فصل: سورة الماعون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.سورة الماعون:

.تفسير الآيات (1- 7):

{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)}
لما أخبر سبحانه وتعالى عن فعله معهم من الانتقام ممن تعدى حدوده فيهم، ومن الرفق بهم بما هو غاية في الحكمة، فكان معرفاً بأن فاعله لا يترك الناس سدى من غير جزاء، وأمرهم آخر قريش بشكر نعمته بإفراده بالعبادة، عرفهم أول هذه أن ذلك لا يتهيأ إلا بالتصديق بالجزاء الحامل على معالي الأخلاق الناهي عن مساوئها، وعجب ممن يكذب بالجزاء مع وضوح الدلالة عليه بحكمة الحكيم، ووصف المكذب به بأوصاف هم منها في غاية النفرة، وصوّره بأشنع صورة بعثاً لهم على التصديق وزجراً عن التكذيب، فقال خاصاً بالخطاب رأس الأمة إشارة إلى أنه لا يفهم هذا الأمر حق فهمه غيره: {أرأيت} أي أخبرني يا أكمل الخلق {الذي يكذب} أي يوقع التكذيب لمن يخبره كائناً من كان {بالدين} أي الجزائي الذي يكون يوم البعث الذي هو محط الحكمة وهو غاية الدين التكليفي الآمر بمعالي الأخلاق الناهي عن سيئها، ومن كذب بأحدهما كذب بالآخر: ولما كان فعل الرؤية بمعنى أخبرني، المتعدي إلى مفعولين، كان تقدير المفعول الثاني: أليس جديراً بالانتقام منه.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تضمنت السور المتقدمة من الوعيد لمن انطوى على ما ذكر فيها مما هو جارٍ على حكم الجهل والظلم الكائنين في جبلة الإنسان ما تضمنت كقوله: {إن الإنسان لربه لكنود} {إن الإنسان لفي خسر} {يحسب أن ماله أخلده} وانجر أثناء ذلك مما تثيره هذه الصفات الأولية ما ذكر فيها أيضاً كالشغل بالتكاثر، والطعن على الناس ولمزهم والاغترار المهلك أصحاب الفيل أتبع ذلك بذكر صفات قد توجد في المنتمين إلى الإسلام أو يوجد بعضها أو أعمال من يتصف بها وإن لم يكن من أهلها كدع اليتيم، وهو دفعه عن حقه وعدم الرفق به، وعدم الحض على طعام المسكين، والتغافل عن الصلاة والسهو عنها، والرياء بالأعمال والزكاة والحاجات التي يضطر فيها الناس بعضهم إلى بعض، ويمكن أن يتضمن إبهام الماعون هذا كله، ولا شك أن هذه الصفات توجد في المتسمين بالإسلام، فأخبر سبحانه وتعالى أنه من صفات من يكذب بيوم الدين ولا ينتظر الجزاء والحساب، أي إن هؤلاء هم أهلها، ومن هذا القبيل قوله عليه الصلاة والسلم «أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً» وقوله عليه الصلاة والسلام «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» وهذا الباب كثير في الكتاب والسنة، وقد بسطته في كتاب: إيضاح السبيل من حديث سؤال جبريل فمن هذا القبيل عندي- والله أعلم- قوله تعالى: {أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم} أي أن هذه الصفات من دفع اليتيم وبعد الشفقة عليه، وعدم الحض على إطعامه والسهو عن الصلاة والمراءاة بالأعمال ومنع الحاجات إن هذه كلها من شأن المكذب بالحساب والجزاء لأن نفع البعد عنها إنما يكون إذ ذاك، فمن صدق به جرى في هذه الخصال على السنن المشكور والسعي المبرور، ومن كذب به لم يبال بها وتأبط جميعها، فتنزهوا أيها المؤمنون عنها، فليست من صفاتكم في أصل إيمانكم الذي بايعتم عليه، فمن تشبه بقوم فهو منهم، فاحذروا هذه الرذائل فإن دع اليتيم من الكبر الذي أهلك أصحاب الفيل، وعدم الحض على إطعامه فإنما هو فعل البخيل الذي يحسب أن ماله أخلده، والسهو عن الصلوات من ثمرات إلهاء التكاثر، والشغل بالأموال والأولاد، فنهى عباده عن هذه الرسائل التي يثمرها ما تقدم والتحمت السور- انتهى.
