فصل: تفسير الآيات (22- 23):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (22- 23):

{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)}
ولما كرر ذكر الإذن في نكاحهن وما تضمنه منطوقاً مفهوماً، وكان قد تقدم الإذن في نكاح ما طاب من النساء، وكان الطيب شرعاً قد يحمل على الحل؛ مست الحاجة إلى ما يحل منهن لذلك وما يحرم فقال: {ولا تنكحوا} أي تتزوجوا وتجامعوا {ما نكح} أي بمجرد العقد في الحرة، وبالوطء في ملك اليمين {آبآؤكم} وبين {ما} بقوله: {من النساء} أي سواء كانت إماء أو لا، بنكاح أو ملك يمين، وعبر بما دون {من} لما في النساء غالباً من السفه المدني لما لا يعقل.
ولما نهى عن ذلك فنزعت النفوس عما كان قد ألف بهاؤه فلاح أنه في غاية القباحة وأن الميل إليه إنما هو شهوة بهيمية لا شيء فيها من عقل ولا مروة، وكانت عادتهم في مثل ذلك مع التأسف على ارتكابه السؤال عما مضى منه- كما وقع في استقبال بيت المقدس وشرب الخمر؛ أتبعه الاستثناء من لازم الحكم وهو: فإنه موجب لمقت من ارتكبه وعقابه فقال: {إلا ما قد سلف} أي لكم من فعل ذلك في أيام الجاهلية كما قال الشافعي رحمه الله في الأم، قال السهيلي في روضه: وكان ذلك مباحاً في الجاهلية لشرع متقدم، ولم يكن من الحرمات التي انتهكوها. ثم علل النهي بقوله: {إنه} اي هذا النكاح {كان} أي الآن وما بعده كوناً راسخاً {فاحشة} أي والفاحشة لا يقدم عليها تام العقل {ومقتاً} أي أشر ما يكون بينكم وبين ذوي الهمم لما انتهكتم من حرمة آبائكم {وساء سبيلاً} أي قبح طريقاً طريقه.
ولما ابتدأ بتعظيم الآباء واحترامهم في أن ينكح الأبناء أزواجهم على العموم ثنى بخصوص الأم بقوله: {حرمت عليكم} ولما كان أعظم مقصود من النساء النكاح، فكان إضافة التحريم إلى أعيانهن إفادة التأكيد غير قادح في فهمه، وكان مع ذلك قد تقدم ما يدل على أن المراد النكاح؛ أسند التحريم إلى الذات تأكيداً للتحريم فقال: {أمهاتكم} أي التمتع بهن بنكاح أو ملك يمين، فكان تحريمها مذكوراً مرتين تأكيداً له وتغليظاً لأمره في نفسه واحتراماً للأب وتعظيماً لقدره {وبناتكم} أي وإن سفلن لما في ذلك من ضرار أمهاتهن، وهذان الصنفان لم يحللن في دين من الأديان {وأخواتكم} أي أشقاء أو لا {وعمّاتكم} كذلك {وخالاتكم} أيضاً، والضابط لهما أن كل ذكر رجع نسبك إليه فأخته عمتك، وقد تكون من جهة الأم وهي أخت أبي أمك؛ وكل أنثى رجع نسبك إليها بالولادة فأختها خالتك، وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك {وبنات الأخ} شقيقاً كان أو لا {وبنات الأخت} أي كذلك، وفروعهن وإن سفلن.
