فصل: سورة قريش:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.سورة قريش:

.تفسير الآيات (1- 4):

{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)}
لما كان ما فعله سبحانه- من منع هذا الجيش العظيم- الذي من قوته طاعة أكبر ما خلق الله من الحيوان البري فيما نعلمه له- من دخول الحرم الذي هو مظهر قدرته ومحل عظمته الباهرة وعزته والمذكر بخليله عليه الصلاة والسلام وما كان من الوفاء بعظيم خلته- كرامة لقريش عظيمة ظاهره عاجلة حماية لهم عن أن تستباح ديارهم وتسبى ذراريهم لكونهم أولاد خليله وخدام بيته وقطان حرمه ومتعززين به ومنقطعين إليه، وعن أن يخرب موطن عزهم ومحل أمنهم وعيشهم وحرزهم، ذكرهم سبحانه وتعالى ما فيه من النعمة الآجلة إكراماً ثانياً بالنظر في العاقبة، فقال مشيراً إلى أن من تعاظم عليه قصمه، ومن ذل له وخدمه أكرمه وعظمه: {لإيلاف قريش} أي لهذا الأمر لا غيره فعلنا ذلك وهو إيقاعهم الإيلاف وهو ألفهم لبلدهم الذي ينشأ عنه طمأنينتهم وهيبة الناس لهم، وذلك ملزوم لألفهم أولاً في أنفسهم، فإذا كان لهم الألف بحرمهم بما حصل لهم من العز والمكنة به بما دافع عنهم فيه مع ما له من بعد الآفات عنه، وكان لهم الألف بينهم، فكان بعضهم يألف بعضاً، قوي أمرهم فألفوا غيرهم أي جعلوه يألف ما ألفوه إياه أي سنوه له وأمروه به، أو يكون اللام متعلقاً بفعل العبادة بدلالة {فليعبدوا} أي ليعبدونا لأجل ما أوقعنا من ألفهم وإيلافهم، وعلى التقديرين الألف علة للعبادة أو لما يوجب الشكر بالعبادة، وفي هذا إشارة إلى تمام قدرته سبحانه وتعالى وأنه إذا أراد شيئاً يسر سبببه لأن التدبير كله له يخفض من يشاء وإن عز، ويرفع من يشاء وإن ذل، ليثمر اعتقاد ذلك حبه والانقطاع لعبادته والاعتماد عليه في كل نفع ودفع، وقريش ولد النضر ابن كنانة واسمهم واسم قبيلتهم مشتق من القرش والتقرش وهو التكسب والجمع، يقال: فلان يقرش لعياله ويقترش أي يكتسب، وقال البغوي: وقال أبو ريحانة: سأل معاوية ابن عباس رضي الله عنهما: لم سموا بهذا؟ فقال: لدابة تكون في البحر هي أعظم دوابه، يقال لها القرش، لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته، وهي تأكل ولا تؤكل وتعلو ولا تعلى، قال: وهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، وأنشد للجمحي:
وقريش هي التي تسكن البحر بها ** سميت قريش قريشا

