فصل: تفسير الآية رقم (3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (3):

{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)}
ولما كان تعالى قد أجرى سنة الإلهية في أنه لابد في التناسل من توسط النكاح إلا ما كان من آدم وحواء وعيسى عليهم الصلاة والسلام، وكانوا قد أمروا بالعدل في أموال اليتامى، وكانوا يلون أمور يتاماهم، وكانوا ربما نكحوا من في حجورهم منهن، فكان ربما أوقفهم هذا التحذير من أموالهم عن النكاح خوفاً من التقصير في حق من حقوقهن أتبعه تعالى عطفاً على ما تقديره: فإن وثقتم من أنفسكم بالعدل فخالطوهم بالنكاح وغيره: {وإن خفتم} فعبر بأداة الشك حثاً على الورع {ألا تقسطوا} أي تعدلوا {في اليتامى} ووثقتم من أنفسكم بالعدل في غيرهن {فانكحوا}.
ولما كانت النساء ناقصات عقلاً وديناً، عبر عنهن بأداة ما لا يعقل إشارة إلى الرفق بهن والتجاوز عنهن فقال: {ما} ولما أفاد أنكحوا الإذن المتضمن للحل، حمل الطيب على اللذيذ المنفك عن النهي السابق ليكون الكلام عاماً مخصوصاً بما يأتي من آية المحرمات من النساء- ولا يحمل الطيب على الحل لئلا يؤدي- مع كونه تكراراً- إلى أن يكون الكلام مجملاً- لأن الحل لم يتقدم علمه، والحمل على العام المخصوص أولى، لأنه حجة في غير محل التخصيص، والمجمل ليس بحجة أصلاً- أفاده الإمام الرازي؛ فقال تعالى: {طاب} أي زال عنه حرج النهي السابق ولذّ، وأتبعه قيداً لابد منه بقوله: {لكم} وصرح بما علم التزاماً فقال: {من النساء} أي من غيرهن {مثنى وثلاث ورباع} أي حال كون هذا المأذون في نكاحه موزَّعاً هكذا: ثنتين ثنتين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً لكل واحد، وهذا الحكم عرف من العطف بالواو، ولو كان بأو لما أفاد التزوج إلا على أحد هذه الوجوه الثلاثة، ولم يفد التخيير المفيد للجمع بينها على سبيل التوزيع، وهذا دليل واضح على أن النساء أضعاف الرجال، وروى البخاري في التفسير عن عروة ابن الزبير أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} [النساء: 3]، فقالت: يا ابن أختي! هذه اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في ماله، ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا عن ذلك أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن قال عروة: قالت عائشة: وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية، فأنزل الله عز وجل: {ويستفتونك في النساء} [النساء: 127] قالت عائشة: وقول الله عز وجل في آية أخرى {وترغبون أن تنكحوهن} [النساء: 127] رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال، قالت: فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في ماله وجماله في يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهم إذا كن قليلات المال والجمال وفي رواية «في النكاح»، فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى في الصداق؛ وهذا الخطاب للأحرار دون العبيد، لأن العبد لا يستقل بنكاح ما طاب له، بل لابد من إذن السيد.