ولما انقضى أمر النسب وهو سبعة أصناف أتبعه أمر السبب وهو ثمانية: أوله أزواج الآباء، أفردها وقدمها تعظيماً لحرمتها، لما كانوا استهانوا من ذلك، وآخره المحصنات، وبدأ من هذا القسم بالأم من الرضاع كما بدأ النسب بالأم فقال: {وأمهاتكم اللاَّتي أرضعنكم} تنزيلاً له منزلة النسب، ولذلك سماها أمّاً، فكل أنثى انتسب باللبن إليها فهي أمك، وهي من أرضعتك، أو أرضعت امرأة أرضعتك، أو رجلاً أرضعك بلبانه من زوجته أو أم ولده، وكل امرأة ولدت امرأة أرضعتك أو رجلاً أرضعك فهي أمك من الرضاعة والمراضعة أختك، وزوج المرضعة الذي أرضعت هي بلبانه أبوك وأبواه جداك، وأخته عمتك، وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده إخوة الأب، وأم المرضعة جدتك، وأختها خالتك، وكل من ولد لها من هذا الزوج إخوة لأب وأم، ومن ولد لها من غيره فهم إخوته وأخواته لأم، فعلى ذلك ينزل قوله: {وأخواتكم من الرضاعة} كما في النسب بشرط أن يكون خمس رضعات وفي الحولين، وبتسمية المرضعة أمّاً والمشاركة في الرضاع أختاً عُلِم أن الرضاع كالنسب. كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» فالصورتان منبهتان على بقية السبع؛ الأم منبهة على البنت بجامع الولادة، والأخوات على العمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت بجامع الأخوة.
ولما انقضى ما هو كلحمة النسب أتبعه أمر بالمصاهرة فقال: {وأمهات نسائكم} أي دخلتم بهن أو لا- لما في ذلك من إفساد ذات البين غالباً {وربائبكم} وذكر سبب الحرمة فقال: {اللاَّتي في حجوركم} أي بالفعل أو بالقوة- لما فيهن من شبه الأولاد {من نسائكم} ولما كانت الإضافة تسوغ في اللغة بأدنى ملابسة بين سبحانه أنه لابد من الجماع الذي كنى عنه بالدخول لأنه ممكن لحكم الأزواج الذي يصير به أولادها كأولاده فقال: {اللاَّتي دخلتم بهن} قيد بالدخول لأن غيرة الأم من ابنتها دون غيرة البنت من أمها.
ولما أشعر هذا القيد بحل بنت من عقد عليها ولم يدخل بها أفصح به تنبيهاً على عظيم حرمة الإرضاع فقال: {فإن لم تكونوا دخلتم بهن} أي الأمهات {فلا جناح عليكم} أي في نكاحهن؛ ولما افتتح المحرمات على التأبيد بزوجة الأب ختمها بزوجة الولد فقال: {وحلائل أبنائكم} أي زوجة كانت أو موطوءة بملك يمين؛ ولما لم يكن المتبنى مراداً قيد بقوله: {الذين من أصلابكم} أي وإن سفلوا، ودخل ما بالرضاع لأنه كلحمة النسب فلم يخرجه القيد.
ولما انقضى التحريم المؤبد أتبعه الموقت فقال: {وأن} أي وحرم عليكم أن {تجمعوا} بعقد نكاح لأن مقصوده الوطء، أو بوطء في ملك يمين {بين الأختين} فإن كانت إحداهما منكوحة والأخرى مملوكة حلت المنكوحة وحرمت المملوكة ما دام الحل، لأن النكاح أقوى، فإذا زال الحل حلت الأخرة ولو في عدة التي كانت حلالاً.
ولما كان الجمع بين الأختين شرعاً قديماً قال: {إلا ما قد سلف} أي فإنه لا إثم عليكم فيه رحمة من الله لكم، ثم علل رفع حرجه فقال: {إن الله} أي المحيط بصفات الكمال {كان غفوراً} أي ساتراً لما يريد من أعيان الزلل وآثاره {رحيماً} أي معاملاً بغاية الإكرام الذي ترضاه الإلهية.

.تفسير الآية رقم (24):

{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)}
ولما ذكر مضارة الجمع أتبعه مضارة الإغارة على الحق والأول جمع بين المنكوحين وهذا جمع بين الناكحين فقال- عاطفاً على النائب عن فاعل {حرمت}: {والمحصنات} أي الحرائر المزوجات لأنهن منعت فروجهن بالنكاح عن غير الأزواج {من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} أي من أزواج أهل الحرب، فإن الملك بالأسر يقطع النكاح.
