فصل: تفسير الآيات (107- 111):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (107- 111):

{وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)}
ولما نهاه عن الخصام لمطلق الخائن، وهو من وقعت منه خيانة ما؛ أتبعه النهي عن المجادلة عمن تعمد الخيانة فقال سبحانه وتعالى: {ولا تجادل} أي في وقت ما {عن الذين يختانون} أي يتجدد منهم تعمد أن يخونوا {أنفسهم} بأن يوقعوها في الهلكة بالعصيان فيما اؤتمنوا عليه من الأمور الخفية، والتعبير بالجمع- مع أن الذي نزلت فيه الآية واحد- للتعميم وتهديد من أعانه من قومه، ويجوز أن يكون أشار بصيغة الافتعال إلى أن الخيانة لا تقع إلا مكررة، فإنه يعزم عليها أولاً ثم يفعلها، فأدنى لذلك أن يكون قد خان من نفسه مرتين، قال الإمام ما معناه أن التهديد في هذه الآية عظيم جداً، وذلك أنه سبحانه وتعالى عاتب خير الخلق عنده وأكرمهم لديه هذه المعاتبة وما فعل إلا الحق في الظاهر، فكيف بمن يعلم الباطن ويساعد أهل الباطل؟ فكيف إن كان بغيرهم؟ ثم أشار سبحانه وتعالى إلى أن من خان غيره كان مبالغاً في الخيانة بالعزم وخيانة الغير المستلزمة لخيانة النفس فلذا ختمت بالتعليل بقوله: {إن الله} أي الجليل العظيم ذا الجلال والإكرام {لا يحب} أي لا يكرم {من كان خواناً أثيماً} بصيغتي المبالغة- على أن مراتب المبالغين في الخيانة متفاوتة، وفيه مع هذا استعطاف لمن وقعت منه الخيانة مرة واحدة وقدم سبحانه وتعالى ذلك، لأن فيه دفعاً للضر عن البريء وجلباً للنفع إليه؛ ثم أتبعه بعيب هذا الخائن وقلة تأمله والإعلام بأن المجادلة عنه قليلة الجدوى، فقال سبحانه وتعالى معجباً منهم بما هو كالتعليل لما قبله: {يستخفون} أي هؤلاء الخونة: طعمة ومن مالأه وهو يعلم باطن أمره {من الناس} حياء منهم وخوفاً من أن يضروهم لمشاهدتهم لهم وقوفاً مع الوهم كالبهائم {ولا يستخفون} أي يطلبون ويوجدون الخفية بعدم الخيانة {من الله} أي الذي لا شيء أظهر منه لما له من صفات الكمال {وهو} أي والحال أنه {معهم} لا يغيب عنه شيء من أحوالهم، ولا يعجزه شيء من نكالهم، فالاستخفاء منه لا يكون إلا بترك الخيانة ومحض الإخلاص، فواسوأتاه من أغلب الأفعال والأقوال والأحوال! {إذ} أي حين {يبيتون} أي يرتبون ليلاً على طريق الإمعان في الفكر والإتقان للرأي {ما لا يرضى من القول} أي من البهت والحلف عليه، فلا يستحيون منه ولا يخافون، لاستيلاء الجهل والغفلة على قلوبهم وعدم إيمانهم بالغيب.
ولما أثبت علمه سبحانه وتعالى بهذا من حالهم عمم فقال: {وكان الله} أي الذي كل شيء في قبضته لأنه الواحد الذي لا كفوء له {بما يعملون} أي من هذا وغيره {محيطاً} أي علماً وقدرة.
ولما وبخهم سبحانه وتعالى على جهلهم، حذر من مناصرتهم فقال مبنياً أنها لا تجديهم شيئاً، مخوفاً لهم جداً بالمواجهة بمثل هذا التنبيه والخطاب ثم الإشارة بعد: {هاأنتم هؤلاء} وزاد في الترهيب للتعيين بما هو من الجدل الذي هو أشد الخصومة- من جدل الحبل الذي هو شدة فتله- وإظهاره في صيغة المفاعلة، فقال مبيناً لأن المراد من الجملة السابقة التهديد: {جادلتم عنهم} في هذه الواقعة أو غيرها {في الحياة الدنيا} أي بما جعل لكم من الأسباب.