ولما كان النساء كالتيامى في الضعف قال مسبباً عن الإذن في النكاح: {فإن خفتم ألا تعدلوا} أي في الجمع {فواحدة} أي فانكحوها، لأن الاقتصار عليها أقرب إلى العدل لأنه ليس معها من يقسم له فيجب العدل بينها وبينه ولما كان حسن العشرة المؤدي إلى العدل دائراً على اطراح النفس، وكان الإماء- لكسرهن بالغربة وعدم الأهل- أقرب إلى حسن العشرة سوّى بين العدد منهم إلى غير نهاية وبين الواحدة من الحرائر فقيل: {أو ما} أي انكحوا ما {ملكت أيمانكم} فإنه لا قسم بينهن، وذكر ملك اليمين يدل أيضاً على أن الخطاب من أوله خاص بالأحرار {ذلك} أي نكاح غير التيامى والتقلل من الحرائر والاقتصار على الإماء {أدنى} أي أقرب إلى {ألا تعولوا} أي تميلوا بالجور عن منهاج القسط وهو الوزن المستقيم، أو تكثر عيالكم، أما عند الواحدة فواضح، وأما عند الإماء فالبعزل، وعدم احتياج الرجل معهن لخادم له أو لهن، والبيع لمن أراد منهن، وأمرهن بالاكتساب، أو تحتاجوا فتظلموا بعض النساء، أو تأكلوا أموال التيامى؛ وكل معنى من هذه راجع إلى لازم لمعنى المادة الذي مدارها عليه، لأن مادة علا واوية بجميع تقاليبها الست: علو، عول، لوع، لعو، وعل، ولع؛ ويائية بتركيبيها: ليع، عيل تدور على الارتفاع، ويلزمه الزيادة والميل، فمن الارتفاع: العلو والوعل والولع، ومن الميل والزيادة: العول، وبقية المادة يائيةً وواويةً إما للإزالة، وإما لأحد هذه المعاني- على ما يأتي بيانه؛ فعلا يعلو: ارتفع، والعالية: الفتاة القويمة- لأ، ها تكون أرفع مما ساواها وهو معوج، والعالية من محال الحجاز- لإشرافها على ما حولها، وكذا العوالي- لقرى بظاهر المدينة الشريفة- لأنها في المكان العالي الذي يجري ماؤه إلى غيره، والمعلاة: كسب الشرف، ومقبرة مكة بالحجون- لأنها في أعلى مكة وماؤها يصوب إلى ما دونه، وفلان من علية الناس، أي أشرافهم، والعلية بالتشديد: الغرفة، وعلى حرف الاستعلاء، وتعلت المرأة من نفاسها، أي طهرت وشفيت- لأنها كانت في سفول من الحال، والعلاوة: رأس الجبل وعنقه، وما يحمل على البعير بين العدلين، ومن كل شيء: ما زاد عليه، والمعلى: القدح السابع من الميسر- لأنه الغاية في القداح الفائزة، لأن القداح عشرة: السبعة الأولى منها فائزة، والثلاثة الأخيرة مهملة لا أنصباء لها، وعلوان الكتاب: عنوانه وارتفاعه على بقية الكتاب واضح، والعليان: الطويل والضخم، والناقة المشرفة، ومن الأصوات: الجهيرة، والعلاة: السندان، والعلياء: رأس كل جبل مشرف، والسماء، والمكان العالي، وكل ما علا من شيء، وعليك زيداً: الزمه- لأنه يلزم من ملازمته له العلو على أمره، وعلا النهار: ارتفع وعلا الدابة: ركبها وأعلى عنها: نزل- كأنه من الإزالة وكذا علَّى المتاع عن الدابة تعلية: أنزله، وأعليت عن الوسادة وعاليت: ارتفعت وتنحيت، ورجل عالي الكعب: شريف، وعلَّى الكتاب تعلية: عنونه كعلونه، وعالوا نعيه: أظهروه، والعلي: الشديد القوي، وعليون في السماء السابعة، وأخذه علواً: عنوة، والتعالي: الاتفاع، إذا أمرت منه قلت: تعال- بفتح اللام، ولها: تعالي- بفتح اللام،- ولو كنت في موضع أسفل من موضع المأمور، لأنه