ولما كان المراد بهذا الجنس، وكان من المكذبين من يخفي تكذيبه، عرفهم بأمارات تنشأ من عمود الكفر الذي صدر به ويتفرع منه تفضحهم، وتدل عليهم وإن اجتهدوا في الإخفاء وتوضحهم، فقال مسبباً عن التكذيب ما هو دال عليه: {فذلك} أي البغيض البعيد من كل خير {الذي يدع} أي يدفع دفعاً عنيفاً بغاية القسوة {اليتيم} ويظلمه ولا يحث على إكرامه لأن الله تعالى نزع الرحمة من قلبه، ولا ينزعها إلا من شقي لأنه لا حامل على الإحسان إليه إلا الخوف من الله سبحانه وتعالى، فكان التكذيب بجزائه سبباً للغلظة عليه.
ولما كانت رحمة الضعفاء علامة على الخير، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين» كانت القسوة عليهم علامة على الشر، وكان من بخل باللين في قاله أشد بخلاً بالبذل من ماله، قال معرفاً لأن المكذب ينزله تكذيبه إلى أسفل الدركات، وأسوإ الصفات الحامل على شر الحركات: {ولا يحض} أي يحث نفسه وأهله ولا غيرهم حثاً عظيماً يحمى فيبعث على المراد {على طعام المسكين} أي بذله له وإطعامه إياه بل يمقته ولا يكرمه ولا يرحمه، وتعبيره عن الإطعام- الذي هو المقصود- بالطعام الذي هو الأصل وإضافته المسكين للدلالة على أنه يشارك الغني في ماله بقدر ما فرض الله من كفايته، وقد تضمن هذا أن علامة التكذيب بالبعث- إيذاء الضعيف والتهاون بالمعروف، والآية من الاحتباك: الدع في الأول يدل على المقت في الثاني: والحض في الثاني يدل على مثله في الأول.
ولما كان هذا حاله مع الخلائق، أتبعه حاله مع الخالق إعلاماً بأن كلاًّ منهما دالّ على خراب القلب وموجب لمقت الرب، وأعظم الإهانة والكرب، وأن المعاصي شؤم مهلك، تنفيراً عنها وتحذيراً منها، فسبب عنه قوله معبراً بأعظم ما يدل على الإهانة: {فويل} ولما كان الأصل: له- بالإضمار والإفراد، وكان المراد ب {الذي} الجنس الصالح للواحد وما فوقه.
وكان من يستهين بالضعيف لضعفه يعرض عما لا يراه ولا يحسه لغيبته، وكان من أضاع الصلاة كان لما سواها أضيع، وكان من باشرها ربما ظن النجاة ولو كانت مباشرته لها على وجه الرياء أو غيره من الأمور المحيطة للعمل، عبر بالوصف تعميماً وتعليقاً للحكم به وشقه من الصلاة تحذيراً من الغرور، وإشارة إلى أن الذي أثمر له تلك الخساسة هو ما تقدم من الجري مع الطبع الرديء، وأتى بصيغة الجمع تنبيهاً على أن الكثرة ليست لها عنده عزة لأن إهانة الجمع مستلزمة لإهانة الأفراد من غير عكس فقال: {للمصلين} ولما كان الحكم إنما هو على ذات الموضع من غير اعتبار لوصفه بالفعل علم أن المقصود إنما هو من كان مكلفاً بالصلاة لأن من كان متلبساً بها مثل قوله صلى الله عليه وسلم «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» فلذلك وصفهم بقوله: {الذين هم} أي بضمائرهم وخالص سرائرهم. ولما كان المراد تضييعهم قال: {عن} دون في {صلاتهم} أي هي جديره بأن تضاف إليهم لوجوبها عليهم وإيجابها لأجل مصالحهم ومنافعهم بالتزكية وغيرها {ساهون} أي عريقون في الغفلة عنها وتضييعها وعدم المبالاة بها وقلة الالتفات إليها، ويوضح ذلك أن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ {لاهون} وفائدة التعبير بالوصف الدلالة على ثبوته لهم ثبوتاً يوجب أن لا يذكروها من ذات أنفسهم أصلاً، ولذلك كشفه بما بعده، روى البغوي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الآية فقال: «هو إضاعة الوقت» وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: هم المنافقون يتركون الصلاة إذا غابوا ويصلونها إذا حضروا مع الناس.
