فصل: تفسير الآيات (153- 154):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (153- 154):

{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)}
ولما ذكر علة الصرف والعفو عنه صوّره فقال: {إذ} أي صرفكم وعفا عنكم حين {تصعدون} أي تزيلون الصعود فتنحدرون نحو المدينة، أو تذهبون في الأرض لتبعدوا عن محل الوقعة خوفاً من القتل {ولا تلوون} أي تعطفون {على أحد} أي من قريب ولا بعيد {والرسول} أي الذي أرسل إليكم لتجيبوه إلى كل ما يدعوكم إليه وهو الكامل في الرسلية {يدعوكم في أخراكم} أي ساقتكم وجماعتكم الأخرى، وأنتم مدبرون وهو ثابت في مكانه في نحر العدو في نفر يسير لا يبلغون أربعين نفساً على اختلاف الروايات- وثوقاً بوعد الله ومراقبة له يقول كلما مرت عليه جماعة منهزمة: «إليّ عباد الله! أنا رسول الله! إليّ إليّ عباد الله» كما هو اللائق بمنصبه الشريف من الاعتماد على الله والوثوق بما عنده وعد من دونه من ولي وعدو عدماً؛ وإنما قلت: إن معنى ذلك الانهزام، لأن الدعاء يراد منه الإقبال على الداعي بعد الانصراف عما يريده ليأمر وينهى، فعلم بذلك أنهم مولون عن المقصود وهو القتال، وفي التفسير من البخاري عن البراء رضي الله تعالى عنه قال: جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد عبد الله بن جبير رضي الله تعالى عنه وأقبلوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلاً.
ولما تسبب عن العفو ردهم عن الهزيمة إلى القتال قال تعالى: {فأثابكم} أي جعل لكم ربكم ثواباً {غماً} أي باعتقادكم قتل الرسول صلى الله عليه وسلم. وكان اعتقاداً كاذباً مُلتئم به رعباً {بغم} أي كان حصل لكم من القتل والجراح والهزيمة، وسماه- وإن كان في صورة العقاب- باسم الثواب لأنه كان سبباً للسرور حين تبين أنه خبر كاذب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سالم حتى كأنهم- كما قال بعضهم- لم تصبهم مصيبة، فهو من الدواء بالداء، ثم علله بقوله: {لكيلا تحزنوا على ما فاتكم} أي من النصر والغنيمة {ولا ما أصابكم} أي من القتل والجراح والهزيمة لاشتغالكم عن ذلك بالسرور بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولما قص سبحانه وتعالى عليهم ما فعلوه ظاهراً وما قصدوه باطناً وما داواهم به قال- عاطفاً على ما تقديره: فالله سبحانه وتعالى خبير بما يصلح أعمالكم ويبرئ أدواءكم-: {والله} أي المحيط علماً وقدرة {خبير بما تعملون} أي من خير وشر في هذه الحال وغيرها، وبما يصلح من جزائه ودوائه، فتارة يداوي الداء بالداء وتارة بالدواء، لأنه الفاعل القادر المختار.
