فصل: تفسير الآيات (137- 141):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (137- 141):

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)}
ولما كان المتمادي بعد نزول هذا الهدي موجداً للكفر مجدداً له، نبه على إغراقه في البعد بغضبه سبحانه وتعالى لتماديه معلماً أن الثبات على الكفر عظيم جداً، وصوّره بأقبح صورة، وفي ذلك ألطف استعطاف إلى النزوع عن الخلاف فقال: {إن الذين ءامنوا} أي بما كانوا مهيئين له من الإيمان بالفطرة الأولى {ثم كفروا} أي أوقعوا الكفر فعوَّجوا ما أقامه الله من فطرهم {ثم ءامنوا} أي حقيقة أو بالقوة بعد مجيء الرسول بما هيأهم له بإظهار الأدلة وإقامة الحجج {ثم كفروا} أي بذلك الرسول أو برسول آخر بتجديد الكفر أو التمادي فيه {ثم ازدادوا} أي بإصرارهم على الكفر إلى الموت {كفراً لم يكن الله} أي الذي له صفات الكمال {ليغفر لهم} أي ما داموا على هذا الحال لأنه لا يغفر أن يشرك به {ولا ليهديهم سبيلاً} أي من السبل الموصلة إلى المقصود.
ولما كانت جميع صور الآية منطبقة على النفاق، بعضها حقيقة وبعضها مجازاً، قال جواباً لمن كأنه سأل عن جزائهم متهكماً بهم: {بشر المنافقين} فأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف {بأن لهم عذاباً أليماً} ثم وصفهم بما يدل على أنهم المساترون بالكفر بقوله تعالى: {الذين يتخذون الكافرين} أي المجاهرين بالكفر {أولياء} أي يتعززون بهم تنفيراً من مقاربة صفتهم ليتميز المخلص من المنافق، وبياناً لأن مرادهم بولايتهم إنما هو التعزز بهم فإن محط أمرهم على العرض الدنيوي، ونبه على دناءة أمرهم على أن الغريق في الإيمان أعلى الناس بقوله: {من دون المؤمنين} أي الغريقين في الإيمان، ثم أنكر عليهم هذا المراد بقوله: {أيبتغون} أي المنافقون يتطلبون، تطلباً عظيماً {عندهم} أي الكافرين {العزة} فكأنه قال: طلبهم العزة بهم سفه من الرأي وبُعد من الصواب، لأنه لا شيء من العزة عندهم.
ولما أنكر عليهم هذا الابتغاء علله بقوله: {فإن العزة لله} أي الذي لا كفوء له {جميعاً} أي وهم أعداء الله فإنما يترقب لهم ضرب الذلة والمسكنة، وما أحسن التفات هذه الآية إلى أول الآيات المحذرة من أهل الكتاب {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب} [النساء: 44] المختتمة بقوله: {وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً} [النساء: 45] {وقد} أي يتخذونهم والحال أنه قد {نزل عليكم} أي أيتها الأمة، الصادقين منكم والمنافقين {في الكتاب} أي في سورة الأنعام النازلة بمكة المشرفة النهي عن مجالستهم فضلاً عن ولايتهم، أفلا تخافون عزة من نهاكم عن ذلك أن يضربكم بذل لا تخلصون منه أبداً، لأنهم لا ينفكون عن الكفر بآيات الله فإنه لا تباح ولايتهم في حال من الأحوال إلا عند الإعراض عن الكفر، وذلك هو المراد من قوله: {أنْ} أي إنه {إذا سمعتم آيات الله} أي ذي الجلال والإكرام.
ولما كان السماع مجملاً بين المراد بقول: {يكفر بها} أي يستر ما أظهرت من الأدلة من أي كافر كان من اليهود وغيرهم {ويستهزأ بها} أي يطلب طلباً شديداً أن تكون مما يهزأ به {فلا تقعدوا معهم} أي الذين يفعلون ذلك بها {حتى يخوضوا} وعبر عن الشروع بالخوض إيماء إلى أن كلامهم لا يخلو عن شيء في غير موضعه، رمزاً إلى عدم مجالستهم على كل حال {في حديث غيره} فهذا نهي من مجرد مجالستهم فكيف بولايتهم.