يحتاج إلى تطاول مهما كان بينك وبينه مسافة، ولأن الآمر أعلى من المأمور رتبة فموضعه كذلك، وتعلى: علا في مهلة، والمعتلي: الأسد؛ واللعو: السيء الخلق، والفسل، والشره الحريص، واللاعي: الذي يفزعه أدنى شيء، إما لأنه وصل إلى الغاية في السفول فتسنم أعلاها حتى رضي لنفسه هذه الأخلاق، وإما لأنه من باب الإزالة، أو التسمية بالضد، وذئبة لعوة وامرأة لعوة، أي حريصة، واللعوة: السواد بين حلمتي الثدي، إما لأن ذلك أعلاه، وإما لعلو لون السواد على لون الثدي، والألعاء: السلاميات، والسلامى عظم يكون في فرسن البعير، وعظام الصغار في اليد والرجل، وذلك لأن العظام أعلى ما في الجسد في القوة والشدة والصلابة، وهي أعظم قوامه؛ واللاعية: شجيرة في سفح الجبل، لها نور أصفر، ولها لبن، وإذا ألقي منه شيء في غدير السمك أطفاها، أي جعلها طافية أي عالية على وجه الماء، سميت بذلك إما من باب الإزلاة نظراً إلى محل بيتها، وإما لأن ريحها يعلو كل ما خالطه ويكسبه طعمها وإما لفعلها هذا في السمك وتلعّى العسل: تعقّد وزناً ومعنى- إما من اللاعية لأنها كثيرة العقد، وإما من لازم العلو: القوة والشدة، ولعا لك- يقال عند العثرة، أي أنعشك الله؛ والعول: ارتفاع الحساب في الفرائض، والعول: الميل، وقدم تقدم أنه لازم للعلو، والعول: كل ما أمر غلبك، كأنه علا عنك فلم تقدر على نيله والمستعان به- لأنه لا يتوصل به إلى المقصود إلا وفيه علو، وقوت العيال- لأنه سبب علوهم، وعوّل عليه معولاً: اتكل واعتمد، والاسم كعنب، وعيّل ككيس، وعال: جار والميزان: نقص أو زاد، فالزيادة من الارتفاع، والنقص من لازم الميل، وعالت الفريضة: ارتفعت أي زادت سهامها فدخل النقصان على أهل الفرائض، قال أبو عبيد: أظنه مأخوذاً من الميل، وعال أمرهم: اشتد وتفاقم، وعال فلان عولاً وعيالاً: كثر عياله، كأعول وأعيل، ورجل معيل ومعيّل ذو عيال، وأعال الرجل وأعول- إذا حرص، إما مما تقدم تخريجه، وإما لأنه لازم لذي العيال، وعال عليه: حمل، أي رفع عليه الحمول كعول، وفلان: حرص، والفرس، صوتت، وأعولت المرأة: رفعت صوتها بالبكاء، وعيل عوله: ثكلته أمه- لما يقع من صياحها، وعيل ما هو عائله: غلب ما هو غالبه، يضرب لمن يعجب من كلامه ونحوه لأنه لا يكون كذلك إلا وقد خرج عن أمثاله علواً، وقد يكون بسفول، فيكون من التسمية بالضد، والعالة: النعامة لأنها أطول الطير، وما له عال ولا مال: شيء ح لأن ذلك غاية في السفول إن كان عجزاً، وفي العلو إن كان زهداً، ويقال للعاثر: عالك عالياً.
كقولهم: لعا لك، والمعول: حديدة تنفر بها الجبال- من القوة اللازمة للعلو، والعالة، شبه الظلة يستر بها من المطر؛ واللوعة: حرقة توجد من الحزن أو الحب أو المرض أو الهم- لأنها تعلو الإنسان، ولاعه الحب: أمرضه، وأتان لاعة الفؤاد إلى جحشها- كأنها ولهى فزعاً، ولاع يلاع: جزع أو مرض ورجل هاع لاع: جبان جزوع، أو حريص، أو سيئ الخلق- لما علاه من هذه الأخلاق المنافية للعقل وغلبه منها، ولاعته الشمس: غيرت لونه واللاعة أيضاً: الحديدة الفؤاد الشهمة- لأنه يعلوا غيره، وامرأة لاعة: التي تغازلك ولا تمكنك- لما لها