ولما كان أمانهم بعد انخلاع قلوبهم بعيداً، ولاسيما بكونه بالنعاس الذي هو أبعد شيء عن ذلك المقام الوعر والمحل الضنك عطف بأداة البعد في قوله: {ثم أنزل عليكم} ولما أفاد بأداة الاستعلاء عظمة الأمن، وكان متصلاً بالغم ولم يستغرق زمن ما بعده أثبت الجار فقال: {من بعد الغم} أي المذكور وأنتم في نحر العدو {أمنة} أي أمناً عظيماً، ثم ابدل منها تنبيهاً على ما فيها من الغرابة قوله: {نعاساً} دليلاً قطعياً فإنه لا يكون إلا من أمن؛ روي البخاري في التفسير عن أنس رضي الله عنه أن أبا طلحة رضي الله عنه قال: «غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه» ولما كان لبعضهم فقط استأنف وصفه بقوله: {يغشى طائفة منكم} وهم المؤمنون، وابتدأ الإخبار عن الباقين بقوله: {وطائفة} أي أخرى من المنافقين {قد أهمتهم أنفسهم} لا المدافعة عن الدين فهم إنما يطلبون خلاصها، ولا يجدون إلى ذلك فيما يظنون سبيلاً لاتصال رعبهم وشدة جزعهم، فعوقبوا على ذلك بأنه لم يحصل لهم الأمن المذكور، ثم فسر همهم فقال: {يظنون بالله} المحيط بصفات الكمال {غير الحق} أي من أن نصره بعده هذا لا يمكن، أو أنهم لو قعدوا في المدينة لم يقتل أحد، ونحو ذلك من سفساف الكلام وفاسد الظنون التي فتحتها لو والأوهام {ظن الجاهلية} أي الذين لا يعلمون- من عظمة الله سبحانه وتعالى بأن ما أراده كان ولا يكون غيره- ما يعلم أتباع الرسل. ثم فسر الظن بقوله: {يقولون} أي منكرين لأنه لم يجعل الرأي رايهم ويعمل بمقتضاه غشباً وتاسفاً على خروجهم في هذا الوجه وعدم رجوعهم مع ابن أبيّ بعد أن خرجوا {هل لنا من الأمر} أي المسموع، ولكون الاستفهام بمعنى النفي ثبتت أداة الاستغراق في قوله: {من شيء} فكأنه قيل: فماذا يقال لهم؟ فقيل: {قل} أي لهم رداً عليهم احتقاراً بهم {إن الأمر} أي الحكم الذي لا يكون سواه {كله لله} أي الذي لا كفوء له، وليس لكم ولا لغيركم منه شيء، شئتم أو أبيتم، غزوتم أو قعدتم، ثبتم أو فررتم.
ولما قص سبحانه وتعالى عليهم بعض أمرهم في هذه الحرب، وبين لهم شيئاً من فوائد ما فعل بهم بقوله: {إن يمسسكم قرح} [آل عمران: 140] وكان من جملة ذلك ما أظهر من أسرار المنافقين بهذه الوقعة في اتهامهم الله ورسوله، حتى وصل إلى هنا، وكان قولهم هذا غير صريح في الاتهام لإمكان حمله على مساق الاستفهام أخبر سبحانه وتعالى بتدليسهم بقوله: {يخفون} أي يقولون ذلك مخفين {في أنفسهم ما لا يبدون لك} لكونه لا يرضاه اللهز ثم بين ذلك بعد إجماله فقال: {يقولون لو كان لنا من الأمر} أي المسموع {شيء ما قتلنا ههنا} لأنا كنا نمكث في المدينة ولا نخرج إلى العدو.
ولما أخبر سبحانه وتعالى عنهم بما أخفوه جهلاً منهم ظناً أن الحذر يغني من القدر أمره سبحانه وتعالى بالرد عليهم بقوله: {قل لو كنتم في بيوتكم} أي بعد أن أجمع رأيكم على أن لا يخرج منكم أحد {لبرز الذين كتب عليهم القتل} أي في هذه الغزوة {إلى مضاجعهم} أي التي هي مضاجعهم بالحقيقة وهي التي قتلوا بها، لأن ما قدرناه لا يمكن أحداً دفعه بوجه من الوجوه، ثم عطف على ما علم تقديره ودل عليه السياق قوله: {ليبتلي} أي لبرز المذكورون لينفذ قضاؤه ويصدق قوله لكم في غزوة بدر: إن فاديتم الأسارة ولم تقتلوهم قتل منكم في العام المقبل مثلهم {وليبتلي الله} أي المحيط بصفات الكمال بهذا الأمر التقديري {ما في صدوركم} أي من الإيمان والنفاق بأن يفعل في إظهاره من عالم الغيب إلى عالم الشهادة فعل المختبر كما فعل بما وجد في هذه الغزوة من الأمور التحقيقية {وليمحص ما في قلوبكم} اي يطهره ويصفيه من جميع الوساوس الصارفة عن المراقبة من محبة الدنيا من الغنائم التي كانت سبب الهزيمة وغيرها. وختم بقوله: {والله} أي الذي له الإحاطة بكل شيء {عليم بذات الصدور} مرغباً ومرهباً ودافعاً لما قد يتوهم من ذكر الابتلاء من عدم العلم بالخفايا.
