فصل: تفسير الآيات (138- 143):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (138- 143):

{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)}
ولما أمرهم بالمسارعة وأتبعها علتها ونتيجتها نهاهم عما يعوق عنها من قبل الوهن الذي عرض لهم عند رؤيتهم الموت فقال- ويجوز أن يعطف على ما تقديره: فتبينوا واهتدوا واتعظوا إن كنتم متقين، وانظروا أخذنا لمن كان قبلكم من أهل الباطل وإن كان لهم دول وصولات ومكر وحيل-: {ولا تهنوا} أي في جهاد أعدائكم الذين هم أعداء الله، فالله معكم عليهم، وإن ظهروا يوم أحد نوع ظهور فسترون إلى من يؤول الأمر {ولا تحزنوا} أي على ما أصابكم منهم ولا على غيره مما عساه ينوبكم {و} الحال أنكم {أنتم الأعلون} أي في الدارين {إن كنتم مؤمنين} أي إن كان الإيمان- وهو التصديق بكل ما يأتي عن الله- لكم صفة راسخة، فإنهم لا يهنون؛ لأنكم بين إحدى الحسنيين- كما لم يهن من سيقص عليكم نبأهم ممن كانوا مع الأنبياء قبلكم لعلوكم عدوكم، أما في الدنيا فلأن دينكم حق ودينهم باطل، ومولاكم العزيز الحكيم الذي قد وعدكم الحق الملكَ الكبير لمن قتل، والنصر والتوزر لمن بقي، وهو حي قيوم، ولا يخفى عليه شيء من أحوالكم، فهو ناصركم وخاذلكم، وأما في الآخرة فلأنكم في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وهم في النار عند ملائكة العذاب الغلاظ الشداد أبداً.
ولما نهاهم عما تقدم وبشرهم سلاهم وبصرهم بقوله: {إن يمسسكم قرح} أي مصيبة بإدالتهم عليكم اليوم {فقد مس القوم} أي الذين لهم من قوة المحاولة ما قد علمتم، أي في يوم أحد نفسه وفي يوم بدر {قرح مثله} أي في مطلق كونه قرحاً وإن كان أقل من قرحكم في يوم أحد وأكثر منه في يوم بدر، على أنه كما أنه ظفرهم- بعدما أصابهم وأنكأهم يوم بدر بالزهد الذي ليس بعده وهن- بقتل مثل من قتل منكم وأسر مثلكم، ويوم أحد بالقتل والهزيمة أول النهار وهم أعداؤه، فهو جدير بأن يظفركم بعد وهنكم وأنتم أولياؤه، فكما لم يضعفهم وهنهم وهم على الباطل فلا تضعفوا أنتم وأنتم على الحق، ترجون من الله ما لا يرجون، فقد أدلناكم عليهم يوماً وأدلناهم عليكم آخر {وتلك الأيام} ولما نبه على تعظيمها بأداة البعد، وكانت إنما تعظم بعظم أحوالها ذكر الحال المنبه عليها بقوله: {نداولها بين الناس} أي بأن نرفع من نشاء تارة ونرفع عليه أخرى.
ولما كان التقدير: ليدال على من كانت له الدولة، فيعلم كل أحد أن الأمر لنا بلا شريك ولا منازع عطف عليه قوله: {وليعلم الله} أي المحيط بجميع الكمال {الذين آمنوا} أي بتصديق دعوى الإيمان بنية الجهاد فيكرمهم، ومعنى {ليعلم} أنه يفعل فعل من يريد علم ذلك بأن يبرز ما يعلمه غيباً إلى عالم الشهادة ليقيم الحجة على الفاعلين على ما يتعارفه الناس بينهم {ويتخذ منكم شهداء} أي بأن يجعل قتلهم عين الحياة التي هي الشهادة، لا غيبة فيها، فهو سبحانه وتعالى يزيد في إكرامهم بما صدقوا في إيمانهم بأن لا يكونوا مشهوداً عليهم أصلاً بفتنة في قبورهم ولا غيرها ولا يغفلوا بخوف ولا صعق ولا غيره، فإن الله يحب المؤمنين، وليعلم الذين ظلموا ويمحق منهم أهل الجحد والاعتداء {والله} أي الملك الأعلى {لا يحب الظالمين} أي الذين يخالف فعلهم قولهم، فهو لا يستشهدهم، وإنما يجعل قتلهم أول خيبتهم وعذابهم، وفيه بشارة في ترغيب بأنه لا يفعل مع الكفرة فعل المحب، لئلا يحزنوا على ما أصابهم، ونذارة في تأديب بأنهم ما أخذوا إلا بتضييعهم الثغر الذي أمرهم به من التزموا طاعته وأمر الله بها في المنشط والمكره بحفظه، وأقبلوا على الغنائم قبل أن يفرغوا من العدو، والآية من الاحتباك: إثبات الاتخاذ أولاً دال على نفيه ثانياً، وإثبات الكراهة ثانياً دال على المحبة أولاً.
