فصل: باب: الرّهنِ يَجْمَعُ شَيْئَينِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الرّهنِ يَجْمَعُ شَيْئَينِ:

قال الشافعي رحمة الله عليه: "إذا رهن أرضاً... إلى آخره".
3756- الفصل يشتمل على شيئين:
أحدهما: أن من رهن أرضاً فيها أشجار، ولم يتعرض للأشجار، ولا لاسم يشتمل على الأشجار، كالبستان ونحوه، بل ذكر الأرض مطلقا، فهل تدخل الأشجار تحت تسمية الأرض؟ فيه اختلاف نصوص، وكذلك في البيع مثل ذلك. وللأصحاب طرق سبقت مفصلة، فلا نعيده. هذا أحد المقصودين.
والثاني: أن يبيع شجرة في مغرسها، أو يرهنها من غير تعرض لذكر المغرس، فحاصل المذهب أقوالٌ، وربما كان يقول: أوجه، فإن النصوص في المقصود الأول وهو بيع الأرض من غير ذكر الشجر. وهذا من بيع الشجر من غير ذكر المغرِس.
فمن أصحابنا من قال: لا يدخل المغرس لا في البيع، ولا في الرهن؛ فإن الشجر بالإضافة إلى الأرض فرعٌ، ويبعد استتباع الفرع الأصل.
والثاني: أن المغرِس يدخل في الرهن والبيع جميعاً؛ فإن مطلق العقد على الشجرة القائمةِ التي لا يعتاد قلعها يُشعر بحق تقريرها، وذلك يثبت الاستحقاق في المغرس.
والثالث: أن البيع يتضمن استتباع المغرس بخلاف الرهن. والفرق ما قدمناه مراراً من ضعف الرهن وقوة البيع، وعليه خرّجنا الخلاف في أن مطلق تسمية الشجرة هل يستتبع الثمارَ التي لم تؤبر في الرهن استتباعها إياه في البيع؟
هذا قولنا في المغارس.
فأما إذا كان بين النخيل قطع أراضٍ لا غراس فيها، نُظر: فإن كانت بحيث تفرد بالانتفاع بها دونَ النخيل، فلا شك أنها لا تدخل تحت مطلق تسمية النخيل.
وإن كانت تيك القطع لا يتأتى إفرادها بالانتفاع بها إلا على طريق التبعية للأشجار فقد ذَكر شيخي وصاحب التقريب وجيهن فيها:
أحدهما: أنها بمثابة المغارس حتى تخرّج فيها الأوجه التي ذكرناها في طرق الأصحاب. ومن أصحابنا من قطع بأنها لا تدخل تحت البيع والرهن جميعاً، وجهاًً واحداً؛ فإنها ليست مغارس. وإن كانت لا تستقل بأنفسها. وهذا هو الأصح فيها؛ فإن استتباع المغارس على حالٍ ضعيفٌ، لما ذكرناه من لزوم استتباع الفرع الأصل.
3757- وما ذكره في الأشجار ومغارسها يجري في بيع الأبنية من غير تعرض لأساسها. فالمسألة وقد سميت الجدران والبنيان في استتباع الأساس تُخَرّج على الأوجه الثلاثة. فإن قضينا بأن الشجرة تستتبع مغرسها، والجدار يستتبع أُسَّه، فهذا استتباع ملك، وهو كاستتباع الأرض الغراسَ والبناءَ في الأقوال المقدمة.
ولو رتب مرتب استتباع الشجر والجدار المغرسَ والأساسَ على استتباع الأرض الغراسَ والبناء، كان متجهاً؛ فإن قلنا: لا تستتبع الأرضُ الغراسَ، فلأن لا يستتبع الغراسُ المغرس أولى. وإن قلنا: تستتبع الأرضُ الغراسَ، فهل يستتبع الغراسُ المغرسَ، والجدارُ الأسَّ؟ فعلى وجهين. والفرق لائح.