ولما كانوا في هذه الغزوة قد حصل لهم ضرر عظيم، لكنه كان بما وقع من بعضهم من الخلل الظاهر فأدبهم بذلك، عفا عنهم سبحانه وتعالى بعد ذلك التأديب ورحمهم وطيب قلوبهم بهذه الآية بما فيها من التأمين صريحاً، وبما فيها من الإشارة بجمع جميع حروف المعجم فيها تلويحاً إلى أن أمرهم لابد أن يتم كما تمت الحروف في هذه الآية. لكنه افتتحها بأداة التراخي إشارة إلى أنه لا يكون إلا بعد مدة مديدة حتى تصقل مرائي الصدور التي ختمها بها بخلاف ما في الآية الأخرى الجامعة للحروف في آخر سورة الفتح التي نزلت في الحديبية التي ساءهم رجوعهم منها دون وصولهم إلى قصدهم- كما يأتي إن شاء الله سبحانه وتعالى.

.تفسير الآيات (155- 157):

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)}
ولما كان فيه مع ذلك معنى التعليل والتنبيه على أنه غني عن الاختبار، خبير بدقائق الأسرار أتبعه قوله مستأنفاً لبيان ما هو من ثمرات العلم: {إن الذين تولوا منكم} أي عن القتال ومقارعة الأبطال {يوم التقى الجمعان} أي من المؤمنين والكفار {إنما استزلّهم} أي طلب زللهم عن ذلك المقام العالي {الشيطان} أي عدوهم البعيد من الرحمة المحترق باللعنة {ببعض ما كسبوا} أي من الذنوب التي لا تليق بمن طلب الدنو إلى حضرات القدس ومواطن الأنس من ترك المركز والإقبال على الغنيمة وغير ذلك، فإن القتال في الجهاد إنما هو بالأعمال، فمن كان أصبر في أعمال الطاعة كان أجلد على قتال الكفار، ولم يكن توليهم عن ضعف في نفس الأمر.
ولما كان ذلك مفهماً أن الذين تولوا صاروا من حزب الشيطان فاستحقوا ما استحق ألصق به قوله: {ولقد عفا الله} أي الذي له صفات الكمال {عنهم} لئلا تطير أفئدة المؤمنين منهم، وختم ذلك ببيان علته مما هو أهله من الغفران والحلم فقال معيداً للاسم الأعظم تنبيهاً على أن الذنب عظيم والخطر بسببه جسيم، فلولا الاشتمال على جميع صفات الكمال لعوجلوا بأعظم النكال: {إن الله غفور} أي محاء للذنوب عيناً وأثراً. ولما كان الغفر قد يكون مع تحمل نفاه بقوله: {حليم} أي حيث لم يعامل المتولين حذر الموت معاملة الذين خرجوا من ديارهم- كما تقدم- حذر الموت، فقال لهم الله: موتوا.