في ذلك من الغلبة والعلو على القلوب؛ والوعل: تيس الجبل، والشريف، والملجأ، والوعلة: الموضع المنيع من الجبل، أو صخرة مشرفة منه، وهم علينا وعل واحد: مجتمعون، وما لك عن ذلك وعل، أي بد- إنه لولا علوه عليك ما اضطررت إليه والوعل: اسم شوال- كأنه لما له من العلو بالعيد والحج، والوعل ككتف: اسم شعبان ح لما له من العلو بتوسطه بين رجب وشوال، والوعلة أيضاً: عروة القميص والزير زره والقدح والإبريق الذي يعلق بها فيعلو، ووعال كغراب: حصن باليمن، والمستوعل- بفتح العين: حرز الوعل، ووعل كوعد: أشرف، وتوعلت الجبل: علوته؛ وأولع فلان بكذا، أو ولع بالكسر: استخف، أي صار عالياً عليه غالباً له إطاقته حمله، وولع بحقه: ذهب، وولع بالفتح- إذا كذب، إما للإزالة وإما لأنه استخفه الكذب فحمله، وولع والع- مبالغة، أي كذب عظيم والمولع: الذي فيه لمع من ألوان- كأنه علا على تلك الألوان، أو غلب تلك الألوان أصل لونه، وعبارة القاموس: والتوليع: استطالة البلق، يقال برذون وثور مولع- كمعظم، والوليع: الطلع ما دام في قيقائه، أي وعائه. وهو قشرة الطلع لعلوه، وما أدري ما ولعه- بالفتح أي حبسه، إما للإزالة، لإنه لما منعه كان كأنه أزال علوه، وإما لأنه علا عليه، وأولعه به، أي أغراه، أي حمله عليه؛ والعيلة: الحاجة، وعال يعيل- إذا افتقر، وذلك إما من الإزالة، أو لأن الحاجة علته، أو لأنها ميل، وعالني الشيء: أعجزني، وعيل صبري: قل وضعف أي علاه من الأمر ما أضعفه، وعلت الضالة: لم أدر أين أبغيها، والمعيل: الأسد والنمر والذئب- لأنه يعيل صيداً أي يلتمس فهو يرجع إلى العلو والقدرة على الطلب، وعالني الشيء: أعوزني- إما أزال علوي، أو علا عني، وعال في مشيه: تمايل واختال وتبختر- لأنه لا يفعله إلا عال في نفسه مع أنه كله من الميل، وعال في الأرض: ذهب أي علا عليها مشياً، والذكر من الضباع عيلان، والعيل محركة: عرضك حديثك وكلامك على من لا يريده وليس من شأنه- كأنه لم يهتد لمن يريده فعرضه على من لا يريده، فهو يرجع إلى الحاجة المزيلة للعلو؛ وليعة الجوع- بالفتح: حرقته- كما تقدم في اللوعة، ولعت- بالكسر: ضجرت، كأنه من الإزالة، أو أن العلو للأمر المتضجر منه، والملياع- علاها، والملياع: التي تقدم الإبل سابقة ثم ترجع إليها، وريح لياع- بالكسر: شديدة، وقد وضح بذلك صحة ما فسر به إمامنا الشافعي صريحاً ومطابقة- كما تقدم، وشهد له العول في الحساب والسهام، وهو كثرتها، وظهر تحامل من رد ذلك وقال: إنه لا يقال في كثرة العيال إلا: عال يعيل، وكم من عائب قولا صحيحاً! وكيف لا وهو من الأئمة المحتج بأقوالهم في اللغة، وقد وافقه غيره وشهد لقوله الحديث الصحيح؛ قال الإمام يحيى بن أبي الخير العمراني الشافعي في كتابه البيان: {ألا تعولوا} قال الشافعي: معناه أن لا تكثر عيالكم ومن تمونونه، وقيل: إن أكثر السلف قالوا: المعنى أن لا تجوروا، يقال: عال يعول- إذا جار وأعال يعيل- إذا كثر عياله؛ إلا زيد بن أسلم فإنه قال: معناه أن لا تكثر عيالكم، وقول النبي صلى الله عليه وسلم يشهد لذلك، قال: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» انتهى.
