فصل: باب: جامع التيمم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: جامع التيمم:

234- أصل مذهب الشافعي أن تقديم التيمم للصلوات المفروضة على دخول وقتها غيرُ جائزٍ، فلنعتقد ذلك مذهباً إلى أن يتضح الغرض بالتفصيل.
235- والذي أرى ذكره مقدماً على تفريعه، أنّ أئمتنا اختلفوا في أن النافلة المؤقّتة، هل يجوز تقديم التيمم على دخول وقتها؟ فمنهم من جوّز ذلك في النوافل؛ فإن الأمر فيها أوسع، ولذلك جاز أداء نوافلَ بتيمّم واحدٍ، ولا يجوز ذلك في الفرائض.
ومنهم من قال: لا يجوز؛ لأن تعدُّدَ النوافل لا يتحقق، من جهة أن يُتصور جمع ركعاتٍ في تحريمة، وهي تبعٌ للفرائض، وجُبرانٌ لها، كما تقدم. وهذا المعنى لا يتحقق في التقديم على الوقت.
236- فإذا تقرّر ذلك، فنحن نذكر مواقيتَ الصلوات في غرضنا. فأما أوقات الفرائض فبيّنة، ووقت الفائتة تذكُّرُها، قال النبي عليه السلام: «من نام عن صلاةٍ أو نسيها، فليصلّها إذا ذكرها؛ فإن ذلك وقتُها، لا وقت لها غيره» ووقت الصلاة على الميت يدخل بغُسلِ الميت، ووقت صلاة الكسوف يدخل بالكسوف، ووقت صلاة الاستسقاء ببروز الناس إلى الصحراء، ولا يكاد يخفى وقتُ صلاة العيد، فنعود الآن إلى التفريع، فنقول:
237- لو تذكّر فائتةً قبل الزوال، فتيمّم لها، ثم لم يقضها حتى دخل وقتُ الظهر، فإن أراد قضاء الفائتة، فعل.
وإن أراد إقامة فرض الوقت بدلاً عن الفائتة، ففي المسألة وجهان: أصحهما-وهو مذهب ابن الحداد- أن ذلك يجوز، وأن تيممه صالح لفرض، فيصلح لفرض آخر، وإنما الممتنع الجمع بينهما.
والثاني: لا يجوز، وهو اختيار أبي زيد؛ لأنه لمّا تيمم قبل الزوال، كان لا يتأتى منه إذ ذاك صلاةُ الظهر، وما لم يستعقب التيمّم جوازه، لم يجز بعده.
وما ذكرناه من الخلاف مفرّع على ظاهر المذهب، وهو أن التعيين ليس بشرطٍ في نيّة التيمم، فإن شرطنا التعيين، على الوجه الضعيف، الذي حكيناه، فإذا عيَّن الفائتة، لم يصلِّ بالتيمم غيرَها، وهذا الوجه لا تفريع عليه.
238- ولو زالت الشمس، فتيمم لصلاةِ الظهر، ثم تذكّر فائتةً، فأراد قضاء تلك الفائتة، بدلاً عن أداء وظيفة الوقت، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من ذكر هاهنا الوجهين المقدّمين فيه إذا تيمم لفائتةٍ، ثم زالت الشمس.
ومنهم من قطع بأنه يجوز قضاء الفائتة، في الصورة الأخيرة، وفرّق بينها وبين الصورة الأولى، بأنه لما تيمَّم لقضاء الفائتة، لم تكن صلاة الظهر واجبةً عليه، ولما تيمّم بعد الزوال، فقد كانت الفائتة واجبةً عليه، ولكنّه كان لا يذكر وجوبها، وهذا الفرق ظاهرٌ، ولكنّ مساقَه يقتضي أن من تيقم ضحوةً، قبل تذكر الفائتة، ثم تذكّرها أنه يجوز له قضاؤها، وليس الأمر كذلك.
239- وقد قال الشيخ أبو علي في الشرح: لو تيمّم لنافلةٍ قبل الزوال، ولم يكن عليه فائتة، فهل يتنفل بالتيمم أم لا؛ فيه وجهان: تقدم ذكر أصلهما؛ فإنه لا يتأتى له إقامة فرض به، فهل يتأتى إقامة النفل به؟
فعلى وجهين:
أحدهما: يتنفل، وهو الصحيح، والثاني: لا يتنفل؛ فإن أداء النافلة إنما يجوز تبعا للفريضة، لا مقصوداً.
فإذا فرّعنا على الصحيح، فلو زالت الشمس، فتيممه صالح لأداءِ نافلةٍ، وقد ذكرنا قولين في أن التيمم الصالح لأداء نافلة هل يصلح لأداء الفريضة؟ فإن قلنا: إنه يصلح، فيخرّج عليه الخلاف في أنه هل يؤدّي فريضة الوقت، كما ذكرناه في الفائتة، وفريضة الوقت في صورة مسألة ابن الحداد.
وهذا الذي ذكر بعيدٌ جداًً؛ فإن تيمّمه في صورة مسألة ابن الحداد استعقب جوازَ إقامة الفائتة، ثم دام إمكان أداء فرض به، حتى دخل وقت فريضةٍ أخرى.
وإذا تيمّم لنافلةٍ، ولم يكن عليه فائتة، فتيممه لم يستعقب إمكانَ إقامة فرض به، ولا يمتنع في الدوام أن يصلح التيمم لنفل بعد الفرض ولا يصلح لفرضٍ؛ فإن من نوى بتيممه الفرضَ والنفلَ، وأدّى الفرضَ، فتيممه يصلح للنفل بعد الفرض، ولا يصلح لفرضٍ آخر.
نعم، لو تيمّم لنفلٍ قبل الزوال، وهو ذاكرٌ فائتةً، فتيممه يصلح لقضاء تلك الفائتة في قولٍ، فلو زالت الشمس، فأراد أن يؤدّي وظيفةَ الوقت بدلاً عن الفائتة، فهذا يعود إلى صورة مسألة ابن الحداد.
فإن قيل على طريقة الشيخ أبي علي: نُقدّر صورةً يمتنع فيها تقديمُ التيمم على الوقت وجهاً واحداً.
قلنا: لعلّه يقول: إذا تيمّم قبل الزوال لأداء الظهر في وقته، فالتيمم باطل، لا يؤدّى به الظهر بعد الزوال، ولا يصلح لأداء نافلةٍ أيضاً؛ فإن نيّته فاسدةٌ، وليس كما لو نوى بالتيمم إقامة فرضين؛ فإن تيمّمه يصح في وجهٍ؛ لأن الفساد في النية يؤول إلى الزيادة على الصلاة الأولى، فتميّز الفساد عن الصحة، فأما إذا تيمّم لصلاةٍ قبل وقتها، فأصل النية فاسدٌ، فهذا منتهى القول في ذلك.
فصل:
قال: "والسَّفَرُ أَقلُّ ما يَقعُ عليه اسمُ سفرٍ، طال أو قصر... إلى آخره "
240- القول في السفر الطويل والقصير سيأتي-إن شاء الله تعالى- في كتاب الصلاة، والذي يليق بهذا الفصل أن الرخص تنقسم ثلاثة أقسام: قسم يختص بالسفر الطويل، وهو الفطر، والقصر، والمسح على الخّف ثلاثة أيام ولياليهنّ.
وقسم يتعلق بالسفر القصير والطويل، وهو ترك الجمعة على تفصيل يأتي.
وقسم اختلف القول فيه، وهو الجمع بين الصلاتين، وإقامة النافلة على الراحلة أينما توجّهت، وموضع استقصاء ذلك كتاب الصلاة.
وعدّ الأصحاب التيمم عند إعواز الماء، مما يجري في السفر القصير والطويل، وهذا مقصود الباب، وعَنَوْا به أن من كان في سفر قصير، فدخل عليه وقت الفريضة، فتيمّم عند إعواز الماء وصلى، لم يلزمه إعادة تلك الصلاة.
241- والتحقيق في ذلك عندي أن التيمم لا ينبغي أن يُعدَّ متعلقاً بالسفر، قصر أو طال، ولكنه متعلق بعدم الماءِ وإعوازه، في مكانٍ يغلب إعوازُ الماء فيه، وإعواز الماء في الإقامة نادرٌ، فإن اتفق بأن تغور العيون، وتنقطع الأودية، فهو نادرٌ، وسنذكر حكمه.
والذي يُحقق ذلك أن من قَطَن في موضع من البادية يعم فيها عدمُ الماء، فهو مقيم يتيمم، ولا يقضي، فكان أبو ذرٍّ يسكن الرَّبَذَةَ، ويعدم الماء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «التراب كافيك وإن لم تجد الماء عشر حجج» الحديث.
وقد حكى شيخنا قولاً غريباً أن سقوط القضاء عن المتيمّم العادم للماء في السفر يختصّ بالسفر الطويل، فلو فرض عدم الماء في السفر القصير، وتيمّم المرء، خرج وجوب القضاء على قولين، سنذكرهما في المقيم إذا عدم الماء وتيمّم.
وهذا غريب جداًً.
وقد أشار إليه صاحب التقريب.
فصل:
242- التيمّم في كتاب الله تعالى متعلق بشيئين:
أحدهما: المرض.
والثاني: عدم الماء في السفر قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6].
وهذا الفصلُ معقودٌ لبيان المرض الذي يباح التيمّم لأجله، فإذا مرض الإنسان مرضاً يخاف-لو استعمل الماءَ- على روحه، أو كان يخاف على عضوٍ من أعضائه؛ فإنه يتيمّم مقيماً كان أو مسافراً، وإذا برأ، لم يُعد صلاةً منها.
ولو كان يخاف-من استعمال الماءِ- مرضاً، ثم لو فرض وقوع ذلك المرض، لكان مخيفاً، ففي جواز التيمم قولان: قال العراقيون: نصّ في الأمّ على أنه لا يتيمّم، ونصّ في القديم على أنه يتيمّم، قالوا: قال أبو العباس، والإصطخري: يجوز التيمّم قولاً واحداً. والمذكور في الأم محمول على ما إذا كان لا يخاف مرضاً، وهذا هو الصحيح؛ فإنه إذا كان يخاف مرضاًً، وذلك المرض مخيفٌ، فهو كما إذا كان يخاف الهلاك.
فإن قلنا: يتيمّم من يخاف مرضاًً، فلو كان يخاف لو استعمل الماء إبطاءَ بُرءٍ، أو شدةَ وجعٍ، فعلى هذا القول وجهان، وقد ذكر العراقيّون خوفَ المرض، وشدةَ الوجع، وإبطاءَ البُرْء في قرَنٍ، وطردوا القولين على الترتيب الذي ذكرناه، وعندي أنهم فهموا من إبطاء البُرْء، وشدة الوجع، المرضَ المخوف؛ فأجْرَوْا الكلامَ في الجميع مجرىً واحداً. والذي نحققه من الطرق يحويه الترتيبُ الذي ذكرته.
