فصل: تفسير الآيات (44- 46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (44- 46):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)}
ولما أفهم ختام هذه الآية أن التشديد في الأحكام يكون سبباً للإجرام، فيكون سبباً في الانتقام؛ قرر ذلك بحال اليهود الذين أوجبت لهم الآصار عذاب النار فقال- ليكون ذلك مرغباً في تقبل ما مر من التكاليف ليسره ولرجاء الثواب، مرهباً من تركها خوفاً من العقاب، وليصير الكلام حلواً رائقاً بهجاً بتفصيل نظمه تارة بأحكام، وتارة بأقاصيص عظام، فينشط الخاطر وتقوى القريحة-: {ألم تر} أو يقال: إنه لما حذر سبحانه وتعالى فيما مضى من أهل الكتاب بقوله سبحانه وتعالى {ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً} [النساء: 27] ومر إلى أن أنزل هذه فيمن حرف في الصلاة لسانه فقط لا عن عمد الكلم عن واضعه؛ أتبعها التصريح بالتعجيب من حال المحرفين بالقلب واللسان عمداً وعدواناً اجتراء على الله سبحانه وتعالى، الملوح إليهم بالآية السابقة أنهم يريدون لنا الضلال عما هدينا إليه من سننهم فقال: {ألم تر}.
ولما كانوا بمحل البعد- بما لهم من اللعن- عن حضرته الشريفة، عبر بأداة الانتهاء، بصرية كانت الرؤية أو قلبية، فقال: {إلى الذين أوتوا} وحقر أمرهم بالبناء للمفعول وبقوله: {نصيباً من الكتاب} أي كشاس بن قيس الذي أراد الخلف بين الأنصار، وفي ذلك أن أقل شيء من الكتاب يكفي في ذم الضلال، لأنه كاف في الهداية {يشترون} أي يتكلفون ويلحون- بما هم فيه من رئاسة الدنيا من المال والجاه- أن يأخذوا {الضلالة} معرضين عن الهدى غير ذاكريه بوجه، وسبب كثير من ذلك ما في دينهم من الآصال والأثقال، كما أشار إليه قوله سبحانه وتعالى {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة} [مريم: 59] أي بسبب ما شدد عليهم فيها بأنها لا تفعل إلا في الموضع المبني لها، وبغير ذلك من أنواع الشدة، وكذا غيرها المشار إليه بقوله سبحانه وتعالى {فبما نقضهم ميثاقهم} [النساء: 155] وغير ذلك، ومن أعظمه ما يخفون من صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ليتقربوا بذلك إلى أهل دينهم، ويأخذوا منهم الرشى على ذلك، ويجعلوهم عليهم رؤساء.
ولما ذكر ضلالهم المتضمن لإضلالهم، أتبعه ما يدل على إعراقهم فيه، فقال مخاطباً لمن يمكن توجيه هممهم بإضلال إليه: {ويريدون أن تضلوا} أي يا أيها الذين آمنوا {السبيل} حتى تساووهم، فلذلك يذكرونكم بالأحقاد والأضغان والأنكاد- كما فعل شاس- لا محبة فيكم، ويلقون إليكم الشبهة، فالله سبحانه وتعالى أعلم بهم حيث حذركم منه بقوله: {لا يألونكم خبالاً} [آل عمران: 118] وما بعده إلى هنا {والله} أي المحيط علمه وقدرته {أعلم} أي من كل أحد {بأعدائكم} أي كلهم هؤلاء وغيرهم، بما يعلم من البواطن، فمن حذركم منه كائناً من كان فاحذره.
ولما كان كل من قبيلتي الأنصار قد والوا ناساً من اليهود ليعتزوا بهم وليستنصروهم، قال تعالى فاطماً لهم عن موالاتهم: {وكفى} أي والحال أنه كفى به هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر الاسم الأعظم لتستحضر عظمته، فيستهان أمر الأعداء فقال: {بالله ولياً} أي قريباً بعمل جميع ما يفعله القريب الشفيق.