وهذا الحديث أخرجه الشيخان وغيرهما عن حكيم بن حزام عن أبي هريرة رضي الله عنهما بلفظ «أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول» وفي الباب أيضاً عن عمران بن حصين وأبي رمثة البلوي وأبي أمامة رضي الله عنهم، وأثر زيد بن أسلم رواه الدارقطني والبيهقي من طريق سعيد بن أبي هلال عنه، قال: «ذلك أدنى أن لا يكثر من يعولونه» أفاده شيخنا ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعي وقال الإمام: إن تفسير الشافعي هو تفسير الجماعة، عبر عنه بالكناية وهي ذكر الكثرة، وأراد الميل لكون الكثرة، لا تنفك عنه، وقال ابن الزبير: لما تضمنت سورة البقرة ابتداء الخلق وإيجاد آدم عليه الصلاة والسلام من غير أب ولا أم، وأعقبت بسورة آل عمران لتضمنها- مع ذكر في صدرها- أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، وأنه كمثل آدم عليه الصلاة والسلام في عدم الافتقار إلى أب، وعلم الموقنون من ذلك أنه تعالى لو شاء لكانت سنة فيمن بعد آدم عليه الصلاة والسلام، فكأن سائر الحيوان لا يتوقف إلا على أم فقط؛ أعلم سبحانه أن من عدا المذكورين عليهما الصلاة والسلام من ذرية آدم سبيلهم سبيل الأبوين فقال تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم} إلى قوله: {وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء} ثم أعلم تعالى كيفية النكاح المجعول سبباً في التناسل وما يتعلق به، وبين حكام الأرحام والمواريث فتضمنت السورة ابتداء الأمر وانتهاءه، فأعلمنا بكيفية التناكح وصورة الاعتصام واحترام بعضنا لبعض وكيفية تناول الإصلاح فيما بين الزوجين عند التشاجر والشقاق، وبين لنا ما ينكح وما أبيح من العدد وحكم من لم يجد الطول وما يتعلق بهذا إلى المواريث، فصل ذلك كله إلا الطلاق.
لأن أحكامه تقدمت، ولأن بناء هذه السورة على التواصل والائتلاف ورعي حقوق ذوي الأرحام وحفظ ذلك كله إلى حالة الموت المكتوب علينا، وناسب هذا المقصود من التواصل والألفة ما افتتحت به السورة من قوله تعالى: {الذي خلقكم من نفس واحدة} [النساء: 1]، فافتتحها بالالتئام والوصلة ولهذا خصت من حكم تشاجر الزوجين بالإعلام بصورة الإصلاح والمعدلة إبقاء لذلك التواصل فلم يكن الطلاق ليناسب هذا، فلم يقع له هنا ذكر إلا إيماء {وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته} [النساء: 13] ولكثرة ما يعرض من رعي حظوظ النفوس عند الزوجية ومع القرابة- ويدق ذلك ويغمض- تكرر كثيراً في هذه السورة الأمر بالاتقاء، وبه افتتحت {اتقوا ربكم} [النساء: 1]، {واتقوا الله الذي تسآءلون به والأرحام} [النساء: 1]، {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله} [النساء: 131]، ثم حذروا من حال من صمم على الكفر وحال اليهود والنصارى والمنافقين وذوي التقلب في الأديان بعد أذن اليقين، وكل ذلك تأكيد لما أمروا به من الاتقاء، والتحمت الآيات إلى الختم بالكلالة من المواريث المتقدمة- انتهى.

.تفسير الآيات (4- 6):

{وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)}
ولما حذروا من القول الذي من مدلوله المحاجة عن كثرة النساء؛ كان ربما تعلق به من يبخل عن بعض الحقوق، لاسيما ما يستكثره من الصداق، فأتبعه ما ينفي ذلك، فقال- مخاطباً للأزواج، لأن السياق لهم، معبراً بما يصلح للدفع والالتزام المهيئ له: {وآتوا النساء} أي عامة من اليتامى وغيرهن {صدقاتهن}، وقوله مؤكداً للإيتاء بمصدر من معناه: {نحلة} مؤيد لذلك، لأن معناها: عطية عن طيب نفس؛ قال الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه: وأصله- أي النحل: إعطاء الشيء لا يراد به عوض وكذا إن قلنا: معنى النحلة الديانة والملة والشرعة والمذهب، أي آتوهن ذلك ديانة.