ولما قدم التنفير من الظلم دلالة على الاهتمام به أكمل ثمرات المداولة بقوله: {وليمحص} أي وليطهر {الله} أي ذو الجلال والإكرام {الذين أمنوا} أي إن أصيبوا، ويجعل مصيبتهم سبباً لقوتهم {ويمحق الكافرين} أي شيئاً فشيئاً في تلك الحالتين بما يلحقهم من الرجس، أما إذا كانت لهم فبالنقص بالقوة بالبطر الموجب للعكس، وأما إذا كانت عليهم فبالنقص بالفعل الموجب للقطع بالنار. ولما كان السياق يرشد إلى أن المعنى: أحسبتم أنه لا يفعل ذلك، عادله بقوله: {أم حسبتم} أي يا من استكره نبينا على الخروج في هذا الوجه {أن تدخلوا الجنة} أي التي أعدت للمتقين {ولما يعلم الله} أي يفعل المحيط علماً وقدرة بالامتحان فعل من يريد أن يعلم {الذين جاهدوا منكم} أي أوقعوا الجهاد بصدق العزيمة، ثم أمضوه بالفعل تصديقاً للدعوى {ويعلم الصابرين} أي الذين شأنهم الصبر عند الهزاهز والثبات عند جلائل المصائب تصديقاً لظاهر الغرائز، فإن ذلك أعظم دليل على الوثوق بالله ووعده الذي هو صريح الإيمان.
ولما أرشد السياق إلى أن التقدير: فلقد كنتم تقولون: لئن خرجت بنا ليبتلين الله بلاء حسناً، عطف عليه قوله: {ولقد} ويجوز أن يكون حالاً من فاعل {حسبتم} {كنتم تمنون الموت} أي الحرب، عبر عنها به لأنها سببه، ولقد تمنى بعضهم الموت نفسه بتمني الشهادة {من قبل أن تلقوه} أي رغبة فيما أعد الله للشهداء {فقد رأيتموه} أي برؤية قتل إخوانكم، والضمير يصلح أن يكون للموت المعبر به عن الحرب، وللموت نفسه برؤية أسبابه القريبة، وقوله: {وأنتم تنظرون} بمعنى رؤية العين، فهو تحقيق لإرادة الحقيقة.

.تفسير الآيات (144- 147):

{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)}
ولما كان التقدير: فانهزمتم عندما صرخ الشيطان كذباً: ألا إن محمداً قد قتل! ولم يكن لكم ذلك فإنكم إنما تعبدون رب محمد الحي القيوم وتقاتلون له، وأما محمد فما هو بخالد لكم في الدنيا قال: {وما محمد إلا رسول} أي من شأنه الموت، لا إله، ثم قرر المراد من السياق بقوله: {قد خلت} أي بمفارقة أممهم، إما بالموت أو الرفع إلى السماء، ولما كان المراد أن الخلو منهم إنما كان في بعض الزمان الماضي لما مضى أثبت الجار فقال: {من قبله الرسل} أي فيسلك سبيلهم، فاسلكوا أنتم سبيل من نصح نفسه من أتباعهم فاستمسك بنورهم.