243- والوجه ذِكْرُ القولين كما قدّمنا فيه إذا كان يخاف مرضاًً مخيفاً، ثم ذكر الوجهين في إبطاء البرءِ وشدّة الوجع على أحد القولين.
وكأن حقيقة الخلاف يؤول إلى أن التيمم هل يستدعي جوازُه خوفَ الهلاك؟ أم يكفي فيه ضررٌ ظاهرٌ؟ وإن لم يكن فيه خوفُ الهلاك، وهذا مأخوذ من التردّد في شدة الوجع وإبطاء البرء، والوجع قد يشتدّ في جرح، وإن كان يبعد إفضاؤه إلى خوف رو، أو عُضوٍ.
244- ومما يتعلّق بهذا أنه لو كان يخاف لو استعمل الماء بقاءَ شَيْنٍ، فإن لم يكن الشَيْن على عضوٍ ظاهرٍ، فلا يجوز التيمم لأجله، وإن كان الشيْن المقدّر بحيث لو بقي، لم يكن قبيحاً، فلا ينتصب عذراً، وإن كان يخاف بقاء شيْن قبيح، على عضوٍ ظاهر، ففيه وجهان، ذكرهما العراقيون، وأشار إليهما شيخي، وهذا ملحق بما قدمّناه.
245- ومن تمام الكلام في هذا: أنه لو كان يخاف سقوطَ منفعةٍ من منافع عضوٍ مع بقاءِ منافع، فالظاهر عندي القطع بجواز التيمم؛ فإن سقوطَ منفعةٍ من المنافع، كسقوط أنملةٍ، أو إصبع من يدٍ، فهذا عذرٌ وفاقاً، وإن كان معظم منفعة اليد تبقى، عند سقوط أُنملةٍ وإصبع.
فهذا منتهى القول في ذلك.
246- وقد عنّ لي أن أجمع قول يتعلّق ببيان الحاجات والضرورات في الأحكام المختلفة: فمما يتعلق بالضرورة أكل الميتة، وتعاطي مال الغير، ومنها جواز الإفطار بعذر المرض، ومنها جواز القعود في الصلاة المفروضة:
فأما أكل الميتة، وطعام الغير من غير إذنٍ منه وإباحةٍ، فسيأتي تحقيق القول فيه في موضعه. ولكن أصل المذهب أنه يُشرط في جواز ابتداء الإقدام على أكل الميتة، وطعامِ الغير خوفُ الروح، والسبب فيه أنه تحليل محرّمِ، وقد علّقه الله تعالى بالاضطرار، قال الله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة: 3]
وأما الإفطار بعذر المرض في الصوم المفروض، فلا يشترط فيه خوفُ الروح، ولا الخوفُ على فساد عضوٍ، والدليل عليه أن الإفطار جائز للمسافر الأيد القوي، لما يناله من مشاقّ السفر، ولما يتخلّف عنه من إمكان تهيئة المطاعم.
والمرض مقرون بالسفر؛ فلا يخفى على الفطن أن المرض المقرون به لا يشترط فيه خوف الهلاك، ولا يشترط أيضاً إفضاء الصوم إلى مرض مخيفٍ.
فإذا ثبت ذلك، فنقول: لا نكتفي أيضاً بما يسمى مرضاً، خلافاً لأصحاب الظاهر، فما ذكره الأصحاب فيه: أنه إن كان يخاف ضرراً ظاهراً، أو كان يزداد بالصوم، ولو أفطر، لوقفَ، أو خف، فإنه يُفطر، وهذا لا يُحصٍّل ضبطاً يُرجَع إليه.
247- وسأزيد فيه مباحثة، ثم أذكر الممكن في الضبط والترتيب، فأقول: الصوم إذا بلغ بالمكلف شدة الجوع والعطش، وكان لا يخافُ مرضاً، فيجبُ احتمال هذا الجهد؛ إذ الصومُ في نفسه ضررٌ ظاهر، وقد يؤدي أيضاً إلى اختلالِ في البنية، سيّما في حق النحفاء الممْرورين فالضرر الظاهر أيضاً لا يُبيّن المقصود، وفي الإضراب عن التقريب توريط المرضى في خوف الهلاك؛ فإنهم إذا علموا أنه لا يكتفى باسم المرض، واعتقدوا أن الصوم لا يترك إلا بثَبَت، فقد يصابرون إلى الإشفاء على الموت.
فالوجه في ذلك، أن المرض الذي يُفطَر لأجله مما يعمّ؛ إذ الصوم يعمّ المتمكنين، والمرض يُعدّ من الأعذار العامة في هذا الباب وفاقاً، كما أن عدم الماء في السفر يعد عذراً عاماً، وكل عذر نيط به تخفيفٌ، فلا يشترط فيه الانتهاء إلى خوف الهلاك، لسرٍّ خطيرٍ، نبهت عليه في الكتاب المترجم (بالغياثي) وهو: أن الحرام لو عم في الزمان وعدِم الحلال، فلا نقول بتوقّف جواز الإقدام على الطعام على الضرورة التي تُشترط في استحلال الميتة؛ إذ لو شرطنا ذلك في حق الناس كافةً، لانقطعوا عن مكاسبهم ومعايشهم، ولانقطع بانقطاعهم الحِرفُ وأسبابُ بقاء العالمين، فالمرعيُّ إذاً والحالة هذه حاجةٌ لو تركوا الأكل عندها، لخيف أن ينقطعوا عن تصرُّفاتهم؛ فإن الحاجة في حق الكافة، تنزّل منزلة الضرورة، في حق الواحد.
ومن أراد شرح الفصل، فليطلبه من ذلك الكتاب.
248- فنقول الآن: إذا كان المرض مما يعدّ عذراً عاماً، فالتقريب فيه أن كلَّ مرض يمنع من التصرف مع الصوم يجوز الإفطار بسببه، وهو المعني بالضرر الظاهر الذي ذكره الأصحاب. وهذا لطيفٌ حسن؛ فإنه جاز الإفطار لأجل السفر، حتى لا يتعذر على طوائف يُكثرون التقلب في أسفارهم.
فإن قيل: قد يتعذر بنفس الصوم-من غير مرضٍ- التصرّفُ. قلنا: هذا يندُر في آحاد الناس؛ فإن أغلب الناس الذين يتأتى منهم التصرف، لا يمتنع عليهم التصرف بالصوم نفسِه.
والذي يحقق هذه اللطيفة أن السفر مُتعب، فقد يظهر أن نفس الصوم مع ضرورة الحركة، يمنع من تصرفات المسافرين؛ فلهذا أبيح للمسافرين الفطرُ، من غير مرض ينضمّ إليه، فالمرض المانع من التصرف في الإقامة، كالسفر مع الصوم.
فهذا أقصى الإمكان في ذلك.
249- فأما العذر الذي يجوز القعود لأجله في الصلاة المفروضة، فقد أجمع الأصحابُ على أن الضرورة ليست معتبرة فيه، ومن أطلق العجز عن القيام، لم يَعْنِ به عدمَ تصوّر القيام، فالذي اعتلقه حفظي من شيخي أن الصلاة لا تُعنى لصورتها، وإنما المقصود الظاهر منها تجديد العهد مراتٍ في اليوم والليلة بذكر الله تعالى، ثم حرم الكلام في الصلاة، وحرم الفعل الكثير، وأُمر المصلي بالاستداد في صوب القبلة وكل ذلك لجمع أسباب حضور القلب، والإكبابِ على الذكر، وقطع الملهيات.
فإذا كان المقصود ما ذكرناه، والضرورة ليست شرطاً وفاقاً، فأقربُ معتبر فيه أن يقال: إن كان المرض بحيث لو قام المريض، لألهته الآلام عن ذكر الله تعالى، وهذا إنما يكون عند شدّة الألم، فيقعد حينئذٍ، فهذا هو التقريبُ في ذلك.
فمن وجد مأخذاً أقرب وأضبط من هذا، فليلحقه بالكتاب. والله أعلم بالصواب.
فصل:
250- إذا عم العذرُ البدنَ في الغُسل، أو جميعَ أعضاء الوضوء، انتقل المعذور إلى التيمم، كما سبق التفصيل، وإن تبغض العذر والصحة، فكان بعضُ البدن صحيحاً، وبعضه جريحاً، فيجبُ غَسْل الصحيح، والتيمم عن الجريح.
هذا أصل المذهب.
251- ولو وجد الرجل من الماء ما لا يكفيه لتمام طهارته، ففي وجوب استعمال ما وجد من الماء قولان سنذكرهما:
أحدهما: أنه يجب استعمال الموجود، والتيمم عن باقي المحل.
والثاني: أنه يقتصر على التيمم، ولا يجب استعمال ما وجد من الماء.
ومن أصحابنا من خرّج تبعّض العذر والجرح في البدن على القولين في تبعّض الماء: أحد القولين: أنه يغسل الصحيح، ويتيمم عن الجريح.
والثاني: أنه يقتصر على التيمم، ولا يلزمه غسل الصحيح.
وهذا بعيدٌ، والأصح الذي ذهب إليه الجمهور القطعُ باستعمال الماء في الصحيح، والتيمم عن الجريح.
والفرق بين هذا وبين وجدانه ما لا يكفي من الماء، أن العذر فيمن بعض بدنه جريح في المحل والبدن، ولو قطعت يدُ الرجل، لم يسقط فرض الوضوء عن وجهه، ورأسه، ورجليه. فإذا كان سقوط اليد لا يُسقط فرض بقية الأعضاء، فاعتلال اليد كيف يُسقطه.
فإن قيل: إذا سقط اليد، فليس عنها بدل، وإذا اعتلّت، وجب التيمم، والجمع بين البدل والأصل مستنكر.
قيل: التيمم بدلٌ عن اليد العليلة، ووجوب الغسل قارٌّ في الأعضاء الصحيحة.
فأما إذا وجد من الماء ما لا يكفيه لتمام الطهارة، فالفرض ثابت في جميع البدن على وجهٍ واحدٍ، فتأدية ذلك الفرض المتَّحد من وجهين، قد يضاهي إعتاق نصف رقبة، وإطعامَ خمسةٍ من المساكين في كفّارة اليمين.