ولما وقع الأمر بذلك كان ربما أبى المتخلق بالإسلام قبول ما تسمح به المرأة منه بإبراء أو رد على سبيل الهبة- لظنه أن ذلك لا يجوز أو غير ذلك فقال: {فإن طبن لكم} أي متجاوزات {عن شيء} ووحّد الضمير ليرجع إلى الصداق المفهوم من الصدقات، ولم يقل: منها، لئلا يظن أن الموهوب لا يجوز إلا إن كان صداقاً كاملاً فقال: {منه} أي الصداق {نفساً} أي عن شهوة صادقة من غير إكراه ولا خديعة {فكلوه} أي تصرفوا فيه بكل تصرف يخصكم {هنيئاً} أي سائغاً صالحاً لذيذاً في عافية بلا مشقة ولا مضرة {مريئاً} أي جيد المغبة بهجا ساراً، لا تنغيص فيه، وربما كان التبعيض ندباً إلى التعفف عن قبول الكل، لأنه في الغالب لا يكون إلا عن خداع أو ضجر فربما أعقب الندم، وهذا الكلام يدل أيضاً على تخصيص الأحرار دون العبيد، لأنهم لا يملكون ماجعلته النساء لهم ليأكلوه هنيئاً. قال الأصبهاني: فإن وهبت له ثم طلبت منه بعد الهبة علم أنها لم تطب نفسها، وعن الشعبي ان رجلاً أتى مع امرأته شريحاً في عطية أعطتها إياه وهي تطلب أن ترجع، فقال شريح: رد عليها، فقال الرجل: أليس قد قال الله تعالى: {فإن طبن لكم} [النساء: 4] قال: لو طابت نفسها لما رجعت فيه؛ وعنه قال: أقيلها فيما وهبت ولا أقيله، لأنهن يخدعن.
ولما أمر بدفع أموال اليتامى والنساء إليهم، ونهى عن أكل شيء منها تزهيداً في المال واستهانة به، وكان في النساء والمحاجير من الأيتام وغيرهم سفهاء، وأمر بالاقتصاد في المعيشة حذراً من الظلم والحاجة نهى عن التبذير، وقد حث سبحانه على حسن رعاية المال في غير آية من كتابه لأنه «نعم المال الصالح للرجل الصالح» رواه أحمد وابن منيع عن عمرو بن العاص رفعه؛ لأن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل ما يهمه من الدنيا، وما لم يتمكن من تحصيل ما يهمه من الدنيا لا يمكنه أمر الآخرة، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة ما يكفيه من المال- لأنه لا يتمكن في هذه الدار التي مبناها على الأسباب من جلب المنافع ودفع المضار إلا به، فمن أراده لهذا الغرض كان من أعظم الأسباب المعينة له على اكتساب سعادة الآخرين، ومن أراد لنفسه كان من أعظم المعوقات عن سعادة الآخرة فقال تعالى: {ولا تؤتوا} أيها الأزواج والأولياء {السفهاء} أي من محاجيركم ونسائكم وغيرهم {أموالكم} أي الأموال التي خلقها الله لعباده سواء كانت مختصة بكم أو بهم، ولكم بها علقة بولاية أو غيرها، فإنه يجب عليكم حفظها {التي جعل الله} أي الذي له الإحاطة بالعلم الشامل والقدرة التامة {لكم قياما} أي ملاكاً وعماداً تقوم بها أحوالكم، فيكون ذلك سبباً لضياعها، فضياعها سبب لضياعكم، فهو من تسمية السبب باسم المسبب للمبالغة، في سببيته {وارزقوهم} متجرين {فيها} وعبر بالظرف إشارة إلى الاقتصاد واستثمار الأموال حتى لا تزال موضعاً للفضل، حتى تكون النفقة والكسوة من الربح لا من رأس المال {واكسوهم} أي فإن ذلك ليس من المنهيّ عنه، بل هو من معالي الأخلاق ومحاسن الأعمال {وقولوا لهم} أي مع ذلك {قولاً معروفاً} أي في الشرع والعقل كالعدة الحسنة ونحوها، وكل ما سكنت إليه النفس وأحبته من قول أو عمل وليس مخالفاً للشرع فهو معروف، فإن ذلك ربما كان أنفع في كثير من الإعطاء وأقطع للشر؛ والحجر على السفيه مندرج في هذه الآية، لأن ترك الحجر عليه من الإيتاء المنهي عنه.