ولما كان قولهم: إنا لو ثبتنا في المدينة الممثلة بالدرع الحصينة- كما كان رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأكابر من أصحابه لسلمنا، إلى غير ذلك مما أشار سبحانه وتعالى إليه قولاً موجباً لغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم. لما فيه من الاتهام وسوء العقيدة، وكان مع ذلك مظنة لأن يخدع كثيراً من أهل الطاعة لشدة حبهم لمن قتل منهم وتعاظم أسفهم عليهم. كان أنسب الأشياء المبادرة إلى الوعظ بما يزيل هذا الأثر، ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم مؤيداً بأعظم الثبات لما طبع عليه من الشيم الطاهرة والمحاسن الظاهرة كان الأنسب البداءة بغيره، فنهى الذين آمنوا عن الانخداع بأقوالهم فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي أظهروا الإقرار بالإيمان! صدقوا قولكم بأن {لا تكونوا كالذين كفروا} أي بقلوبهم على وجه الستر {وقالوا} أي ما فضحهم {لإخوانهم} أي لأجل إخوانهم الأعزة عليهم نسباً أو مذهباً {إذا ضربوا} أي سافروا مطلق سفر {في الأرض} أي لمتجر أو غيره {أو كانوا غزّى} أي غزاة مبالغين في الغزو في سبيل الله بسفر أو غيره جمع غازٍ، فماتوا أو قتلوا {لو كانوا عندنا} أي لم يفارقونا {ما ماتوا وما قتلوا} وهذا في غاية التهكم بهم، لأن إطلاق هذا القول منهم- لاسيما على هذا التأكيد- يلزم منه ادعاء أنه لا يموت أحد في المدينة، وهو لا يقوله عاقل ولما كان هذا القول محزناً اعتقاده وكتمانه علق سبحانه وتعالى بقوله: {قالوا} وبانتفاء الكون كالذين قالوا قوله: {ليجعل الله} أي الذي لا كفوء له {ذلك} أي القول أو الانفراد به عن مشارك {حسرة في قلوبهم} أي باعتقاده وعدم المواسي فيه وعلى تقدير التعليق ب {قالوا} يكون من باب التهكم بهم لأنهم لو لم يقولوه لهذا الغرض الذي لا يقصده عاقل لكانوا قد قالوه لا لغرض أصلاً وذلك أعرق في كونه ليس من أفعال العقلاء {والله} أي لا تكونوا مثلهم والحال.
أو قالوا ذلك والحال. أن الذي له الإحاطة الكاملة {يحيي} أي من أراد في الوقت الذي يريد {ويميت} أي من أراد إذا أراد لا يغني حذره من قدره {والله} أي المحيط بكل شيء قدره وعلماً {بما تعملون} أي بعملكم وبكل شيء منه {بصير} وعلى كل شيء منه قدير لا يكون شيء منه بغير إذنه ومتى كان على خلاف أمره عاقب عليه.
ولما نهاهم عن قول المنافقين الدائر على تمني المحال من دوام البقاء وكراهة الموت بيّن لهم ثمرة فوات أنفسهم في الجهاد بالموت أو القتل ليكون ذلك مبعداً لهم مما قال المنافقون موجباً لتسليم الأمر للخالق بل محبباً فيه وداعياً إليه فقال: {ولئن} وهو حال أخرى من لا {تكونوا} {قتلتم} أي من أية قاتل كان {في سبيل الله} أي الملك الأعظم قتلاً {أو متم} أي فيه موتاً على أية حالة كانت. ولما كان للنفوس غاية الجموح عن الموت زاد في التأكيد فقال: {لمغفرة} أي لذنوبكم تنالكم فهذا تعبد بالخوف من العقاب {من الله} أي الذي له نهاية الكمال بما كنتم عليه من طاعة {ورحمة} أي لأجل ذلك وهو تعبد لطلب الثواب {خير مما يجمعون} أي مما هو ثمرة البقاء في الدنيا عند أهل الشقاء مع أنه ما فاتكم شيء من أعماركم.