ولما كان الولي قد تكون فيه قوة النصرة، والنصير قد لا يكون له شفقة الولي، وكانت النصرة أعظم ما يحتاج إلى الولي فيه؛ أفردها بالذكر إعلاماً باجتماع الوصفين مكرراً الفعل والاسم الأعظم اهتماماً بأمرها فقال: {وكفى بالله} أي الذي له العظمة كلها {نصيراً} أي لمن والاه فلا يضره عداوة أحد، فثقوا بولايته ونصرته دونهم، ولا تبالوا بأحد منهم ولا من غيرهم، فهو يكفيكم الجميع.
ولما وفرت هذه الآيات الدواعي على تعيين هؤلاء الذين يريدون الإضلال، قال بعد الاعتراض بما بين المبين والمبين من الجمل لمزيد الاهتمام به: {من الذين هادوا} ثم بين ما يضلون به ويضلون بقوله- ويجوز أن يكون استئنافاً بمعنى: بعضهم، أو منهم من-: {يحرفون الكلم} أي الذي أتى به شرعهم من صفة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم وصفه دينه وأمته وغير ذلك مما يريدون تحريفه لغرض، فيتألفون في إمالته وتغييره عن حده وطرفه إلى حد آخر مجاوزين به {عن} ولما كانت الكلمة إذا غيرت تبعها الكلام وهو المقصود بالذات، نبه على ذلك بتذكير الضمير فقال: {مواضعه} أي التي هي به أليق، فيتم ضلالهم وإضلالهم، وهو يشمل ما إذا كان المعنى المغير إليه بعيداً عن المغير أو قريباً، فالذي في المائدة أخص.
ولما كان سبحانه وتعالى عالماً بجميع تحريفهم، أشار إليه بالعطف على ما تقديره: فيقولون كذا ويقولون كذا: {ويقولون سمعنا} أي ما تقول {وعصينا} موهمين أنهم يريدون أن ذلك حكاية ما وقع لأسلافهم قديماً، وإنما يريدون أنهم هم سمعوا ما تقول وخالفوه عمداً ليظن من سمع ذلك أنهم على بصيرة في المخالفة بسبب ما عندهم من العلم الرباني ليورثه ذلك شكاً في أمره وحيرة في شأنه {واسمع} حال كونك {غير مسمع} موهمين عدم إسماعه ما يكره من قولهم: فلان أسمع فلاناً الكلام، وإنما يريدون الدعاء، كما يقال: اسمع لا سمعت! {وراعنا} موهمين إرادة المراعاة والإقبال عليهم، وإنما يريدون الشتم بالرعونة؛ وقال الأصفهاني: ويحتمل شبه كلمة عبرانية كانوا يتسابون بها وهي: راعينا، فكانوا- سخرية بالدين وهزءاً برسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمونه بكلام محتمل، ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون التوقير والإكرام، ولذلك قال: {ليّاً بألسنتهم} أي صرفاً لها عن مخارج الحروف التي تحق لها في العربية إلى ما يفعله العبرانيون من تغليظ بعض الحروف وشوب بعضها بغيره، لإرادة معانٍ عندهم قبيحة مع احتمالها لإرادة معانٍ غير تلك يقصدها العرب مليحة {وطعناً في الدين} أي بما يفسرونه به لمن يطمعون فيه من تلك المعاني الخبيثة.
ولما ذكر هذه الكلمات الموجهة، بين ما كان عليهم لو وقفوا فقال قاطعاً جدالهم: {ولو أنهم قالوا} أي في الجواب له صلى الله عليه وسلم {سمعنا وأطعنا} أي بدل الكلمة الأولى {واسمع وانظرنا} بدل ما بعدها {لكان} أي هذا القول {خيراً لهم} أي من ذلك، لعدم استيجابهم الإثم {وأقوم} أي لعدم الاحتمال الذم {ولكن لعنهم الله} أي طردهم الذي له جميع صفات العظمة والكمال، وأبعدهم عن الخير {بكفرهم} أي بدناءتهم بما يغطون من أنوار الحق ودلائل الخير، فلم يقولوا ذلك.