ولما أتم ذلك قال مؤكداً له ومبيناً عظمته: {كتاب الله} أي خذوا فرض الملك الأعظم الذي أوجبه عليكم إيجاب ما هو موصول في الشيء بقطعه منه، والزموه غير ملتفتين إلى غيره، وزاد في تأكيده بأداة الوجوب فقال: {عليكم} ولما أفهم ذلك حل ما سواه أفصح به احتياطاً للإيضاح وتعظيماً لحرمتها في قوله: {وأحل لكم} وبين عظمة هذا التحريم بأداة البعد فقال: {ما وراء ذلكم} أي الذي ذكر لكم من المحرمات العظيمة.
ولما كان الكلام في المنع لمن يصرح بالفاعل بل قال: {حرمت} ترفقاً في الخطاب حثاً على الآداب، فلما وصل الأمر إلى الحل أظهره تطييباً للقلوب وتأنيساً للنفوس في قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر بفتح الهمزة والحاء، وأبهمه في قراءة الباقين على نسق {حرمت} لأن فاعل الحل والحرمة عند أهل هذا الكتاب معروف أنه الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه أصلاً، ثم أتبع التحليل علته فقال: {أن} أي إرادة أن {تبتغوا} أي تطلبوا متبعين من شئتم مما أحل لكم {بأموالكم} اللاتي تدفعونها مهوراً حال كونكم {محصنين} أي قاصدين بذلك العفة لأنفسكم ولهن {غير مسافحين} أي قاصدين قضاء الشهوة وصب الماء الدافق لذلك فقط، وهو على هذا الوجه لا يكون إلا زنًى سراً وجهراً، فيكون فيه حينئذ إضاعة المال وإهلاك الدين، ولا مفسدة أعظم مما يجمع هذين الخسرانين.
ولما تقدم أول السورة وأثناءهها الأمر بدفع الصداق والنهي عن أخذ شيء مما دفع إلى المرأة، وكان ذلك أعم من أن يكون بعد الدخول أو قبله، مسمى أو لا قال هنا مسبباً عن الابتغاء المذكور: {فما استمتعتم} أي أوجدتم المتاع وهو الانتفاع {به منهن} بالبناء بها، متطلبين لذلك من وجوهه الصحيحة راغبين فيه {فآتوهن أجورهن} أي عليه كاملة، وهي المهور {فريضة} أي حال كونها واجبة من الله ومسماة مقدرة قدرتموها على أنفسكم، ويجوز كونه تأكيداً لآتوا بمصدر من معناه {ولا جناح} أي حرج وميل {عليكم فيما تراضيتم به} أي أنتم والأزواج {من بعد الفريضة} أي من طلاق أو فراق أو زيادة أو نقص إن كانت موجودة مقدرة، أو من مهر المثل من بعد تقديره إن لم تكن مسماة فيمن عقد عليها من غير تسمية صداق.
ولما ذكر في هذه الآيات أنواعاً من التكاليف هي في غاية الحكمة، والتعبير عنها في الذروة العليا من العظمة، وختمها بإسقاط الجناح عند الرضى وكان الرضى أمراً باطناً لا يطلع عليه حقيقة إلا الله تعالى، حث على الورع في شأنه بنوط الحكم بغلبة الظن فقال مرغباً في امتثال أوامره ونواهيه: {إن الله} أي الذي له الإحاطة التامة علماً وقدرة {كان عليماً} أي بمن يقدم متحرياً لرضى صاحبه أو غير متحرٍّ لذلك {حكيماَ} أي يضع الأشياء في أمكن مواضعها من الجزاء على الذنوب وغيره.