.تفسير الآيات (158- 161):

{وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)}
ولما ذكر أشرف الموت بادئاً بأشرفه ذكر ما دونه بادئاً بأدناه فقال: {ولئن متم أو قتلتم} أي في أي وجه كان على حسب ما قدر عليكم في الأزل {لإلى الله} أي الذي هو متوفيكم لا غيره، وهو ذو الجلال والإكرام الذي ينبغي أن يعبد لذاته. ودل على عظمته بعد الدلالة بالاسم الأعظم بالبناء للمجهول فقال: {تحشرون} فإن كان ذلك الموت أو القتل على طاعته أثابكم وإلا عاقبكم، والحاصل أنه لا حيلة في دفع الموت على حالة من الحالات: قتل أو غيره، ولا في الحشر إليه سبحانه وتعالى، وأما الخلاص من هول ذلك اليوم ففيه حيلة بالطاعة. والله سبحانه وتعالى الموفق. وما أحسن ما قال عنترة في نحوه وهو جاهلي، فالمؤمن أولى منه بمثل ذلك:
بكرت تخوفني الحتوف كأنني ** أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل

فأجبتها إن المنية منهل ** لابد أن أسقى بكأس المنهل

فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي ** أني امرؤ سأموت إن لم أقتل

ولما فرغ من وعظ الصحابة رضي الله تعالى عنهم أتبعه تحبيب النبي صلى الله عليه وسلم فيما فعل بهم من الرفق والللين مع ما سبب الغضب الموجب للعنف والسطوة من اعتراض من اعترض على ما أشار به، ثم مخالفتهم لأمره في حفظ المركز والصبر والتقوى، ثم خذلانهم له وتقديم أنفسهم على نفسه الشريفة، ثم عدم العطف عليه وهو يدعوهم إليه ويأمر بإقبالهم عليه، ثم اتهام من اتهمه. إلى غير ذلك من الأمور التي توجب لرؤساء الجيوش وقادة الجنود اتهام أتباعهم وسوء الظن بهم الموجب للغضب والإيقاع ببعضهم ليكون ذلك زاجراً لهم عن العود إلى مثله فقال تعالى: {فبما رحمة من الله} أي الذي له الكمال كله {لنت لهم} أي ما لنت لهم هذا اللين الخارق للعادة ورفقت بهم هذا الرفق بعدما فعلوا بك إلا بسبب رحمة عظيمة من الله الحائز لجميع الكمال، فقابلتهم بالجميل ولم تعنفهم بانهزامهم عنك بعد إذ خالفوا رأيك، وهم كانوا سبباً لاستخراجك؛ والذي اقتضى هذا الحصر هو ما لأنها نافية في سياق الإثبات فلم يمكن أن توجه إلا إلى ضد ما أثبته السياق، ودلت زيادتها على أن تنوين {رحمة} للتعظيم، أي فبالرحمة العظيمة لا بغيرها لنت.
ولما بين سبحانه وتعالى سبب هذا اللين المتين بين ثمرته ببيان ما في ضده من الضرر فقال: {ولو كنت فظّاً} أي سيئ الخلق جافياً في القول {غليظ القلب} أي قاسية لا تتأثر بشيء، تعاملهم بالعنف والجفاء {لانفضّوا} أي تفرقوا تفرقاً قبيحاً لا اجتماع معه {من حولك} أي ففات المقصود من البعثة.
ولما أخبره سبحانه وتعالى أنه هو عفا عنهم ما فرطوا في حقه أمره بالعفو عنهم فيما يتعلق به صلى الله عليه وسلم، وبالاستمرار على مشاورتهم عند النوائب لئلا يكون خطؤهم في الرأي- أولاً في الخروج من المدينة.
وثانياً في تضييع المركز، وثالثاً في إعراضهم عن الإثخان في العدو بعد الهزيمة الذي ما شرع القتال إلا لأجله بإقبالهم عن النهب، ورابعاً في وهنهم عند كر العدو إلى غير ذلك- موجباً لترك مشاورتهم، فيفوت ما فيها من المنافع في نفسها وفيما تثمره من التألف والتسنن وغير ذلك فقال سبحانه وتعالى: {فاعف عنهم} أي ما فرطوا في هذه الكره في حقك {واستغفر لهم} أي الله سبحانه وتعالى لما فرطوا في حقه {وشاورهم} أي استخرج آراءهم {في الأمر} أي الذي تريده من أمور الحرب تألفاً لهم وتطييباً لنفوسهم ليستن بك من بعدك {فإذا عزمت} أي بعد ذلك على أمر فمضيت فيه، وقراءة من ضم التاء للمتكلم بمعناها، أي فإذا فعلت أنت أمراً بعد المشاورة لأني فعلت فيه- بأن أردته- فعل العازم.