ولما سبب عن طردهم استمرار كفرهم قال: {فلا يؤمنون} أي يتجدد لهم إيمان {إلا قليلاً} أي منهم؛ استثناء من الواو، فإنهم يؤمنون، أو هو استثناء مفرغ من مصدر يؤمن أي من إيمانهم ببعض الآيات الذي لا ينفعها لكفرهم بغيره.

.تفسير الآيات (47- 48):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)}
ولما بكتهم على فعلهم وقولهم وصرح بلعنهم، خوَّفهم إظهار ذلك في الصور المحسوسة فقال مقبلاً عليهم إقبال الغضب: {يا أيها الذين} منادياً لهم من محل البعد {أوتوا الكتاب} ولم يسند الإيتاء إليه تحقيراً لهم، ولم يكتف بنصيب منه لأنه لا يكفي في العلم بالمصادقة إلا الجميع {آمنوا بما نزلنا} أي تدريجاً كما نزلنا التوراة كذلك، على ما لنا من العظمة التي ظهرت في إعجازه وإخباره بالمغيبات ودقائق العلوم مما عندكم وغيره على رشاقته وإيجازه؛ وأعلم بعنادهم وحسدهم بقوله: {مصدقاً لما معكم} من حيث أنهم له مستحضرون، وبه في حد ذاته مُقِرّون.
ولما أمرهم وقطع حجتهم، حذرهم فقال- مخففاً عنهم بالإشارة بحرف الجر إلى أنه متى وقع منهم إيمان في زمن مما قبل الطمس أخره عنهم-: {من قبل أن نطمس} أي نمحو {وجوهاً} فإن الطمس في اللغة: المحو؛ وهو يصدق بتغيير بعض الكيفيات، ثم سبب عن ذلك قوله: {فنردها} فالتقدير: من قبل أن نمحو أثر وجوه بأن نردها {على أدبارها} أي بأن نجعل ما إلى جهة القبل من الرأس إلى جهة الدبر، وما إلى الدبر النقل من حال إلى ما دونها من ضدها بجعلها على حال القفا، ليس فيها معلم من فم ولا غيره، ليكون المعنى بالطمس مسح ما في الوجه من المعاني؛ قال ابن هشام: نطمس: نمسحها فنسويها، فلا يرى فيها عين ولا أنف ولا فم ولا شيء مما يرى في الوجه، وكذلك {فطمسنا أعينهم} [القمر: 37] المطموس العين: الذي ليس بين جفنيه شق، ويقال: طمست الكتاب والأثر فلا يرى منه شيء. ويكون الوجه في هذا التقدير على حقيقته؛ ثم خوفهم نوعاً آخر من الطمس فقال عاطفاً على {نردها}: {أو نلعنهم} أي نبعدهم جداً عن صورة البشر أن نقلب وجوههم أو جميع ذواتهم على صورة القردة {كما لعنا أصحاب السبت} إذ قلنا لهم {كونوا قردة خاسئين} [البقرة: 65] ويكون الوجه في هذا التقدير الأخير عبارة عن الجملة، فهو إذن مما استعمل في حقيقته ومجازه، ويجوز أن يكون واحد الوجهاء، فيكون عود الضمير إليه استخداماً، ويكون المراد بالرد على الأدبار جعلهم أدنياء صغرة من الأسافل- والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولما كان ذلك أمراً غريباً ومقدوراً عجيباً، وكان التقدير: فقد كان أمر الله فيهم بذلك- كما علمتم- نافذاً؛ أتبعه الإعلام بأن قدرته شاملة، وأن وجوه مقدوراته لا تنحصر فقال عاطفاً على ما قدرته: {وكان أمر الله} أي حكمه وقضاؤه ومراده في كل شيء شاء منهم ومن غيره بذلك وبغيره، لأن له العظمة التي لا حد لها والكبرياء التي تعيي الأوصاف دونها {مفعولاً} أي كائناً حتماً، لا تخلف له أصلاً، فلابد من وقوع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا، وقد آمن بعضهم فلم يصح أنهم لم يؤمنوا، لأنه قد وقع منهم إيمان.