ولما سبب عن ذلك إنكار انهزامهم ودعتهم على تقدير فقده أنكر عليهم بقوله: {أفإن} ولما كان الملك القادر على ما يريد لا يقول شيئاً وإن كان فرضاً إلا فعله ولو على أقل وجوهه، وكان في علمه سبحانه أنه صلى الله عليه وسلم يموت موتاً- لكونه على فراشه، وقتلاً- لكونه بالسم، قال: {مات} أي موتاً على الفراش {أو قتل} أي قتلاً {انقلبتم} أي عن الحال التي فارقكم عليها فأضعتم مشاعر الدين وتركتم مشاريع المرسلين! ثم قرر المعنى بقوله: {على أعقابكم} لئلا يظن أن المراد مطلق الانتقال وإن كان على الاستواء والانتقال إلى أحسن {ومن} أي انتقلتم والحال أنه من {ينقلب على عقبيه} أي بترك ما شرعه له نبيه أو التقصير فيه {فلن يضر الله} أي المحيط بجميع العظمة {شيئاً} لأنه متعالٍ عن ذلك بأن الخلق كلهم طوع أمره، لا يتحركون حركة إلا على وفق مراده، فلو أراد لهداهم أجمعين، ولو أراد أضلهم أجمعين، وإنما يضر ذلك المنقلب نفسه لكفره بالله، وسيجزي الله الشاكرين، ومن سار ثابتاً على المنهج السوي فإنما ينفع نفسه لشكره لله {وسيجزي الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {الشاكرين} أي كلهم، فالآية من الاحتباك: أثبت الانقلاب وعدم الضر أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً، والجزاء ثانياً دليلاً على حذف مثله أولاً.
ولما كان موت الرأس من أنصار الدين لا يصلح أن يكون سبباً للفرار إلا إذا كان موته بغير إذن صاحب الدين، وكان الفرار لا يصلح إلا أذا كان يمكن أن يكون سبباً للنجاة، وأما إذا كان موته لا يكون إلا بإرادة رب الدين، والفرار لا يكون سبباً في زيادة الأجل ولا نقصه؛ أشار إلى ذلك بقوله: {وما كان لنفس} أي من الأنفس كائنة من كانت {أن تموت} أي بشيء من الأشياء {إلا بإذن الله} أي بعلم الملك الأعلى الذي له الإحاطة التامة وإرادته وتمكينه من قبضها «كتب لكل نفس عمرها» {كتاباً مؤجلاً} أي أجلاً لا يتقدم عنه بثبات، ولا يتأخر عنه بفرار أصلاً.
ولما كان المعنى: فمن أقدم شكرته ولم يضره الإقدام، ومن أحجم ذممته ولم ينفعه الإحجام، وكان الحامل على الإقدام إيثار ما عند الله، والحامل على الإحجام إيثار الدنيا؛ عطف على ذلك قوله: {ومن يرد ثواب الدنيا} أي بعمله- كما افهمه التعبير بالثواب، وهم المقبلون على الغنائم بالنهب والفارون كفراً لنعمة الله {نؤته منها} أي ما أراد، وختام الآية يدل على أن التقدير هنا: وسنردي الكافرين ولكنه طواه رفقاً لهم {ومن يرد ثواب الآخرة} أي وهم الثابتون شكراً على إحسانه إليهم من غير أن يشغلهم شاغل عن الجهاد، ولما كان قصد الجزاء غير قادح في الإخلاص منه من الله تعالى علينا قال: {نؤته} ونبه على أن العمل لذات الله من غير نظر إلى ثواب ولا عقاب أعلى فقال: {منها} أي وسنجزيه لشكره، وهو معنى قوله: {وسنجزي الشاكرين} لكنه أظهر لتعليق الحكم بالوصف وعمم.