ثم إذا ثبت أن الأصح غَسلُ الصحيح، والتيمم عن محل العذر، فلا فرق بين أن يكون المعظمُ جريحاً، أو على العكس، أو يستويان، ولا يختلف ترتيبُ المذهب بالقلة والكثرة، وإنما نظر إلى القلّة والكثرة أبو حنيفة.
252- ثم الكلام في هذا الفصل يتعلق بمن به جرح، وبمن ينخلع عضو منه، فتلقى عليه الجبائر.
فلتقع البداية بصاحب الجبيرة، ثم نذكر بعده حكم الجريح، ونحرص على تفصيل الصور؛ فإنها قد تلتبس.
فأما إذا انخلع عضوٌ، أو انكسر ومسّت الحاجةُ إلى إلقاء جبائر عليها، ليتقوم أو ينجبر، فإيصال الماء إلى ذلك العضو قبل إلقاء الجبائر غير مضرٍّ، فالوجه أن تلقى الجبيرة على طُهرٍ كامل، كما يلبس الخف على وضوء كاملٍ.
ثم لا ينبغي أن يعدو بالجبائر موضعَ الكسر والخلع، وقد تمس الحاجة إلى أخذ مقدارٍ من الصحيح المحيط بموضع الكسر، لاستمساك الجبائر، فلا بأس بأخذ ذلك المقدار للحاجة، ولا ينبغي أن يتعدى من موضع الحاجة، ثم يغسل الصحيح من أعضائه، ويمسح على الجبيرة.
وفي المسح مسائل نذكرها، ثم نذكر حكم التيمم، ثم نرمز إلى حكم إعادة الصلاة.
253- فأما مسحُ الجبيرة بالماء، فواجبٌ، لا اختلاف فيه. واختلف الأئمة في أنه هل يجب استيعابُ الجبيرة بالمسح؟ فقال بعضهم: لا يجب ذلك، بل يكتفى بما يسمى مسحاً كالخف؛ فإن المفروض من مسحه ما ينطلق عليه الاسم.
وقال آخرون: يجب الاستيعاب؛ فإن مسح الجبائر أقيم مقامَ غَسل ما تحته؛ فيجب استيعاب الساتر، وليس هذا كالمسح على الخفّ؛ فإنه أثبت رخصة، وتخفيفاً مع القدرة على غَسل القدم؛ فكان الاقتصار على مسح بعض الخف لائقاً به، والمسح على الجبائر ثابت للضرورة؛ فيجب فيه الإتيان بالممكن من الاستيعاب.
ومما يتعلق بذلك أن المسح على الخف متأقت بيومٍ وليلةٍ في حق المقيم، بثلاثةِ أيام ولياليهن في حق المسافر سفراً طويلاً. وهل يتأقت المسح على الجبائر؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يتأقت كالمسح على الخف.
والثاني: لا يتأقت؛ فإن التأقيت ثبت في المسح على الخفين بتوقيفٍ، به نطق الخبر الصحيح، وأما المسح على الجبائر، فلم يرد فيه تأقيت، والسابق إلى الفهم أن مداه و منتهاه البرء.
وهذا الاختلاف إنما يثبت إذا أمكن رفع الجبائر ووضعُها، من غير خلل يعود إلى العضو، فأما إذا كان رفعُ الجبائر يُخل بالعضو، فلا خلاف أنه لا يجب رفعه، وتصوير الخلاف فيه إذا كان يتأتى النزْع والرفع بعد انقضاء كل يوم وليلةٍ، وقد يكون كذلك.
فإن كان يتأتى نزعُه في أي وقت قدِّر وفُرض من غير خلل، فلا يجوز المسحُ، ولكن يجب نزعُ الجبائر وغسل ما تحتها، مهما توضّأ صاحب الواقعة.
فهذا ما أردنا ذكره في المسح على الجبيرة.
254- فأما التيمم، فإذا مسح على الجبيرة الملقاة على عضوٍ من أعضاء الطهارة، فهل يجب التيمم مع هذا؟ فعلى وجهين: أصحهما- وجوب التيمم؛ فإن المسح لم يقم مقام ما تعذر من الغَسل، فيثبت التيمم؛ فإنه الغاية المطلوبة، عند تعذر الأصل في الطهارة.
وقد أوضحنا أن ما نحن فيه ليس من قبيل الرخص المحضة، كالمسح على الخفين؛ فإن ذلك ثبت مع القدرة على غسل الرِجل. فلو كنا نبغي ثمة غايةً، لكُنَّا نوجب غَسل القدمين. فأمّا ما نحن فيه الآن، فالمرعيّ فيه الضرورة، وتحقق العجز، فالذي يليق بذلك أن نوجب أقصى الإمكان عند تعذر الأصل.
ومن أصحابنا من لم يوجب التيمم مع المسح على الجبيرة، وقال: في إيجابه جمعٌ بين بدلين مختلفين عن بدلٍ واحدٍ، وذلك بعيدٌ.
255- وهذه الفروع التي نجريها منشؤها، إما من ملاحظة أحكام الرخص، كالمسح على الخفين، فإذ ذاك نكتفي بأقل المسح، ولا نوجب التيمم، وقد نرى تأقت المسح إن أمكن النزع والإعادة كما سبق، وقد نرى القطعَ عن الرخص، فنبغي أقصى الممكن، فنوجب استيعابَ الجبيرة بالمسح، ونوجب معه التيمم كما ذكرناه، ثم متى لم نوجب الجمعَ، تعيّن المسحُ على الجبائر.
256- ثم إذا أوجبنا الجمع بين المسح والتيمم، فلو كانت الجبيرة على اليد مثلاً وقد مسحها بالماء، فإذا أخذ يتيمم، فمسح بالتراب وجهه، ومسح من يديه ما هو ظاهر، فهل يمسح على الجبيرة بالتراب؟ فعلى وجهين، ذكرهما شيخي في هذا الموضع:
أحدهما: أنه يمسحها بالتراب، كما مسحها بالماء.
والثاني: ليس عليه مسحُها؛ فإن التراب حكمه ضعيف، فلا يعمل على حائل بينه وبين البشرة. وسنذكر لفظةَ الشافعي في هذا في آخر الفصل.
257- ثم نشير الآن إلى إعادة الصلاة في هذا الفصل على الخصوص دون غيرها، فإن تحقيق القول في إعادة الصلاة نجمعه في فصلٍ مفردٍ، بعد هذا، على وجهٍ لا يبقى معه غموض إن شاء الله تعالى.
فترتيب الشافعي في الجديد أن صاحب الوثء والخَلع إن ألقى الجبيرة على غير وضوء كامل، فإذا برأ، لزمه القضاءُ قولاً واحداً.
وإن أكمل الوضوءَ، ثم ألقاها، ففي وجوب القضاء قولان.
وترتيبه في القديم أنه: إن ألقاها على وضوءٍ كامل، وفعل ما أمرناه، ثم بَرَأ، فلا قضاء عليه، وإن ألقاها على غير وضوءٍ، ففي القضاء قولان، فيحصل من ترتيب الجديد والقديم ثلاثة أقوال: أحدها: وجوب القضاء عموماً.
والثاني: نفي وجوبه عموماً.
والثالث: الفصل بين أن يُلقيها على طهرٍ، أو على غير طهر، كما ذكرناه.
258- وقال شيخي: قد حصل مما ذكرناه اختلاف قولٍ في أنّا هل نوجب تقديم الطهر على الإلقاء؛ فإن من لم يوجب القضاء، وإن لم يتقدم طهر كاملٌ، فقد صرح بأن تقديم الطهر غيرُ واجب، وهذا بيّنٌ بأدنى تأمّلٍ. ثم من يوجب تقديم الطهر يقول: إن ألقاها دون تقديمه، نُظر، فإن كان لا يضر النزع والتطهر، وإعادة الجبائر، فعل ذلك. وإن كان يضر النزع، فعل ما نأمره، ثم قضى.
259- ومما يتعلق بالفصل تفصيل القول في ترتيب التيمم، وغسل المقدور عليه، فنقول: إن كان الطهر الذي اشتغل به غُسلاً، ففي المسألة وجهان: أصحهما- أنه لا يجب رعاية الترتيب، فإن شاء أوصل الماءَ إلى ما يقدر عليه من بدنه أولاً، ثم يتيمم، وإن شاء تيمم أولاً، ثم استعمل الماء غُسلاً ومسحاً على الجبائر؛ وذلك أن سبب التيمم علة كائنة ببدنه، وهي متحققة لا شك فيها، وليس كما إذا وجد من الماء ما لا يكفيه لتمام طهارته، وقلنا: إنه يستعمله، فإنه يتعين عليه استعمالُ الماء أولاً؛ إذ سبب التيمم ثَمَّ عدم الماء، ولا يتحقق عدمُ الماء ما لم يستعملْه.
والوجه الثاني- أنه يجب تقديم الغسل أولاً؛ فإنه الأصل كما ذكرناه فيمن وجد ما لا يكفيه من الماء.
هذا إذا كان الطهر غُسلاً.
فأما إذا كان وضوءاً، وكانت العلة باليد مثلاً، ففي ترتيب الغسل والتيمّم ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنه لا ترتيب أصلاً، والخِيَرةُ إليه، فإن شاء قدّم التيمم، وإن شاء أخّره، وإن شاء وسّطه.
والثاني: أنه يقدم من الوضوء ما يقدر عليه، وينهيه نهايته، ثم يتيمّم.
والثالث: أنه يرعى ترتيبَ الوضوء، فيغسل وجهه، وما يقدر عليه من يديه، ثم يتيمم، ثم يمسح برأسه، ويغسل رجليه؛ فإن التيمم بدلٌ عما تعذّر في اليدين، فليأت به حتى يكون مقيماً فرض اليدين أصلاً وبدلاً، ثم ينتقل إلى فرض الرأس؛ فإن الترتيب مستحق في الوضوء.
ثم تجديد التيمّم لابد منه لكل فريضةٍ. ورأيت الأصحاب مجمعين على ذلك، وعلى أنه لا تجب إعادةُ الوضوءِ، وهذا وإن كان يتطرق إليه احتمال، فهو متَّفَق عليه.
هذا تفصيل القول في صاحب الجبائر.
260- فأما من به جرحٌ، فإن أَلقى عليه لصوقاً، فهو كالجبيرة في كل ترتيبٍ ذكرناه حرفاً بحرفٍ، وفيه زيادة، وهي أنه إذا كان عليه دمٌ، فيتأكّد فيه وجوب قضاء الصلاة من جهة الدم؛ فإن الدم لم يزل، ولم يقع عن إزالة النجاسة بدل، والعذر نادرٌ لا يدوم، وسنستقصي هذا في الفصل الجامع لأحكام القضاء إن شاء الله تعالى.