ولما كانت آية الأنعام مكية اقتصر فيها على مجرد الإعراض وقطع المجالسة لعدم التمكن من الإنكار بغير القلب، وأما هذه الآية فمدنية فالتغيير عند إنزالها باللسان واليد ممكن لكل مسلم، فالمجالس من غير نكير راض، فلهذا علل بقوله: {إنكم إذاً} أي إذا قعدتم معهم وهم يفعلون ذلك {مثلهم} أي في الكفر لأن مجالسة المظهر للإيماء المصرح بالكفران دالة على أن إظهاره لما أظهر نفاق، وأنه راض بما يصرح به هذا الكافر والرضى بالكفر كفر، فاشتد حسن ختم الآية بجمع الفريقين في جهنم بقوله مستأنفاً لجواب السؤال عما تكون به المماثلة: {إن الله} أي الذي أحاط علمه فتمت قدرته {جامع}.
ولما كان حال الأخفى أهم قدم قوله: {المنافقين} أي الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر فيقعدون مع من يسمعونه بكفر {والكافرين} أي الذين يجاهرون بكفرهم لرسوخهم فيه {في جهنم} التي هي سجن الملك {جميعاً} كما جمعهم معهم مجلس الكفر الذي هو طعن في ملك الملك، والتسوية بينهم في الكفر بالقعود معهم دالة على التسوية بين العاصي ومجالسه بالخلطة من غير إنكار؛ ثم وصفهم سبحانه وتعالى بما يعرف بهم فقال: {الذين يتربصون بكم} أي يثبتون على حالهم انتظاراً لوقوع ما يغيظكم {فإن كان لكم فتح} أي ظهور وعز وظفر، وقال: {من الله} أي الذي له العظمة كلها- تذكيراً للمؤمنين بما يديم اعتمادهم عليه وافتقارهم إليه {قالوا} أي الذين آمنوا نفاقاً لكم أيها المؤمنون {ألم نكن معكم} أي ظاهراً بأبداننا بما تسمعون من أقوالنا فأشركونا في فتحكم {وإن كان للكافرين} أي المجاهرين، وقال: {نصيب} تحقيراً لظفرهم وأنه لا يضر بما حصل للمؤمنين من الفتح {قالوا} للكافرين ليشركوهم في نصيبهم {ألم نستحوذ عليكم} أي نطلب حياطتكم والمحافظة على مودتكم حتى غلبنا على جميع أسراركم واستولينا عليها، وخالطناكم مخالطة الدم للبدن، من قولهم: حاذه، أي حاطه وحافظ عليه {ونمنعكم من المؤمنين} أي من تسلطهم عليكم بما كنا نخادعهم به، ونشيع فيهم من الإرجافات والأمور المرغبات الصارفة لهم عن كثير من المقاصد، لتصديقهم لنا لأظهارنا الإيمان، ورضانا من مداهنة من نكره بما لا يرضاه إنسان.
ولما كان هذا لأهل الله سبحانه وتعالى أمراً غائظاً مقلقاً موجعاً؛ سبب عنه قوله: {فالله} أي بما له من جميع صفات العظمة {يحكم بينكم} أي أيها المؤمنون والكافرون المساترون والمجاهرون.
ولما كان الحكم في الدارين بين أنه في الدار التي لا يظهر فيها لأحد غيره أمر ظاهراً ولا باطناً، وتظهر فيها جميع المخبئات فقال: {يوم القيامة} ولما كان هذا ربما أيأسهم من الدنيا قال: {ولن يجعل الله} عبر بأداة التأكيد وبالاسم الأعظم لاستبعاد الغلبة على الكفرة لما لهم في ذلك الزمان من القوة والكثرة {للكافرين} أي سواء كانوا مساترين أو مجاهرين {على المؤمنين} أي كلهم {سبيلاً} أي بوجه في دنيا ولا آخرة، وهذا تسفيه لآرائهم واستخفاف بعقولهم فكأنه يقول: يا أيها المتربصون بأحباب الله الدوائر، المتمنون لأعدائه النصر- وقد قامت الأدلة على أن العزة جميعاً لله-! ما أضلكم في ظنكم أنه يخذل أولياءه! وما أغلظ أكبادكم! ويدخل في عمومها أنه لا يقتل مسلم بذمي، ولا يملك كافر مال مسلم قهراً؛ ثم بين أن صورتهم في ضربهم الشقة بالوجهين صورة المخادع، وما أضلهم حيث خادعوا من لا يجوز عليه الخداع لعلمه بالخافيا، فقال معاللاً لمنعهم السبيل.