ولما حذرهم وبخهم على قلة فطنتهم وزيادة في التحذير بأن مجادلتهم هذه سبب لوقوع الحكومة بين يديه سبحانه وتعالى فقال: {فمن يجادل الله} أي الذي له الجلال كله {عنهم} أي حين تنقطع الأسباب {يوم القيامة} ولا يفترق الحال في هذا بين أن تكون ها من {هأنتم} للتنبيه أو بدلاً عن همزة استفهام- على ما تقدم، فإن معنى الإنكار هنا واضح على كلا الأمرين.
ولما كان من أعظم المحاسن كف الإنسان عما لا علم له به، عطف على الجملة من أولها من غير تقييد بيوم القيامة منبهاً على قبح المجادلة عنهم بقصور علم الخلائق قوله: {أم من يكون} أي فيما يأتي من الزمان {عليهم وكيلاً} أي يعلم منهم ما يعلم الله سبحانه وتعالى بأن يحصي أعمالهم فلا يغيب عنه منها شيء ليجادل الله عنهم، فيثبت لهم ما فارقوه، وينفي عنهم ما لم يلابسوه ويرعاهم ويحفظهم مما يأتيهم به القدر من الضرر والكدر.
ولما نهى عن نصرة الخائن وحذر منها، ندب إلى التوبة من كل سوء فقال- عاطفاً على ما تقديره: فمن يصر على مثل هذه المجادلة يجد الله عليماً حكيماً-: {من يعمل سوءاً} أي قبيحاً متعدياً يسوء غيره شرعاً، عمداً- كما فعل طعمة- أو غير عمد {أو يظلم نفسه} بما لا يتعداه إلى غيره شركاً كان أو غيره، أو بالرضى لها بما غيره أعلى منه، ولم يسمه بالسوء لأنه لا يقصد نفسه بما يضرها في الحاضر {ثم يستغفر الله} أي يطلب من الملك الأعظم غفرانه بالتوبة بشروطها {يجد الله} أي الجامع لكل كمال {غفوراً} أي ممحيّاً للزلات {رحيماً} أي مبالغاً في إكرام من يقبل إليه «من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» روى إسحاق بن راهويه عن عمر رضي الله تعالى عنه وأبو يعلى الموصلي عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أن هذه الآية نسخت {من يعمل سوءاً يجز به} [النساء: 123] وأنها نزلت بعدها.
ولما ندب إلى التوبة ورغب فيها، بين أن ضرر إثمه لا يتعدى نفسه، حثاً على التوبة وتهييجاً إليها لما جبل عليه كل أحد من محبة نفع نفسه ودفع الضر عنها فقال: {ومن يكسب إثماً} أي إثم كان {فإنما يكسبه على نفسه} لأن وباله راجع عليه إذ الله له بالمرصاد، فهو مجازيه على ذلك لا محالة غير حامل لشيء من إثمه على غيره كما أنه غير حامل لشيء من إثم غيره عليه، والكسب: فعل ما يجر نفعاً أو يدفع ضراً.
ولما كان هذا لا يكون إلا مع العلم والحكمة قال تعالى: {وكان الله} أي الذي له كمال الإحاطة أزلاً وأبداً {عليماً} أي بالغ العلم بدقيق ذلك وجليله، فلا يترك شيئاً منه {حكيماً} فلا يجازيه إلا بمقدار ذنبه، وإذا أراد شيئاً وضعه في أحكم مواضعه فلا يمكن غيره شيء من نقضه.