وإن قلنا: الشجرة لا تستتبع مغرسَها ملكاً، فليس لبائعها قلعُها مجّاناً. نعم؛ اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: حق عليه أن يبقيها ما أراد المشتري بقاءها، فإنه باعها، وهي ذات حق في الثبوت في المغرس، فليثبت للمشتري على وجه ثبوته للبائع اعتباراً بسائر الحقوق. والوجه الثاني- أن البائع لو أراد قلع الشجرة، لم يمنع من قلعها، ولكن يغرَم ما ينقصه القلع، كما يغرَمه المعير في مثل هذه الصورة؛ فإن من أعار أرضا لتغرس فغرست، فللمعير قلعُ الغراس على شرط الضمان فيما ينقصه القلع. وسيأتي تفصيل ذلك في كتاب العَواري، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "ولو رهن ثمراً قد خرج من نخله... إلى آخره "
3758- يمتزج بمقصود هذا الفصل رهن ما يتسارع إليه الفساد، وقد فصلنا المذهب فيه، وفرقنا بين رهنه بالدين الحال، وبين رهنه بالمؤجل، وذكرنا ما يليق به من التفصيل. فإذا اعترض كلامٌ في أثناء الفصل يتعلق برهن ما يفسد، أحلنا البيان على ما تقدم.
ومقصود الفصل التفصيل في رهن الثمار على رؤوس الأشجار.
والقول فيها ينقسم: فنتكلم في رهنها وحدها دون الأشجار، ثم نتكلم في رهنها مع الأشجار.
فأما رهنها دون الأشجار فنقول: لا يخلو إما أن تكون مُزهيةً قد بدا الصَّلاح فيها، وإما أن تكون غيرَ مزهية، فإن كانت مزهية، فهي ناجية من العاهة، وكلامنا وراء ذلك في الدين الحال والمؤجَّل: فإن كان الدين حالاًّ، صح رهنها على كل حالٍ؛ فإنها وإن كانت لا تدّخر، فرهنها بالحالّ مسوغّ.
وإن رُهنت بالمؤجل لم يخلُ صنف الثمر: فإن كان يُجدُّ ويجفف، فالرهن جائز، وليست الثمرة مما تُعد جارية إلى الفسادِ. وإن كان صنف الثمر بحيث لا يدّخر، يُنظر: فإن كان يفسد قبل حلول الأجل، فالرهن جائز، ولا غموض في الفصل. وكل ذلك إذا كانت الثمرة مُزهيةً.
3759- فأمَّا إذا كانت غير مزهيةٍ، فما بدا الصلاح فيها، فلا شك أن بيعها مطلقاًً وبشرط التَّبقية باطل عندنا.
والمعنى الذي ذكرناه حداً للمذهب تعرّضُ الثمار للعاهة قبل بدوّ الصلاح.
فأما رهنها مطلقاًً، فكيف السَّبيل فيه؟ نرسم صوراً ونرتب بعضها على بعض.
فنبدأ برهن الثمار قبل بدو الصّلاح فيها، ونفرض رهنها بالدين الحال. فنقول: إذا رهنت بالدين الحال مطلقاًً من غير شرط القطع، ففي صحة الرهن قولان، ذكرهما صاحبُ التقريب وغيرُه:
أحدهما: أن الرهن يفسد كما يفسد البيع على هذا الوجه، والرهن يتبع البيع في الصحة والفساد.
والثاني: أنه لا يفسد لمعنيين:
أحدهما: أن الحلول في الرهن قرينةٌ حالّة محل شرط القطع؛ فإنّ مبنى الرهن بالدين الحال أن الرهن إذا كان بحيث يتسارع الفساد إليه، فإنه يباع على فوره، ويصرف ثمنه إلى الدين، أو يوضع رهناً. فإذا كنا نصحح رهنَ ما يتسارع إليه الفساد بالدين الحال حملاً على ما ذكرناه، فرهن الثمار بالدين الحال قبل بدوُّ الصلاح أولى؛ فإن ما يتوقعه من تعرّضها للصّواعق وغيرها من الآفات أبعد من توقع الفساد، فهذا أحد المعنيين.
والثاني: أنا لا نشترط في الرهن من الاحتياط ما نشترطه في البيع؛ والسبب فيه أن حق المرتهن الأصلي دينه، ودينه لا يسقط بفوات الرهن؛ ومقصود البيع يضيع بتلف المعقود عليه. وهذا المعنى فيه ضعف، وإن ذكره الأئمة. والمعنى الأول كافٍ.
هذا إذا كان الرَّهن بدين حال.
3760- فأما إذا كان بدين مؤجل نُظر: فإن كان الصَّلاح لا يبدو قبل حلول الأجل، بل الأجل يحل أولا، فلو رهن الراهن هذه الثمارَ على شرط أن لا تباع بشرط القطع، ففي صحة الرهن قولان مشهوران:
أحدهما: لا يصح، كما لا يصح البيع في نظير هذا. ومن اشترى ثماراً لم يبد الصلاح فيها على شرط أن يقطعها بعد يوم، فالبيع يفسد لتضمنه شرط التبقية، ولو في زمن قريب، فليكن الرهن كذلك.
