فصل: تفسير الآيات (85- 88):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (85- 88):

{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)}
ولما كان ذلك موجباً للرغبة في طاعة النبي صلى الله عليه وسم لاسيما في الجهاد، وللرغبة فيمن كان بصفة المؤمنين من الإقبال على الطاعة، والإعراض عن كل من كان بصفة المنافقين، والإدامة لطردهم وإبعادهم والغلظة عليهم والحذر من مجالستهم حتى يتبين إخلاصهم، وكان بين كثير من خلص الصحابة رضي الله تعالى عنهم وبينهم قرابات توجب العطف المقتضي للشفقة عليهم، الحاملة للشفاعة فيهم، إما بالإذن في التخلف عن الجهاد لما يزخرفون القول من الأعذار الكاذبة، أو في العفو عنهم عند العثور على نقائصهم، أو في إعانتهم أو إعانة غيرهم بالمال والنفس في أمر الجهاد عند ادعاء أن المانع له عنه العجز- وفي غير ذلك، وكانت التوبة معروضة لهم ولغيرهم، وكان البر ما سكن إليه القلب، والإثم ما حاك في الصدر، والإنسان على نفسه بصيرة، وكانت البواطن لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، وكان الإنسان ربما أظهر شراً في صورة خير؛ رغب سبحانه وتعالى في البر، وحذر من الإثم بقوله- معمماً مستأنفاً في جواب من كأنه قال: أما تقبل فيهم شفاعة-: {من يشفع} أي يوجد ويجدد، كائناً من كان، في أي وقت كان {شفاعة حسنة} أي يقيم بها عذر المسلم في كل ما يجوز في الدين ليوصل إليه خيراً، أو يدفع عنه ضيراً {يكن له نصيب منها} بأجر تسببه في الخير {ومن يشفع} كائناً من كان، في أي زمان كان {شفاعة سيئة} أي بالذب عن مجرم في أمر لا يجوز، والتسبب في إعلائه وجبر دائه؛ وعظّم الشفاعة السيئة لأن درء المفاسد أولى من جلب المصلح، فقال- معبراً بما يفهم النصيب ويفهم أكثر مه تغليظاً في الزجر-: {يكن له كفل منها} وهذا بيان لأن الشفاعة فيهم سيئة إن تحقق إجرامهم، حسنة إن علمت توبتهم وإسلامهم.
ولما كان كل من تحريض المؤمنين على الجهاد والشفاعة الحسنة من وادي «من سنَّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» حَسُنَ اقترانهما جداً، والنصيب قدر متميز من الشيء يخص من هو له، وكذا الكفل إلا أن الاستعمال يدل على أنه أعظم من النصيب، ويؤيده ما قالوا من أنه قد يراد به الضعف، فكأنه نصيب متكفل بما هو له من إسعاد وإبعاد؛ قال أهل اللغة: النصيب: الحظ، والكفر- بالكسر: الضعف والنصيب والحظ، ومادة نصب يدور على العلم المنصوب، ويلزمه الرفع والوضع والتمييز والأصل والمرجع والتعب، فيلزمه الوجع، ومن لوازمه أيضاً الحد والغاية والجد الوقوف؛ ومادة كفل تدور على الكفل- بالتحريك وهو العجز أو ردفه، ويلزمه الصحابة واللين والرفق والتأخر؛ وقال الإمام: الكفل هو النصيب الذي عليه يعتمد الإنسان في تحصيل المصالح لنفسه ودفع المفاسد عن نفسه، والمقصود هنا حصول ضد ذلك كقوله: {فبشرهم بعذاب أليم} [آل عمران: 21 والتوبة: 34 والانشقاق: 24] والغرض منه التنبيه على أن الشفاعة المؤدية إلى سيقوط الحق وقوة الباطل تكون عظيمة العقاب عند الله سبحانه وتعالى- انتهى. وما غلظ هذا الزجر إلا للعلم بأن أكثر النفوس ميالة بأصحابها للشفاعة بالباطل.
ولما كان الأليق بالرغبة أن لا يقطع في موجبها وإن عظم بالحقية، ليكون ذلك زاجراً عن مقارفة شيء منها وإن صغر؛ عبر في الحسنة بالنصيب، وفي السيئة بالكفل؛ ويؤيد إرادة هذا أنه تعالى لما ذكر ما يوجب الجنة من الإيمان والتقوى، وكان في سياق الوعظ لأهل الكتاب الذين هم على شرع أصله حق بتشريع رسول من عند الله، فتركهم لذلك بعيد يحتاج إلى زيادة ترغيب؛ عبر بالكفل فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته} [الحديد: 28] إلى آخرها.