.تفسير الآيات (142- 144):

{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)}
{إن المنافقين} لإظهارهم لكل من غلب أنهم منه {يخادعون الله} أي يفعلون بإظهار ما يسر وإبطان ما يضر فعل المخادع مع من له الإحاطة الكاملة بكل شيء لأنه سبحانه وتعالى يستدرجهم من حيث لا يشعرون، وهم يخدعون المؤمنين بإظهار الإيمان وإبطان الكفر {وهو} الذي أمر المؤمنين بما أمرهم فكأنهم يفعلون ذلك معه وهو {خادعهم} باستدراجهم من حيث لا يعلمون، لأنه قادر على أخذهم من مأمنهم وهم ليسوا قادرين على خدعه بوجه {وإذا} أي يخادعونه والحال أنهم قد فضحوا أنفسهم بما أظهر مكرهم للمستبصرين وهو أنهم إذا {قاموا إلى الصلاة} أي المكتوبة {قاموا كسالى} متقاعسين متثاقلين عادة، لا ينفكون عنها، بحيث يعرف ذلك منهم كل من تأملهم، لأنهم يرون أناه تعب من غير أرب، فالداعي إلى تركها- وهو الراحة- أقوى من الداعي إلى فعلها وهو خوف الناس؛ ثم استأن في جواب من كأنه قال: ما لهم يفعلون ذلك؟ فقال: {يرآءون الناس} أي يفعلون ذلك ليراهم الناس، ليس إلا ليظنوهم مؤمنين، ويريهم الناس لأجل ذلك ما يسرهم من عدهم في عداد المؤمنين لما يرون هم المؤمنين حين يصلون {ولا يذكرون الله} أي الذي له جميع صفات الكمال في الصلاة وغيرها {إلا قليلاً} أي حيث يتعين ذلك طريقاً لمخادعتهم، يفعلون ذلك حال كونهم {مذبذبين} أي مضطربين كما يضطرب الشيء الخفيف المعلق في الهواء، وحقيقة: الذي يذب عن كلا الجانبين ذباً عظيماً.
ولما كان ما تقدم يدل على إيمانهم تارة وكفرهم أخرى قال: {بين ذلك} أي الإيمان والكفر؛ ولما كان الإيمان يدل على أهله والكفر كذلك قال: {لا إلى} أي لا يجدون سبيلاً مفر إلى {هؤلاء} أي المؤمنين {ولا إلى هؤلاء} أي الكافرين؛ ولما كان التقدير! لأن الله أضلهم، بنى عليه قوله: {ومن يضلل الله} أي الشامل القدرة الكامل العلم {فلن تجد} أي أصلاً {له سبيلاً} أي طريقاً إلى شيء يريده.
ولما انقضى ما أراد من الإنكار على من ادعى الإيمان في اتخاذ الكافرين أولياء، المستلزم للنهي عن ذلك الاتخاذ، صرح به مخاطباً للمؤمنين فقال: {يا أيها الذين ءامنوا} أي أقروا بالإيمان بألسنتهم صدقاً أو كذباً {لا تتخذوا} أي تكلفوا أنفسكم غير ما تدعوا إليه الفطرة الأولى السليمة فتأخذوا {الكافرين} أي المجاهرين بالكفر الغريقين فيه {أولياء} أي أقرباء، تفعلون معهم من الود والنصرة ما يفعل القريب مع قريبه.
ولما كان الغريق في الإيمان أعلى الناس، وكان تحت رتبته رتب متكاثره، نبه على ذلك وعلى دناءة مقصدهم بالجار فقال: {من دون المؤمنين} أي الغريقين في الإيمان، وهذا إشارة إلى أنه لا يصح لمن يواليهم دعوى الإيمان، ولذلك قال منكراً: {أتريدون} أي بموالاتهم {أن تجعلوا لله} أي الذي لا تطاق سطوته لأن له الكمال كله {عليكم} أي في النسبة إلى النفاق {سلطاناً} أي دليلاً اضحاً على كفركم باتباعكم غير سبيل المؤمنين {مبيناً} واضحاً مسوِّغاً لعقابكم وخزيكم وجعلكم في زمرة المنافقين.