ولما أمر بالمشاورة التي هي النظر في الأسباب أمر بالاعتصام بمسببها من غير التفات إليها ليكمل جهاد الإنسان بالملابسة ثم التجرد فقال: {فتوكل} أي فيه {على الله} أي الذي له الأمر كله، ولا يردك عنه خوف عاقبة- كما فعلت بتوفيق الله في هذه الغزوة، ثم علل ذلك بقوله: {إن الله} أي الذي لا كفوء له {يحب المتوكلين} أي فلا يفعل بهم إلا ما فيه إكرامهم وإن رُئي غير ذلك.
ولما كان التقدير؛ فإذا فعلوا ما يحبه أعطاهم مُناهم مما عزموا عليه لأجله؛ استأنف الإخبار بما يقبل بقلوبهم إليه ويقصر هممهم عليه، بأن من نصره هو المنصور، ومن خذله هو المخذول، فقال تعالى: {إن ينصركم الله} أي الذي له جميع العظمة {فلا غالب لكم} أي إن كان نبيكم صلى الله عليه وسلم بينكم أو لا، فما بالكم وهنتم لما صاح إبليس أن محمداً قد قتل! وهلا فعلتم كما فعل سعد بن الربيع رضي الله تعالى عنه وكما فعل أنس بن النضير رضي الله تعالى عنه حين قال: موتوا على ما مات عليه نبيكم صلى الله عليه وسلم! فهو أعذر لكم عند ربكم {وإن يخذلكم} أي بإمكان العدو منكم {فمن ذا الذي ينصركم من بعده} أي من نبي أو غيره، ولما كان التقدير: فعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين، عطف عليه قوله: {وعلى الله} أي الملك الأعظم وحده، لا على نبي ولا على قوة بعد ولا بمال من غنيمة ولا غيرها {فليتوكل المؤمنون} أي كلهم فيكون ذلك أمارة صحة إيمانهم.
ولما كان الغلول من أعظم موجبات الخذلان أو أعظمها. والنزاهة عن من أعظم موجبات النصر، كان أنسب الأشياء تعقيب هذه الآية بآية الغلول بياناً، لأنه كان سبب هزيمتهم في هذه الغزوة، فإنه لا يخذل إلا بالذنوب، ومن أعظم الذنوب الموجبة للخذلان الغلول فيكون المراد بتنزيهه صلى الله عليه وسلم عنه- والله أعلم- أن إقبالهم عن نهب الغنائم قبل وقته إما أن يكون لقصد أن يغلو بإخفاء ما انتهبوه أو بعضه، وإما أن يكون للخوف من أن يغل رئيسهم وحاشاه! وإما أن يكون للخوف من مطلق الخيانة بأن لا يقسمه صلى الله عليه وسلم بينهم على السواء، وحاشاه من كل من ذلك! وأما المبادرة إلى النهب لغير هذا القصد فخفة وطيش وعبث، لا يصوب عاقل إليه؛ إذا تقرر هذا فيمكن أن يكون التقدير: فليتوكلوا في كبت العدو وتحصيل ما معه من الغنائم، فلا يقبلوا على ذلك إقبالاً يتطرق منه احتمال لظن السوء بهاديهم في أن يغل، وهو الذي أخبرهم بتحريم الغلول وبأنه سبب للخذلان، وما نهى صلى الله عليه وسلم قط عن شيء إلا كان أول تارك له وبعيد منه وما كان ينبغي لهم أن يفتحوا طريقاً إلى هذا الاحتمال فعبر عن ذلك بقوله عطفاً على {وكأين من نبي} [آل عمران: 146] {وما كان} أي ما تأتى وما صح في وقت من الأوقات ولا على حالة من الحالات {لنبي} أي أي نبي كان فضلاً عن سيد الأنبياء وإمام الرسل {أن يغل} تبشيعاً لفعل ما يؤدي إلى هذا الاحتمال زجراً من معاودة مثل ذلك الفعل المؤدي إلى تجويز شيء مما ذكر، وعلى قراءة الجماعة غير ابن كثير وأبي عمرو- بضم الياء وفتح العين مجهولاً من: أغل- المعنى: وما كان له وما صح أن يوجد غالاً، أو ينسب إلى الغلول، أو يظن به ما يؤدي إلأى ذلك؛ ويجوز أن يكون التقدير بعد الأمر بالتوكل على الله سبحانه وتعالى وحده: فلا تأتوا إن كنتم مؤمنين بما يقدح في التوكل كالغلول وما يدانيه فتخذلوا، فإنه ما كان لكم أن تغلوا، وما كان أي ما حل لنبي أي من الأنبياء قط أن يغل، أي لم أخصكم بهذه الشريعة بل ما كان في شرع نبي قط إباحة الغلول، فلا تفعلوه ولا تقاربوه بنحو الاستباق إلى النهب، فإن ذلك يسلب كمال التوكل، فإنه من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه، فيوجب له الخذلان، روى الطبراني في الكبير- قال الهيثمي: ورجاله ثقات- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً فردت رايته. ثم بعث فردت، ثم بعث فردت بغلول رأس غزال من ذهب، فنزلت {وما كان لنبي أن يغل}».