ولما كان النصيب مبهماً بالنسبة إلى علمنا لتفاوته بالنسبة إلى قصور الشافعين، وإقدامهم على الشفاعة على علم أو جهل وغير ذلك مما لا يمكن الإحاطة به إلا الله سبحانه وتعالى علماً وقدرة؛ قال تعالى مرغباً ومرهباً: {وكان الله} أي ذو الجلال والإكرام {على كل شيء} من الشافعين وغيرهم وجزاء الشفاعة {مقيتاً} أي حفيظاً وشهيداً وقديراً على إعطاء ما يقوت من أخلاق النفوس وأحوال القلوب وأرزاق الأبدان وجميع ما به القوام جزاء وابتداء من جميع الجهات، وعلى تقدير ما يستحق كل أحد من الجزاء على الشفاعة وكل خير وشر.
ولما كان ذلك موجباً للإعراض عنهم رأساً ومنابذتهم قولاً وفعلاً، وبين سبحانه وتعالى أن التحية ليست من وادي الشفاعة، وأن الشفاعة تابعة للعمل، والتحية تابعة للظاهر، فقال سبحانه وتعالى عاطفاً على ما تقديره: فلا تشفعوا فيهم وأنتم تعلمون سوء مقاصدهم، فقال معبراً بأداة التحقق بشارة لهم بأنهم يصيرون- بعد ما هم فيه الآن من النكد- ملوكاً، وفي حكم الملوك، يحبون ويشفع عندهم، وحثاً على التواضع: {وإذا حييتم بتحية} أي أي تحية كانت إذا كانت مشروعة، وأصل التحية الملك، واشتقاقها من الحياة، فكأن حياة الملك هي الحياة وما عداها عدم ثم أطلقت على كل دعاء يبدأ به عند اللقاء؛ وقال الأصبهاني: لفظ التحية صار كناية عن الإكرام، فجميع أنواع الإكرام تدخل تحت لفظ التحية {فحيوا بأحسن منها} كأن تزيدوا عليها {أو ردوها} أي من غير زيادة ولا نقص، وذلك دال على وجوب رد السلام- من الأمر، وعلى الفور- من الفاء والإجماع موافق لذلك، وترك الجواب إهانة، والإهانة ضرر، والضرر حرام؛ قال الأصبهاني: والمبتدئ يقول: السلام عليكم، والمجيب يقول: وعليكم السلام، ليكون الافتتاح والاختتام بذكر الله سبحانه وتعالى.
وما أحسن جعلها تالية لآية الجهاد إشارة إلى أن من بذل السلام وجب الكف عنه ولو كان في الحرب، على أن من مقتضيات هاتين الآيتين أن مبني هذه السورة على الندب إلى الإحسان والتعاطف والتواصل، وسبب ذلك إما المال وقد تقدم الأمر به في قوله تعالى: {وإذا حضر القسمة} [النساء: 8]، وإما غيره ومن أعظمه القول، لأنه ترجمان القلب الذي به العطف، ومن أعظم ذلك الشفاعة والتحية، قال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه مسلم والأربعة عن أبي هريرة رضي الله عنه «والذي نفسي بيده! لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم» فناسب ذكر هاتين الآيتين بعد ذكر آية الجهاد المختتمة بالبأس والتنكيل.
ولما كانت الشفاعة أعظمها في الإحسان قدمت ولاسيما وموجبها الإعراض، ومقصد السورة التواصل، فشأنها أهم والنظر إليها آكد، ثم رغب في الإحسان في الرد، ورهب من تركه بقوله معللاً: {إن الله} أي الذي له الإحاطة علماً وقدرة {كان} أي أزلاً وأبداً {على كل شيء حسيباً} أي محصياً لجميع المتعددات دقيقها وجليلها، كافياً لها في أقواتها ومثوباتها، محاسباً بها، مجازياً عليها، وذلك كله شأن المقيت؛ ثم علل ذلك بقوله دالاً على تلازم التوحيد والعدل: {الله} أي الذي لا مثل له {لا إله إلا هو} أي وقد أمركم بالعدل في الشفاعة والسلام، فإن لم تفعلوه- لما لكم من النقائص التي منها عدم الوحدانية- فهو فاعله ولابد فاحذروه لأنه واحد فلا معارض له في شيء من الحساب ولا غيره، ولا يخفى عليه شيء فالحكم على البواطن إنما هو له تعالى، وأما أنتم فلم تكلفوا إلا بالظاهر.