ولما نهى عن ذلك البذل للسفهاء أيتاماً كانا أو غيرهم، بين أنه ليس دائماً بل ما دام السفه قائماً، فمست الحاجة إلى التعريف بمن يعطي ومن يمنع وكيف عند الدفع، ولما كان السفه أمراً باطناً لا يعرف إلا بالتصرف ولاسيما في المال؛ بدأ سبحانه بتعليم ما يتوصلون به إلى معرفته فقال مصرحاً بالأيتام اهتماماً بأمرهم: {وابتلوا اليتامى} أي اختبروهم في أمر الرشد في الدين والمال في مدة مراهقتهم واجعلوا ذلك دأبكم {حتى إذا بلغوا النكاح} أي وقت الحاجة إليه بالاحتلام أو السن {فإن آنستم} أي علمتم علماً أنتم في عظيم تيقنه كأنكم تبصرونه على وجه تحبونه وتطيب أنفسكم به {منهم} أي عند بلوغه {رشداً} أي بذلك التصرف، ونكره لأن وجود كمال الرشد في أحد يعز وقوعه {فادفعوا إليهم أموالهم} أي لزوال الحاجة إلى الحجر بخوف التبذير، وأضافها إليهم بعد إضافتها أولاً إلى المعطين إشارة إلى أنه لا يستحقها إلا من يحسن التصرف فيها.
ولما كان الإنسان مجبولاً على نقائص منها الطمع وعدم الشبع لاسيما إذا خالط، لاسيما إن حصل له إذن ما؛ أدبه سبحانه بقوله: {ولا تأكلوها} أي بعلة استحقاقكم لذلك بالعمل فيها {إسرافاً} أي مسرفين بالخروج عن القصد في التصرف ووضع الشيء في غير موضعه وإغفال العدل والشفقة {وبداراً} أي مبادرين {أن يكبروا} أي فيأخذوها منكم عند كبرهم فيفوتكم الانتفاع بها، وكأنه عطف بالواو الدالة على تمكن الوصف وتمامه إشارة إلى عدم المؤاخذة بما يعجز عنه الإنسان المجبول على النقصان مما يجري في الأفعال مجرى الوسوسة في الأقوال «ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه».
ولما أشعر النهي عن أكل الكل بأن لهم في الأكل في الجملة علة مقبولة، أفصح به في قوله: {ومن كان} أي منكم أيها الأولياء {غنياً فليستعفف} أي يطلب العفة ويوجدها ويظهرها عن الأكل منها جملة، فيعف عنه بما بسط الله له من رزقه {ومن كان فقيراً} وهو يتعهد مال اليتيم لإصلاحه، ولما كان يخشى من امتناعه من الأكل منه التفريط فيه بالاشتغال بما يهمه في نفسه، أخرج الكلام في صيغة الأمر فقال معبراً بالأكل لأنه معظم المقصود: {فليأكل بالمعروف} أي بقدر أجرة سعيه.
ولما كان ذلك ربما أفهم الأمان إلى الرشد بكل اعتبار، أمر بالحزم- كما في الطبراني الأوسط عن أنس «احترسوا من الناس بسوء الظن» فقال: {فإذا دفعتم إليهم} أي اليتامى {أموالهم} أي التي كانت تحت أيديكم لعجزهم عن حفظها {فأشهدوا عليهم} أي احتياطاً لأن الأحوال تتبدل، والرشد يتفاوت، فالإشهاد أقطع للشر، وأنفع في كل أمر، والأمر بالإشهاد أزجر للولي عن الخيانة، لأن من عرف أنه لا يقبل عند الخصام إلا ببينة عف غاية العفة، واحترز غاية الاحتراز.
ولما كانت الأموال مظنة لميل النفوس، وكان الحب للشيء يعمي ويصم؛ ختم الآية بقوله: {وكفى بالله} أي الذي له الحكمة البالغة والقدرة الباهرة والعظمة التي لا مثل لها، والباء في مثل هذا تأكيد لأن ما قرنت به هو الفاعل حقيقة لا مجازاً- كما إذا أمرنا بالفعل مثلاً {حسيباً} أي محاسباً بليغاً في الحساب، فهو أبلغ تحذيراً لهم وللأيتام من الخيانة والتعدي ومدّ العين إلى حق الغير.