ولما كانوا مع ارتكابهم العظائم يقولون: سيغفر لنا، وكان امتثالهم لتحريف أحبارهم ورهبانهم شركاً بالله- كما قال سبحانه وتعالى {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} [التوبة: 31] قال- معللاً لتحقيق وعيدهم، معلماً أن ما أشير إليه من تحريفهم أداهم إلى الشرك-: {إن الله} أي الجامع لصفات العظمة {لا يغفر أن يشرك به} أي على سبيل التجديد المستمر إلى الموت سواء كان المشرك من أهل الكتاب أم لا، وزاد ذلك حسناً انه في سياق {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً} [النساء: 36].
ولما أخبر بعدله أخبر بفضله فقال: {ويغفر ما دون ذلك} الأمر الكبير العظيم من كل معصيته سواء كانت صغيرة أو كبيرة، سواء تاب فاعلها أو لا، ورهب بقوله- إعلاماً بأنه مختار، لا يجب عليه شيء-: {لمن يشاء}.
ولما كان التقدير: فإن من أشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً، عطف عليه قوله: {ومن يشرك} أي يوجد منه شرك في الحال أو المآل، وأما الماضي فجبته التوبة {بالله} أي الذي كل شيء دونه {فقد افترى} أي تعمد كذباً {إثماً عظيماً} أي ظاهراً في نفسه من جهة عظمه أنه قد ملأ أقطار نفسه وقلبه وروحه وبدنه مظهراً للغير أنه إثم، فهو في نفسه منادٍ بأنه باطل مصر، فلم يدع للصلح موضعاً، فلم تقتض الحكمة العفو عنه، لأنه قادح في الملك، وإنما طوى مقدمة الضلال وذكر مقدمة الافتراء- لكون السياق لأهل الكتاب الذين ضلالهم على علم منهم وتعمد وعناد، بخلاف ما يأتي عن العرب، وفي التعبير بالمضارع استكفاف مع استعطاف واستجلاب في استرهاب.

.تفسير الآيات (49- 55):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)}
ولما كان في ذلك إشارة إلى أن المرادين بهذه الآيات من أهل الكتاب أضل الناس، وكانوا يقولون: إنهم أهدى الناس؛ عجب منهم منكراً عليهم بعد افترائهم تزكية أنفسهم فقال: {ألم تر} وأبعدهم بقوله: {إلى الذين يزكون أنفسهم} أي بما ليس لهم من قولهم {لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} [البقرة: 80] وقولهم {لن يدخل الجنة لا من كان هوداً أو نصارى} [البقرة: 111] وقوله: {ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا} [آل عمران: 188] {ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً} [النساء: 27] فإن إبعاد غيرهم في الميل مصحح لتزكيتهم أنفسهم بالباطل ونحو ذلك مما تقدم وغيره.
ولما كان معنى الإنكار: ليس لهم ذلك لأنهم كذبوا فيه وظلموا، أشار إليه بقوله: {بل الله} أي الذي له صفات الكمال {يزكي من يشاء} أي بما له من العلم التام والقدرة الشاملة والحكمة البالغة والعدل السوي بالثناء عليه وبخلق معاني الخير الظاهرة فيه لتنشأ عنها الأعمال الصالحة، فإذا زكي أحداً من أصفيائه بشيء كالنبوة، كان له أن يزكي نفسه بذلك حملاً على ما ينفع الناس به عن الله {ولا} أي والحال أن الذين يزكيهم أو يدسيهم لا {يظلمون فتيلاً} أي مقدار ما في شق النواة من ذلك الشيء المفتول، أي قليلاً ولا كثيراً، لأنه عالم بما يستحقون وهو الحكم العدل الغني عن الظلم، لأن له صفات الكمال.