والثاني: أن الرهن يصح، ولم يوجه الأصحاب هذا القولَ إلا بالمعنى الثاني الضعيف، الذي ذكرناه في صورة الرهن بالدين الحالّ. فقالوا: البيع لو بني على الغرر، خيف سقوط العوض والمعوض بتقدير التلف، والرهن لو ضاع، لم يضع الدين به.
وهذا لست أُوثره، بل أقول: ليست الثمار قبل بدوّ الصلاح مما يعد فاسداً من ساعته. ولو رُددنا إلى المعنى لما أفسدنا بيعها بشرط التبقية، والمعتمد في إفساد البيع الخبر، والخبر وارد في البيع، فهذا أولى في توجيه هذا القول مما قدمناه، مع مصيرنا إلى فساد الرهن فيما يتسارع إلى الفساد، على تفصيلٍ مضى.
ثم رتب أئمتنا القولين في رهن الثمار قبل بدوّ الصلاح في الصورة التي نصصنا عليها والدين مؤجل على القولين والدين حال. ولا شك أن الرهن بالفساد أولى إذا كان الدين مؤجلاً.
ولو رهن الثمار قبل بدو الصلاح بدين مؤجل، وكان الصلاح لا يبدو إلا بعد الأجل، ولم يجر تعرضٌ للقطع عند المحل، ففي الرهن قولان مرتبان على القولين فيه إذا تعرض الراهن لذكر القطع عند المحل، إما بأن يشترط قطعه أو يشترط بيعه بشرط القطع، والصورة المبهمة الأخيرة أولى بالفساد، والفرق لائح. وقد قطع شيخي بصحة رهن ما لم يبدُ الصلاَّح فيه بالدين الحالّ، ولا وجه عندي إلا ما ذكر؛ فإنه إذا جاز رهن ما يفسد من ساعته بالدين الحالّ، فما المانع من تصحيح الرهن فيما لم يبد الصَّلاح فيه؟ والذي ينقدح لمن يخرج القولين تعارض أصلين:
أحدهما: أن ما يفسد يباع ويوضع رهناً. والأصل الثاني- أن العادة مطردةٌ بتبقية الثمار.
وقطع صاحب التقريب قوله بإبطال الرهن بالدين المؤجل إذا لم يقع تعرضٌ لذكر القطع عند المحل.
هذا بيان الطرق.
3761- وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الصَّلاح لا يبدو إلا بعد الأجل.
3762- فأما إذا كانت الثمار حيث يبدو صلاحها قبل الحلول، فقد قال الشيخ أبو علي بدوّ الصلاح عند المحل كشرط القطع عند المحل إذا كان الصلاح لا يبدو، فتنزل هذه المسألة في ترتيب المذهب منزلة ذكر القطع عند المحل؛ فإن سقوط شرط القطع بالصلاح عند المحل كذكر شرط القطع قبل الصلاح.
هذا كله في رهن الثمار على الأشجار دون الأشجار.
3763- فأما إذا رهن الثمار مع الأشجار، فالقول الوجيز فيها أن ما يتعلق بشرط القطع، فهو ساقط في هذه الصورة، اعتباراً بالبيع في مثلها. وإن كانت الثمار بحيث تفسد في حَبسها قبل حلول الأجل، فيتصل هذا برهن ما يتسارع إليه الفساد بدين مؤجل، وتفصيله بيّن، فحيث يقتضي المذهب تصحيح الرهن في الثمار، لم نشك في تصحيحه في الأشجار، وحيث يقتضي المذهب فسادَ الرهن في الثمار، ففي فساد الرهن في الأشجار قولا تفريق الصفقة.
هذا عقد المذهب.
وألحق بعض أئمتنا رهن الثمار قبل بدوّ الصلاح برهن ما يتسارع إليه الفساد وإن كان توقّع الفساد لا يأتيها إلا من الجوائح، فعلى هذا إن قطعنا ببيع الأشجار وعليها الثمار، ففي رهن الأشجار وعليها الثمار كلام، ففي الثمار تفصيلها وفي الأشجار تفريق الصفقة. والسبب فيه أن الأشجار أصلٌ في حق المشتري، وليمست أصلا في حق المرتهن؛ فإنها تباع في حقه بيع الثمار.
فصل:
قال: "وإن كان من الثمر شيء يخرج، فرهنه... إلى آخره".