.تفسير الآيات (112- 116):

{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)}
ولما ذكر ما يخص الإنسان من إثمه أتبعه ما يعديه إلى غيره فقال: {ومن يكسب خطيئة} أي ذنباً غير متعمد له {أو إثماً} أي ذنباً تعمده. ولما كان البهتان شديداً جداً قلَّ من يجترئ عليه، أشار إليه بأداة التراخي فقال: {ثم يرم به بريئاً} أي ينسبه إلى من لم يعمله- كما فعل طعمة باليهودي، وابن أبي بالصديقة رضي الله تعالى عنها. وعظم جرم فاعل ذلك بصيغة الافتعال في قوله: {فقد احتمل} وبقوله: {بهتاناً} أي خطر كذب يبهت المرمى به لعظمه، وكأنه إشارة إلى ما يلحق الرامي في الدنيا من الذم {وإثماًَ} أي ذنباً كبيراً {مبيناً} يعاقب به في الآخرة، وإنما كان مبيناً لمعرفته بخيانة نفسه وبراءة المرمى به، ولأن الله سبحانه وتعالى أجرى عادته الجميلة أن يظهر براءة المقذوف به يوماً ما بطريق من الطرق ولو لبعض الناس.
ولما وعظ سبحانه وتعالى في هذه النازلة وحذر ونهى وأمر، بين نعمته على نبيه صلى الله عليه وسلم في عصمته عما أرادوه من مجادلته عن الخائن بقوله تعالى: {ولولا فضل الله} أي الملك الأعلى {عليك} أي بإنزال الكتاب {ورحمته} أي بإعلاء أمرك وعصمتك من كل ذي كيد وحفظك في أصحابك الذين أتوا يجادلون عن ابن عمهم سارق الدرع في التمسك بالظاهر وعدم قصد العناد {لهمت طائفة منهم} أي فرقة فيها أهلية الاستدارة والتخلق، لا تزال تتخلق فتفيل الآراء وتقلب الأمور وتدير الأفكار في ترتيب ما تريد {أن يضلوك} أي يوقعوك في ذلك بالحكم ببراءة طعمة، ولكن الله حفظك في أصحابك فما هموا بذلك، وإنما قصدوا المدافعة عن صاحبهم بما لم يتحققوه، ولو هموا لما أضلوك {وما يضلون} أي على حالة من حالات هذا الهم {إلا أنفسهم} إذ وبال ذلك عليهم {وما يضرونك} أي يجددون في ضرك حالاً ولا مالاً بإضلال ولا غيره {من شيء} وهو وعد بدوام العصمة في الظاهر والباطن كآية المائدة أيضاً وإن كانت هذه بسياقها ظاهرة في الباطن وتلك ظاهرة في الظاهر {وأنزل الله} أي الذي له جميع العظمة {عليك} وأنت أعظم الخلق عصمة لأمتك {الكتاب} أي الذي تقدم أول القصة الإشارة إلى كماله وجمعه لخيري الدارين {والحكمة} أي الفهم لجميع مقاصد الكتاب فتكون أفعالك وأفعال من تابعك فيه على أتم الأحوال، فتظفروا بتحقيق العلم وإتقان العمل، وعمم بقوله: {وعلمك ما لم تكن تعلم} أي من المشكلات وغيرها غيباً وشهادة من أحوال الدين والدنيا {وكان فضل الله} أي المتوحد بكل كمال {عليك عظيماَ} أي بغير ذلك من أمور لا تدخل تحت الحصر، وهذا من أعظم الأدلة على أن العلم أشرف الفضائل.
ولما كان قوم طعمة قد ناجوا النبي صلى الله عليه وسلم في الدفع عنه، نبههم سبحانه وغيرهم على ما ينبغي أن يقع به التناجي، ويحسن فيه التفاؤل والتجاذب على وجه ناه عن غيره أشد نهي بقوله سبحانه وتعالى: {لا خير في كثير من نجواهم} أي نجوى جميع المناجين {إلا من} أي نحوى من {أمر بصدقة} ولما خص الصدقة لعزة المال في ذلك الحال، عمم بقوله: {أو معروف} أيّ معروف كان مما يبيحه الشرع من صدقة وغيرها.
ولما كان إصلاح ذات البين أمراً جليلاً، نبه على عظمه بتخصيصه بقوله: {أو إصلاح بين الناس} أي عامة، فقد بين سحانه وتعالى أن غير المستثنى من التناجي لا خير فيه، وكل ما انتقى عنه الخير كان مجتنباً- كما روى أحمد والطبراني في الكبير بسند لا بأس به وهذا لفظه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال: إنما الأمور ثلاثة: أمر تبين لك رشده فاتبعه، وأمر تبين لك غيّه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فرده إلى عالمه».