وإن كان الجرح بحيث لا يحتمل أن يُغطى بلصوق وعصابةٍ، فليس إلا غسل المغسول، والتيمم بسبب العجز عن غسل الجرح، ولا يجب مسح الجرح بالماء، وإن كان لا يضر ذلك وإنما يضر الغسل؛ فإن هذه الأشياء لا يجول فيها القياس، ومسح العصابة والجبائر مما ورد به الأثر والخبر، وأما مسح ما يتعذر غسله، فلا أصل له.
وإن كان يتمكن من إلقاء شيء على الجرح، فهل يجب عليه أن يلقيه للمسح عليه؟ كان شيخي يقطع بأنه يجب إلقاء حائل على الجرح، إذا أمكن لإقامة المسح؛ فإنه لو ألقاه، لوجب المسح عليه بدلاً عما تعذّر من الغسل، فيجب التسبب إليه إذا كان ممكناً، ولم أر هذا لأحدٍ من الأصحاب، وفي إيجاب إلقاء حائلٍ ليمسح عليه بُعدٌ، من حيث إنه لا يُلفى له نظير في الرخص، وليس للقياس مجالٌ في الرخص، ولو اتُّبع، لكان أولى شيء وأقربُه أن يمسح الجرحَ عند الإمكان، فإذا كان لا يجب ذلك وفاقاً؛ فإيجاب إلقاء خرقة لأجل المسح لا نظير له في الرخص.
وقد يترتب على ذلك مسألة، وهي أن من كان على طهارةٍ كاملةِ، وقد أرهقه حدثٌ، ووجد من الماء ما يكفي لوجهه و يديه ورأسه، ونقص عن رجليه، ولو لبس الخف، لأمكنه أن يمسح على خفّيه، فهل يجب عليه أن يلبس الخف، ثم يمسح بعد الحدث على الخف؟ قياس ما ذكره شيخي إيجاب ذلك، وهو بعيدٌ عندي والله أعلم.
ولشيخي أن ينفصل عما ذكرته في المسح على الخف بما سبق، وهو أنه رخصة محضة، فلا يليق بها، إيجاب لبس الخف، وما نحن فيه من مسالك الضرورات، فيجب فيه الإتيان بالممكن، ومن الممكن إلقاء خرقةٍ يمسج عليها. والله أعلم.
ونحن الآن نرسم فروعاً اختلف أئمتنا فيها، ثم نعقد الفصل الموعود في قضاء الصلوات.
فرع:
261- العاري لو صلى قائماً، وأتمّ الركوع والسجود، لكان متناهياً في التكشف، ولو قعد وأومأ، لكان مخلاً بالأركان، ففي كيفية صلاة العاري وجهان مشهوران:
أحدهما: أنه يتم الركوع والسجود والقيام؛ فإن الصلاة هي العبادة المقصودة، والشرائط تجب لها، فلا ينبغي أن يُخل بالأركان رعايةً لشرطٍ، ثم العري لا يزول كله بالقعود.
والثاني: أنه يصلي قاعداً، ويومىء بالركوع والسجود، وليس ذلك لرعاية الستر، وإنما هو لتحسين هيئة الصلاة على حسب الإمكان، ومن تمسّك بوجه من هذين الوجهين، يُبطل الصلاة على الوجه الآخر.
262- وكان شيخي يحكي وجهاً ثالثاً في هذه الصورة، وفي كلّ فرعٍ مما يليها، مما سنذكره. وهو أنه يتخير في إقامة الصلاة على الوجهين جميعاًً.
وقيل: هذا مذهب أبي حنيفة، ووجهه تعارض الأمرين، وتقابل الأصلين، ولابد من احتمال اختلالٍ في الوجهين جميعاًً.
ولما ذكرناه نظائرُ، منها أنه لو كان محبوساً في موضعٍ نجس، والنجاسة يابسة، فإنه يصلي، وهل يضع جبهته على الأرض أو يُدنيها؟ فعلى الأوجه الثلاثة. وكان يخصص الخلاف بالنجاسة اليابسة، ويقطع في الرطبة بأنه لا يضع جبهته، وغيره لم يفصلوا، بل أطلقوا، ووجه فصله أن النجاسة الرطبة تعلق بالجبهة، فيصير حاملاً للنجاسة ومصلِّياً معها.
فمن رأى إتمام السجود قال: إنه ركن، وهو أولى بالمراعاة، ومن قال يُدني، قال: قد يسقط الفرض عن المريض بالإيماء، ولا يسقط الفرض مع النجاسة، على ما سنذكره في فصل القضاء.
وفي هذا تلبيس سأذكره.
والنص فيما نقله العراقيون يُشير إلى الاقتصار على الإيماء.
263- ولو كان محبوساً في موضع نجسٍ، ومعه إزارٌ طاهرٌ إن فرشه يعرى، وإن اتَّزر به، صلى على نجاسة، ففيه الأوً جه الثلاثة: أحدها: أن العري أولى؛ فإن في الناس أمماً يصلون عراةً، ولا قضاء عليهم لو اكتسَوْا، والثاني: الستر أولى؛ فإنه يجب عموماً في الصلاة وغيرها، فكان أولى بالمراعاة، ولا يخفى وجه التخيير في الصور.
ولو كان معه إزار نجسٌ، ولو ألقاه، لصلى عارياً، ولو تستر به، لكان حاملاً للنجاسة، ففيه الأوجه المقدمة.
فصل:
264- مِن أغمض ما اختبط فيه نقلةُ المذهب، تفصيل القول فيما يجب قضاؤه من الصلوات المختلة، ومالا يجب قضاؤه، وذكر مواقع الوفاق والخلاف، وقد استاق صاحبُ التقريب في ذلك ترتيباً يحوي معظم الطرق، فنتخذه أصلاً، ونُلحق به ما يشذّ عنه إن شاء الله تعالى.
فإذا اختلّ شرط من شرائط الصلاة، أو ركن من أركانها في ضرورةٍ أو حاجةٍ، نظر، فإن كان وجوب ما اختل لا يختصّ عند التمكن بالصلاة كستر العورة، فإذا لم يجد الرجل ما يستر به عورته، فصلّى عارياً، فقد أطلق صاحب التقريب أن الصلاة لا تجب إعادتها، من حيث إن الستر ليس من خصائص الصلاة، ولهذا ذهب مالك إلى أن من صلى عارياً مع القدرة على الستر، لم تلزمه الإعادة، كمن يصلي في دارٍ مغصوبة.
ونحن نرى أن القضاء يجب لورود الأمر بالستر على الاختصاص بالصلاة، قال الله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] قيل: أراد سترَ العورة.
وكان شيخي يفصل القول في صلاة العاري تفصيلاً لابد منه، وساعده عليه كثير من الأصحاب، فيقول: إن صلّى عارياً في قومٍ يعمّ العريُ فيهم، فلا قضاء عليه، إذا تحول واكتسى. وإن اتفق العريُ نادراً في ناحية يندر ذلك فيها، فهذا يفرّع على أن العاري يُتم الركوع والسجودَ، أم يومىء؟ فإن قلنا: يتم، فظاهر المذهب أنه لا يجب القضاء، كما ذكره صاحب التقريب، ومن أصحابنا من أوجب القضاء؛ للندور، وعدم الدوام. وإن قلنا: يومىء، فالأصح أن القضاء يجب؛ فإنه اختلّت أركان الصلاة بأعذارٍ نادرةٍ لا تدوم.
وفي المسألة وجهٌ آخر، أن القضاء لا يجب، وسنبين أصله في أثناء الفصل.
والذي أراه أن العري إذا عمّ في قومٍ كما ذكرناه، فالوجه القطع بأنهم يُتممون الركوع والسجود؛ فإنهم يتصرفون في أمورهم لمسيس الحاجة عراةً، فيصلون كذلك، ولا يقضون، وجهاً واحداً.
فهذا مما لا يختص وجوبه بالصلاة.
265- فأما ما يختصّ وجوبُه بالصلاة، كطهارة الحدث، وإزالة النجاسة، وكالأركان في أنفسها، فإذا تطرق الخلل إلى شيء منها، لم يخل: إما أن يكون بعذر عام، أو بعذرٍ خاص، فإن كان السبب عذراً عاماً، فأدى المرء ما كلِّف في الوقت، فلا قضاء عليه. وألحق الأئمة بذلك قعودَ المصلي في الفرض بعذر المرض؛ فإن المرض الذي يجوز القعودُ لأجله يعمُّ إذا أضيف إلى جملة الناس، على ما قربنا القولَ فيه. وعُدَّ من هذا القسم التيمّمُ في السفر، عند إعواز الماء؛ فإن ذلك مما لا يندر.
وفي هذا القسم مزيد مع العموم، وهو أنه إن اختل الوضوء، أثبت الشرع عنه بدلاً، وهو التيمم، فقام في محلّه مقام المبدل.
266- فأما إذا كان العذر الذي هو سبب الاختلال نادراً، فهذا ينقسم قسمين:
أحدهما: أنه يكون بحيث يدوم غالباً، وإن كان نادراً.
والثاني: أن يكون نادراً غير دائم، فإن كان نادراً يدوم كالاستحاضة، وسلسل البول، واسترخاء الأُسْر، ونحوها.
فكل اختلال جرّه هذا الفن، فهو معفوٌّ عنه.
ثم لا فرق بين خللٍ اقتضى بدلاً، وبين ما لا بدل له أصلاً؛ فإن المستحاضة وإن كانت تتوضأ لكل صلاةٍ مفروضة، فليس للنجاسات الدائمة إزالة، ولا بدل عنه، ولكن لا خلاف في العفو.
267- فأما العذر النادر الذي لا يدوم، فإذا تضمن خللاً، لم يخْلُ إما أن يكون خللاً مع بدلٍ، أو لم يكن بدل، فإن كان البدل ثابتاً، كما إذا اتفق عدمُ الماء في بلدة، بأن غارت العيون، وانقطعت المياه، فهذا يندر ولا يدوم؛ فإن أهلها يتحولون ويسعَوْن على البدار في إنباط الماء، ثم يتيممون ويُصلون، فإذا وجدوا الماء، فهل يلزمهم القضاءُ؟ فعلى قولين مشهورين.
وكذلك إذا أصاب المسافرَ بردٌ وكان جنباً، ولم يتمكن من تسخين الماء الموجود، ولا من ثياب تُدفئه، ولو استعمل الماء البارد، لخاف على نفسه، فإنه يتيمّم، وفي وجوب القضاء قولان.
ويندرج تحت ذلك القضاء على صاحب الجبائر؛ فإن ذلك العذر نادرٌ لا يدوم.