3764- المقصود ذكر الثمار المتلاحقة، وقد مضى التفصيل في تلاحقها قبل القبض في البيع، وذكرنا القولين في أن المبيع إذا اختلط بغير المبيع قبل القبض على وجه يتعذر التمييز، فهل ينفسخ البيع أم لا؟ فلو فرض هذا الاختلاطُ في الرهن بعد القبض، فالتفصيل في الرهن المقبوض كالتفصيل في البيع قبل القبض؛ وذلك أن المرتهن إنما يتوثق إذا قبض، فهو والرهن في يده كالبائع والمبيع محبوسٌ عنده. وقد ذكرنا أنّ الاختلاط في البيع بعد القبض لا يؤثر في فرع العقد وانفساخه على المذهب الأصح؛ فإن العلائق في هذه الصور تنقطع في البيع بانتقال الضمان إلى المشتري
وهذا في الرهن لا يتحقق.
ثم إذا قلنا: ينفسخ الرهن بالاختلاط بعد القبض، فلا كلام. وإن قلنا لا ينفسخ، فلو فرض الاختلاط قبل القبض في الرهن، فالمذهب الانفساخ لا وجه غيره.
وأبدى بعض الأصحاب وجهاً أنه لا ينفسخ، كما لو كان الرهن عصيراً، فاستحال خمراً. وقد ذكرنا في ذلك وأمثالِه خلافاً. وهذا ليس بشيء؛ فإن الخمر يتوقع انقلابها خلاً، والمختلط لا يتوقع تميزه.
هذا منتهى القول في ذلك.
3765- ثم ذكر الشيخ أبو علي بعد الفراغ من الثمار رهنَ الزرع وهو بقل. ونحن نقول فيه: إن كان البقل متزايداً، وكان يُخْلِفُ على الركيب إذا جُزَّ، فرهنهُ كرهن ما يختلط، وقد ذكرناه وإن فرض رهنه بمؤجل من غير شرط القطع، فالرهن باطل قطعا؛ فإن المرهون يختلط بغير المرهون لا محالة، وإن شرط القطع، فالرهن صحيحٌ. ثم يقع بعد القبض في تفصيل ما يفسد، فإن البقل بعد الجزّ يفسد على القرب، وقد تفصل المذهب.
وإن رهن بدين حالٍّ، ففي صحة الرهن قولان كما ذكرناه في الثمرة قبل الصلاح.
هذا والركيب يخلُف بعد الجزّ، فأما إذا جرى العقدُ على زرع هو بقل، والركيب لا يُخْلِف، فقد اختلف أصحابنا فيما يزداد إلى الإدراك، فمنهم من جعله كما لا يزداد من البقل المخلف. وهذا اختيار الشيخ أبي علي، ومن أصحابنا من قال: لا حكم لهذه الزيادة، كما لا حُكم لكبر الثمرة. وهذا فقيه عندي.
وحقيقة المذهب فيه تتعلق بأن من ابتاع زرعاً لا يُخْلِفُ ركيبه، فهل يملك أصل الزرع المكتتم بالأرض؟ وفيه تردد. فإن قلنا: إنه يملك، فما يزداد يزداد على ملكه، وهو حقاً ككبر الثمرة، وإن قلنا: لا يملك مشتري الزرع الركيب المستتر، فيظهر إذن إلحاق الزيادة بما يزداد من البقل الذي يُجَزّ فيُخْلِف.
عدنا إلى الكلام في الرهن. وقلنا: الزيادات التي تكون كالبقول ليست محتملة، فإن ألحقنا زيادة الزرع بها، فالتفصيل كما مضى من اختلاط المرهون بغير المرهون.
وإن لم نبال بهذه الزيادة، بقي النظر في تعرض الزرع وهو بقل للآفات، والكلام في شرط القطع. وقد مضى ذلك على ما ينبغي.
3766- ثم قال الشافعي: "وإذا رهنه ثمرة، فعلى الراهن سقيها... إلى آخره".
هذا تعرض منه للكلام في المؤن، وقد استَقْناه فيما تقدم، وأشرنا إلى اختلاف الطرق في ذلك؛ فلا نعيده.

.باب: ما يُفسدُ الرَّهن مِنَ الشرْطِ:

قال الشافعي: "إذا اشترط المرتهن من منافع الرهن شيئاًً... إلى آخره".
3767- الشروط في الرهن تنقسم: فمنها ما يوافق موضوع العقد ويتضمن تصريحاً بما يقتضيه مطلق العقد، فما كان كذلك لم يكن شرطاً على الحقيقة، وإنما هو تكرير معنى العقد، وهو بمثابة قول الراهن رهنتك هذا على أن تتوثق به، أو على أن يباع في دينك عند الحاجة إلى البيع، أو تَقَدَّم به عند ازدحام الغرماء، فلا أثر لذكر أمثال هذا. والذي يذكر فيه أن من سماه شرطاً مجازفٌ متجوّز؛ فإنَّ الشرط هو الذي يزيد على مقتضى العقد.