ولما كان من كان بهذه الصفة لا نظر له لغير الحاضر كالبهائم، قال دالاًّ على أن المراد بالسهو هاهنا تضييعها عند الانفراد بالترك حساً ومعنى وعند الاجتماع بالإفساد في المعنى: {الذين هم} أي بجملة سرائرهم {يرآؤن} أي بصلاتهم وغيرها يرون الناس أنهم يفعلون الخير ليراهم الناس فيروهم الثناء عليهم والإحسان إليهم ولو بكف ما هم يستحقونه من السيف عنهم، لا لرجاء الثواب ولا لمخوف العقاب من الله سبحانه وتعالى، ولذلك يتركون الصلاة إذا غابوا عن الناس.
ولما كان من كان بهذه الصفة ربما فعل قليل الخير دون جليله رياء، بين أنهم غلب عليهم الشح حتى أنهم مع كثرة الرياء منهم لم يقدروا على أن يراؤوا بهذا الشيء التافه، فانسلخوا من جميع خلال المكارم، فقال إبلاغاً في ذمهم إشعاراً بأن أحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله: {ويمنعون} أي على تجدد الأوقات، وحذف المفعول الأول تعمماً حتى يشمل كل أحد وإن جل وعظمت منزلته ولطف محله من قلوبهم تعريفاً بأنهم بلغوا من الرذالة دركة ليس وراءها للحسد موضع {الماعون} أي حقوق الأموال والشيء اليسير من المنافع مثل إعارة التافه من متاع البيت التي جرت عادة الناس أن يتعاوروه بينهم، ويمنعون أهل الحاجة ما أوجب الله لهم في أموالهم من الحقوق، والحاصل أنه ينبغي حمل ذلك على منع ما يجب بذله مثل فضل الكلأ والماء والزكاة ونحوه ليكون موجباً للويل، وعلى الزكاة حمله علي وابن عمر رضي الله عنهما والحسن وقتادة، قال العلماء: هو مأخوذ من المعن، وهو في اللغة الشيء اليسير، ولذلك فسره بعضهم بالماء وبعضهم بما يعار من المتاع نحو القدر والفأس.
والدلو، وبعضهم بالزكاة لأنه لا يؤخذ من المال على وجه الزكاة إلا شيء يسير جداً بالنسبة إليه، وقيل: هو كل عطية أو منفعة، وقال قطرب: هو فاعول من المعن، والمعن: المعروف، وقال أبو عبيدة: الماعون في الجاهلية العطاء والمنفعة وفي الإسلام الزكاة، وقال الهروي: قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو العارية- ذكر هذا الأستاذ عبد الحق الإشبيلي في كتابه الواعي، وقال ابن جرير: وأصل الماعون من كل شيء منفعته. فدل ذلك على أنهم بلغوا نهاية التكذيب باستهانتهم بأعظم دعائم الدين واستعظامهم لأدنى أمور الدنيا، وهذا الآخر كما ترى هو الأول لأن الذي جر إليه هو التكذيب، ومن منع هذه الأشياء التافهة كان جديراً بأن يمنع ورود الكوثر في يوم المحشر، وكما التقى آخرها بأولها التقت السورة كلها مع مناظرتها في العدد من أول القرآن، وذلك أنه قد علم أن حاصل هذه السورة الإبعاد عن سفساف الأخلاق ورديها ودنيها من التكذيب بالجزاء الذي هو حكمة الوجود المثمر للإعراض عن الوفاء بحق الخلائق وطاعة الخالق، والانجذاب مع النقائص إلى الاستهانة بالضعيف الذي لا يستهين به إلا أنذل الناس وأرذلهم، والرياء الذي لا يلم به إلا من كان في غاية الدناءة، فكان ذلك موجباً للميل إلى أعظم الويل، وفي ذلك أعظم مرغب في معالي الأخلاق التي هي أضداد ما ذكر في السورة وكلا الأمرين موجود في الأنفال المناظرة لها في رد المقطع على المطلع على أتم وجه، ليكون ذلك إشارة إلى أنها شارحة