وقد أثبت الشارع عما تعذر من الغسل بدلاً كما سبق وصفه، فلا جرم اختلف القول في القضاء.
وكان شيخي يقول: قال الشافعي: "إن صحّ ما روي عن علي رضي الله عنه أنه كان انكسر زنده؛ فالقى عليه الجبيرة، وكان يمسح عليها، فلم يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقضاء الصلوات "؛ فإنقطع بإسقاط القضاء.
وهذا توقف منه في صحة الحديث.
268- فأما إذا كان العذر نادراً غير دائم، وكان الخلل إلى غير بدل، فظاهر المذهب إيجاب القضاء، وهو كما لو عدم الماء والتراب؛ فإن فقدان غبرة تثور نادر جداًً غيرُ دائم.
فإذا صلى على حسب الإمكان، ثم وجد طهوراً، فالذي يوجد منصوصاً للشافعي القطعُ بإيجاب القضاء؛ لندور العذر، ولانتفاء البدل، وعدم الدوام.
ومذهب المزني أن كل من صلى على حسب ما أمر في الوقت، لم يلزمه القضاء أصلاً، طرداً للقياس.
ثم ظاهر مذهب الشافعي أن وقت الصلاة لا يصادفُ عاقلاً قط إلا يلزمه إقامة الصلاة على حسب الإمكان، وإنما يسقط فرضيةُ الصلاة بسقوط التكليف، أو بالحيض في حق المرأة. وهذا هو مذهب المزني. ثم قال المزني مع اعتقاده ذلك: "من أقام الصلاة في الوقت على حسب الإمكان، لم يلزمه القضاء أصل "
وقد أضاف كثير من أئمتنا في الطرق هذا القول إلى الشافعي، وسنذكر من كلام الشافعي في آخر الفصل ما يدل على هذا. إن شاء الله
269- ومن التبس عليه القبلة، ولم يتمكن من الاجتهاد، ولم يجد من يققده، فيصلي على ما يظنه، ويلزمه القضاء.
وقال المزني: لا قضاء عليه. وهو معزِيٌّ إلى الشافعي على بعدٍ.
وقال أبو حنيفة: كل صلاةِ لو أقيمت على صفةٍ وجب قضاؤها، فلا يجب إقامة تلك الصلاة في الوقت أصلاً. وهذا أضيف إلى الشافعي قول أيضاً. وفي كلام الشافعي ما يدل عليه، كما سنذكره، وإذ ذاك نُنبّه على سرٍّ إن شاء الله تعالى.
270- ومما يلحق بهذا القسم أن من صلى وعلى جرحه دم، فالدم ليس عنه بدل. فإذا كان العذر نادراً، غير دائم، فالظاهر القطعُ بوجوب القضاء إلحاقاً بما ذكرناه، وفيه الخلاف المذكور في نظائره.
قال صاحب التقريب: العذر الذي يترك المصلي القيام فيه يعدّ من الأعذار العامّة، والعذر الذي يصلي بسببه مضطجعاً من الأعذار النادرة، ولكنها إذا وقعت، دامت في الغالب، فلا قضاء على صاحب هذا.
271- ولا يخرج عن هذا الضبط الذي ذكرناه إلا الصلاة في شدة الخوف والمسايفة، كما سيأتي وصفها؛ فإنه اختلالٌ ظاهر، في الأفعال، والأركان، وسببه عذرٌ نادر لا يدوم، ثم لا يجب القضاء قول واحداً، وذلك رخصة مستثناة عن القواعد، متلقاةٌ من نص القرآن، قال الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239].
272- ثم نختم الفصل بأقوالٍ حكاها معظم النقلة، واختص بدرك معناها خواص الفقهاء، وهي أن من أقام صلاة في الوقت على اختلالها، مع بذل الإمكان، ثم أمرناه بالقضاء، فقضاها، فالواجب من الصلاتين أيتهما؟ فعلى أربعة أقوال:
أحدها: أن الواجبة هي الأولى.
والثاني: أن الواجبة هي الثانية.
والثالث: أنهما جميعاًً واجبتان.
والرابع- أن الواجبة إحداهما لا بعينها.
قال صاحب التقريب: إن قلنا: إن الواجبة هي الأولى، فهذا عينُ مذهب المزني؛ فإن الثانية قضاءٌ، فإذا لم تجب، فقد انتفى وجود القضاء صريحاً.
وإن قلنا: الواجبة هي الثانية، فهذا تصريح بأن إقامة الصلاة في وقتها لا يجب كما حُكي عن أبي حنيفة.
وإذا قلنا: هما واجبتان، فهذا جريان على ظاهر المذهب في إيجاب أداء حق الوقت، مع إيجاب القضاء.
وإذا قلنا: الواجبة إحداهما لا بعينها، فيجب حمل هذا على وجوب إقامتهما جميعاًً، حتى يتأدى بإقاتهما المفروضة منهما، كمن نسي صلاة من صلوات لا يدري عينَها؛ فإنه يلزمه قضاء الصلوات.
ويجوز حمل هذا القول على أن القضاء لا يجب؛ فإن من صلى منفرداً، ثم أدرك جماعة، فصلى مرةً أخرى، فقد قال الشافعي في قولٍ: إن المفروضة إحداهما لا بعينها، وإن كان لا يجب الإقدام على الصلاة الثانية المقامة في الجماعة.
فهذا ما وعدنا التنبيه عليه.
273- وأما السر الذي ذكرناه، فمذهب أبي حنيفة أن الصلاة التي لو أقيمت، لوجب قضاؤها، لا يجوز إقامتها في الوقت، بل يحرم الإقدام عليها مع الخلل، كما يحرم على المرأة إقامة الصلاة في حالة الحيض، وليس هذا مذهباً للشافعي.
وذكر بعض المصنفين أن هذا القول البعيد مثلُ مذهب أبي حنيفة، ومقتضى ذلك المنعُ من الصلاة، وتحريمُ الإقدام عليها، وهذا بعيدٌ جداً.
ثم إذا قلنا: يقيم الصلاة في الوقت، ثم يجب قضاؤها، فالمذهب الظاهر أن ما يقيمه في الوقت صلاة، ولكن يجب تدارك النقص الذي فيها. ولا يتأتى استدراك ذلك النقص وحده؛ فيقيم صلاةً كاملةً عند زوال العذر.
ومن أصحابنا من قال: ما يقيمه في الوقت تشبُّهٌ بالصلاة، كالإمساك عن المفطرات في نهار رمضان، في حق من أفطر عامداً.
وهذا بعيد جداًً؛ لأن النية لا تجب في التشبه بالعبادات، والنية واجبة في الصلاة التي يقيمها في الوقت.
وممكن أن يقال: الممسك في رمضان قد فاته وقت النية، والذي يصلي على النقص بخلافه، فالنية كسائر الأركان التي يأتي تصورّها.
فإن قيل: هلاّ قلتم: الصلاة المقامة في الوقت فاسدة، كالحجة الفاسدة التي يجب المضيُّ فيها؟ قلنا: إيجاب الإقدام على الفاسد محال، وأما التشبُّه، فلا يبعد إيجابه، وإنما وجب المضي في فاسد الحج من حيث إنه لا يتصور التخلّي منه.
فهذا مجموع ما أردناه.
274- ثم مما لا يخفى أن ما وصفناه بالدوام من الأعذار، وربطنا بها إسقاط القضاء، فلو اتفق زواله بسرعة، فهو كالدائم المتمادي، نظراً إلى الجنس، والذي وصفناه بأنه لا يدوم لو اتفق دوامه، لم يلتحق بما يدوم في جنسه، بل حكمه حكم ما ينقطع على قرب، إِلحاقاً لما يشذّ عن الجنس بالجنس.
فهذا تمام القول فيما يتعلق بالقضاء. والله الموفق للصواب.
فرع:
275- قال الصيدلاني: من رُبط على خشبة، فأدركه وقتُ الصلاة. قال: إن كان وجهه إلى القبلة، فصلى على حسب حاله، لم يلزمه القضاء، كما لو مرض، فصلى بالإيماء على جنْبٍ. وإن لم يكن وجهه إلى القبلة، فيلزمه القضاء.
فأما إيجاب القضاء إذا لم يكن وجهه إلى القبلة، فجارٍ على ظاهر المذهب، كما تقدم الكلام في نظائره، وأما قطعه القولَ بإسقاط القضاء عن المستقبِل المربوط، ففيه نظر؛ فإن سبب ذلك عذرٌ نادرٌ لا يدوم، وليس من جنس المرض، حتى يعدّ ملحقاً به.
فرع:
276- إذا ألقى الجبيرة، ثم توهم الاندمال، فبحث، فإذا العذر قائم، فالأصح أنه لا يلزمه تجديدُ التيمم. بخلاف ما لو ظنّ المتيمم العادم للماء أن بالقرب منه ماء، ثم طلب فلم يكن، فإنه يلزمه إعادة التيمم.
والفرق أنه يجب طلب الماء على من ظنه، ولا يجب طلب الاندمال.
ومن أصحابنا من أبطل تيمّم من ظنّ الاندمالَ، ثم أخلف ظنَّه، كالعادم للماء، ومن قال: لا يجب البحث عن الاندمال، عند إمكانه، وتعلّق الظنُّ به، فليس ما قاله نقيًّا عن الاحتمال.
ثم ذكر الشافعي أن المقيم السليم إذا كان واجداًً للماء، فحضرت جنازة، لم يتيمم. وقصد به الردّ على أبي حنيفة؛ فإنه جوّز التيمّم عند خوف فوات صلاة الجنازة، وأنكر الشافعي ذلك، واحتج بفصولٍ ظاهرة ليست من غرضنا.
فصل:
277- إذا وجد المحدث في سفره من الماء ما لا يكفيه لتمام طهارته، فهل يلزمه استعمالُ الموجود، والتيمّم عن المفقود؟ فعلى قولين مشهورين:
أحدهما: أنه لا يجب استعمال الماء، ويقتصر على التيمم؛ فإن الماء أصلٌ، والتيمم بدل، ووجود بعض الأصل بمثابة عدمه أصلاً، اعتباراً بمن وجد نصف رقبةٍ في الكفارة المرتَّبة.
والقول الثاني- يجب استعمال ما وَجدَ من الماء، والتيممُ بسبب الباقي، كما لو سقط بعضُ أعضاء وضوئه؛ فإنه يجب عليه أن يغسل ما بقي منها.
وهذا القول يلتفت توجيهه على جواز تفريق النيّة على أعضاء الوضوء، كما سبق تقريره في تفريع تفريق الوضوء فعلاً، فكأن كلَّ عضوٍ مقصودٌ بنفسه.