سلطت بالعلو في لجة البحر على ** سائر الجيوش جيوشا

وقال الزمخشري: هي دابة عظيمة تعبث بالسفن ولا تطاق إلا بالنار، والتصغير للتعظيم- انتهى. وقيل: سموا بذلك لتجمعهم إلى الحرم بعد تفرقهم، فإن القرش- كما تقدم- الجمع، وكان المجمع لهم قصياً، والقرش أيضاً الشديد، وقيل: هو من تقرش الرجل- إذا تنزه عن مدانيس الأمور، ومن تقارشت الرماح في الحرب- إذا دخل بعضها في بعض.
والمادة كلها للشدة والاختلاط، والتعبير بهذا الاسم لمدحهم. وكما أجرى سبحانه وتعلى مدحهم على الألسنة جعلهم موضعاً للمدح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى بني هاشم من قريش واصطفاني من بني هاشم» وقال صلى الله عليه وسلم: «الأئمة من قريش» قال العلماء: وذلك أن طيب العنصر يؤدي إلى محاسن الأخلاق، ومحاسن الأخلاق تؤدي إلى صفاء القلب، وصفاء القلب عون على إدراك العلوم، وبإدراك العلوم تنال الدرجات العلا في الدنيا والآخرة، وصرف الاسم هنا على معنى الحي ليكون الاسم بمادته دالاًّ على الجمع، وبصرفه دالاًّ على الحياة إشارة إلى كمال حياتهم ظاهراً وباطناً، قال سيبويه في معد وقريش وثقيف: صرف هذه الأحياء أكثر، وإن جعلتها اسماً للقبائل- يعني فمنعتها- فجائز حسن، والذي يدل على تعلق اللام بفعل دلت عليه الفيل أن السورتين في مصحف أبيّ رضي الله عنه سورة واحدة من غير فصل، وأن عبد الرزاق وابن أبي شيبة رويا عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال: صلى بنا عمر رضي الله عنه المغرب فقرأ في الأولى بالتين والزيتون، وفي الثانية ألم تر كيف ولئيلاف قريش.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لاخفاء في اتصالهما أي أنه سبحانه وتعالى فعل ذلك بأصحاب الفيل ومنعهم عن بيته وحرمه لانتظام شمل قريش، وهم سكان الحرم وقطان بيت الله الحرام، وليؤلفهم بهاتين الرحلتين فيقيموا بمكة وتأمن ساحتهم- انتهى.
ولما علل بالإيلاف وكان لازماً ومتعدياً، تقول: آلفت المكان أولفه إيلافاً فأنا مؤلف وآلفت فلاناً هذا الشيء أي جعلته آلفاً له، وكان الإتيان بالشيء محتملاً لشيئين ثم إبدال أحدهما منه أضخم لشأنه وأعلى لأمره، أبدل منه قوله: {إلافهم} أي إيلافنا إياهم {رحلة الشتاء} التي يرحلونها في زمنه إلى اليمن لأنها بلاد حارة ينالون بها متاجر الجنوب {والصيف} التي يرحلونها إلى الشام في زمنه لأنها بلاد باردة ينالون فيها منافع الشمال، وهم آمنون من سائر العرب لأجل عزهم بالحرم المكرم المعظم ببيت الله والناس يتخطفون من حولهم، ففعل الله تعالى بأصحاب الفيل ما فعل ليزداد العرب لهم هيبة وتعظيماً فتزيد في إكرامهم لما رأت من إكرام الله تعالى لهم فيكون لهم غاية التمكن في رحلتهم، والرحلة بالكسر هيئة الرحيل، وقرئ بالضم وهي الجهة التي يرحل إليها، وكانوا معذورين لذلك لأن بلدهم لا زرع به ولا ضرع، فكانوا إذا ضربوا في الأرض قالوا: نحن سكان حرم الله وولاة بيته، فلا يعرض أحد بسوء، فلولا الرحلتان لم يكن لهم مقام بمكة، ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرف، وأول من سن لهم الرحلة هاشم بن عبد مناف، وكان يقسم ربحهم بين الغني والفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم، وفي ذلك يقول الشاعر:
قل للذي طلب السماحة والندى ** هلا مررت بآل عبد مناف