ولما تبين أنه لا معارض له أنتج قوله مبيناَ لوقت الحساب الأعظم: {ليجمعنكم} وأكده باللام والنون دلالة على تقدير القسم لإنكار المنكرين له، ولما كان التدريج بالإماتة شيئاً فشيئاً، عبر بحرف الغاية فقال: {إلى يوم القيامة} والهاء للمبالغة، ثم آكده بقوله: {لا ريب فيه} أي فيفصل بينكم وبين من أخبركم بهم من المنافقين ونقد أحوالهم وبين محالهم، فيجازي كلاً بما يستحق.
ولما كان التقدير: فمن أعظم من الله قدرة! عطف عليه قوله: {ومن أصدق من الله} أي الذي له الكمال كله فلا شوب نقص يلحقه {حديثاً} وهو قد وعد بذلك لأنه عين الحكمة، وأقسم عليه، فلابد من وقوعه، وإذ قد تحرر بما مضى أن المنافقين كفرة، لا لبس في أمرهم، وكشف سبحانه وتعالى الحكم في باطن أمرهم بالشفاعة وظاهره بالتحية، وحذر من خالف ذلك بما أوجبته على نفسه حكمته من الجمع ليوم الفصل للحكم بالعدل، وختم بأن الخبر عنهم وعن جميع ذلك صدق؛ كان ذلك سبباً لجزم القول بشقاوتهم والإعراض عنهم والبعد عن الشفاعة فيهم، والإجماع على ذلك من كل مؤمن وإن كان مبنى السورة على التواصل، لأن ذلك إنما هو حيث لا يؤدي إلى مقاطعة أمر الله، فقال تعالى مبكتاً لمن توقف عن الجزم بإبعادهم: {فما لكم} أيها المؤمنون {في المنافقين} أي أيّ شيء لكم من أمور الدنيا أو الآخرة في افتراقكم فيهم {فئتين} بعضكم يشتد عليهم وبعضكم يرفق بهم.
ولما كان هذا ظاهراً في بروز الأمر المطاع بين القول بكفرهم وضحه بقوله؛ {والله} أي والحال أن الملك الذي لا أمر لأحد معه {أركسهم} أي ردهم منكوسين مقلوبين {بما كسبوا} أي بعد إقرارهم بالإيمان من مثل هذه العظائم، فاحذروا ذلك ولا تختلفوا في أمرهم بعد هذا البيان؛ وفي عزوة أحد والتفسير من البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد رجع ناس ممن خرج معه، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرقتين: فرقة تقول: نقاتلهم، وفرقة تقول: لا نقاتلهم، فنزلت: {فما لكم في المنافقين} الآية، وقال: «إنها طيبة تنفي الذنوب وفي رواية: كما تنفي النار خبث الفضة» انتهى. فالمعنى حينئذ: اتفقوا على أن تسيروا فيها بما ينزل عليكم في هذه الآيات.
ولما كان حال من يرفق بهم حال من يريد هدايتهم، أنكر سبحانه وتعالى ذلك عليهم صريحاً لبت الأمر في كفرهم فقال {أتريدون} أي أيها المؤمنون {أن تهدوا} أي توجدوا الهداية في قلب {من أضل الله} أي وهو الملك الأعظم الذي لا يرد له أمر، وهو معنى قوله: {ومن} أي والحال أنه من {يضلل الله} أي بمجامع أسمائه وصفاته {فلن تجد} أي أصلاً أيها المخاطب كائناً من كان {له سبيلاً} أي إلى ما أضله عنه أصلاً، والمعنى: إن كان رفقكم بهم رجاء هدايتهم فذلك أمر ليس إلا الله، وإنما عليكم أنتم الدعاء، فمن أجاب صار أهلاً للمواصلة، ومن أبى صارت مقاطعته ديناً، وقتله قربة، والإغلاظ واجباً.