ولما كان التقدير: فمن أمر بشي من ذلك فنجواه خير، وله عليها أجر؛ عطف عليه قوله: {من يفعل ذلك} أي الأمر العظيم الذي أمر به من هذه الأشياء {ابتغاء مرضاة الله} الذي له صفات الكمال، لأن العمل لا يكون له روح إلا بالنية {فسوف نؤتيه} أي في الآخرة بوعد لا خلف فيه {أجراًَ عظيماً} وهذه الآية من أعظم الدلائل على أن المطلوب من أعمال الظاهر رعاية أحوال القلب في إخلاص النية، وتصفية الداعية عن الالتفات إلى غرض دنيوي، فإن كان رياء انقلبت فصارت من أعظم المفاسد.
ولما رتب سبحانه وتعالى الثواب العظيم على الموافقة، رتب العقاب الشديد على المخالفة والمشاققة، ووكل المخالف إلى نفسه بقوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول} أي الكامل في الرسلية، فيكون بقلبه أو شيء من فعله في جهة غير جهته على وجه المقاهرة، وعبر بالمضارع رحمة منه سبحانه بتقييد الوعيد بالاستمرار، وأظهر القاف إشارة إلى تعليقه بالمجاهرة، ولأن السياق لأهل الأوثان وهم مجاهرون، وقد جاهر سارق الدرعين الذي كان سبباً لنزول الآية في آخر قصته- كما مضى.
ولما كان في سياق تعليم الشريعة التي لم تكن معلومة قبل الإيحاء بها، لا في سياق الملة المعلومة بالعقل، أتى ب {من} تقييداً للتهديد بما بعد الإعلام بذلك فقال: {من بعد ما} ولو حذفت لفهم اختصاص الوعيد بمن استغرق زمان البعد بالمشاققة. ولما كان ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في غاية الظهور قال: {تبين له الهدى} أي الدليل الذي هو سببه.
ولما كان المخالف للإجماع لا يكفر إلا بمنابذة المعلوم بالضرورة، عبر بعد التبين بالاتباع فقالك {ويتبع غير سبيل} أي طريق {المؤمنين} أي الذين صار الإيمان لهم صفة راسخة، والمراد الطريق المعنوي، وجه الشبه الحركة البدنية الموصلة إلى المطلوب في الحسي، والنفسانية في مقدمات الدليل الموصل إلى المطلوب في المعنوي {نوله} أي بعظمتنا في الدنيا والآخرة {ما تولى} أي نكله إلى ما اختار لنفسه وعالج فيه فطرته الأولى خذلاناً منا له {ونصله} أي في الآخرة {جهنم} أي تلقاه بالكراهة والغلظة والعبوسة كما تجهم أولياءنا وشاققهم.
ولما كان التقدير: فهو صائر إليها لا محالة، بين حالها في ذلك فقال: {وساءت مصيراً} وهذه الآية دالة على أن الإجماع حجة لأنه لا يتوعد إلا على مخالفة الحق، وكذا حديث «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله- وفي رواية: ظاهرين على الحق- حتى يأتي أمر الله» رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ثوبان والمغيرة وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله ومعاوية وأنس وأبو هريرة، بعض أحاديثهم في الصحيحين، وبعضها في السنن، وبعضها في المسانيد، وبعضها في المعاجيم وغير ذلك؛ ووجه الدلالة أن الطائفة التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالحق في جملة أهل الإجماع والله سبحانه وتعالى الموفق.