وأمَّا الشرط الذي لا يتضمنه إطلاق العقد، فإنه ينقسم قسمين:
أحدهما: ما يقدح في مقصود الرهن، فلا شك أن الشرط يفسد، ويفسد الرهن بفساده، قولاً واحداً.
وهو مثل أن يقول الراهن: رهنتك هذا على أن لا تَقدَّم به في مزدحم الديون، أو على أن لا يباع في حقّك، فهذا الشرط في الرهن بمثابة قول البائع: بعتك هذا على أن لا تملكه. هذا قسم.
والثاني: ما لا يتعرض لإبطال حق المرتهن من مقصود الرهن ولكنه فاسد في نفسه، وقد يتضمن اشتراط مزيدٍ للمرتهن. وتصوير ذلك أن يقول الراهن رهنتك هذا على أن منافعه لك، أو رهنتك البستان، أو هذا القطيع، على أن الثمار والنتاج ملكُك. أما الشرط، فلا شك في فساده، وفي فساد الرهن به قولان:
أحدهما: أنه يفسد؛ فإنه اشتمل على شرط فاسدٍ يتعلق بأغراض الناس، وأصحاب الرهون في العرف الغالب يطلبون الرهون لمنافعها، فالشرط إذاً على فساده متعلق بما هو معدود من مقصود العقد.
والقول الثاني- أن الرهن لا يفسد؛ فإن المقصود فيه للمرتهن، وحقه لم يتغير بالشرط، ولم يقع لمقصوده تغرّض، أما شرط تمليكه الزوائد، ففاسد مطَّرح، وليست الزيادات المشروطة على الفساد في البيع بهذه المثابة؛ فإنها إن تضمنت مزيداً في شق من غير تنقيص مقصود العقد في ذلك الشق، فإنها تتضمن تنقيصاً في الشق الآخر، والبيع معاوضة يتعلق مقصودها بالطرفين، ومقصود الرهن لا يتعلق إلا بجانب المرتهن.
هذا بيان القول في ذلك.
ولو قال: رهنتك هذه الشاة على أن يكون نتاجها رهناً عندك إذا وجدت، فقد اختلف القول في الشرط هل يصح؟ حتى يُقضى بأن الرهن يتعدى إلى النتاج بالشرط، فأحد القولين- أن الرهن لا يتعدى، وهو الأصح؛ فإن العقد لا يقتضي التعدّي إلى النتاج، والشرطُ تعلّق بنتاج مفقودٍ.
والقول الثاني- أن الرهن يتعدى إلى النتاج مع الشرط؛ فإن الذي حملنا على قصر الرهن على المحل المذكور ضعفُ الرهن، وحكمُ اللفظ؛ فإنه خُص على ضعفه بمحل، فاختص به، فإذا أثبت سارياً إلى النتاج، ثبت كما أثبت.
وكان شيخي يقول: إذا فرعنا على أن الرهن يتعدى بالشرط إلى النتاج، ففي تعديه بالشرط إلى الأكسابِ تردد، والأظهر أنه لا يتعدى إليها؛ فإنها ليست من أجزاء الأصل، وإنما يثبت الملك فيها ابتداءً لمالك العبد، بسبب أن مكتسبها مملوكُه.
وكان يلحق العُقرَ بالأكساب، ولا يؤثر فيه مذهب أصحاب أبي حنيفة.
هذا تفصيل المذهب في فساد الرهن والشرط، وصحتهما وصحة الرهن وفساد الشرط.
3768- والآن نذكر أحكام الرهن المشروط في البيع على النعوت التي ذكرناها، فإن فسد الرهن بشرط يؤثر في مقصود الرهن وقد شرط هذا الرهن في بيع، فهل يفسد البيع بفسادِ ذلك الرهن المشروط؟ فعلى قولين مشهورين تقدم ذكرهما، وتوجيههما.
ولو جرى ذكر تمليك المرتهن زوائدَ الرهن، وهذا الرّهنُ على هذا النعت مشروط في البيع، فالبيع يفسد قولاً واحداً، سواء رأينا فساد الرهن أو لم نره؛ لأن شرط زيادة ملكٍ على الفساد للبائع مقروناً بالثمن يُصيّر الثمنَ مجهولاً، ثم يفسد البيع لا محالة به، وليس كما لو شرط رهن خمرٍ أو مغصوب، أو شرط في الرهن ما ينقص حق المرتهن؛ فإن شيئاً من ذلك لا ينضم إلى الثمن، فلا يصير الثمن مجهولاً. والرهن عقد على حياله، فيتجه في قولٍ أن لا يفسد البيع.