.تفسير الآية رقم (25):

{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)}
ولما مضى ذلك على هذا الوجه الجليل عرف أنه كله في الحرائر لأنه الوجه الأحكم في النكاح، وأتبعه تعليم الحكمة في نكاح الإماء؛ فقال عاطفاً على ما تقديره: هذا حكم من استطاع نكاح حرة: {ومن لم يستطع منكم} أي أيها المؤمنون {طولاً} أي سعة وزيادة عبر فيما قبله بالمال تهويناً لبذله بأنه ميال، لا ثبات له، وهنا بالطول الذي معناه: التي قل من يجدها {أن} أي لأن {ينكح المحصنات} أي الحرائر، فإن الحرة مظنة العفة الجاعلة لها فيما هو كالحصن على مريد الفساد، لأن العرب كانوا يصونونهنَّ وهنَّ أنفسهن عن أن يكن كالإماء {المؤمنات} بسبب كثرة المؤنة وغلاء المهر {فمن} أي فلينكح إن أراد من {ما ملكت أيمانكم} أي مما ملك غيركم من المؤمنين {من فتياتكم} أي إمائكم، وأطلقت الفتوة- وهي الشباب- على الرقيق لأنه يفعل ما يفعل الشاب لتكليف السيد له إلى الخدمة وعدم توقيره وإن كان شيخاً، ثم وضح المراد بالإضافة فقال: {المؤمنات} أي لا من الحرائر الكافرات ولا مما ملكتم من الإماء الكافرات ولا مما ملك الكفار حذراً من مخالطة كافرة خوفاً من الفتنة- كما مضى في البقرة، ولئلا يكون الولد المسلم بحكم تبعية أمه في الرق ملكاً لكافر، هذا ما تفهمه العبارة ولكنهم قالوا: إن تقييد المحصنات بالمؤمنات لا مفهوم له، وإلا لصار نكاح الحرة الكتابية المباح بآية المائدة مشروطاً بعقد مسلمة، حرة كانت أو أمة، ولم يشترط ذلك؛ ومذهب الشافعي أنه لا يجوز نكاح الأمة مع القدرة على حرة كتابية، والظاهر أن فائدة التقييد الندب إلى مباعدة الكفار فلا ينكح منهن إلا لضرورة، فكأن هذه سورة المواصلة، أسقط فيها أهل المباعدة، والمائدة سورة تمام الدين، فذكر فيها ما يجوز لأهله فلا ضرر في القيد، لأن المفهوم لا يقوى لمعارضة المنطوق مع ما فيه من فائدة الندب إلى الترك، وهذا كما أن قيد الإحصان هنا للندب إلى عدم نكاح الزواني مع جوازه بآية النور {وانكحوا الأيامى منكم} [النور: 32] كما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى.
ولما شرط في هذا النكاح الإيمان، وعبر فيه بالوصف، وكان أمراً قلبياً، لا يطلع على حقيقته إلا الله؛ أعقبه ببيان أنه يكتفى فيه بالظاهر فقال: {والله} أي الذي له الإحاطة التامة بالمعلومات والمقدورات {أعلم بإيمانكم} فربما ظهر ضعف إيمان أحد والباطن بخلافه، لكن في التعبير به وبالوصف لا بالفعل إرشاد إلى مزيد التحري من جهة الدين «فاظفر بذات الدين، تربت يداك!». ولما اشترط الدين كان كأنه قيل: فالنسب؟ فأشير إلى عدم اشتراطه بقوله: {بعضكم من بعض} أي كلكم من آدم وإن تشعبتم بعده {فانكحوهن} أي بشرط العجز {بإذن أهلهن} أي من مواليهن، ولا يجوز نكاحهن من غير إذنهم.
ولما كان مما لا يخفى أن السيد المالك للرقبة مالك للمنفعة من باب الأولى كان الأمر بدفع المهور إليهن مفيداً لندب السيد إلى جبرها به من غير أن يوهم أنها تملكه وهي لا تملك نفسها، فلذلك قال تعالى: {وآتوهن أجورهن} وهي المهور {بالمعروف} أي من غير ضرار، لا عليكم ولا عليهن ولا على أهلهن، حال كونهن {محصنات} أي عفائف بانفسهن أو بصون الموالي لهن {غير مسافحات} أي مجاهرات بالزنى لمن أراد، لا لشخص معين {ولا متخذات أخدان} أي أخلاء في السر للزنى معينين، لا تعدو ذات الخدن خدنها إلى غيره؛ قال الأصبهاني: وهو- أي الخدن- الذي يكون معك في كل ظاهر وباطن.