لهذا ففيه الإيماء إلى ملاحظتها عند قراءتها، انظر إلى قوله تعالى: {الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً} [الأنفال: 4] الآية {وإذا قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك} [الأنفال: 32] الآية {وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاء وتصدية} [الأنفال: 35] {والذين كفروا إلى جهنم يحشرون} [الأنفال: 36] الآية {فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الأنفال: 41] الآية ولقد انطبقت السورة بمعانيها وتراكيبها العظيمة ونظومها ومبانيها على الأراذل الأدنياء الأسافل، وأحاطت برؤوسهم بعد كلماتها مفردة قبل حروفها، وأدارت عليهم كؤوس حتوفها من نوافذ الرماح بأيدي جنودها ومواضي سيوفها، وذلك أن عدة كلماتها خمس وعشرون كلمة فإذا اعتبرتها من أول سني النبوة وازت السنة الثانية عشرة من الهجرة، وذلك أواخر خلافة الصديق رضي الله عنه، وفيها لم يبق على يده أحد من المصلين الذين ارتدوا عن الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أو منعوا الزكاة، فتبين أنهم ما كانوا يصلون في حياته صلى الله عليه وسلم ويزكون إلا رياء الناس فعل الأدنياء الأنجاس حتى حل بهم الويل بأيدي جنود الصديق الذين جاؤوهم بالرجل والخيل فمزقوهم عن آخرهم، ولم تمض تلك السنة إلا وقد فرغ منهم بالفراغ من بني حنيفة باليمامة وأطراف بلاد اليمن من أهل النجير ببلاد كندة والأسود العنسي من صنعاء، وما مضت سنة ست عشرة الموازية لعدد الكلمات بالبسملة- وذلك في أوائل خلافة الفاروق- حتى زالوا من جميع جزيرة العرب وهم مشركو العرب ومتنصروهم ومتمجسوهم الذين كانوا بنواحي العراق والشام والبحرين فأسلم أكثرهم، وذهب الباقون إلى بلاد الروم، فحل الويل بالمرائين من أهل الصلاة فإنهم الذين أتى إليهم نبيهم صلى الله عليه وسلم بالصلاة فأعرضوا عنها والناس لهم تبع، ولم يصح في هذه السورة اعتبار الضمائر لأن الدين في هذا الحد كان قد ظهر على كل ظاهر، إلى حد لا إضمار فيه بوجه ولا عائق له ولا ساتر، وكما أنه لا حاجة إلى الرمز بالضمائر، لما دقت له في الخافقين من البشائر، على رؤوس المنابر والمنائر، فكذلك لم يناسب بعد الوصول إلى هذا الحال المكشوف، للإيماء بالدلالة بإعداد الحروف- والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

.سورة الكوثر:

.تفسير الآيات (1- 3):

{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)}
لما كانت سورة الدين بإفصاحها ناهية عن مساوئ الأخلاق، كانت بإفهامها داعية إلى معالي الشيم، فجاءت الكوثر لذلك، وكانت الدين قد ختمت بأبخل البخلاء وأدنى الخلائق: المنع تنفيراً من البخل ومما جره من التكذيب، فابتدئت الكوثر بأجود الجود. العطاء لأشرف الخلائق ترغيباً فيه وندباً إليه، فكان كأنه قيل: أنت يا خير الخلق غير متلبس بشيء مما نهت عنه تلك المختتمة بمنع الماعون: {إنا} بما لنا من العظمة وأكد لأجل تكذيبهم: {أعطيناك} أي خولناك مع التمكين العظيم، ولم يقل: آتيناك، لأن الإيتاء أصله الإحضار وإن اشتهر في معنى الإعطاء {الكوثر} الذي هو من جملة الجود على المصدقين بيوم الدين.