وإن قلنا: مثل هذه الزيادة لا يفسد بها الرهن، فيفسد البيع لما ذكرناهُ من انضمامها إلى الثمن، ويخرج منه أن البيع إذا فسد يفسد الرهن أيضاًً، لسقوط الدين الذي يُطلب توثيقه. وانتظم منه أن القولين في أن الرهن هل يفسد أم لا؟ لا يجريان إلا في رهن غير مشروط في بيع، إما بأن يفرض رهنٌ مبتدأ في قيمة متلف، أو يُقدَّرَ رهنٌ في قرض، أو ثمنُ مبيع بعد لزومهما.
فصل:
قال: "ولو كان له ألف، فقال زدني ألفاً... إلى آخره".
3769- إذا استحق ألفاً على إنسان، فقال من عليه الدين: زدني ألفاً، تقرضنيه، على أن أرهنك بالألف القديم، والألف الجديد رهنا. فإذا جرى القرض مشروطاًً بهذا الشرط، كان القرض فاسداً؛ والسبب فيه أن القرض الجديد مشروط بالرهن في الدين القديم، وهذا قرض جر منفعة، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
وليس ذلك بمثابة ما لو شرط في نفس الإقراض رهناً بذلك القرض بعينه؛ فإن الرهن في عين القرض لا يعد منفعة، وقد ذكرنا ذلك في باب القرض مفصلاً، وإنما ظهر جر المنفعة في هذه الصورة من قِبل شرط الرهن في غير القرض الجديد.
ومن دقيق الكلام في هذا الفن أن المقرض لو قال: أقرضتك ألفاً، على أن ترهنني به وبالألف القديم. فهذا على التحقيق شرطٌ فاسد، مفسد لهذا القرض.
ولو قال المستقرض: أقرضني ألفاً على أن أرهنك بالألف القديم، فجرى الشرط من المستقرض لا من المقرض، فهذا فيه تردد. والظاهر أن الشرط فاسد مفسد، كما لو صدر من المقرض.
وقال بعض الأصحاب: الشرط المفسد هو ما يصدر من المقرض؛ فإن اللفظ يُرعَى في جانبه، والشرط لفظ يتعلق بالشق الذي يعتبر فيه اللفظ. فهذا يبتني على ما تقدم ذكره، من أنا هل نعتبر لفظ القبول في جانب المستقرض؟ فإن اعتبرنا في جانبه لفظا كما تمهد في باب القرض، فالشرط الصادر منه كالشرط الصادر من المقرض.
وإن قلنا: لا يعتبر في جانب المستقرض لفظ، فالمسألة فيها احتمال، كما تقدّم، من قِبَل أن المستقرض إذا تلفّظ، ابتنى على لفظه لفظُ المقرض، ونزل شرط المستقرض منزلة شرط المقرض.
فإذا تبين فساد القرض في الصورة التي ذكرناها، فإذا سلم المقرض ألفاً على الفساد إلى المستقرض، ثم رهن المستقرضُ شيئاًً بالألف القديم والألف الجديد، فنقول: إن كان الألف الجديد موجوداً بعدُ؛ فالرهن به فاسد؛ فإنها أعيان مقرَّة على ملك المقرض، والرهن بالأعيان فاسد، فإذا جمع بين الألف القديم والجديد في الرهن، وأبطلنا الرهن في الألف الموجود، فهل يبطل في القديم؟ فعلى قولي تفريق الصفقة. وكل صورة جرى فيها تفريق الصفقة في الرهن، فهي مرتبة على نظير منها في البيع، والرهن أولى بالصحة؛ إذ ليس فيه عوض يصير مجهولاً، ويفسد العقد بسبب جهالته، والمعنى المعتمد في إفسادِ الصفقة إذا افترقت جهالةُ العوض، وهذا مفقود في أصل الرهن.
ثم إذا أفسدنا الرهن في الألف القديم، فلا كلام. وإن صححنا الرهن فيه، فقد قال الأئمة: الرهن يتوثق بالألف القديم، ولا يوزّع الرهن على الألفين المذكورين، وقد تقدم في تفريق الصفقة في البيع أن الأصح إذا بطل البيع في بعض مضمون العقد أن يسقط قسطُه من الثمن، وهذا المعنى غير معتبر في الرهن، والدليل عليه أن الرهن لو صح بالألفين، ثم أدّى أحدَهما، فلا ينفك من الرهن شيء أصلاً، وكان الرهن على حقيقته في الألف الباقي، حتى كأنه لم يرهن ذلك الرهن إلا به.