.تفسير الآيات (145- 147):

{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)}
ولما نهاهم عن فعل المنافقين استأنف بيان جزائهم عنده فقال: {إن المنافقين في الدرك} أي البطن والمنزل {الأسفل من النار} لأن ذلك أخفى ما في النار وأستره وأدناه وأوضعه كما أن كفرهم أخفى الكفر وأدناه، وهو أيضاً أخبث طبقات النار كما أن كفرهم أخبث أنواع الكفر، وفيه أن من السلطان وضع فاعل ذلك في دار المنافقين لفعله مثل فعلهم، ومن تشبه بقوم فهو منهم، وسميت طبقات النار أدراكاً لأناه متداركة متتابعة إلى أسفل كما أن الدرج متراقية إلى فوق.
ولما أخبر أنهم من هذا المحل الضنك، أخبر بدوامه لهم على وجه مؤلم جداً فقال: {ولن تجد} أي أبداً {لهم نصيراً} وأشار بالنهي عن موالاتهم وعدم نصرهم إلى ختام أول الآيات المحذرة من الكافرين {وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً} [النساء: 45].
ولما كان فيما تقدم أن الغفران للكافر- أعم من أن يكون منافقاً أولاً- متعذر، وأتبعه ما لاءمه إلى أن ختم بما دل على أن النفاق أغلظ أنواع الكفر استثنى منه دلالة على أن غيره من الكفرة في هذا الاستثناء أولى، تنبيهاً على أن ذلك النفي المبالغ فيه إنما هو لمن مات على ذلك، ولكنه سيق على ذلك الوجه تهويلاً لما ذكره في حيزه وتنفيراً منه فقال تعالى: {إلا الذين تابوا} أي رجعوا عما كانوا عليه من النفاق بالندم والإقلاع {وأصلحوا} أي أعمالهم الظاهرة من الصلاة التي كانوا يراؤون فيها وغيرها بالإقلاع عن النفاق {واعتصموا بالله} أي اجتهدوا في أن تكون عصمتهم- أي ارتباطهم- بالملك الأعظم في عدم العود إلى ما كانوا عليه.
ولما كان الإقلاع عن النفاق الذي من أنواعه الرياء- أصلاً ورأساً في غاية العسر قال حثاً على مجاهدة النفس فيه: {وأخلصوا دينهم} أي كله {لله} أي الذي له الكمال كله، فلم يريدوا بشيء من عبادتهم غير وجهه لا رياء ولا غيره {فأولئك} أي العالو الرتبة {مع المؤمنين} أي الذي صار الإيمان لهم وصفاً راسخاً في الجنة، وإن عذبوا على معاصيهم ففي الطبقة العليا من النار {وسوف يؤت الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {المؤمنين} أي بوعد لا خلف فيه وإن أصابهم قبل ذلك ما أصابهم وإن طال عذابهم، تهذيباً لهم من المعاصي بما أشار إليه لفظ {سوف} {أجراً عظيماً} أي بالخلود في الجنة التي لا ينقضي نعيمها، ولا يتكدر يوماً نزيلها، فيشاركهم من كان معهم، لأنهم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
ولما كان معنى الاستثناء أنه لا يعذبهم، وأنهم يجدون الشفيع بإذنه؛ قال مؤكداً لذلك على وجه الاستنتاج منكراً على من ظن أنه لا يقبلهم بعد الإغراق في المهالك: {ما يفعل الله} أي وهو المتصف بصفات الكمال التي منها الغنى المطلق {بعذابكم} أي أيها الناس، فإنه لا يجلب له نفعاً ولا يدفع عنه ضراً.
ولما كان الخطاب مع الذين آمنوا قال: {إن شكرتم} أي نعمه التي من أعظمها إنزال الكتاب الهادي إلى الرشاد، المنقذ من كل ضلال، المبين لجميع ما يحتاج إليه العباد، فأداكم التفكر في حالها إلى معرفة مسديها، فأذعنتم له وهرعتم إلى طاعته بالإخلاص في عبادته وأبعدتم عن معصيته.