وتوجيه القولين مستقصىً في الخلاف.
ثم إن أوجبنا استعمال ما وجده، فلا خلاف أنه يجب تقديم استعمال الماء الموجود أولاً؛ فإن سبب التيمم عدمُ الماء، وهذا لا يتحقق ما لم يستعمل ما وجده.
278- ومما يتفرع أن المتيمم إذا وجد ما لا يكفيه لوضوئه، وعلم مقدارَه، فإنْ كنا لا نوجب استعمالَه، لم يبطل تيممه، وإن كنا نوجب استعمالَه، فيبطل التيمم، فليغسل بما وجده ما قدر عليه، وليجدد التيمم.
وفرّعَ:
279- ابن سريج فرعاً، فقال: الجنب لو اغتسل، وأغفل لمعةً من أعضاء وضوئه ونفِد الماءُ، ثم أحدث، فإنه يتيمم.
فلو تيمّم، ثم وجد ماءً قليلاً، لا يستوعب أعضاء وضوئه، ويستوعب اللمعةَ المغفلة، فإنْ فرَّعنا على أنه يجب استعمالُ الماء القليل الذي لا يستوعب الطهرَ، فيبطل التيمم على ذلك. هكذا قال ابن سريج.
وعلّل بأن قال: لما أحدث، وتيمّم، وقع تيمّمه عن بقية الغسل، وعن الحدث المتجدد، فلما وجد الماء، تعين عليه صرفُه إلى بقية الغسل، فإذا فعل ذلك، فقد بطل تيممه، فإنه كان التيمم عن الغسل والحدث، ثم بطل ما وقع عن الغسل، والتيمم لا يتبعّض في البطلان؛ فلزمت إعادة التيمم بسبب الحدث الذي كان طراً.
فأما إذا فرّعنا على أن الماء القليل الذي نقص عن الطهر لا يجب استعماله، فقد قال ابن سريج: لا يبطل التيمم على هذا القول؛ فإن التيمم من جهة وقوعه عن الحدث لا يبطل على هذا القول، فإن الماء الذي وجده قاصرٌ عن الوضوء، فلا يجب استعماله، ولا يؤثر وجودُه في التيمم الواقع عن الحدث، والغسل قد تم.
280- وهذا عندي غير صحيح؛ فإن التيمم أولاً وقع عن بقية الغسل والحدث، فإن كان لا يبطل بسبب الحدث لو تجرد على هذا القول، فوجب أن يبطل في حق الغسل، ثم لا يتبعض البطلان. ولو كان المعنى الذي ذكره صحيحاً، لوجب ألا يبطل التيمم على القول الأوّل أيضاً؛ فإن الماء القليل وإن أوجبنا استعماله في الوضوء، لو تجرّد الحدث، فإذا فرضنا بقية الغسل، فالماء مستغرق بها، متعيّن لها، وهو في حكم المفقود، في حق الوضوء، فكان يجب ألا يبطل التيمم لذلك، فإذا بطل فعله، لاستحالة التبعيض كما ذكرناه، وجب طردُ البطلان على القولين جميعاً.
وقد حكى الصيدلاني تفريعَ ابن سُريج، ولم يعترض عليه.
فصل:
281- نقل شيخي وبعض المصنفين في المذهب: أن المسافرين إذا نزلوا، ودخل وقت الصلاة، وكان عن يمين المنزل أو يساره ماءٌ لو قصده وحصّله، لم يخَفْ على نفسه وماله، ولم ينقطع عن الرفقة، ولم يخرج وقت الصلاة- أنه يلزمه استعمال الماء، ولا يجوز له أن يصلي بالتيمم.
قال: وقال الشافعي: "لو كان الماء بين يدي المسافر، وهو يمرّ مرّاً، وعلم أنه ينتهي إلى الماء قبل انقضاء الوقت، لو اندفعت العوائق، فيجوز له أن يتيمّم في أول الوقت".
فاختلف أئمتنا في النصّين، فمنهم من قال في المسألتين جميعاً قولان:
أحدهما: يتيمّم في الموضعين سواء كان الماء المستيقن عن جانب المنزل، أو بين يديه؛ فإنه ليس واجداًً للماء في الحال؛ وقد علق الله تعالى رخصة التيمم بفقدان الماء حالة التيمم، وهذا المعنى يتحقق فيمن نزل على غير ماءٍ.
والثاني: لا يتيمم؛ لأنه متمكن من الوصول إلى الماء على يُسرٍ؛ فكان هذا كوجود الماء في الحال.
ومن أصحابنا من أقرَّ النصين قرارهما، وفرّق بأن الماء إذا كان على اليمين أو اليسار، فهو منسوب إلى المنزل، والنازل قد يتيامن ويتياسر وينتشر في حوائجه، ولا يمضي في صوب قصده، ثم يرجع القهقرى، فليس الماء بين أيدي المسافرين منسوباً إليهم، ويشهد لذلك ما روي أن عبد الله بن عمر قفل من سفرةٍ له إلى المدينة، فلما انتهى إلى الحرّة، دخل وقت العصر، فتيمم وصلّى، فقيل له: أتتيمّم وجدرانُ المدينة تنظر إليك، فقال: أو أحيا حتى أدخلها؛ ثم دخل المدينة والشمس حيّة، ولم يقض الصلاة.
فإن قلنا: لا يتيمّم فالمرعيّ فيه الأوصاف التي ذكرناها، وهي الأمن الغالب على النفس والمال، وألا ينقطع عن الرفقة، فإن كان الماء بمكانٍ لو قصده بمركوبه الذي هو عُدّته وعاد إليها، ثم ارتحل القوم، لتقاعدت دابّتُه، فهذا من الانقطاع عن الرفقة، والماء كالمعدوم في هذه الصورة.
ولو لم يكن عليه بأس لو انقطع، ولأمكنه أن ينتهي إلى مقصد نفسه، فهذا فيه عُسر، والاحتمال يتطرق إليه.
282- وإن قلنا: يتيمم، فلو كان الماء على مسافةٍ يجب طلب الماء عند الإشكال منه، فلا شكّ أنه يجب استعماله. وإن كان أبعد من مسافة الطلب قليلاً، فلا يبعد أن يقال: إن كان الماء على مسافة ينتشر إليها النازلون في الاحتطاب والاحتشاش، وينتهي إليها البهائم في الرعي، ولم يكن حائل، فيجب تحصيل الماء المستيقن في هذه الصورة، وهذه المسافة تزيد على مسافة الطلب عند الإشكال.
ثم إذا جوزنا التيمّم عند بعد الماء، فلا خلاف أن الأولى أن يؤخر الصلاة ليصلي بالوضوء، إذا كان الماء معلوماً، فأما إذا كان يرجو الماء في آخر الوقت، وهو يظنّ ولا يستيقنه، فدخل وقتُ الصلاة، فيجوز إقامة الصلاة بالتيمم في أول الوقت وفاقاً، ولكن اختلف القول في الأَولى، فأحد القولين: أن الأولى تعجيل الصلاة بالتيمم؛ فإن هذه فضيلة ناجزة، ووجود الماء مأمول غيرُ مستيقن.
والثاني: أن التأخير أفضل؛ لإقامة الصلاة مع ارتفاع الحدث.
ولو لم يغلب الظن في وجود الماء، فلا خلاف أن التعجيل بالتيمم أفضل، ثم إن عجل الصلاة بالتيمم إما في صورة القولين عند رجاء الماء، وإما في الصورة الأخيرة، ثم وجد الماء قبل انقضاء الوقت، فلا يلزمه قضاء الصلاة أصلاً.
ثم ما ذكرناه من اختلاف القولين في استحباب التعجيل والتأخير فيه إذا كان يقتصر على صلاةٍ واحدةٍ، فإن تيمّم وصلى في أول الوقت، ثم صلى متوضئاً في آخر الوقت، فهو النهاية في إحراز الفضيلة.
ولو دخل أول وقت الصلاة، وكان الرجل يرتقب جماعةً في آخر الوقت، فلا خلاف أن تعجيل الصلاة مع الانفراد أولى، فإن الجماعة فضيلة محضة مرقوبة، والتعجيل فضيلةٌ ناجزة، وليس كالصلاة بالوضوء في آخر الوقت؛ فإن الوضوء عند وجود الماء والتمكن منه واجب، فقابل مظنون لو تحقق، لكان واجباً فضيلةً ناجزةً، فخرجت المسألة على قولين.
فصل:
283- نصَّ الشافعي على أن طائفةً لو انتهَوْا في السفر إلى بئر، وكانت لا تحتمل إلا نازحاً واحداً، فكانوا يتناوبون عليها، فعلم واحد منهم أن النوبة لا تنتهي إليه إلا بعد انقضاء وقت الصلاة، لا يتيمم، ويصبر حتى تنتهي النوبةُ إليه، ثم يقضي الصلاة.
وكذلك نصّ على أنه لو كان بينهم دَلوٌ واحدٌ، وكانت النوبة تنتهي إلى واحدٍ بعد فوات وقت الصلاة، أنه يصبر ولا يبالي بفوات الصلاة.
وكذلك لو كان بين طائفة من العراة ثوبٌ يتداولونه، فعلم واحدٌ أن الصلاة ينقضي وقتها قبل انتهاء النوبة إليه، قال: يصبر، ولا يصلي في الوقت عارياً.
ونص على أن جماعةً لو كانوا في بيت ضيق، أو سفينةٍ، وليس هناك إلا موضع واحد يتأتى فيه القيام في الصلاة، وكانوا يتناوبون عليه، فعلم واحد أن النوبة لا تنتهي إليه في الوقت قال: يصلي قاعداً في الوقت.
وهذا يخالف نصوصَه في المسائل المتقدمة.
284- وقد أُلقيت هذه النصوص على أبي زيد المروزي، وكان من أذكى الأئمة قريحة، فلم يلُح له فرق، ورأى تخريجَ المسائل كلها على قولين:
أحدهما: أنه يصلي في الوقت على حسب الإمكان.
والثاني: أنه يصبر في المسائل كلها، حتى يتمكن من تمام الفرض.
وفرّق بعض الأصحاب بأن أمر القيام أهون، بدليل أنه لا يُشترط في النافلة.
وهذا فاسد، لا مبالاة به، مع القطع بأن القيام ركن في الصلاة.
285- ثم لو صلى بالتيمم في هذا المسائل وهي مفروضة في المسافر، فلا قضاء عليه، والماء كالمعدوم في الوقت.