وإذا كان كذلك، فلا معنى للتقسيط في موضوع الرهن. وهذا بيّن لا خفاء به لمن تأمل.
ولو أقرضه ألفاً على الفساد، فتلف الألف في يده، فقد صار ديناً الآن عليه، فيصح الرهن بالألفين جميعاً، ولا إشكال.
3770- ومما يتعلق بتحقيق الفصل أنه لو شرط الرهن في الألف القديم مع القرض الجديد كما صورناه، وحكمنا بفساد الشرط، وأفسدنا بسبب فساده القرضَ، فلو رهن بالألف القديم، فقد قال القاضي: إن كان يعتقد أن الرهن به واجب، وأنه وافٍ بواجب التزمه بالشرط، فالرهن مع هذا الاعتقاد لا يصح. واحتج عليه بأنه اعتقده واجباً، ولم يكن كما اعتقده. ولو لزم الرهن، لوقع واجباً، على معنى أنه لا دفع له بعد انبرامه بالتسليم. وشبه هذا بما لو أدى ألفاً إلى إنسان على ظن أنه دين عليه، ثم تبين أنه لم يكن عليه دين، فالمؤدى مسترد، والأداء غير معتد به.
وهذا الذي ذكره غير صحيح.
وقد صرح شيخي وغيره بتصحيح الرهن، إذا كان عرياً عند الإنشاء عن شرط يفسده.
3771- ولو شرط بيعاً في بيع، وأفسدنا البيع الناجز لمكان الشرط الفاسد، ثم أنشأ المشروطُ عليه ذلك البيعَ المشروطَ الموعودَ، على ظن أنه يجب عليه الوفاء بذلك البيع، فقياس ما قاله القاضي أن البيع على اعتقاد الوجوب فاسد مردود.
وكان شيخي يقطع بصحة البيع كيف فرض الاعتقاد، إذا كان خلياً عند الجريان عما يفسده. وهذا هو الذي لا يسوغ غيره.
وقد يخرّج عليه أنه لو باع شيئاًً ظنه خمراً فإذا هو خل، فقياسه في ذلك قد يغمض. وقياسُ شيخي الصّحة.
3772- ولو أسلفه ألفاً على أن يرهن عنده به رهن، وشرط المرتهن لنفسه منافع الرهن، فهذا جر منفعة على الحقيقة، والقرض يفسد بسببه. وإذا فسد القرض، فسد الرهن، لا محالة.
ولو شرط البائع رهناً بالثمن، وشرط أن تكون منافع الرهن له، فالرهن يفسد لمزيد المنفعة التي شرطها، والثمن يصير مجهولاً به لا محالة.
وقد حكى المزني هذه المسألة وحكى فيها أن البائع بالخيارِ، ثم أخذ يعترض ويقول: أصل الشافعي أن البيع إذا فسد، فلا معنى للخيار فيه، وظن أن الشافعي يرى أن الشرط الفاسد لو حذف يصح العقد، وهذا ظن سوء. والجواب المبتوت أن العقد فاسد، ولا معنى للخيار فيه بعد الحكم بالفساد على وجهٍ أصلاً. ولكن المزني غلط في النقلِ ثم أخذ يعترض، وإنما الخلل في النقل.
ثم أخل المزني بنظم الكلام من وجه آخر، فصوّر رهناً مشروطاًً في بيع، وقد شرط في الرهن أن يتعدى إلى الزوائد، وفرّع على أن ذلك فاسد، ثم قال: إذا وقع البيع على هذا الوجه، فرع الرهن، والبائع بالخيار. قال أصحابنا: إنما قال الشافعي في هذه المسألة: فُسخ البيع، أو البائع بالخيار، فردد قوله في فساد البيع، ووقع الفسخ عبارة عن الفساد؛ فذكر المزني فيما نقله: فَسْخَ الرهن والبائع بالخيار، وهذا كلام لا نظم له. وإنما أخل به المزني. ثم اختيار المزني مهما فسد الرهن المشروط في البيع أن البيع لا يفسد. وهذا غريب من اختياره؛ فإن القياس فساد البيع إذا فسد الرهن المشروط.
وهذا منتهى الغرض في ذلك.