ولما أخبر تعالى أن التزكية إنما هي إليه بما له من العظمة والعلم الشامل، وكان ذلك أمراً لا نزاع فيه، وشهد عليهم بالضلال، وثبت أن ذلك كلامه بما له من الإعجاز في حالتي الإطناب والإيجاز؛ ثبت كذبهم فزاد في توبيخهم فقال- معجباً لرسوله صلى الله عليه وسلم من وقاحتهم واجترائهم على من يعلم كذبهم، ويقدر على معالجتهم بالعذاب، مبيناً أنه صلى الله عليه وسلم في الحضرة بعد بيان بعدهم-: {انظر كيف يفترون} أي يتعمدون {على الله} أي الذي لا يخفي عليه شيء ولا يعجزه شيء {الكذب} أي من غير خوف منهم لذلك عاقبة {وكفى} أي والحال أنه كفي {به} أي بهذا الكذب {إثماً مبيناً} أي واضحاً في نفسه ومنادياً عليها بالبطلان.
ولما عجب من كذبهم دلَّ عليه بقوله: {ألم تر} وكان الأصل: إليهم، ولكنه قال- لزيادة التقريع والتوبيخ والإعلام بأن كفرهم عناد لكونه عن علم-: {إلى الذين} وعبر بإلى دلالة على بعدهم عن الحضرات الشريفة {أوتوا نصيباً من الكتاب} أي الذي هو الكتاب في الحقيقة لكونه من الله {يؤمنون بالجبت} وهو الصنم والكاهن والساحر والذي لا خير فيه وكل ما عبد من دون الله {والطاغوت} وهو اللات والعزى والكاهن والشيطان وكل رأس ضلال والأصنام وكل ما عبد من دون الله؛ وكل هذه المعاني تصح إرادتها هنا، وهي مما نهي عنه في كتابهم- وأصله ومداره مجاوزة الحد عدواناً، وهو واحد وقد يكون جمعاً، قال سبحانه وتعالى: {أوليائهم الطاغوت يخرجونهم} [البقرة: 257] والحال أن أقل نصيب من الكتاب كافٍ في النهي عن ذلك وتكفير فاعله.
ولما دل على ضلالهم دل على إضلالهم بقوله- معبراً بصيغة المضارع دلالة على عدم توبتهم-: {ويقولون للذين كفروا} ودل بالتعبير بالإشارة دون الخطاب على أنهم يقولون ذلك فيهم حتى في غيبتهم، حيث لا حامل لهم على القول إلا محض الكفر فقال: {هؤلاء} أي الكفرة العابدون للأصنام {أهدى} أي أقوم في الهداية {من الذين آمنوا} أي أوقعوا هذه الحقيقة، فيفهم ذمهم بالتفضيل على الذين يؤمنون ومن فوقهم من باب الأولى {سبيلاً} مع أن في كتابهم من إبطال الشرك وهدمه وعيب مدانيه وذمه في غير موضع تأكيداً أكيداً وأمراً عظيماً شديداً.
ولما أنتج ذلك خزيهم قال: {أولئك} أي البعداء عن الحضرات الربانية {الذين لعنهم الله} أي طردهم بجميع ما له من صفات الكمال طرداً هم جديرون بأن يختصوا به. ولما كان قصدهم بهذا القول مناصرة المشركين لهم وكان التقدير: فنالوا بذلك اللعن الذل والصغار، عطف عليه قوله: {ومن يلعن الله} أي الملك الذي له الأمر كله منهم ومن غيرهم {فلن تجد له نصيراً} أي في وقت من الأوقات أصلاً، وكرر التعبير بالاسم الأعظم لأن المقام يقتضيه إشعاراً لتناهي الكفر الذي هو أعظم المعاصي بتناهي الغضب.