ولما كان فاعل ذلك بعد بيان الهدى هم أهل الكتاب ومن أضلوه من المنافقين بما ألقوه إليهم من الشبه، فردوهم إلى ظلام الشرك والشك بعد أن بهرت أبصارهم أشعة التوحيد؛ حسن إيلاؤه قوله سبحانه وتعالى- معللاً تعظيماً لأهل الإسلام، وحثاً على لزوم هديهم، وذما لمن نابذهم وتوعداً له، إشارة إلى أن من خرق إجماع المسلمين صار حكمه حكم المشركين، فكيف بمن نابذ المرسلين: {إن الله} أي الأحد المطلق فلا كفوء له {لا يغفر أن يشرك به} أي وقوع الشرك به، من أي شخص كان، وبأي شيء كان، لأن من قدح في الملك استحق البوار والهلك، وسارق الدرع أحق الناس بذلك {ويغفر ما} أي كل شيء هو {دون ذلك} أي الأمر الذي لم يدع للشناعة موضعاً- كما هو شأن من ألقى السلم ودخل في ربقة العبودية، ثم غلبته الشهوة فقصر في بعض أنواع الخدمة. ثم دل على نفوذ أمره بقوله: {لمن يشاء}.
ولما كان التقدير: فإن من أشرك به فقد افترى إثماً مبيناً، عطف عليه قوله: {ومن يشرك} أي يوقع هذا الفعل القذر جداً في أي وقت كان من ماض أو حال أو استقبال مداوماً على تجديده {بالله} أي الملك الذي لا نزاع في تفرده بالعظمه لأنه لا خفاء في ذلك عند أحد {فقد ضل} أي ذهب عن السنن الموصل {ضلالاً بعيداً} لا تمكن سلامة مرتكبه، وطوزى مقدمة الافتراء الذي هو تعمد الكذب، وذكر مقدمة الضلال، لأن معظم السياق للعرب أهل الأوثان والجهل فيهم فاش، بخلاف ما مضى لأهل الكتاب فإن كفرهم عن علم فهو تعمد للكذب.

.تفسير الآيات (117- 120):

{إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)}
ولما كان المنافقون هم المقصودين بالذات بهذه الآيات، وكان أكثرهم أهل أوثان؛ ناسب كل المناسبة قوله معللاً لأن الشرك ضلال: {إن} أي ما {يدعون} وما أنسب التعبير لعباد الأوثان عن العبادة بالدعاء إشارة إلى أن كل معبود لا يدعي في الضرورات فيسمع، فعابده أجهل الجهلة. ولما كان كل شيء دونه سبحانه وتعالى، لأنه تحت قهره؛ قال محتقراً لما عبدوه: {من دونه} أي وهو الرحمن.
ولما كانت معبوداتهم أوثاناً متكثرة، وكل كثرة تلزمها الفرقة والحاجة والضعف مع أنهم كانوا يسمون بعضها بأسماء الإناث من اللات والعزى، ويقولون في الكل: إنها بنات الله، ويقولون عن كل صنم: أنثى بني فلان؛ قال: {إلا إناثاً} أي فجعلوا أنفسهم للإناث عباداً وهم يأنفون من أن يكون لهم لهم أولاداً، وفي التفسير من البخاري: إناثاً يعني الموات حجراً أو مدراً- أو ما أشبه ذلك؛ هذا مع أن مادة أنث ووثن يلزمها في نفسها الكثرة والرخاوة والفرقة، وكل ذلك في غاية البعد عن رتبة الإلهية، وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط ذلك في سورة العنكبوت وأن هذا القصر قلب قصر لاعتقادهم أنها آلهة، ومعنى الحصر: ما هي إلا غير آلهة لما لها من النقص {وإن يدعون} أي يعبدون في الحقيقة {إلا شيطاناً} أي لأنه هو الآمر لهم بذلك، المزين لهم {مريداً} أي عاتياً صلباً عاصياً ملازماً للعصيان، مجرداً من كل خير، محترقاً بأفعال الشر، بعيداً من كل أمن، من: شاط وشطن؛ ومرد- بفتح عينه وضمها، وعبر بصيغة فعيل التي هي للمبالغة في سياق ذمهم تنبيهاً على أنهم تعبدوا لما لا إلباس في شرارته، لأنه شر كله، بخلاف ما في سورة الصافات، فإن سياقه يقتضي عدم المبالغة- كما سيأتي إن شاء الله تعالى؛ ثم بين ذلك بقوله: {لعنه الله} أي أبعده الملك الأعلى منكل خير فبعد فاحترق.