فصل:
قال: "ولو دفع إليه حُقاً، وقال: رهنتكه بما فيه... إلى آخره".
3773- مضمون الفصل يتضح بأربع مسائل: إحداها- أن الراهن لو قال: رهنتك ما في هذا الحُق، أو ما في هذه الخريطة، فإن كانا عالمين بما فيهما، وكانا قد رأياه، فلا شك في صحة الرهن. وإن لم تسبق رؤيةٌ فيهما، وقع الكلام في رهن ما لم يُر. فإن جهلا وصف ما فيهما، مع انتفاء الرؤية، فقد نرى القطع بفساد الرهن. وذلك مذكور على الاستقصاء في تفريع بيع الغائب، فلا حاجة إلى إعادته.
3774- المسألة الثانية: أن يقول: رهنتك الحُقَّ بما فيه، أو الخريطةَ بما فيها، فإن كان ما فيهما معلوماً مرئياً، صح الرهن في الحق والخريطة. وإن كان الرهن لا يصح فيهما-كما تقدم-فالنظر في الحق والخريطة.
فإن كانا نفيسين بحيث يجرّد القصد إلى شرائهما أو رهنهما، فنقول: فسد الرهن فيما فيهما، وفيهما قولا تفريق الصفقة، وإن كان الحُقُّ بحيث يُقصد، ولم تكن الخريطة بحيث تقصد. أما الحق. ففيه قولا تفريق الصفقة. وأما الخريطة، ففيها طريقان: من أصحابنا من قطع بفساد الرهن فيها؛ فإنها بالإضافة إلى ما فيها غير مقصود؛ فإذا لم يصح الرهن في حشوها بسببٍ، لم يصح في الخريطة أيضاًً؛ فإنها ما قُصدت، وإنما قصد ما فيها، فإذا لم يصح العقد على ما فيها فكأن لا مقصود. وهذا فقيه لطيف، وهو كثير الجريان في المعاملات. ومعناه تنزيل العقد على موجب العرف والاعتياد، من غير اتباع صيغة اللفظِ.
ومن أصحابنا من قال: إذا كانت الخريطة متمولة، فالرهن إن لم يصح في حشوها، فيصح فيها؛ لأن الرهن أضيف إلى الخريطة وما فيها. كما قدمناه في الحُق. وإن لم تكن الخريطة متمولة، فنقطع بفساد الرهن فيهما لا محالة.
3775- المسألة الثالثة: أن يقول: رهنتك الحُق دون ما فيه، فيصح الرهن فيه دون ما فيه؛ فإنه خصص عقد الرهن بالحُق، فلم يتعدّه إلى ما فيه. ولا فرق بين أن يكون الحُق حقيراً أو خطيراً إذا كان له أدنى قيمة، بحيث يتمول. وقد سبق تفصيل التمول في آخر كتاب البيع؛ فيصح الرهن كما ذكرناه.
3776- ولو أطلق رهنَ الحُق والخريطة، ولم يتعرض لذكر ما فيهما بنفي ولا إثبات، وهذه هي: المسألة الرابعة: فنقول:
إن كان الظرف بحيث يقصد في نفسه، فذكر الظرفِ مطلقاً يقتضي نزولَ الرهن عليه، دون ما في جوفه. وتعليله بيِّن. وإن كان ذلك الظرف حقيراً لا يقصد في نفسه مفرداً أصلاً، ولكنه مما يتمول، فإذا جرى ذكرُ الظرف الذي وصفناه، ولم يجر تعرض لما فيه نفياً وإثباتاً، فلأصحابنا فيه وجهان: أصحهما- أن الرهن ينزل على الظرف لا غير؛ فإنه قابل للعقد، واللفظ لا يشعر في وضعه إلا به، فأشبه ما لو كان خطيراً.
والوجه الثاني- أن العقد نازل على الخريطة بما فيها؛ فإنها إذا لم تكن مقصودة، فذكرها في العرف يُعنَى به الخريطةَ لما فيها، من هذا الوجه، وهو من باب تنزيل العقد على موجب العرف، من غير احتفالٍ بصيغة، والعقد منزل على قرينة الحال، وموجب التفاهم العرفي.
وكل ما ذكرناه في الرهن، فلا شك أنه لو صوّر في البيع، لكان الجواب على نحو ما ذكرنا، حرفاً حرفاً. فلا إشكال في الفصل. وإنما المقصود منه تصوير ظرفِ مالٍ، ولكنه لا يقصد مع كونه مالاً، إذا كان في جوفه مقصود. وقد فصلنا الغرض في تفصيل المسائل على ما ينبغي.