وكذلك لو ضاق الوقت، ولاح للمسافر الماءُ، ولا عائق، وعلم أنه لو اشتغل به، لفاته الصلاة، فقد نص الشافعي في ذلك أيضاً على مثل ما نص عليه في الدلو والبئر. وهذه الصورة مندرجةٌ في الخلاف، وتصرّف الأصحاب.
ولو فرض ضيق الوقت، وخوف الفوات في المقيم، فلا خلاف أنه لا يتيمم.
وإذا قلنا: يصلي قاعداً، ففي وجوب القضاء احتمالٌ، من جهة أن ذلك عذرٌ نادرٌ، فلنعرض ذلك على القواعد الممهّدة في إثبات القضاء ونفيه، كما سبق في الفصل الجامع.
فصل:
قال: "ولو نَسي الماءَ في رَحْلِه... إلى آخره".
286- المسافر إذا كان في رحله ماء، وقد علمه، ثم نسيه، وتيمّم على أنْ لا ماء معه، فظاهر المذهب أنه يلزمه إعادةُ الصلاة بالوضوء، إذا تذكر.
وقال أبو حنيفة لا تلزمه الإعادة.
وقد خرّج بعضُ الأصحاب قولاً للشافعي، مثل مذهب أبي حنيفة، من قول قديم للشافعي: أن من نسي قراءة الفاتحة في صلاته، صحت صلاته. وأطلق بعضُ العراقيين حكايةَ القولين.
ولو لم يكن في رحله ماء، فأدرج إنسان فيه ماء، من حيث لا يشعر، فتيمم، على اعتقاد أن لا ماء معه، ثم اطلع، فقد ذكر الصيدلاني طريقين، قال: من أئمتنا من جعل هذا كما لو علم الماء، ثم نسيه في رحله.
والطريقة المرضيّة القطع أن لا يلزمه قضاء الصلاة.
وإن كان في رحله ماءٌ فأضلّه، فإن طلبه، فإنتهى في الطلب إلى غلبة الظن في أنه فاقدٌ للماء، ثم تيمم وصلى، ووجد الماء، فهذا خرّجه أئمة المذهب على القولين فيمن اجتهد في طلب جهة القبلة وصلى، ثم تبيّن له أنه مخطىءٌ، ففي وجوب القضاء قولان.
ولو أضلّ رحلَه في الرحال، ثم طلب، ولم يجده، وتيمّم، فهو كما لو أضل الماء في رحله.
ومن أصحابنا من فرَّق بين أن يضل الماء في رحله، وبين أن يُضلّ رحلَه في الرحال، وقال: على من أضل الماء في رحله قضاء، ومن أضل رحله، لم يَقْضِ. وهذا أعدل الوجوه؛ والفرق أن من أضل الماء في رحله، ثم وجده، فالرحل أضبط للماء، من مخيم الرفقة لرحل واحدٍ، وأيضاًً فمن صلى في رحله، وقد أضل الماء فيه، فقد صلى على الماء، ومن صلى، وقد أضل رحله في الرحال، فقد صلى وليس على الماء.
ولو أضل الماء في رحله، أو أضل رحله في الرحال، ولم يطلب، أو لم يُمعن في الطلب، بحيث يحصل له غلبة الظن، يلزمه القضاء، قولاً واحداً.
ولو تيمّم، ثم رأى بالقرب منه بئراً فيها ماء، فإن كان قد عهد تلك البئر قديماً، ثم نسيها، فهو كما لو نسي في رحله ماء، وإن لم يكن عهد تلك البئر، فهو كما لو أُدرج ماءٌ في رحله، ولم يشعر.
وقد يكون للفقيه مزيّة نظرٍ فيه، إذا كان عَهِد البئر، وتقادم العهد، بحيث لا يكون الناسي في مثل ذلك الأمر منسوباً إلى الذهول.
فصل:
287- إذا لم يكن مع المسافر ماء، وكان الماء يعرض على البيع، فإن لم يكن معه ما يشتريه به، أو كان، ولكنه مستغرَق بحاجة سفره في ذهابه وإيابه إلى وطنه، فهو كالمفقود، فيتيمم، وسبيل اعتبار الذهاب والرجوع إلى الوطن في ذلك كسبيله في بيان استطاعة الحج.
ولو وجد من يُقرضه، فإن كان يملك ما يفي بقضائه، لزمه القبول، فإن لم يكن في ملكه ما يفي بقضائه، لم يلزمه الاقتراض على توقع أن يجد ما يفي به.
ولو وهب منه ثمن الماء، لم يلزمه القبول إجماعاً؛ فإن المنّة تثقل فيه، ولو وهب منه الماء نفسه، يلزمه القبول؛ فإنه ممن يهون تحمّله، وقد جرى العرف بالبذل والقبول فيه.
ولو كان يحتاج إلى رشاءٍ أو دَلْو، فوهب منه، لم يلزمه قبوله. ولو أعير منه، لزمه قبول العارية.
وهل يلزمه استيهاب الماء، وطلب العارية في الدَّلو والرشاء؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يجب؛ لأنه هيّن الطلب، والمنّة تخف.
والثاني: لا يجب؛ فإن التعرض للسؤال صعبٌ على ذوي المروءات، وإن هان قدر المسؤول.
ولو كان عليه دينٌ يستغرق ما في يده، فقد كان شيخي يقول: لا يجب شراء الماء؛ فإن من يعتبر في حقّه الاستطاعة في الحج، فنكلفه أن يحط قدر ديونه من ماله، ثم يرعى بعد ذلك الزاد والراحلة، وسائر الأُهب.
فإن قيل: إذا كان معه ما يزيد على أهبة السفر، ولا دين عليه، ولكن الماء كان يُباع بغبن، فهل يلزمه الشراء؟ قلنا: لا نكلفه بذلَ شيء، وإن قلّ بغبنٍ، بل يتيمم؛ وذلك أن ضياع المال نُزِّل منزلة الخوف على الروح، ولذلك يجوز الدفع عن المال، بما يجوز أن يُدفع به عن الروح.
288- ثم اختلف أصحابنا في ثمن مثل الماء، فقال الأكثرون: يُعتبر ثمن مثله في الزمان والمكان الذي مسّت الحاجة، وفي ثمن الماء في البوادي عند الإعواز تقريبٌ لا يكاد يخفى مُدركه، فإن زاد عليه صاحبُ الماء، كانت تلك الزيادة غبناً، فلا يعتبر ثمن الماء حالة الوجود والسلامة.
ومن أصحابنا من قال: الماء لا ثمن له، ولكن تعتبر فيه أجرة الناقل، وذلك يختلف بالبقاع، وطول المسافة وقصرها، وهؤلاء بنَوْا هذا الوجه على أن الماء لا يُملك. وهو وجهٌ سخيفٌ ضعيفٌ، نذكره في كتاب البيع. إن شاء الله تعالى.
وذكر بعضُ المصنفين وجهاً ثالثاً: وهو أن نعتبر ثمن المثل عند وجود الماء والسلامة، وهذا ليس بشيء، ولكن الذي يوجّه به هذا الوجه، أن غلوَّ ثمن الماء في البادية لا ضبط له، سيما إذا كثر العِطاشُ، وقد ينتهي الأمر إلى حالةٍ لا تغلو فيها شربةُ ماءٍ بمالٍ عظيم، وقِيمُ الأشياء تغلو بكثرة الراغبين، ويبعد عن قياس الرخص والتخفيفات أن نوجب على المسافر شراء ماء وضوءٍ واحدٍ بدنانيرَ كثيرةٍ، ونحن لا نكلفه أن يتقلّد مِنَّةَ قبول درهمٍ واحدٍ.
وهذا عندي يُحوج الناظرَ إلى مزيد فكرٍ؛ فإن المُهَجَ إذا أشفت على الزهوق، لم تغل المياه على أصحابها، ويعد الكثير-من حيث إنه سِداد الروح- نَزراً قليلاً، وابتياع الماء بهذه الأثمان للاستعمال في المهنة يعد غَبناً.
فالأقرب عندي أن يقال: لا نعتبر ثمن الماء عند الحاجة إلى سدّ الرمق؛ فإن ذلك لا ينضبط، ولكن نعتبر المكان والزمان، من غير انتهاء الأمرِ إلى سدّ الرماق والمهج. والله أعلم.
289- ولو كان مع الرجل ماء وهو يحتاج إليه لسقيه، تيمّم.
ثم القول فيما يناله من الضرورة لو توضأ بالماء، كالقول في الخوف المعتبر في المرض.
ولو لم يكن به عطش في الحال، ولكن يخاف العطشَ بين يديه، فليتزوّد الماءَ، مستظهراً به، وليتيمم. ولو كان رفيقه يحتاج إلى الماء، تعين عليه تسليم الماء إليه بالثمن، فلا يحلّ له أن يتوضأ قال شيخي: يتزود لرفقائه، ولا يتوضّأ، كما يتزوّد لنفسه.
وهذا فيه نظر.
ولو كان هو محتاجاً، فهو أولى بمائه، وله أن يؤثر رفيقه على نفسه، فإن الإيثار من شيم الصالحين. ولو كان رفيقه يلهث عطشاً، وكان صاحب الماء يتزوّد لغَده في محالّ الخوف، فهذا فيه احتمالٌ عظيم، وتردّد، سأذكره في كتاب الأطعمة، عند تفصيل القول في الضرورات وأكل الميتة، وطعام الغير.
290- ولو كان معه بهيمة هي عُدّته، ولو لم يسقها، عطبت، وانقطع هو، سقاها، وتيمّم.
ولو كان لا ينقطع بموتها عن سفره، ولكن البهيمة كانت تموت، فلرعاية حرمة الروح المحترمة يسقيها ويتيمم أم يتوضأ؟ فإن حرمة البهائم لا تبلغ مبلغ حرمة الآدميين- كان شيخي يقطع بأنه يسقيها ويتيمّم. والله أعلم.
291- ولو كان معه ما غيرُ مستغرَقٍ لحاجةٍ حاقَّةٍ، ولا متوقّعة، فصبّه هزلاً، نُظر: فإن كان ذلك قبل دخول وقت الصلاة، فإذا دخل وتيمّم، لم تلزمه إعادة الصلاة؛ فإنه صب الماء في وقت، كان لا يجب فيه الوضوء.
وإن صبّ الماء بعد دخول الوقت، فقد تعدّى وعصى، ولكنه يتيمّم، ويصلي، وهل يلزمه قضاءُ الصلاة؟ فعلى وجهين: أصحهما- أنه لا يجب؛ فإنه وإن عصى بما فعل، فلقد تيمّم، وهو فاقدٌ للماء حال التيمّم.
والوجه الثاني- أنه يلزمه القضاء لانتسابه إلى المعصية في سبب التيمم، والرخص لا تناط بالمعاصي، ولذلك لا يترخص العاصي بسفره برخص المسافرين.