ولما كان التقدير: فقال إصراراً على العداوة بالحسد: وعزتك لأجتهدن في إبعاد غيري كما أبعدتني! عطف عليه قوله: {وقال لأتخذنَّ} أي والله لأجتهدن في أن آخذ {من عبادك} الذين هم تحت قهرك، ولا يخرجون عن مرادك {نصيباً مفروضاً} أي جزءاً أنت قدرته لي {ولأضلنهم} أي عن طريقك السوي بما سلطتني به من الوساوس وتزيين الأباطيل {ولأمنينّهم} أي كل ما أقدر عليه من الباطل من عدم البعث وغيره من طول الأعمال وبلوغ الآمال من الدنيا والآخرة بالرحمة والعفو والإحسان ونحوه مما هو سبب للتسويف بالتوبة {ولآمرنهم}.
ولما كان قد علم مما طبعوا عليه من الشهوات والحظوظ التي هيأتهم لطاعته، وكانت طاعته في الفساد عند كل عاقل في غاية الاستبعاد؛ أكد قوله: {فليبتكن} أي يقطعن تقطيعاً كثيراً {آذان الأنعام} ويشققونها علامة على ما حرموه على أنفسهم {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} أي الذي له الحكمة الكاملة فلا كفوء له، بأنواع التغيير من تغيير الفطرة الأولى السليمة إلى ما دون ذلك من فقء عين الحامي ونحو ذلك، وهو إشارة إلى ما حرم أهل الجاهلية على أنفسهم بالتقريب للأصنام من السائبة وما معها، المشار إلى إبطاله في أول المائدة بقوله: {أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم} [المائدة: 1] المصرح به في آخرها بقوله: {ما جعل الله من بحيرة} [المائدة: 103] ويكون التغيير بالوشم والوشر، ويدخل فيه كل ما خالف الدين، فإن الفطرة الأولى داعية إلى خلاف ذلك حتى أدخلوا فيه تشبيه الرجال بالنساء في التخنث وما يتفرع عنه في تشبيه النساء بالرجال في السحق ومانحاً فيه نحوه.
ولما كان التقدير: فقد خسر من تابعه في ذلك، لأنه صار للشيطان ولياً؛ عطف عليه معمماً قوله: {ومن يتخذ} أي يتكلف منهم ومن غيرهم تغيير الفطرة الأولى فيأخذ {الشيطان ولياً} ولما كان ذلك ملزوماً لمحادة الله سبحانه وتعالى، وكان ما هو أدنى من رتبته في غاية الكثرة؛ بعّض ليفهم الاستغراق من باب الأولى فقال: {من دون الله} أي المستجمع لكل وصف جميل {فقد خسر} باتخاذه ذلك ولو على أدنى وجوه الشرك {خسراناً مبيناً} أي في غاية الظهور والرداءة بما تعطيه صيغة الفعلان، لأنه تولى من لا خير عنده؛ ثم علل ذلك بقوله: {يعدهم} أي بأن يخيل إليهم بما يصل إلى قلوبهم بالوسوسة في شيء من الأباطيل أنه قريب الحصول، وأنه لا درك في تحصيله، وأنه إن لم يحصل كان في فواته ضرر، فيسعون في تحصيله، فيضيع عليهم في ذلك الزمانُ، ويرتكبون فيه ما لا يحل من الأهوال والهوان {ويمنيهم} أي يزين لهم تعليق الآمال بما لا يتأتى حصوله، ثم بين ذلك بقوله: {وما} أي والحالة أنه ما {يعدهم} وأظهر في موضع الإضمار تنبيهاً على مزيد النفرة فقال: {الشيطان} أي المحترق البعيد عن الخير {إلا غروراًَ} أي تزييناً بالباطل خداعاً ومكراً وتلبيساً، إظهاراً- لما لا حقيقة له أو له حقيقة سيئة- في أبهى الحقائق وأشرفها وألذها إلى النفس وأشهاها إلى الطبع، فإن مادة غر ورغ تدول على الشرف والحسن ورفاهة العيش، فالغرور إزالة ذلك.