ولما كان كثير الرئيس أكثر من كثير غيره، فكيف بالملك فكيف بملك الملوك، فكيف إذا أخرجه في صيغة مبالغة فكيف إذا كان في مظهر العظمه، فكيف إذا بنيت الصيغة على الواو الذي له العلو والغلبة فكيف إذا أتت إثر الفتحة التي لها من ذلك مثل ذلك بل أعظم، كان المعنى: أفضنا عليك وأبحناك من كل شيء من الأعيان والمعاني من العلم والعمل وغيرهما من معادن الدارين ومعاونهما الخير الذي لا غاية له، فلا يدخل تحت الوصف، فأغنيناك عن أن تؤثر بذلك أو توفر مالك بجلب نفع أو دفع ضر، ومنه النهر الذي في الجنة ويسقي المؤمنين من الحوض الممدود منه في المحشر الذي مثاله في الدنيا شريعته صلى الله عليه وسلم التي عراها وأسبابها عدد النجوم الذين هم علماء أمته المقتدى بهم، فقد اجتمع لك الغبطتان: أشرف العطاء من أكرم المعطين وأعظمهم.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما نهى عباده عما يلتذ به من أراد الدنيا وزينتها من الإكثار والكبر والتعزز بالمال والجاه وطلب الدنيا، أتبع ذلك بما منح نبيه مما هو خير مما يجمعون، وهو الكوثر وهو الخير الكثير، ومنه الحوض الذي ترده أمته في القيامة، لا يظمأ من شرب منه، ومنه مقامه المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون عند شفاعته العامة للخلق وإراحتهم من هول الموقف، ومن هذا الخير ما قدم له في دنياه من تحليل الغنائم والنصر بالرعب والخلق العظيم إلى ما لا يحصى من خيري الدنيا والآخرة مما بعض ذلك خير من الدنيا وما فيها إذ لا تعدل الدنيا وما فيها واحدة من هذه العطايا {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون} [يونس: 58] ومن الكوثر والخير الذي أعطاه الله كتابه المبين، الجامع لعقل الأولين والآخرين، والشفاء لما في الصدور.
ولما كمل له سبحانه من النعم ما لا يأتي عليه حصر مما لا يناسب أدناه نعيم الدنيا بجملتها، قال مبيناً له منبهاً على عظيم ما أعطاه: {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا} [الحجر: 88] إلى قوله: {ورزق ربك خير وأبقى} فقد اضمحل في جانب نعمة الكوثر الذي أوتي كلُّ ما ذكره الله تعالى في الكتاب من نعيم أهل الدنيا وتمكن من تمكن منهم، وهذا أحد موجبات تأخير هذه السورة، فلم يقع بعدها ذكر شيء من نعيم الدنيا ولا ذكر أحد من المتنعمين بها لانقضاء هذا الغرض وتمامه، وسورة الدين آخر ما تضمن الإشارة إلى شيء من ذلك كما تقدم من تمهيد إشاراتها، وتبين بهذا وجه تعقيبها بها- والله تعالى أعلم- انتهى.
ولما أعطاه ما فرغه به للعبادة وأكسبه غنى لا حاجة معه، سبب عنه قوله آمراً بما هو جامع لمجامع الشكر: {فصل} أي بقطع العلائق من الخلائق بالوقوف بين يدي الله في حضرة المراقبة شكراً لإحسان المنعم خلافاً للساهي عنها والمرائي فيها.
ولما أتى بمظهر العظمة لتكثير العطاء فتسبب عنه الأمر بما للملك من العلو، وكان أمره صلى الله عليه وسلم تكوينياً لا إباء معه، وقع الالتفات إلى صفة الإحسان المقتضي للترغيب والإقبال لما يفيد من التحبيب، مع التصريح بالتوحيد، وإفادة أن العبادة لا تقع إلا شكراً فقال تعالى: {لربك} أي المحسن إليك بذلك سراً وعلناً مراغماً من شئت فلا سبيل لأحد عليك {وانحر} أي أنفق له الكوثر من المال على المحاويج خلافاً لم يدعهم ويمنعهم الماعون لأن النحر أفضل نفقات العرب لأن الجزور الواحد يغني مائة مسكين، وإذا أطلق العرب المال انصرف إلى الإبل، ولذا عبر عن هذا المراد بالنحر ليفهم الزجر عما كانوا يفعلونه من الذبح للأوثان، ومن معناه أيضاً أظهر الذل والمسكنة والخشوع في الصلاة بوضع اليمنى على اليسرى تحت النحر هيئة الذليل الخاضع، وقد قابل في هذا أربعاً من سورة الدين بأربع، وهي البخل بالإعطاء، وإضاعة الصلاة بالأمر بها، والرياء بالتخصيص بالرب، ومنع الزكاة بالنحر.