.تفسير الآيات (89- 92):

{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)}
ولما أخبر بضلالهم وثباتهم عليه، أعلم بأعراقهم فيه فقال: {ودّوا} أي أحبوا وتمنوا تمنياً واسعاً {لو تكفرون} أي توجدون الكفر وتجددونه وتستمرون عليه دائماً {كما كفروا} ولما لم يكن بين ودهم لكفرهم وكونهم مساوين لهم تلازم، عطف على الفعل المودود- ولم يسبب- قوله: {فتكونون} أي وودوا أن يتسبب عن ذلك ويتعقبه أن تكونوا أنتم وهم {سواء} أي في الضلال، أي توجدون الكفر وتجددونه وتستمرون عليه دائماً، فأنتم ترجون في زمان الرفق بهم هدايتهم وهم يودون فيه كفركم وضلالكم، فقد تباعدتم في المذاهب وتباينتم في المقاصد.
ولما أخبر بهذه الودادة، سبب عنه أمرهم بالبراءة منهم حتى يصلحوا، بياناً لأن قولهم في الإيمان لا يقبل ما لم يصدقوه بفعل فقال: {فلا تتخذوا} أي أيها المؤمنون {منهم أولياء} أي أقرباء منكم {حتى يهاجروا} أي يوقعوا المهاجرة {في سبيل الله} أي يهجروا من خالفهم في ذات من لا شبه له، ويتسببوا في هجرانه لهم إن كانوا في دار الحرب فبتركها، وإن كانوا عندكم فبترك موادة الكفرة والموافقة لهم في أقوالهم وأفعالهم وإن كانوا أقرب أقربائهم، وهجرتهم في جميع ذلك بمواصلتكم في جميع أقوالكم وأفعالكم، والهجرة العامة هي ترك ما نهى الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه.
ولما نهى عن موالاتهم وغيّي النهي بالهجرة، سبب عنه قوله: {فإن تولوا} أي عن الهجرة المذكورة {فخذوهم} أي اقهروهم بالأسر وغيره {واقتلوهم حيث وجدتموهم} أي في حل أو حرم. ولما كانوا في هذه الحالة لا يوالون المؤمنين إلا تكلفاً قال: {ولا تتخذوا} أي تتكلفوا أن تأخذوا {منهم ولياً} أي من تفعلون معه فعل المقارب المصافي {ولا نصيراً} على أحد من أعدائكم، بل جانبوهم مجانبة كلية.
ولما كان سبحانه وتعالى قد أمر فيهم على تقدير توليهم بما أمر، استثنى منه فقال: {إلا الذين يصلون} فراراً منكم، وهم من الكفار عند الجمهور {إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق} أي عهد وثيق بأن لا تقاتلوهم ولا تقاتلوا من لجأ إليهم أو دخل فيما دخلوا فيه فكفوا حينئذ عن أخذهم وقتلهم {أو} الذين {جاءوكم} حال كونهم {حصرت} أي ضاقت وهابت وأحجمت {صدورهم أن} أي عن أن {يقاتلوكم} أي لأجل دينهم وقومهم {أو يقاتلوا قومهم} أي لأجلكم فراراً أن يكفوا عن قتالكم وقتال قومهم فلا تأخذوهم ولا تقاتلوهم، لأنهم كالمسالمين بترك القتال، ولعله عبر بالماضي في جاء إشارة إلى أن شرط مساواتهم للواصلين إلى المعاهدين عدم التكرر، فإن تكرر ذلك منهم فهم الآخرون الآتي حكمهم.
ولما كان التقدير: فلو شاء الله لجعلهم مع قومهم إلباً واحداً عليكم، عطف عليه قوله: {ولو} أي يكون المعنى: والحال أنه لو {شاء الله} أي وهو المتصف بكل كمال {لسلطهم} أي هؤلاء الواصلين والجائين على تلك الحال من الكفار {عليكم} ينوع من أنواع التسليط، تسليطاًَ جارياً على الأسباب ومقتضى العوائد، لأن بهم قوة على قتالكم {فلقاتلوكم} أي فتسبب عن هذا التسليط أنهم قاتولكم منفردين أو مع غيرهم من أعدائكم، واللام فيه جواب لو على التكرير، أو البدل من سلط.