ولما ذكر سبحانه وتعالى هذه الجمل على هذا الوجه الذي بين فيه العلل، وأوضح بحال الزلل، وكان التقدير بعد انقضائها: فكأين من قوم أمرناهم بالجهاد، فكانوا على هذين القسمين، فأثبنا الطائع وعذبنا العاصي، ولم يضرنا ذلك شيئاً، ولا جرى شيء منه على غير مرادنا، عطف عليه يؤسيهم بطريق الصالحين من قبلهم ويسيلهم بأحوالهم قوله: {وكأين} وهي بمعنى كم، وفيها لغات كثيرة، قرئ منها في العشر بثنتين: الجمهور بفتح الهمزة بعد الكاف وتشديد الياء المكسورة، وابن كثير وأبو جعفر بألف ممدودة بعد الكاف وهمزة مكسورة، ولعلها أبلغ- لأنه عوض عن الحرف المحذوف- من المشهورة بالمد، والمد أوقع في النفس وأوقر في القلب؛ وفيها كلام كثير- في لغاتها ومعناها وقراءاتها المتواترة والشاذة وصلاً ووقفاً، ورسمها في مصحف الإمام عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي وقع إجماع الصحابة عليه ليكون المرجع عند الاختلاف إليه، وهل هي بسيطة أو مركبة ومشتقة أو جامدة وفي كيفية التصرف في لغاتها- استوعبته في كتابي الجامع المبين لما قيل في {كأين}، وقال سبحانه: {من نبي} لتكون التسلية أعظم بذكر ما هو طبق ما وقع في هذه الغزوة من قتل أصحابه، واحتمال العبارة لقتله نفسه بقوله: {قتل} أي ذلك النبي حال كونه {معه} لكن الأرجح إسناد {قتل} إلى {ربيون} لموافقته قراءة الجماعة- سوى الحرميين وأبي عمرو-: قاتل معه {ربيون} أي علماؤهم ورثة الأنبياء، وعلى منهاجهم {كثير فما} أي فما تسبب عن قتل نبيهم وهنهم، أو يكون المعنى ويؤيده الوصف بالكثرة-: قتل الربيون، فما تسبب عن قتلهم أن الباقين بعدهم {وهنوا} أي ضعفوا عن عملهم {لما أصابهم في سبيل الله} أي الملك الأعظم من القتل لنبيهم الذي هو عمادهم، أو لإخوانهم الذين هم أعضادهم لكونه من الله {وما ضعفوا} أي مطلقاً في العمل ولا في غيره {وما استكانوا} أي وما خضعوا لأعدائهم فطلبوا أن يكونوا تحت أيديهم- تعريضاً بمن قال: اذهبَوا إلى أبي عامر الراهب ليأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، بل صبروا، فأحبهم الله لصبرهم {والله} أي الذي له صفات الكمال {يحب الصابرين} أي فليفعلن بهم من النصر وإعلاء القدر وجميع أنواع الإكرام فعل من يحبه.
ولما أثنى سبحانه وتعالى على فعلهم أتبعه قولهم فقال: {وما كان} أي شيء من القول {قولهم} أي بسبب ذلك الأمر الذي دهمهم {إلا أن قالوا} أي وهم يجتهدون في نصر دين الله ناسبين الخذلان إلى أنفسهم بتعاطي أسبابه {ربنا اغفر لنا ذنوبنا} أي التي استوجبنا بها الخذلان {وإسرافنا في أمرنا} هضماً لأنفسهم، فمع كونهم ربانيين مجتهدين نسبوا ما أصابهم إلى ذنوبهم، فافعلو أنتم فعلهم لتنالوا من الكرامة ما نالوا، كما أشار لكم سبحانه وتعالى إلى ذلك قبل الأخذ في قص القصة عندما وصف به المتقين من قوله: {أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم} [آل عمران: 135].
ولما دعوا بمحو ما أوجب الخذلان دعوا بثمرة المحو فقالوا: {وثبت أقدامنا} إشارة إلى أن الرعب من نتائج الذنب، والثبات من ثمرات الطاعة- إنما تقاتلون الناس بأعمالكم- ثم أشاروا إلى أن قتالهم لهم إنما هو لله، لا لحظ من حظوظ النفس أصلاً بقوله: {وانصرنا على القوم الكافرين}.

.تفسير الآيات (148- 152):

{فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)}
فلما تم الثناء على فعلهم وقولهم ذكر ما سببه لهم ذلك من الجزاء فقال {فأتاهم الله} المحيط علماً وقدرةً {ثواب الدنيا} أي بأن قبل دعاءهم بالنصر والغنى بالغنائم وغيرها وحسن الذكر وانشراح الصدر وزوال شبهات الشر.
