحيطان محدقة بها لم يقل لها حديقة. وخص أشجار العنب لطيبها وحسنها وشرفها وما فيها من لذة الذوق وعبر عن أشجارها بثمرتها إعلاماً بأنها لا توجد إلا موقرة حملاً وأن ثمرتها هي جل منفعتها فقال: {وأعناباً}.
ولما ذكر المساكن النزهة المؤنقة المعجبة، ذكر ما يتمتع به وهو جامع لألذاذ الحواس: البصر واللمس والذوق فقال: {وكواعب} أي نساء كعبت ثديهن {أتراباً} أي على سن واحد من مس جلد واحد التراب قبل الأخرى، بل لو كن مولودات لكانت ولادتهن في آن واحد.
ولما ذكر النساء ذكر الملائم لعشرتهن فقال: {وكاساً} أي من الخبر التي لا مثل لها في لذة الذوق ظاهراً وباطناً وكمال السرور وإنعاش القوى.
ولما كانت العادة جارية بأن الشراب الجيد يكون قليلاً، دل على كثرته دليلاً على جودته بقوله: {دهاقاً} أي ممتلئة.
ولما كانت مجالس الخمر في الدنيا ممتلئة بما ينغصها من اللغو والكذب إلا عند من لا مروءة له فلا ينغصه القبيح، قال نافياً عنها ما يكدر لذة السمع: {لا يسمعون فيها} أي الجنة في وقت ما {لغواً} أي لغطاً يستحق أن يلغى لأنه ليس له معنىً أعم من أن يكون مهملاً ليس له معنى أصلاً، أو مستعملاً ليس له معنىً موجود في الخارج وإن قل، أو له معنى ولكنه لا يترتب به كبير فائدة. ولما انتفى الكذب بهذه الطريقة، وكان التكذيب أذى للمكذب، نفاه بقوله: {ولا كذباً} فإن هذه الصيغة تقال على التكذيب ومطلق الكذب، فصار المعنى: ولا أذىً بمعارضة في القول، مع موافقة قراءة الكسائي بالتخفيف فإن معناها كذباً أو مكاذبة، وشدد في قراءة الجماعة لرشاقة اللفظ وموازنة {أعناباً} {وأتراباً} مع الإصابة لحلق المعنى من غير أدنى جور عن القصد ولا تكلف بوجه ما.

.تفسير الآيات (36- 40):

{جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)}
ولما كان العطاء إذا كان على المعاوضة كان أطيب لنفس الآخذ قال: {جزاء} وبين أنه ما جعله جزاء لهم إلا إكراماً للنبي صلى الله عليه وسلم فإنه سبحانه لا يجب عليه لأحد شيء لأن أحداً لا يمكنه أن يوفي شكر نعمة من نعمه فإن عمله من نعمه فقال: {من ربك} أي المحسن إليك بإكرام أمتك بانواع الإكرام، وفي {عطاء} إشارة إلى ذلك وهو بذل من غير جزاء {حساباً} أي على قدر الكفاية وإن فعل الإنسان منهم ما فعل وحسب جميع أنواع الحساب، ومن قولهم: أعطاه فأحسبه- إذا تابع عليه العطاء وأكثره حتى جاوز العد وقال: حسبي، لا يمكن أن يحتاج مع هذا العطاء وإن زاد في الإنفاق، واختير التعبير به دون كافياً مثلاً لأنه أوقع في النفس، فإنه يقال: إذا كان هذا الحساب فما الظن بالثواب.