ولما كان الشكر هو الحامل على الإيمان قدمه عليه، ولما كان لا يقبل إلا به قال: {وآمنتم} أي به إيماناً خالصاً موافقاً فيه القلب ما أظهره اللسان؛ ولما كان معنى الإنكار أنه لا يعذبكم، بل يشكر ذلك قال عاطفاً عليه: {وكان الله} أي ذو الجلال والإكرام أزلاً وأبداً {شاكراً} لمن شكره بإثابته على طاعته فوق ما يستحقه {عليماً} بمن عمل له شيئاً وإن دق، لا يجوز عليه سهو ولا غلط ولا اشتباه.

.تفسير الآيات (148- 151):

{لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)}
ولما أتم سبحانه وتعالى ما أراد من تقبيح حال المجالسين الخائضين في آياته بما هي منزهة عنه، ومما يتبعه من وصفهم وبيان قصدهم بتلك المجالسة من النهي عن مثل حالهم، ومن جزاء من فعل مثل فعلهم- إلى أن ختم بأشد عذاب المنافقين، وحث على التوبة بما ختمه بصفتي الشكر والعلم؛ أخبر أنه يبغض خوض الكافرين الذين قبح مجالستهم حال التلبس به، وكذا كل جهر بسوء إلا ما استثناه، فمن أقدم على ما لا يحبه لم يقم بحق عبوديته، فقال معللاً ما مضى قبل افتتاح أمر المنافقين من الأمر بإحسانه التحية: {لا يحب الله} أي المختص بصفات الكمال {الجهر} أي ما يظهر فيصير في عداد الجهر {بالسوء} أي الذي يسوء ويؤذي {من القول} أي لأحد كائناً من كان، فإن ذلك ليس من شكر الله تعالى في الإحسان إلى عباده وعياله ولا من شكر الناس في شيء ولا يشكر الله من لا يشكر الناس {إلا من} أي جهر من {ظلم} أي كان من أحد من الناس ظلم إليه كائناً من كان فإنه يجوز له الجهر بشكواه والتظلم منه والدعاء عليه وإن ساءه ذلك بحيث لا يعتدي.
ولما كان القول مما يسمع، وكان من الظلم ما قد يخفي، قال مرغباً مرهباً: {وكان الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {سمعياً} أي لكل ما يمكن سماعه من جهر وغيره {عليماً} أي بكل ما يمكن أن يعلم فاحذروه لئلا يفعل بكم فعل الساخط، وجهر ومن ظلم- وإن كان داخلاً فيما يحبه الله تعالى على تقدير كون الاستثناء متصلاً- لكن جعله من جملة السوء وإن كان من باب المشاكلة فإن فيه لطيفة، وهي نهي الفطن عن تعاطيه وحثه على العفو، لأن من علم أن فعله بحيث ينطلق اسم السوء- على أي وجه كان إطلاقه- كف عنه إن كان موفقاً.
ولما كانت معاقد الخيرات على كثرتها منحصرة في قسمين: إيصال النفع إبداء وإخفاء، ودفع الضرر، فكان قد أشار سبحانه وتعالى إلى العفو، وختم بصفتي السمع والعلم؛ قال مصرحاً بالندب إلى العفو والإحسان، فكان نادباً إليه مرتين: الأولى بطريق الإشارة لأولى البصارة، والثانية بطريق العبارة للراغبين في التجارة، حثاً على الأحب إليه سبحانه والأفضل عنده والأدخل في باب الكرم: {إن تبدوا خيراً} أي من قول أو غيره {أو تخفوه} أي تفعلوه خفية ابتداء أو في مقابلة سوء فعل إليكم؛ ولما ذكر فعل الخير أتبعه نوعاً منه هو أفضله فقال: {أو تعفوا عن سوء} أي فعل بكم.
ولما كان التقدير: يعلمه بما له من صفتي السمع والعلم فيجازي عليه بخير أفضل منه وعفو أعظم من عفوكم؛ سبب عنه قوله: {فإن} أي فأنتم جديرون بالعفو بسبب علمكم بأن {الله كان} أي دائماً أزلاً وأبداً {عفواً} ولما كان ترك العقاب لا يسمى عفواً إلا إذا كان من قادر وكان الكف- عند القدرة عن الانتقام، ممن أثر في القلوب الآثار العظام- بعيداً، شاقاً على النفس شديداً؛ قال تعالى مذكراً للعباد بذنوبهم إليه وقدرته عليهم: {قديراً} أي بالغ العفو عن كل ما يريد العفو عنه من أفعال الجانين والقدرة على كل ما يريد ومن يريد، فالذي لا ينفك عن ذنب وعجز أولى بالعفو طمعاً في عفو القادر عنه وخوفاً من انتقامه منه وتخلقاً بخلقه العظيم والاقتداء بسنته.