ولما أمره باستغراق الزمان في عبادة الخالق، والإحسان إلى الخلائق بأعلى الخلائق، علله بما حاصله أنه لا شاغل له ولا حاجة أصلاً تلم به فقال: {إن شانئك} أي مبغضك والمتبرئ منك والمستهين بك مع ما أوتيت من الجمال، والخصال الفاضلة والكمال {هو} أي خاصة {الأبتر} أي المقطوع من أصله والمقطوع النسل والمعدم والمنقطع الخير والبركة والذكر، لا يعقبه من يقوم بأمره ويذكر به وإن جمع المال، وفرغ بدنه لكل جمال، وأنت الموصول الأمر، النابه الذكر، المرفوع القدر، فلا تلتفت إليهم بوجه من الوجوه، فإنهم أقل من أن يبالي بهم من يفرغ نفسه للفوز بالمثول في حضراتنا الشريفة، والافتخار بالعكوف في أبوابنا العالية المنيفة، لك ما أنت عليه، ولهم ما هم فيه، فالآية الأخيرة النتيجة لأن من الكوثر علو أمره وأمر محبيه وأتباعه في ملكوت السماء والأرض ونهر الجنة وسفول شأن عدوه فيهما، فقد التف كما ترى مفصلها بموصلها، وعرف آخرها من أولها، وعرف أن وسطاها كالحدود الوسطى معانقة للأولى بكونها من ثمارها، ومتصلة بالأخرى لأنها من غايات مضمارها، وقد صدق الله ومن أصدق من الله قيلاً، لم يبق لأحد من مبغضيه ذكر بولد ولا تابع، ولا يوجد لهم شاكر ولا مادح ولا رافع، وأما هو صلى الله عليه وسلم فقد ملأت ذريته من فاطمة الزهراء الأرض، وهم الأشرف مع مبالغة الملوك في قتلهم، وإخلاء الأرض من نسلهم، خوفاً من شرفهم العالي على شرفهم، ورفعتهم بالتواضع الغالب لصلفهم، وإذا راجعت آية {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله} [الأحزاب: 40] من الأحزاب علمت أن توفي بنيه عليهم السلام قبله من إعلاء قدره ومزيد تشريفه بتوحيد ذكره، وأما اتباعه فقد استولوا على أكثر الأرض وهم أولو الفرقان، والعلم الباهر والعرفان، ويؤخذ منها أن من فرغ نفسه لربه أهلك عدوه وكفاه كل واحد منهم، وقد علم أن حاصل هذه السورة المن عليه صلى الله عليه وسلم بالخير العظيم الذي من جملته النهر المادّ من الجنة في المحشر المورود لمن اتبعه، الممنوع ممن تأبى عنه وقطعه، وأمره بالصلاة والنحر للتوسعة على المحاويج، والبشارة بقطع دابر أعدائه ونصر جماعة أوليائه، كما أن من مقاصد الأعراف المناظرة لها في رد المقطع على المطلع تهديد الظالمين بالإهلاك في قوله: {وكم من قرية أهلكناها} [الأعراف: 4]، وتصوير ذلك بذكر مصارع الماضين لمخالفتهم الرسل عليهم الصلاة والسلام والأمر بالصلاة وستر العورة وما يقصد بالنحر بقوله: {خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا} الآيات [الأعراف: 31]، وذكر من يمنح ماء الجنة ومن يمنعه بقوله تعالى: {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أو أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله} الآيات [الأعراف: 50]، وقوله تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم} [الأعراف: 157] هذا ما يتعلق بتفسير تراكبيها وجملها، وتأويل تفاصيلها ومجملها، وكذا نظيرتها في مبادئ أمرها ومكملها، ثم إن هذه السورة عشر كلمات في الكتابة إشارة إلى أن تمام بتر شانئه يكون مع تمام السنة العاشرة من الهجرة، وكذا كان، لم تمض السنة الحادية عشر من الهجرة وفي جزيرة العرب إلا من يرى أشرف أحواله بذل نفسه وماله في حبه، وإذا أضفنا إليها الضميرين المستترين كانت اثنتا عشرة، وفي السنة الثانية عشرة من النبوة بايعه صلى الله عليه وسلم الأنصار