ولما كان المغيّي على النهي عن قتالهم حينئذ، صرح به في قوله: {فإن اعتزلوكم} أي هؤلاء الذين أمرتكم بالكف عنهم من المنافقين، فكفوا عنكم {فلم يقاتلوكم} منفردين ولا مجتمعين مع غيرهم {وألقوا إليكم السلم} أي الانقياد {فما جعل الله} أي الذي لا أمر لأحد معه بجهة من الجهات {لكم عليهم سبيلاً} أي إلى شيء من أخذهم ولا قتلهم.
ولما كان كأنه قيل: هل بقي من أقسام المنافقين شيء؟ قيل: نعم! {ستجدون} أي عن قرب بوعد لا شك فيه {آخرين} أي من المنافقين {يريدون أن يأمنوكم} أي فلا يحصل لكم منهم ضرر {ويأمنوا قومهم} كذلك، لضعفهم عن كل منكم. فهم يظهرون لكم الإيمان إذا لقوكم، ولهم الكفر إذا لقوهم، وهو معنى {كلما ردوا إلى الفتنة} أي الابتلاء بالخوف عند المخالطة {أركسوا} أي قلبوا منكوسين {فيها}.
ولما كان هؤلاء أعرق في النفاق وأردى وأدنى من الذين قبلهم وأعدى، صرح بمفهوم ما صرح به في أولئك، لأنه أغلظ وهم أجدر من الأولين بالإغلاظ، وطوى ما صرح به، ثم قال: {فإن لم يعتزلوكم} ولما كان الاعتزال خضوعاً لا كبراً، صرح به في قوله: {ويلقوا إليكم السلم} أي الانقياد. ولما كان الإلقاء لابد له من قرائن يعرف بها قال: {ويكفوا أيديهم} أي عن قتالكم وأذاكم {فخذوهم} أي اقهروهم بكل نوع من أنواع القهر تقدرون عليه {واقتلوهم}.
ولما كان نفاقهم- كما تقدم- في غاية الرداءة، وأخلاقهم في نهاية الدناءة، أشار إلى الوعد بتيسير التمكين منهم فقال: {حيث ثقفتموهم} فإن معناه: صادفتموهم وأدركتموهم وأنتم ظافرون بهم، حاذقون في قتالهم، فطنون به، خفيفون فيه، فإن الثقف: الحاذق الخفيف الفطن، ولذلك أشار إليهم بأداة البعد فقال: {وأولئكم} أي البعداء عن منال الرحمة من النصر والنجاة وكل خير {جعلنا} أي بعظمتنا {لكم عليهم سلطاناً} أي تسلطاً {مبيناًَ} أي ظاهراً قوته وتسلطه. وهذه الآيات منسوخة بآية براءة، فإنها متأخرة النزول فإنها بعد تبوك.
ولما بين أقسامهم بياناً ظهر منه أن أحوالهم ملبسة، وأمر بقتالهم مع الاجتهاد في تعرف أحوالهم، وختم بالتسلط عليهم، وكان ربما قتل من لا يستحق القتل بسبب الإلباس؛ أتبع ذلك بقوله المراد به التحريم، مخرجاً له في صورة النفي المؤكد بالكون لتغليظ الزجر عنه لما للنفوس عند الحظوظ من الدواعي إلى القتل: {وما كان لمؤمن} أي يحرم عليه {أن يقتل مؤمناً} أي في حال من الحالات {إلا خطأ} أي في حالة الخطأ بأن لا يقصد القتل، أو لا يقصد الشخص، أو يقصده بما لا يقصد به زهوق الروح، أو لا يقصد ما هو ممنوع منه كمن يرمي إلى صف الكفار وفيهم مسلم، أو بأن يكون غير مكلف، فإن القتل على هذا الوجه ليس بحرام، وهذا الذي ذكره في أقسام المنافقين إشارة إلى أنه ينبغي التثبت والتحري في جميع أمر القتل متى احتمل أن يكون القاتل مؤمناً احتمالاً لا تقضي العادة بقربه، فلزم من ذلك بيان حكم الخطأ، ولام الاختصاص قد تطلق على ما لا مانع منه «فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب» وكأنه عبر به ليفيد بإيجاب الكفارة والدية غاية الزجر عن قتل المؤمن، لأنه إذا كان هذا جزاء ما هو له فما الظن بما ليس له! فقال تعالى: {ومن قتل مؤمناً} صغيراً كان أو كبيراً، ذكراً كان أو أنثى، ولعله عبَّر سبحانه وتعالى بالوصف تنبيهاً على أنه إن لم يكن كذلك في نفس الأمر لم يكن عليه شيء في نفس الأمر وإن ألزم به في الظاهر {خطأ}.