ولما كان ثواب الدنيا كيف ما كان لابد أن يكون بالكدر مشوباً وبالبلاء مصحوباً، لأنها دار الأكدار؛ أعراه من وصف الحسن، وخص الآخرة به فقال: {وجسن ثواب الآخرة} أي مجازاً بتوفيقهم إلى الأسباب في الدنيا، وحقيقة في الآخرة، فإنهم أحسنوا في هذا الفعال والمقال، لكونهم لم يطلبوا بعبادتهم غير وجه الله، فأحبهم لإحسانهم {والله} المحيط بصفات الكمال {يحب المحسنين} كلهم، فهو جدير بأن يفعل بهم كل جميل ولذلك رفع منزلتهم ولم يجعل ثوابهم بعضاً، كما فعل بمن عبد لإرادة الثواب فقال: {نؤته منها} [آل عمران: 145] فقد بان أن هذه الآية منعطفة على ما أمر به الصحابة رضي الله عنهم على طريقة اللف والنشر المشوش، فنفي الوهن تعريض بمن أشير إليه في آية {ولقد كنتم تمنون الموت} [آل عمران: 143] ونحو ذلك والثناء لعى قولهم حث عل مثل ما ندبهم إليه في قولهم {ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم} [آل عمران: 135] وثبات الإقدام إشارة إلى {وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 139] وإلى أن ثبات القدم للنصر على أعداء الله كان شاغلاً لهم عن الالتفات إلى غيره، وتعريض بمن أقبل على الغنائم وترك طلب العدو لتمام النصر المشار إليهم بآية {ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها} [آل عمران: 145] وإيتاء الثواب ناظر إلى النهي عن الربا وما انتظم في سلكه وداناه، وإلى الأمر بالمسارعة إلى الجنة وما والاه، وإيماء إلى أن من فعل فعلهم نال ما نالوا، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، لأن علمه محيط، وكرمه لا يحد، وخزائنه لا تنفد، بل لا تنقص، ثم ختمها بما ختم به للحث على التخلق بأوصاف المتقين؛ فقد اتضح بغير لبس أن المراد بهذه الآية- وهي الإخبار عن إيتائهم الثواب- التنبيه على أن أهم الأمور وأحقها بالبداءة التخلق بما وعظوا به قبل قص القصة، ولا ريب أن في مدح من سواهم تهييجاً زائداً لانبعاث نفوسهم وتحرك هممهم وتنبيه نشاطهم وثوران عزائمهم غيرة منهم أن يكون أحد- وهم خير أمة أخرجت للناس- أعلى همة وأقوى عزيمة وأشد شكيمة وأصلب عوداً واثبت عموداً وأربط جأشاً وأذكر لله وأرغب فيما عنده وأزهد فيما أعرض عنه منهم.
ولما أمر سبحانه وتعالى بطاعته الموجبة للنصر والأجر وختم بمحبته للمحسنين، حذر من طاعة الكافرين المقتضية للخذلان رغبة في موالاتهم ومنا صرتهم فقال تعالى واصلاً بالنداء في آية الربا: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان {إن تطيعوا} بخضوع واستئمان أو غيره {الذين كفروا} أي هذا الفريق منهم أو غيره {يردوكم على أعاقبكم} بتعكيس أحوالكم إلى أن تصيروا مثلهم ظالمين كافرين {فتنقلبوا خاسرين} في جميع أموركم في الدارين، فتكونوا في غاية البعد من أحوال المحسنين، فتكونوا بمحل السخط من الله صغرة تحت أيدي الأعداء في الدنيا خالدين في العذاب في الأخرى، وذلك ناظر إلى قوله تعالى أول ما حذر من مكر الكفار: {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب} [آل عمران: 100]، وموضح أن جميع هذه الآيات شديد اتصال بعضها ببعض- والله الموفق.
ولما كان التقدير: فلا تطيعوهم، إنهم ليسوا صالحين للولاية مطلقاً ما دمتم مؤمنين، عطف عليه قوله: {بل الله} أي الملك الأعظم {مولاكم} مخبراً بأنه ناصرهم وأن نصره لا يساويه نصر أحد سواه بقوله: {وهو خير الناصرين} أي لأن من نصره سبب له جميع أسباب النصر وأزال عنه كل أسباب الخذلان فمنع غيره- كائناً من كان- من إذلاله ثم قرر ذلك بقوله محققاً للوعد: {سنلقي} أي بعظمتنا {في قلوب الذين كفروا الرعب} أي المقتضي لامتثال ما أمر به من الجرأة عليهم وعدم الوهن في أمرهم، كما افتتح القصة بالإيماء إلى ذلك بالأمر بالسير في الأرض والنظر في عاقبة المكذبين، ثم بين سبب ذلك فقال: {بما أشركوا بالله} أي ليعلموا قطعاً أنه لا ولي لعدوه لأنه لا كفوء له، وبين بقوله: {ما لم ينزل} أي في وقت من الأوقات {به سلطاناً} أنه لا حجة لهم في الإشراك، وما لم ينزل به سلطاناً فلا سلطان له، ومادة سلط ترجع إلى القوة، ولما كان التقدير: فعليهم الذل في الدنيا لاتباعهم ما لا قوة به، عطف عليه: {ومأواهم النار} ثم هوّل أمرها بقوله: {وبئس مثوى الظالمين} أي هي، وأظهر في موضع الإضمار للتعميم وتعليق الحكم بالوصف.