على منابذة الكفار، وإذا أضيف إلى العشرة الضمائر البارزة الخمسة كانت خمس عشرة، فتكون إشارة إنه صلى الله عليه وسلم عند تمام السنة الخامسة عشر من نبوته يبسط يده العالية لبتر أعدائه وكذا كان في وقعة بدر الرفيعة القدر، ففي ضمائر الاستتار كانت البيعة وهي مستترة، وفي الضمائر البارزة كانت بدر وهي مشتهرة، وإذا أضيف إلى ذلك الضميران المستتران كانت سبع عشرة، وفي السنة السابعة عشرة من نبوته كانت غزوة بدر الموعد، وفى فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالوعد في الإتيان إلى بدر للقاء قريش للقتال ومقارعة الأبطال، فآذنهم الله فلم يأتوا، وإنما اعتبر ما بعد الهجرة من أحوال النبوة عندما عدت الكلمات الخطية العشر لكونها أقوى أحوال النبوة كما أن الكلمات الخطية أقوى من الضمائر وإن اشترك الكل في اسم الكلمات، فلذلك أخذ تمام البتر للشانئ وهو ما كان في السنة الحادية عشرة من هلاك أهل الردة وثبات العرب في صفة الإسلام، ولما ضمت الضمائر البارزة الخمسة- التي هي أقرب من المستترة- إلى الكلمات الخطية وأضعف من الكلمات الخطية اعتبر من أول السورة لمناسبة ما كان من ضعف الحال فيما كان قبل الهجرة، فوازى ذلك السنة الثانية من الهجرة التي كانت فيها غزوة بدر الكبرى، وهي وإن كانت من العظم على أمر بالغ جداً لكنها كانت على وجه مخالف للقياس، فإن حال الصحابة رضي الله عنهم كان فيها في غاية الضعف، ولكونها أول ما وقع فيه النصر من الغزوات لم تكن نفوس المخالفين مذعنة لأن ما بعدها يكون مثلها، فإذا ضم إلى ذلك الضميران المستتران- وهما أضعف من البارز- انطبق العدد على سنة غزوة بدر الموعد في سنة أربع، وهي وإن كانت قوية لكون قريش ضعفوا عن اللقاء لكن كان حالها أضعف من بدر التي وقع فيها القتال وأستر، وكون كلماتها الخطية والاصطلاحية التي هي أبعاض الكلمات الخطية سبع عشرة مؤذن بأن الأمر في {فصلِّ} مصوب بالذات بالقصد الأول إلى الصلوات الخمس التي هي سبع عشرة ركعة، وأن من ثابر عليها كان مصلياً خارجاً من عهدة الأمر، فإذا قصدت في السفر بما اقتضته صفة التربية بالإحسان نقصت بقدر عدة الضمائر سوى الذي وفى الأمر بها لأن الأمر الناشئ عن مظهر العظمة لا يليق فيه التخفيف بنفسه كلمة الأمر، وإذا أضفنا إليها كلمات البسملة الأربعة كان لها أسرار كبرى من جهة أخرى، وذلك أن الكلمات الخطية تكون أربع عشرة إشارة إلى أن ابتداء البتر للأضداد يكون بالقوة القريبة من الفعل بالتهييء له في السنة الرابعة عشرة من النبوة، وذلك عام الهجرة، فإذا أضفنا إليها الضمائر البارزة التي هي أقرب إلى الكلمات الخطية وهي خمسة كانت تسع عشرة، وفي السنة التاسعة عشرة من النبوة وهي السادسة من الهجرة كان الفتح المبين على الشانئين الذي أنزل الله فيه سورة الفتح، فإذا أضفنا إليها الضميرين المستترين كانت إحدى وعشرين وهي سنة ثمان من الهجرة سنة الفتح الأكبر الذي عم العلم فيه بأن الشانئ هو الأبتر، وإذا اعتبرت حروفها المتلفظ بها كانت أربعة وأربعين حرفاً، فإذا ناظرتها بالسنين من أول حين النبوة كان آخرها سنة إحدى وثلاثين من الهجرة، وهي سنة البتر الأعظم لشانئه الأكبر الذي مزق كتابه، وكان مالكاً لبلاد اليمن، وهو قدر كبير من بلاد العرب وكذا لغيرهم مما قارب بلاده، وكانت قريش تجعله من عدادهم كما مضى بيانه في سورة الروم وهو كسرى ملك الفرس، ففيها كان انقراض ملكهم