وهذان الوجهان يقربان من مأخذ مسائلَ ستأتي في الصلاة. منها أن يُرْدي الرجلُ نفسَه من شاهقٍ، فتنخلع قدماه، ويصلي قاعداً، فإذا برىء، ففي إيجاب القضاء خلافٌ، والأصح أنه لا يجب.
فإن قلنا: لا يجب القضاء على من صبّ ماءه، فلا كلام. وإن قلنا: يجب القضاء، فقد ذكر الأئمة وجهين:
أحدهما: أنه لا يقضي إلا صلاةً واحدة.
والثاني: يقضي أغلب ما كان يؤديه بوضوءٍ واحد في اعتدال حاله، ووسط أمره.
وهذا عندي في حكم الغفلة؛ فإنا قدّمنا أن من صبّ الماء قبل دخول الوقت، ثم تيمّم بعد دخول الوقت، لم يلزمه القضاء وجهاً واحداً. وإذا صب الماء في وقت الظهر، فكيف يجب قضاء العصر، والصب مقدم على دخول وقتها.
292- ولو وَهَبَ الماءَ من إنسان من غير حاجة وعطشٍ، فهو كصب الماء، فإن كان قبل دخول الوقت، فهو كما مضى في الصب، وإن كان بعد دخول الوقت، فيحرم بذلُ الماء، فإذا بذلَ، ووهبَ، وسلَّم، فهل يملك المتهب؟ على وجهين: أقيسهما أنه يملك؛ فإن المالك نافذُ التصرّف في ملكه، وإن عصى بسببٍ لا اختصاص له بوضع التصرف.
وهذا الخلاف كالخلاف في أن الوالي إذا ارتشى، فوَهَبَ منه الخصم شيئاً طوعاً، فقد عصى المرتشي، وهل يملك ما أخذه؟ فعلى خلافٍ سيأتي في موضعه.
فإن قلنا: إنه يملك المتَّهَب الذي وهب منه، فحكم الواهب في القضاء، كحكم من يصب الماء. وإن قلنا: لا يملك المتّهب ما قبضه، فليستردّه الواهب إن قدر عليه، فإن لم يسترده مع القدرة، وتيمم وصلّى، لزمه الإعادة وجهاً واحداً، ما دام الماء موجوداً؛ فإنه تيمم مع التمكن من استعمال الماء.
وإن تلف الماء في يد المتّهب، فلا ضمان عليه أصلاً؛ فإن الهبة ليست من عقود الضمان، وما لا ضمان في صحيحه، لا ضمان في فاسده.
ثم من وَقْت فوات الماء على هذا الوجه الذي انتهى إليه التفريع، يكون التفصيل على ما مضى في صبّ الماء.
فصل:
293- إذا كان مع الرجل ماءٌ فاضلٌ عن حاجته، واجتمع عليه أقوامٌ، وأراد أن يخصّ بالماء أحوجهم إليه، أو قال لوكيله: سلّم هذا الماء إلى أحوج من عليه طهارة.
أو فرضت وصية على هذه الصيغة.
فهذا تصوير المسألة.
ثم نصور اجتماع أصحاب الحاجات، فإن مات رجلٌ، وحضر جنب، وحائضٌ انقطعت حيضتُها، فالميت أولى بالماء؛ فإن هذا آخر عهده بالطهارة.
ولو كان في الأحياء من أصابته نجاسة، فهو أولى من الجنب والحائض بالماء.
وفيه مع الميت وجهان:
أحدهما: أن الميت أولى.
والثاني: أن من به نجاسة أولى؛ فإن التيمم لا يصير بدلاً عن واجب إزالة النجاسة في حقه، وإذا صلى، لزمته الإعادة على الرأي الظاهر، والتيمم في حق الميت والجنب والحائض بدلٌ عن واجبهم.
294- ولو اجتمع جنبٌ وحائضٌ انقطعت حيضتُها، فقد ذكر الصيدلاني فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الحائض أولى؛ لأن حكم حدثها أغلظ.
والثاني: أن الجنب أولى؛ فإن الصحابة اختلفوا في تيمم الجنب، ولم يختلفوا في تيمم الحائض؛ فكان الجنب أحوج إلى الماء. هكذا ذكره الصيدلاني، وهو ضعيف جدّاً، ولم يصح عندي توقيف يثبت في تيمم الحائض من مذهب الصحابة.
والوجه الثالث: أنهما سواء، فيُقرع بينهما.
قال بعض المصنفين: قول التسوية يخرّج على أن الحائض تقرأ القرآن، والجنب لا يقراً، فيختص الجنب بالمنع من القراءة، وتختص الحائض بتحريم الوطء، وغيره من وجوه التغليظ.
ثم ما ذكرناه من القرعة على الوجه الأخير، يظهر خروجه على قولنا: إن ما يقصر عن تمام الطهارة لا يجب استعماله، والماء المفروض مقدار غُسل واحدٍ وقد اجتمع عليه الجنب والحائض.
فإن قلنا، والتفريع على التسوية: الماء القاصر عن الطهر يجب استعماله. فلو قال أحدهما: اقسم الماء بيننا، وقال الثاني: أقرع؛ فإنّك إن قسمت، لم يرتفع حدثُ واحدٍ، فمن الذي يُجاب منهما؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يقسم بينهما؛ لأنا فرعنا على وجوب التسوية بينهما، فإيصال مقدار إلى كل واحدٍ أقرب.
والثاني: أنه يُقرع بينهما؛ ليرتفع حدثُ أحدهما.
295- ولو اجتمع محدث وجنب، والماء مقدار وضوء، وهو يقصر عن الغسل، فإن حكمنا بأن الماء القاصر لا يجب أن يستعمل، فالمحدث أولى بالماء؛ فإن الجنبَ لا ينتفع به.
وإن قلنا: يجب استعمال الماء، وإن قصر عن تمام الطهر، ففي المسألة أوجه: أحدها: أن الجنب أولى؛ لغلظ حكم حدثه.
والثاني: أن المحدث أولى؛ لأنه يستفيد ارتفاع الحدث بتمامه.
والثالث: أنهما سواء، فيقرع بينهما.
ولو كان الماء مقدارَ الغُسل، وكان يفضل عن وضوء المحدِث، فإن قلنا: القدر الناقص عن الطهر لا يجب استعمالُه، ولو استعمل المحدث قدر حاجته، فالفاضل منه لا يستعمله الجنب، فعلى هذا الجنبُ أولى؛ لأن حدثه أشدُّ وأغلظ، ولئن قلنا: الناقص عن تمام الطهر يجب استعماله، فلو سلمنا الماء إلى الجنب، كان فيه حرمانُ المحدِث. ولو توضأ المحدِث، وسلم الفاضل إلى الجنب، لكان جمعاً بين الحقين، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن الجنب أولى؛ لغلظ حكمه، والثاني: أنه يسلّم إلى المحدِث قدر وضوئه، ويسلم الباقي إلى الجنب. والأصح عندي الوجه الأول.
فهذا بيان الحاجات ومراتبها. وقد رتبتها على التوكيل بالبذل للأحوج.
296- ثم قد جرى في طرق الأصحاب تصويرُ هذه المسائل فيه، إذا انتهى المحتاجون إلى ماءٍ مباحٍ، فمن يكون أولى به، وذكروا صور الخلاف والوفاق، على ما ذكرناه.
وهذا عندي غلط ظاهر، فإن الماء إذا كان مباحاً، وازدحم عليه أقوامٌ، فيجب أن يستووا في تملك ذلك الماء، ولا يتوقف جريان الملك على الحاجة، بل يجب القطع باستوائهم، ويقسم الماء بينهم بالسوية، من غير نظر إلى أحداثهم، وأحوالهم، ولا خفاء بما ذكرناه، من التنبيه على هذا الزلل.
297- ولو كان للرجل ماءٌ، فهو أولى بمائه من كل مُحدِث، وليس له أن يؤثر محدثاً على نفسه، ويتيمّم؛ فإن الإيثار إنما يسوغ في حظوظ الأنفس والمُهَج، لا فيما يتعلق بالقُرب والعبادات.
298- ثم قال الشافعي: لو كان للرجل ماءٌ، فمات، ورفقاؤه يحتاجون إليه لسِقاههم، ولو غسلوا الميت بمائه، لخافوا، قال: شربوه، ويمموا الميت، وأدَّوْا ثمنَه في ميراثه.
فإن قيل: أليس الماء من ذوات الأمثال، فهلاَّ غرموا المثل لورثته؟ قلنا: المسألة مفروضةٌ فيه، إذا كان شربوا الماء في البادية، وله قيمة، وبلدةُ وَرَثَتِه لا قيمة للماء بها، فلو أدَّوْا الماءَ، كان ذلك إحباطاً لحقوقهم، فإذا كان كذلك، فإنهم يغرمون له قيمةَ البادية وقت الإتلاف.
والقول في أن ذوات الأمثال كيف تغرم، في غير مكان الإتلاف، من غوامض أحكام الغصوب، وسيأتي ذلك في موضعه. وهذا الرمز مثالٌ اشتمل عليه كلام الشافعي، وإلا كنّا لا نرى ذكره.
فرع:
299- الجنب إذا تيمم، وصلى الفرض، وقلنا: له أن يصلي من النفل ما شاء، فلو أحدث، ثم وجد من الماء ما يكفيه لوضوئه، فتوضأ به. قال العراقيون: له أن يتنفل؛ لأن التيمم المتقدِّم، كان أباح له النوافل، وانحسم التنفل بالحدث الطارىء، وقد ارتفع الحدث بالوضوء، فعاد بعد الوضوء إلى ما كان عليه قبل الحدث، وكان يسوغ له أن يتنفل إذ ذاك.
وهذا الذي ذكروه فيه نظر.
والوجه في ذلك أن يقال: الوضوء مع الجنابة لا أثر له، ولا يتضمن رفعَ الحدث الطارىء، ووجوده وعدمه بمثابة، فإذا طرأ الحدث، ثم وجد ماء قليلاً، فيخرّج ذلك على أنه هل يجب استعمال الماء القاصر؟ ثم سواء استعمله أو أضرب عنه في القول الثاني، فلابد من التيمم حتى يستفتح النافلة.
والذي ذكروه يقتضي إِفرادَ الوضوءِ بحكمه، مع وجوب الغسل، وفيه بُعدٌ. وهو يشير إلى أن الوضوء لا يندرج تحت الغسل، في حق من أحدث، وأجنب، والمذهب غيره.
وفي المسألة احتمال على الجملة.