الرائشين وليس يوجد رائش ** والقائلين هلم للإضياف

والخالطين فقيرهم بغنيهم ** حتى يكون فقيرهم كالكاف

القائلين بكل وعد صادق ** والراحلين برحلة الإيلاف

عمرو العلا هشم الثريد لقومه ** ورجال مكة مسنتون عجاف

سفرين سنّهما له ولقومه ** سفر الشتاء ورحلة الأصياف

وتبع هاشماً على ذلك إخوته، فكان هاشم يؤلف إلى الشام وعبد شمس إلى الحبشة، والمطلب إلى اليمن، ونوفل إلى فارس، وكان تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار بحبال هذه الإخوة- أي عهودهم- التي أخذوها بالأمان لهم من ملك كل ناحية من هذه النواحي، وأفرد الرحلة في موضع التثنية لتشمل كل رحلة- كما هو شأن المصادر وأسماء الأجناس، إشارة لهم بالبشارة بأنهم يتمكنون عن قريب من الرحلة إلى أي بلد أرادوا لشمول الأمن لهم وبهم جميع الأرض بما نشره الله سبحانه وتعالى من الخير في قلوب عباده في سائر الأرض بواسطة هذا النبي الكريم الذي هو أشرفهم وأعظمهم وأجلهم وأكرمهم.
ولما كان هذا التدبير لهم من الله كافياً لهمومهم الظاهرة بالغنى والباطنة بالأمن، وكان شكر المنعم واجباً، فإذا أنعم بما يفرغ المنعم عليه للشكر كان وجوبه عليه أعظم، سبب عن الإنعام عليهم بذلك قوله: {فليعبدوا} أي قريش على سبيل الوجوب شكراً على هذه النعمة خاصة إن لم يشكروه على جميع نعمه التي لا تحصى لأنهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان وأبعدهم عن الكفران {رب هذا البيت} أي الموجد له والمحسن إلى أهله بتربيتهم به وبحفظه من كل طاغ، وتأثيره لأجل حرمته في كل باغ، وبإذلال الجبابرة له ليكمل إحسانه إليهم وعطفه عليهم بإكمال إعزازه لهم في الدنيا والآخرة وجعل ما داموا عابدين له موصولاً بعز الآخرة، فتتم النعمة وتكمل الرحمة، والمراد به الكعبة، عبر عنها بالإشارة تعظيماً إشارة إلى أن ما تقدم في السورة الماضية من المدافعة عنهم معروف أنه بسببه لا يحتاج إلى تصريح، وأن ذلك جعله متصوراً في كل ذهن حاضراً مشاهداً لكل مخاطب، وفي هذا التلويح من التعظيم ما ليس للتصريح، ثم وصف نفسه الأقدس بما هو ثمرة الرحلتين ومظهر لزيادة شرف البيت فقال تعالى: {الذي أطعمهم} أي قريشاً بحمل الميرة إلى مكة بالرحلتين آمنين من أن يهاجوا، وبإهلاك الذين أرادوا إخراب البيت الذي به نظامهم، إطعاماً مبتدئاً {من جوع} أي عظيم فيه غيرهم من العرب، أو كانوا هم فيه قبل ذلك لأن بلدهم مهيأ لذلك لأنه ليس بذي زرع، فهم عرضة للفقر الذي ينشأ عنه الجوع، فكفاهم ذلك وحده ولم يشركه أحد في كفايتهم، فليس من الشكر إشراكهم في عبادته ولا من البر بأبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي دعا لهم بالرزق ونهى أشد النهي عن عبادة الأصنام، ولم يقل: أشبعهم لأنه ليس كلهم كان يشبع، ولأن من كان يشبع منهم طالب لأكثر مما هو عنده «ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب».
ولما ذكر السبب في إقامة الظاهر، ذكر السبب في إقامة العيش بنعمة الباطن فقال: {وآمنهم} أي تخصيصاً لهم {من خوف} أي شديد جداً من أصحاب الفيل ومما ينال من حولهم من التخطف بالقتل والنهب والغارات وبالأمن من الجذام بدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومن الطاعون والدجال بتأمين النبي صلى الله عليه وسلم، وعن ذلك تسبب الاتحاف بما خصهم به من الإيلاف، فعلم أن آخرها علة لأولها، ويجوز أن يكون إلفهم للبلد وقع أولاً فحماه الله لهم مما ذكر، فيكون ذلك مسبباً عن الإلف فيكون أولها علة لآخرها، فقد التقى الطرفان، والتأم البحران المغترفان، وكما التقى آخر كل سورة مع أولها فكذلك التقى آخر القرآن العظيم بأوله بالنسبة إلى تسع سور هذه أولها إذا عددت من الآخر إليها، فإن حاصلها المن على قريش بالإعانة على المتجر إيلافاً لهم بالرحلة فيه والضرب في الأرض بسببه واختصاصهم بالأمر بعبادة الذي منّ عليهم بالبيت الحرام وجلب لهم به الأرزاق والأمان، ومن أعظم مقاصد التوبة- المناظرة لهذه بكونها التاسعة من الأول- البراءة من كل مارق، وأن فعل ذلك يكون سبباً للألفة بعد ما ظن أنه سبب الفرقة، وذكر مناقب البيت ومن يصلح لخدمته، والفوز بأمانه ونعمته، والبشارة