بقتل آخر ملوكهم يزدجرد، كما أنك إذا اعتبرت كلماتها الخطية مع الضمائر البارزة التي هي كلمات اصطلاحية دون ما استتر- فإن وجوب استتاره منع من عده- كانت تسع عشرة كلمة، فإن اعتبرت بها ما بعد الهجرة وازت وقت موت قيصر طاغية الروم في سنة تسع عشرة من الهجرة أهلكه الله، وقد تجهز إلى قتال العرب بالإسكندرية بنفسه، وأمر ألا يتخلف عنه أحد من الروم فكسر الله بموته شوكة الروم، واستأسدت العرب عند ذلك، فكانت الأحرف مشيرة إلى بتر الشانئ من الفرس، والكلمات مشيرة إلى بتر الشانئ من الروم والفرس أولى بإشارة الأحرف لأنهم ليسوا بذوي علم، والروم بالكلمات لأنهم أهل علم، والكلمات أقرب إلى العلم، وإذا اعتبرت أحرف البسملة اللفظية كانت ثمانية عشر حرفاً، فإذا جعلتها سنين من أول النبوة كان آخرها سنة خمس من الهجرة، وفيها كانت غزوة الأحزاب، قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد انصرافهم منها: «الآن نغزوهم ولا يغزونا» فهو أول أخذ الشانئ في الانبتار، وإذا اعتبرت الأحرف بحسب الرسم كانت تسعة عشر آخرها سنة ست، وهي عمرة الحديبية سنة الفتح السببي وهو الصلح الذي نزلت فيه سورة الفتح وسماه الله فتحاً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه أعظم الفتح» فكان سبب الفتح الأعظم بخلطة الكفار لأهل الإسلام بالصلح، فأسرعوا إلى الإسلام بالدخول فيه لما رأوا من محاسن الدين وإعجاز القرآن، فكانوا يوم الفتح عشرة آلاف بعد أن كانوا قبل ذلك بسنتين يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة- والله الموفق، هذا يسير من أسرار هذه السورة وقد علم منه من إعجازها ما يشرح الخواطر ويبهج النواظر، لأنه يفوق حسناً على الرياض النواضر، وعلم أيضاً جنون الخبيث المسخرة مسيلمة الكذاب- عليه اللعنة والتباب، وله سوء المنقلب والمآب، حيث قال في معارضتها: إنا أعطيناك الجماهر، فصل لربك وهاجر، إنا كفيناك المكابر أو المجاهر، لأنه كلام، مع أنه قصير المدى، ركيك اللحمة والسدى، غريق الساحة والفنا في الهلك والفنا، ليس فيه غنى، بل كله نصب وعنا، هلهل النسج رث القوى، منفصم العرى، مخلخل الأرجا، فاسد المعنى والبنا، سافل الألفاظ مر الجنى، لأن العلل منافية للمعلولات، والشوامل منافرة للمشمولات، ثم رأيت في دلائل الإعجاز للإمام عبد القاهر الجرجاني أن الوسطى من قال: العاهر وجاهر فإن كان بالدين لم يمنع الصدح بالباطل، وذلك لا يرضى به عاقل، وإن كان بالحرب كان على النصف لكل من تدبر فعرف، ولا نص فيه على الغلب بمطلوبيه، ولا طلب مع نقص الجود على كل تقدير، الذي هو المقصود للغني والفقير، والمأمور والأمير، هذا مع الإغارة على الأسلوب والحذو على المعهود غير محاذ {في القصاص حياة} [البقرة: 179] في إسقاط «القتل أنفى للقتل» بالرشاقة مع الوجازة، والعذوبة مع البلاغة، في إصابة حاق المعنى بما يقود إلى السماح بالنفس، ويحمل على المبادرة إلى امتثال الأمر، والأولى من سخيف عقل الخسيف، وأكله؟ إلى الخلق مع نقصان المعنى السار للإسرار والأخرى مهملة لذوي الشبه والستر مع ما فاتها من قصر الخسار وخصوص التبار إلى ما حوت من بيان الكذب البتار للأعمار المخرب للديار تصديقاً للنبي صلى الله عليه وسلم البار بأيدي صحابته الأخيار، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار- فسبحان من علا فعلا كلامه كل كلام والسلام والحمد لله على كل حال.