ولما انقضى ذلك على أتم وجه وأحسن سياق ونحو، وختم بصفتي العفو والقدرة؛ شرع في بيان أحوال من لا يعفى عنه من أهل الكتاب، وبيان أنهم هم الذين أضلوا المنافقين بما يلقون إليهم من الشبه التي وسَّعَ عقولهم لها ما أنعم به عليهم سبحانه وتعالى من العلم، فأبدوا الشر وكتموا الخير، فوضعوا نعمته حيث يكره، ثم كشف سبحانه وتعالى بعض شبههم، فقال مبيناً لما افتتح به قصصهم من أنهم اشتروا الضلالة بالهدى، ويريدون ضلال غيرهم، بعد أن كان ختم هناك ما قبل قصصهم بقوله عفواً قديراً: {إن الذين يكفرون} أي يسترون ما عندهم من العلم {بالله} أي الذي له الاختصاص بالجلال والجمال {ورسله}.
ولما ذكر آخر أمرهم ذكر السبب الموقع فيه فقال: {ويريدون أن يفرقوا بين الله} أي الذي له الأمر كله، ولا أمر لأحد معه {ورسله} أي فيصدقون بالله ويكذبون ببعض الرسل فينفون رسالاتهم، المستلزم لنسبتهم إلى الكذب على الله المقتضي لكون الله سبحانه وتعالى بريئاً منهم.
ولما ذكر الإرادة ذكر ما نشأ عنها فقال: {ويقولون نؤمن ببعض} أي من الله ورسله كاليهود الذين آمنوا بموسى عليه الصلاة والسلام وغيره إلا عيسى ومحمداً صلى الله عليه وسلم فكفروا بهما {ونكفر ببعض} أي من ذلك وهم الرسل كمحمد صلى الله عليه وسلم {ويريدون أن يتخذوا} أي يتكلفوا أن يأخذوا {بين ذلك} أي الإيمان والكفر {سبيلاً} أي طريقاً يكفرون به، وعطف الجمل بالواو- وإن كان بعضها سبباً لبعض- إشارة إلى أنهم جديرون بالوصف بكل منها على انفراده، وأن كل خصلة كافية في نسبة الكفر إليهم، وقدم نتيجتها، وختم بالحكم بها على وجه أضخم، تفظيعاً لحالهم، وأصل الكلام: أرادوا سبيلاً بين سبيلين، فقالوا: نكفر ببعض، فأرادوا التفرقة، فكفروا كفراً هو في غاية الشناعة على علم منهم، فأنتج ذلك: {أولئك} أي البعداء البغضاء {هم الكافرون} أي الغريقون في الكفر {حقاً} ولزمهم الكفر بالجميع لأن الدليل على نبوة البعض لزم منه القطع بنبوة كل من حصل منه مثل ذلك الدليل، وحيث جوز حصول الدليل بدون المدلول تعذر الاستدلال به على شيء كالمعجزة، فلزم حينئذ الكفر بالجميع، فثبت أن من كذب بنبوة أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لزمه الكفر بجميع الأنبياء، ومن لزمه الكفر بهم لزمه الكفر بالله وكل ما جاء به.
ولما كان التقدير: فلا جرم أنا أعتدنا- أي هيأنا- لهم عذاباً مهيناً، عطف عليه تعميماً: {وأعتدنا للكافرين} أي جميعاً {عذاباً مهيناً} أي كما استهانوا ببعض الرسل وهم الجديرون بالحب والكرامة، والآية شاملة لهم ولغيرهم ممن كان حاله كحالهم، وإيلاء ذلك بيان أحوال المنافقين أنسب شيء وأحسنه للتعريف بأنهم منافقون، من حيث أنهم يظهرون شيئاً من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ويبطنون غيره وإن كان ما يظهرونه على الضد مما يظهره المنافقون، وبأنهم هم الذين أضلوا المنافقين، وللتحذير من أقوالهم وتزييف ما حرفوا من محالهم، وفي ذلك التفات إلى أول هذه القصة {يا أيها الذين ءامنوا ءامِنوا بالله ورسوله} [النساء: 136].