ولما كانت السين في {سنلقي} مفهمة للاستقبال كان ذلك ربما أوهم أنه لم يرغبهم فيما مضى، فنفى هذا الوهم محققاً لهم ذلك بتذكيرهم بما أنجز لهم من وعده في أول هذه الوقعة مدة تلبسهم بما شرط عليهم من الصبر والتقوى بقوله تعالى- عطفاً على قوله: {بلى إن تصبروا وتتقوا} [آل عمران: 125]، مصرحاً بما لوح إليه تقديراً قبل {ولقد نصركم الله ببدر} [آل عمران: 123] كما مضى-: {ولقد صدقكم الله وعده} أي في قوله: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم} [آل عمران: 120] {إذ تحسونهم} أي تقتلونهم بعضهم بالفعل والباقين بالقوة التي هيأها لكم {بإذنه} فإن الحسن بالفتح: القتل والاستئصال- قاله في القاموس. ثم بين لهم سبب هزيمتهم بعد تمكينه منهم ليكون رادعاً لهم عن المعاودة إلى مثله فقال مبيناً لغاية الحسن: {حتى إذا فشلتم} أي ضعفتم وتراخيتم بالميل إلى الغنيمة خلاف ما تدعو إليه الهمم العوالي، فكيف بهم إذا كانوا من حزب مولى الموالي! فلو كانت العرب على حال جاهليتها تتفاخر بالإقبال على الطعن والضرب في مواطن الحرب والإعراض عن الغنائم- كما قال عنترة بن شداد العبسي يفتخر:
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك ** إن كنت جاهلة بما لم تعلمي

إذ لا أزال على رحالة سابح ** نهد تعاوره الكماة مكلم

طوراً يعرض للطعان وتارة ** يأوي إلى حصد القسي عرموم

يخبرك من شهد الوقيعة أنني ** أغشى الوغى وأعفّ عند المغنم

وقال يفاخر بقومه كلهم:
إنا إذا حمس الوغى نروي القنا ** ونعف عند مقاسم الأنفال

ولما ذكر الفشل عطف عليه ما هو سببه في الغالب فقال: {وتنازعتم} أي بالاختلاف، وأصله من نزع بعض شيئاً من يد بعض {في الأمر} أي أمر الثغر المأمور بحفظه {وعصيتم} أي وقع العصيان بينكم بتضييع الثغر. وأثبت الجار تصويراً للمخالفة بأنها كانت عقب رؤية النصر سواء، وتبشيراً بزوالها فقال: {من بعد ما أراكم ما تحبون} أي من حسهم بالسيوف وهزيمتهم.
ولما كان ذلك ربما أفهم أن الجميع عصوا نفي ذلك معللاً للعصيان بقوله: {منكم من يريد الدنيا} أي قد أغضى عن معايبها التي أجلاها فناؤها. ولما كان حكم الباقين غير معين للفهم من هذه الجملة قال: {ومنكم من يريد الآخرة} وهم الثابتون في مراكزهم، لما يعرجوا على الدنيا.
ولما كان التقدير جواباً لإذا: سلطهم عليكم، عطف عليه قوله: {ثم صرفكم عنهم} أي لاندهاشكم إتيانهم إليكم من ورائكم، وعطفه بثم لاستبعادهم للهزيمة بعد ما رأوا من النصرة {ليبتليكم} أي يفعل في ذلك فعل من يريد الاختبار في ثباتكم على الدين في حالي السراء والضراء. ولما كان اختباره تعالى بعصيانهم شديد الإزعاج للقلوب عطف على قوله: {صرفكم} {ولقد عفا عنكم} أي تفضلاً عليكم لإيمانكم {والله} الذي له الكمال كله {ذو فضل على المؤمنين} أي كافة، وهو من الإظهار في موضع الإضمار للتعميم وتعليق الحكم بالوصف.