ولما كان التقدير: كذلك كان من إلزامهم الذل والصغار، عطف عليه قوله: {أم} أي ليس {لهم نصيب} أي واحد من الأنصباء {من الملك فإذاً} أي فيتسبب عن ذلك أنهم إذا كان لهم أدنى نصيب منه {لا يؤتون الناس} أي الذين آمنوا {نقيراً} أي شيئاً من الدنيا ولا الآخرة من هدى ولا من غيره، والنقير: النقرة في ظهر النواة، قيل: غاية في القلة؛ فهو كناية عن العدم، فهو بيان لأنهم لإفراط بخلهم لا يصلحون إلا لما هم فيه من الذل فكيف بدرجة الملك لأن الملك والبخل لا يجتمعان {أم} أي ليس لهم نصيب ما من الملك، بل ذلهم لازم وصغارهم أبداً كائن دائم، فهم {يحسدون الناس} أي محمداً صلى الله عليه وسلم الذي جمع فضائل الناس كلهم من الأولين والآخرين وزاد عليهم ما شاء الله، أو العرب الذي لا ناس الآن غيرهم، لأنَّا فضلناهم على العالمين- بأن يتمنوا دوام ذلهم كما دام لهم هم، ودل على نهاية حسدهم بأداة الاستعلاء في قوله: {على ما آتاهم الله} أي بما له من صفات الكمال {من فضله} حسدوهم لما رأوا من إقبال جدهم وظهور سعدهم وأنهم سادة الناس وقادة أهل الندى والبأس:
إن العرانين تلقاها محسدة ** ولن ترى للئام الناس حساداً

وقد آتاهم الله سبحانه وتعالى جميع أنواع الملك، فإنه على ثلاثة أقسام: ملك على الظواهر والبواطن معاً، وهو للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما لهم من غاية الجود والكرم والرحمة والشفقة والشفاعة والبر واللطف التي كل منها سبب للانقياد، وذلك مع ما لهم بالله سبحانه وتعالى من تمام الوصلة؛ وملك على الظواهر فقط، وهو ملك الملوك؛ وملك على البواطن فقط، وهو ملك العلماء.
ولما ذمهم سبحانه وتعالى أولاً بالجهل ومدح النفس تشبعاً بما لم يعطوا، وذلك سبب لجميع النقائص، وثانياً بأعظم منه: منع الحق من أهله بخلاً، وثالثاً بأعظم منهما: تمنى ألا يصل إلى أحد نعمة وإن كانت لا تنقصهم، فحازوا بذلك أعلى خلال الذم، وكانت المساوي تضع والمحاسن ترفع، تسبب عن هذا توقع السامع لإعلاء العرب وإدامة ذل اليهود وموتهم بحسدهم فقال: {فقد} أي فتسبب عن هذا وتعقبه أنَّا آتيناهم- هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر للتنبيه على التوصيف الذي شاركوهم به في استحقاق الفضائل فقال: {آتينا} أي بما لنا من العظمة {آل إبراهيم} أي الذي أعلمناكم في كتابكم أنا أقسمنا له أنَّا نعز ذريته ونهديهم ونجعل ابنة إسماعيل حالاً على جميع حدود إخوته، ويده في جميع الناس ويده على كل أحد ويد كل به {الكتاب} أي الذي لا كتاب إلا هو لما له من الحفظ والفضل بالإعجاز والفصل {والحكمة} أي النبوة التي ثمرتها العمل المتقن بالعلم المحرر المحكم {وآتيناهم} مع ذلك {ملكاً عظيماً} أي ضخماً واسعاً باقياً إلى أن تقوم الساعة {فمنهم} أي من آل إبراهيم {من آمن به} وهم أغلب العرب {ومنهم من صد عنه} أي أعرض بنفسه، وصد غيره كبني إسرائيل وبعض العرب.
ولما كان قد علم من السياق أن الطاعن فيه ميت بحسده من غير أن يضره بأمر دنيوي، وكان التقدير لبيان أمرهم في الآخرة: فحكمنا أن تسعر بهم النار بعد الذل في هذه الدار والهوان والصغار، عطف عليه قوله: {وكفى بجهنم سعيراً} أي توقداً والتهاباً في غاية الإحراق والعسر والإسراع إلى الأذى، وفي آية الطاغوت أنهم سمحوا ببدل الدين- وهو لا أعز منه عند الإنسان- في شهادتهم للكفرة بالهداية، وفي آية الملك الإيماء إلى أنهم في الحضيض من الشح بالخسيس الفاني، وفي آية الحسد أنه لم يكفهم التوطن في حضيض الشح بما أوتوا مع الغنى حتى سفلوا عنه إلى أدنى من ذلك بالحسد لمن آتاه الله ما لا ينقصهم.