ولما ذكر سبحانه سعة فضله، وصف نفسه الأقدس بما يدل على عظمته زيادة في شرف المخاطب صلى الله عليه وسلم لأن عظمة العبد على حسب عظمة السيد، فقال مبدلاً على قراءة الجماعة وقاطعاً بالرفع على المدح عند الحجازيين وأبي عمرو: {رب السماوات والأرض} أي مبدعهما ومدبرهما ومالكهما {وما بينهما} ملكاً وملكاً. ولما شمل ذلك العرش وما دونه، علله بقوله: {الرحمن} أي الذي له الإنعام العام الذي أدناه الإيجاد، وليس ذلك لأحد غيره، فإن الكل داخل في ملكه وملكه، ولذلك قال دالاً على الجبروت بعد صفة الرحمة: {لا يملكون} أي أهل السماوات والأرض ومن بين ذلك أصلاً دائماً في وقت من الأوقات في الدنيا ولا في الآخرة لا في يوم بعينه: {منه} أي العام النعمة خاصة {خطاباً} أي أن يخاطبوه أو يخاطبوا غيره بكلمة فما فوقها في أمرهم في غاية الاهتمام به بما أفاده التعبير بالخطاب، فكيف بما دونه وإذا لم يملكوا ذلك منه فمن والكمل في ملكه وملكه؟ وعدم ملكهم لأن يخاطبهم مفهوم موافقة، والحاصل أنهم لا يقدرون على خطاب ما من ذوات أنفسهم كما هو شأن المالك. وأما غيره فقد يملكون أن يكرهوه على خطابهم وأن يخاطبوه بغير إذن من ذلك الغير ولا رضى وبغير تملك منه لهم لأنه لا ملك له، وإذا كان هذا في الخطاب فما ظنك بمن يدعي الوصال بالاتحاد- عليهم اللعنة ولهم سوء المآب، ما أجرأهم على الاتحاد! وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري: كيف يكون للمكون المخلوق والفقير المسكين مكنة تملك منه خطاباً أو تتنفس نفساً كلا بل هو الله الواحد الجبار.
ولما كان هذا ربما أفهم سد باب الشفاعة عنده سبحانه، وكان الكلام إنما ينشأ من الروح، وكان الملائكة أقرب شيء إلى الروحية، أكد هذا المعنى مزيلاً ما قد يوهمه في الشفاعة سواء قلنا: إن الروح هنا جنس أم لا، فقال ذاكراً ظرف {لا يتكلمون} {يوم يقوم الروح} أي هذا الجنس أو خلق من خلق الله عظيم الشأن جداً، قيل: هو الملك الموكل بالأرواح أو جبرائيل عليه السلام، أو القرآن المشار إليه بمثل قوله تعالى: {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر} [القدر: 4] {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} [الشورى: 52] قاله ابن زيد {والملائكة} أي كلهم، ونبه بالاصطفاف على شدة الأمر فقال: {صفاً} للقاء ما في ذلك اليوم من شدائد الأهوال ولحفظ الثقلين وهم في وسط دائرة صفهم من الموج والاضطراب لعظيم ما هم فيه، ثم زاد الأمر عظماً بذكر العامل في لا يوم فقال: {لا يتكلمون} أي من تقدم كلهم بأجمعهم فيه بكلمة واحدة مطلق كلام خطاباً كان أي في أمر عظيم أو لا، لا له سبحانه ولا لغيره أصلاً ولا أحد منهم، ويجوز أن يكون هذا حالاً لهؤلاء الخواص فيكون الضمير لهم فغيرهم بطريق الأولى {إلا من أذن له} أي في الكلام إذناً خاصاً {الرحمن} أي الملك الذي لا تكون نعمه على أحد من خلقه إلا منه {وقال صواباً} فإن لم يحصل الأمر إن لم يقع الكلام من أحد منهم أصلاً، وهذا كالدليل على آية الخطاب بأنه إذا كان الروح والقريب منه بهذه المثابة في حال كل من حضره كان أحوج ما يكون إلى الكلام فما الظن بغيرهم؟ وهم في غيره كذلك بطريق الأولى وغيرهم فيه وفي غيره من باب الأولى، وأما في الدنيا فإنه وإن كان لا يتكلم أحد إلا بإذنه لكنه قد يتكلم بالخطأ.