بالغنى على وجه أعظم من تحصيله بالمتجر وأبهى وأبهر، وأوفى وأوفر، وأزهى وأزهر، وأجل وأفخر، بقوله تعالى: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم} الآيات، [التوبة: 17] وقوله تعالى: {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله} [التوبة: 28] فعلم بهذا علماً جلياً أنه شرع سبحانه في رد المقطع على المطلع من سورة قريش الذين أكرمهم الله بإنزال القرآن بلسانهم وأرسل به النبي صلى الله عليه وسلم إليهم كما أكرمهم ببناء البيت في شأنهم، وتعظيمه لغناهم وأمانهم، ومن أعظم المناسبات في ذلك كون أول السورة التي أخذ فيها في رد المقطع على المطلع شديد المشابهة للسورة المناظرة لها حتى أن في كل منهما مع التي قبلها كالسورة الواحدة فإن براءة مع الأنفال كذلك حتى قال عثمان رضي الله تعالى عنه إن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ولم يبين أمرها، فلم يتحرر له أنها مستقلة عنها، ولذلك لم يكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، وكانت هذه التي من الآخر مقطوعاً بأنها مستقلة مع ما ورد من كونها مع التي قبلها سورة واحدة في مصحف أبيّ رضي الله تعالى عنه، وقراءة عمر رضي الله عنه لهما على وجه يشعر بذلك كما مضى إشارة إلى أن الآخر يكون أوضح من الأول، ومن أغرب ذلك أن السورتين اللتين قبل سورتي المناظرة بين أمريهما طباق، فالأولى في الآخر وهي الفيل أكرم الله فيها قريشاً بإهلاك أهل الإنجيل، والأولى في الأول وهي الأنفال أكرمهم الله فيها بنصر أهل القرآن عليهم بإهلاك جبابرتهم، فكان ذلك سبباً لكسر شوكتهم وسقوط نخوتهم المفضي إلى سعادتهم، وعلم أن البراءة وغيرها إنما عمل لإكرامهم لأنهم المقصودون بالذات وبالقصد الأول بالإرسال والناس لهم تبع كما أن جميع الرسل تبع للرسول الفاتح الخاتم الذي شرفوا بإرساله إليه صلى الله عليه وسلم، وكان عدد التسع مشيراً إلى أن قريشاً أهل لأن يتصلوا بعروج الأسرار في الملكوت إلى الفلك التاسع، وهو العرش الذي هو مقلوب الشرع، فهم يصعدون بأسرار الشرع- التي من أعظمها الصلاة- من الأسفل إلى الأعلى من الطرفين معاً كما أنه يتنزل عليهم بالبركات من الجانبين، وإذا ضممت التسع الأولى إلى الأخرى كانت ثمان عشرة، فكانت مشيرة إلى ركعات الصلوات مضموماً إليها الوتر، وإلى ظهور الدين ظهوراً كاملاً على غالب أقطار الأرض كما كان في سنة ثمان وعشرين، وهي الثامنة عشر من موت النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في أثناء خلافة عثمان رضي الله عنه فإنه كان فيها قد تمزق ملك كسرى وضعف جداً، وكذا ملك الروم مع ما كان من زوال أمر القبط بالكلية، ومن بديع الإشارات أيضاً أنك إذا نظرت إلى نزول براءة وجدته سنة تسع من الهجرة في غزوة تبوك وعقب الرجوع منها، فكان كونها تاسعة ونزولها في السنة التاسعة مشيراً إلى كون الدين يظهر على كل مخالف بعد تسع سنين، وهي السنة الثامنة من موت النبي صلى الله عليه وسلم في وسط خلافة الفاروق حين ظهر المسلمون على الفرس والروم، فقتلوا رجالهم، وانتثلوا أموالهم، كما كان قد ظهر عند نزولها على عباد الأوثان من العرب، ومن الغريب أن قصة الفيل كانت سنة مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فهي قبل النبوة بأربعين سنة بعدد كلمات السورتين: الفيل وقريش، فإن الفيل ثلاث وعشرون وقريش سبع عشرة، وذلك- والله أعلم- إشارة إلى أن ابتداء الأمن- بإهلاكهم والإشباع بنهب ما كان معهم من أموالهم ومتاعهم- كان لمولده صلى الله عليه وسلم وتشريف الوجود بوجوده، ويكون ذلك ظاهراً كما كان السبب- الذي هو وجوده صلى الله عليه وسلم- ظاهراً، وإلى أن وسطه يكون بنبوته صلى الله عليه وسلم، ويكون ذلك باطناً كما أن السبب- وهو الوحي باطن، ثم كان أمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم في السنة الثامنة الموازية لعدد كلمات البسملتين على يد النجاشي ملك الحبشة الذين كان الأمن أولاً بإهلاكهم، وإذا ضممت إليها أحد عشر ضميراً- سبعة في الفيل وأربعة في قريش- كانت تسعاً وخمسين توازيها إذا حسبت من المولد سنة ست من الهجرة، وفيها كانت عمرة