ولما كان فعلهم ذلك محتملاً لقصدهم الغلول ولخوفهم من غلول غيرهم عمم في التهديد بقوله: {ومن يغلل} أي يقع منه ذلك كائناً من كان {يأت بما غل يوم القيامة} ومن عرف كلام أهل اللغة في الغلول عرف صحة قولي: إنه لمطلق الخيانة، وإنه يجوز أن يكون التقدير: وما كان لأحد أن يفعل ما يؤدي- ولو وعلى بعد- إلى نسبة نبي إلى غلول، قال صاحب القاموس: أغل فلاناً: نسبه إلى الغلول والخيانة، وغل غلولاً: خان- كأغل، أو خاص بالفيء، وقال الإمام عبد الحق الإشبيلي في كتابه الواعي: أغل الرجل أغلالاً- إذا خان، فهو مغل وغل في المغنم يغل غلولاً، وقرئ: أن يَغُل، وأن يُغَل، فمن قرأ: يَغُل- أراد: يخون، ومن قرأ: يُغَل- أراد: يخان، ويجوز أن يريد: لا ينسب إلى الخيانة وكل من خان شيئاً في خفاء فقد غل يغل غلولاً، ويسمى الخائن غالاً، وفي الحديث: «لا إغلال ولا إسلال» الإغلال: الخيانة في كل شيء، وغللت الشيء أغله غلاًّ- إذا سترته، قالوا: ومنه الغلول في المغنم، إنما أصله أن الرجل كان إذا أخذ منه شيئاً ستره في متاعه، فقيل للخائن: غال ومغل، ويقال: غللت الشيء في الشيء- إذا أدخلته فيه، وقد انغل- إذا دخل في الشيء، وقد انغل في الشجر. دخل- انتهى. فهذه الآية نهي للمؤمنين عن الاستباق إلى المغنم على طريق الإشارة، فتم بها الوعظ الذي في أواخره القصة، كما أن آية الربا نهي عنه على طريق الإشارة، فتم بها الوعظ الذي في أوائل القصة، فقد اكتنف التنفير من الغلول- الذي هو سبب الخذلان في هذه الغزوة بخصوصها لمباشرة ما هو مظنة له وفي الغزو مطلقاً- طرفي الوعظ فيها، ليكون من أوائل ما يقرع السمع وأواخره.
ولما كان ثمرة الإتيان به الجزاء عليه عمم الحكم تنبيهاً على أن ذلك اليوم يوم الدين، فلابد من الجزاء فيه وتصويراً له تبشيعاً للفضيحة فيه بحضرة الخلق أجمعين، وزاد في تعظيمه وتعظيم الجزاء فيه بأداة التراخي وتضعيف الفعل فقال معمماً الحكم ليدخل الغلول من باب الأولى: {ثم توفى} أي في ذلك اليوم العظيم، وبناه للمجهول إظهاراًَ لعظمته على طريق كلام القادرين {كل نفس} أي غالة وغير غالة {ما كسبت} أي ما لها فيه فعل ما من خير أو شر وافياً مبالغاً في تحريز وفائه {وهم لا يظلمون} أي لا يقع عليهم ظلم في شيء منه بزيادة ولا نقص.