ولما عظم ذلك اليوم بالسكوت خوفاً من ذي الجبروت {وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً} [طه: 108] أشار إليه بما يستحقه زيادة في عظمته فقال: {ذلك} أي المشار إليه لبعد مكانته وعظم رتبته وعلو منزلته {اليوم الحق} أي في اليومية لكونه ثابتاً في نفسه فلابد من كونه ولا زوال له ثوبتاً لا مرية فيه لعاقل وثابتاً كل ما أثبته وباطلاً كل ما نفاه. ولما قرر من عظمته ما يعجز غيره عن أن يقرر مثله، وكان قد خلق القوى والقدر والفعل بالاختيار. فكان من حق كل عاقل تدرع ما ينجى منه، سبب عن ذلك تنبيهاً على الخلاص منه وحثاً عليه قوله: {فمن شاء} أي الاتخاذ من المكلفين الذين أذن لهم {اتخذ} أي بغاية جهده {إلى ربه} أي خالقه نفسه المحسن إليه أو رب ذلك اليوم باستعمال قواه التي أعطاه الله إياها في الأعمال الصالحة {مآباً} أي مرجعاً هو المرجع مما يحصل له فيه الثواب بالإيمان والطاعة، فإن الله جعل لهم قوة واختياراً، ولكن لا يقدر أحد منهم على مشيئة شيء إلا بمشيئة الله.
ولما قدم في هذه السورة من شرح هذا النبأ العظيم ما قدم من الحكم والمواعظ واللطائف والوعد والوعيد، لخصه في قوله مؤكداً لما لهم من التكذيب: {إنا} على ما لنا من العظمة {أنذرناكم} أي أيها الأمة وخصوصاً العرب بما مضى من هذه السورة وغيرها {عذاباً} ولما كان لابد من إتيانه وكونه سواء كان بالموت أو بالبعث، وكان كل ما تحقق إتيانه أقرب شيء قال: {قريباً}.
ولما حذر منه، عين وقته مشدداً لتهويله فقال: {يوم ينظر المرء} أي جنسه الصالح منه والطالح نظراً لامرية فيه {ما} أي الذي {قدمت يداه} أي كسبه في الدنيا من خير وشر، وعبر بهما لأنهما محل القدرة فكنى بهما عنها مع أن أكثر ما يعمل كائن بهما مستقلتين به أو مشاركتين فيه خيراً كان أو شراً. ولما كان التقدير: فيقول المؤمن: يا ليتني قمت قبل هذا، عطف عليه قوله: {ويقول الكافر} أي العريق في الكفر عندما يرى من تلك الأهوال متمنياً محالاً: {يا ليتني كنت} أي كوناً لابد منه ولا يزول {تراباً} أي في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف، أو في هذا اليوم فلم أعذب، والمراد به الجنس أو إبليس الذي تكبر عن السجود لآدم عليه السلام المخلوق من التراب، وعظم نفسه بالحمد والافتخار بكونه مخلوقاً من نار، يقول ذلك عندما يرى ما أعد الله لآدم عليه السلام ولخواص بنيه من الكرامة من النعيم المقيم، ولهذا المتكبر على خالقه من العذاب الدائم الذي لا يزول، وعن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم أن الله تعالى يقتص يوم البعث للبهائم بعضها من بعض ثم يقول لها: كوني تراباً، فتكون فيتمنى الكافر مثل ذلك. فقد علم أن ذلك اليوم في غاية العظمة وأنه لابد من كونه، فعلم أن التساؤل عنه للتعجب من كونه من أعظم الجهل، فرجع آخرها على أولها، وانعطف مفصلها أي انعطاف على موصلها، واتصل مع ذلك بما بعدها أي اتصال، فإن المشرف بالنزع على الموت يرى كثيراً من الأهوال والزلازل والأوجال التي يتمنى لأجلها أنه كان منقطعاً عن لدنيا ليس له بها وصال يوماً من الأيام ولا ليلة من الليال- والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.