ولما كان الخطأ مرفوعاً عن هذه الأمة، فكان لذلك يظن أنه لا شيء على المخطئ؛ بين أن الأمر في القتل ليس كذلك حفظاً للنفوس، لأن الأمر فيها خطر جداً، فقال- مغلظاً عليه حثاً على زيادة النظر والتحري عند فعل ما قد يقتل-: {فتحرير} أي فالواجب عليه تحرير {رقبة} أي نفس، عبر بها عنها لأنها لا تعيش بدونها كاملة الرق {مؤمنة} ولو ببيع الدار أو البساتين، سليمة عما يخل بالعمل، وقدم التحرير هنا حثاً على رتق ما خرق من حجاب العبد، وإيجاب ذلك في الخطأ إيجاب له في العمد بطريق الأولى، وكأنه لم يذكره في العمد لأنه تخفيف في الجملة والسياق للتغليظ {ودية مسلّمة} أي مؤداة بيسر وسهولة {إلى أهله} أي ورثته يقتسمونها كما يقسم الميراث {إلا أن يصدّقوا} أي يجب ذلك عليه في كل حال إلا في حال تصدقهم بالعفو عن القاتل بإبرائه من الدية، فلا شيء عليه حينئذ، وعبر بالصدقة ترغيباً {فإن كان} أي المقتول {من قوم} أي فيهم منعة {عدو لكم} أي محاربين {وهو} أي والحال أنه {مؤمن فتحرير} أي فالواجب على القاتل تحرير {رقبة مؤمنة} وكأنه عبر بذلك إشارة إلى التحري في جودة إسلامها، وقد أسقط هذا حرمة نفسه بغير الكفارة بسكناه في دار الحرب التي هي دار الإباحة أو وقوعه في صفهم، ولعده في عدادهم قال: {من} ومعناه- كما قال الشافعي وغيره تبعاً لابن عباس رضي الله تعالى عنهما-: في {وإن كان} أي المقتول {من قوم} أي كفرة أيضاً عدو لكم {بينكم وبينهم ميثاق} وهو كافر مثلهم {فدية} أي فالواجب فيه كالواجب في المؤمن المذكور قبله دية {مسلّمة إلى أهله} على حسب دينه، إن كان كتابياً فثلث دية المسلم، وإن كان مجوسياً فثلثا عشرها {وتحرير رقبة مؤمنة} وكأنه قدم الدية هنا إشارة إلى المبادرة بها حفظاً للعهد، ولتأكيد أمر التحرير بكونه ختاماً كما كان افتتاحاً حثاً على الوفاء به، لأنه أمانة لا طالب له إلا الله؛ وقال الأصبهاني: إن سر ذلك أن إيجابه في المؤمن أولى من الدية، وبالعكس ها هنا- انتهى.
وكان سره النظر إلى خير الدين في المؤمن، وإلى حفظ العهد في الكافر {فمن لم يجد} أي الرقبة ولا ما يتوصل به إليها {فصيام} أي فالواجب عليه صيام {شهرين متتابعين} حتى لو أفطر يوماً واحداً بغير حيض أو نفاس وجب الاستئناف، وعلل ذلك بقوله عادا للخطأ- بعد التعبير عنه باللام المقتضية أنه مباح- ذنباً تغليظاً للحث على مزيد الاحتياط: {توبة} أي أوجب ذلك عليكم لأجل قبول التوبة {من الله} أي الملك الأعظم الذي كل شيء في قبضته.
ولما كان الكفارات من المشقة على النفس بمكان، رغب فيها سبحانه وتعالى بختم الآية بقوله: {وكان الله} أي المحيط بصفات الكمال {عليماً} أي بما يصلحكم في الدنيا والآخرة، وبما يقع خطأ في نفس الأمر أو عمداً، فلا يغتر أحد بنصب الأحكام بحسب الظاهر {حكيماً} في نصبه الزواجر بالكفارات وغيرها، فالزموا أوامره وباعدوا زواجره لتفوزوا بالعلم والحكمة.