ولما لم يتقدم بيان حد الإماء قال مبنياً له: {فإذا أحصن} مبنياً للفاعل في قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم، والمفعول في قراءة الباقين، أي انتقلن من حيز التعريض للزنى بالإكراه إلى حيز الحرائر بأن حفظن فروجهن بكراهتهن للزنى، أو حفظهن الموالي بالرضى لهن بالعفة؛ وقال الشافعي في أوائل الرسالة في آخر الناسخ والمنسوخ الذي يدل الكتاب على بعضه والسنة على بعضه: إن معنى {أحصن} هنا: أسلمن، لا نكحن فاصبن بالنكاح، ولا أعتقن وإن لم يصبن، وقال: فإن قال قائل: أراك توقع الإحصان على معان مختلفة؟ قيل: نعم، جماع الإحصان أن يكون دون التحصين مانع من تناول المحرم، فالإسلام مانع، وكذلك الحرية مانعة، وكذلك التزوج والإصابة مانع وكذلك الحبس في البيوت مانع، وكل ما منع أحصن، وقد قال الله عز وجل: {وعلمناه صنعة لبؤس لكم لتحصنكم من بأسكم} [الأنبياء: 80] وقال: {لا يقاتلونكم جميعاً إلى في قرى محصنة} [الحشر: 41] يعني مممنوعة، قال: وآخر الكلام وأوله يدلان على أن معنى الإحصان المذكور عام في موضع دون غيره، إذ الإحصان ها هنا الإسلام دون النكاح والحرية والتحصين بالحبس والعفاف، وهذه الأسماء التي يجمعها اسم الإحصان- انتهى. {فإن أتين بفاحشة} ولا تكون حينئذ إلا عن رضى من غير إكراه.
ولما كان من شأن النكاح تغليظ الحد، فغلظ في الحرائر بالرجم؛ بين تعالى أنه لا تغليظ على الإماء، بل حدهن بعده هو حدهن قبله، فقال {فعليهن نصف ما على المحصنات} أي الحرائر لأنهن في مظنة العفة وإن كن بغير أزواج {من العذاب} أي الحد- كما كان ذلك عذابهن قبل الإحصان، وهذا يفهمه بطريق الأولى، والمراد هنا الجلد، لأن الرجم لا ينتصف.
ولما كان كأنه قيل: هل هذا لكل عاجز عن الحرة؟ استؤنف جواب هذا السؤال بقوله تعالى مشيراً بأداة البعد إلى أنه مما لا يحسن قربه: {ذلك} أي حل نكاح الإماء الذي ينبغي البعد منه {لمن خشي العنت} أي الوقوع في الزنا الموجب للإثم المقتضي للهلاك بالعذاب في الدنيا والآخرة بما عنده من عظيم الداعية إلى النكاح ومشقة الصبر عنه؛ قالوا: وأصل العنت انكسار العظم بعد الجبر، فاستعير لكل مشقة وضرر؛ قال الأصبهاني: وقيل: إن الشبق الشديد والغلمة العظيمة قد يؤدي بالإنسان إلى الأمراض الشدية، أما في حق النساء فقد يؤدي إلى اختناق الرحم، وأما في حق الرجال فقد يؤدي إلى أوجاع الوركين والظهر.
ولما كان هذا التخفيف والتيسير خاصاً بالمؤمنين منا قيد بقوله: {منكم}.
ولما بين إباحته وأشار إلى البعد عنه لما فيه من استرقاق الولد صرح بالندب إلى حبس النفس عنه فقال: {وإن تصبروا} أي عن نكاحهن متعففين {خير لكم} أي لئلا تعيروا بهن، أو تسترق أولادكم منهن، ثم أتبع ذلك بتأكيده لذوي البصائر والهمم في سياق دال على رفع الحرج فقال: {والله} أي الذي له الجلال والإكرام {غفور} أي لمن لم يصبر، والمغفرة تشير إلى نوع تقصير {رحيم} أي فاعل به فعل الراحم منكم بالإذن في قضاء وطره واللطف فيما يتبع ذلك من المحذور.