الحديبية وهي الفتح السببي الخفي، وإلى ذلك أشار صلى الله عليه وسلم بقوله في بروك ناقته الشريفة حين بركت فقالت الصحابة رضي الله تعالى عنهم: خلأت القصوى أي حرنت: «ما خلأت ولكن حبسها حابس الفيل» وفيها نزلت سورة الفتح، فكان سبب الأمن العظيم والغنى، وعقبها في سنتها كان البعث إلى ملوك الأمصار، وفتح خيبر وانبساط ذكر الإسلام في جميع الأقطار، وكذا كان عقبها قبل عمرة القضية إسلام عمرو بن العاص على يد النجاشي لما سأله أن يعطيه عمرو بن أميه الضمري رضي الله عنه ليقتله، وذلك حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي رضي الله عنهما يدعوه إلى الإسلام فأنكر النجاشي ذلك على ابن العاص وشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة وأمره بأن يؤمن به، ففعل فكان ملك الحبشة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ناجياً هادياً، وإلى النبي صلى الله عليه وسلم داعياً، عكس ما كان لملك الحبشة بمولده صلى الله عليه وسلم من أنه كان هالكاً، وإلى الجحيم هاوياً، وإن حسبت من سنة بنيان الكعبة في الخامسة والعشرين من مولده صلى الله عليه وسلم كانت السنة التاسعة والخمسون هي الحادية والثلاثون بعد الهجرة، وهي سنة استئصال ملك الفرس بقتل آخر ملوكهم يزدجرد، والفرس هم الذين أزالوا الحبشة عن بلاد اليمن وطهروا منهم أرض العرب، ولعل قسمة السورتين إلى ثلاث وعشرين وسبع عشرة إشارة إلى أن هذا المولد الشريف الذي حرست الكعبة بمولده صلى الله عليه وسلم وحصل الأمن والعز ببركته تبنى الكعبة وتجدد بعد بضع وعشرين سنة من مولده، قالوا: كان بنيانها وسنه خمس وعشرون سنة، فلعله كان في آخر الرابعة والعشرين، ولعل قصة الفيل كانت وله نحو سنة من حين الولادة، وبه حين البنيان ألف الله بين قريش بعد أن كانوا تنافروا أشد المنافرة وتعاقدوا على الحرب في أمر الحجر الأسود من يضعه في موضعه حتى أصلح الله بينهم به صلى الله عليه وسلم فوضعه بيده الشريفة في ثوب، وأمرهم فأمسكت جميع القبائل بأطرافه، ثم رفعوه حتى وازوا به موضعه فأخذه هو صلى الله عليه وسلم فوضعه في مكانه، فكان الشرف له خاصة في الإصلاح والبنيان، وتشير مع ذلك إلى أنه يبقى في النبوة ثلاثاً وعشرين سنة، ثم يتوفاه الله سبحانه وتعالى بعد أن جعل الله كيد جميع الكفرة في تضليل من عباد الأوثان والفرس والروم وغيرهم بما فتح الله عليه من جزيرة العرب التي ألف الله بها بين كلمتهم حتى انسابوا على غيرهم فما وافقهم أحد ناوشوه القتال وساوموه النضال والنزال، ولعل الإشارة بكون قريش سبع عشرة كلمة إلى أنه صلى الله عليه وسلم بعد سبع عشرة سنة من بنيان البيت يبعثه الله سبحانه وتعالى لأمر قريش بالعبادة التي أجلّها الصلاة التي أعظمها الفرائض التي هي سبع عشرة ركعة شكراً لنعمة من آمنهم من خوف وأطعمهم من جوع بأعظم العبادة، وإلى أن ابتداء ألفة قريش بالقوة القريبة من الفعل بعد الشتات العظيم الظاهر وجعل كيد الكفار في تضليل يكون في السنة السابعة عشرة من النبوة، وذلك سنة أربع من الهجرة فإن فيها كان إجلاء بني النضير من اليهود من المدينة الشريفة وإخلاف قريش الموعد في بدل الموعد وهناً منهم عن لقاء جيش النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت بعد بيسير غزوة الأحزاب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد انصرافهم: «الآن نغزوهم ولا يغزونا» يعني أن نخوة الشيطان منهم وحمية الجاهلية أخذت في الاضمحلال لانتهاء قوتهم في الباطل الذي كان سبب عزهم الظاهري الذي هو الذل في الباطن، وكان ذلك ابتداء عزهم في الباطن الذي هو ذلهم لأهل الإسلام في الظاهر، وفي أثر الأحزاب كانت غزوة بني قريظة، فإذا ضممت إلى الكلمات الضمائر الأربعة كانت إحدى وعشرين توازيها سنة ثمان من الهجرة وهي سنة الفتح الأعظم الذي وقعت به الألفة العظمى بين قريش وأمنهم وغناهم الذي وعدهم الله به في السورة المناظرة لها- وهي براءة- باتئلاف جميع العرب وانبعاثهم لاجتماع كلمتهم إلى جهاد الفرس والروم والقبط وأخذهم لبلادهم، وانتثالهم لكنوزهم وتحكمهم في نسائهم وأولادهم، فسبحان من هذا كلامه، وتعالى شأنه وعز مرامه.