فصل: باب: الرَّهْن غَير مَضْمُوْنٍ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الرَّهْن غَير مَضْمُوْنٍ:

3777- ذكر الشافعي قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يغلَق الرهنُ من صاحبه، له غنمه، وعليه غرمه " واختلفوا في قوله " لا يغلَق الرهن " قيل: معناه لا يملكه المرتهن بدينه، ولا يتعلق الملك على الراهن. وقيل: معناه لا يغلَق على الراهن الانتفاع به. وقيل: معناه لا يسقط الدين بهلاكه.
وقوله: "الرهن من صاحبه " أي من ضمان صاحبه.
مذهب الشافعي أن الرهن أمانة في يد المرتهن، فإذا تلف في يده أو في يد العدل، كان أمانة. والدين لا يسقط منه شيءٌ عنده.
وقال أبو حنيفة: هو مضمون بالدين على تفصيل له معروف.
ولو شرط الراهن كون الرهن مضموناً على المرتهن، فالشرط فاسد؛ لأنه مخالف لمضمون الرهن، ثم يفسد الرهن بفساد الشرط، ولكنه مع فساده يكون أمانة في يد المرتهن. وهذا أصلٌ مطرد، فكل ما يكون أمانة في وضعه لو صح لا ينقلب مضموناً ولا يخرج عن كونه أمانةً بأن يفسد.
واستثنى بعض الأغبياء مسألة عن هذه القاعدة، وهي إذا رهن شيئاًً عنده بدين مؤجَّل، وشرط أنه إن لم يفك الرهن في شهر، فهو مبيع عند المرتهن وراء الشهر، فهذا الشرط فاسد، ولكن إذا مضى الشهر، فيصير بعد مضي الشهر مضموناً، فهذا رهن انقلب مضموناًَ، بحكم شرط فاسد.
وهذا يحتاج إلى فضل بيان.
فنقول: إن تلف في يده قبل مضي الشهر، فلا شكَّ أنه يكون أمانة؛ فإنه لم يدخل أوانُ البيع بعدُ، وحكم الأمانة ثابت. فإذا دخل وقتُ البيع المشروط على الفساد، نظر: فإن كان يمسكه المرتهن على حكم البيع، فهو مضمون عليه، وهو خارج عن حقيقة الرهن، سواء قُدِّر على الصحة أو على الفساد.
وإن علم أن شرط البيع فاسد، فكان يُمسكه على موجَب الرهن، وقصد ذلك ونواه، فالمذهب أن الضمان يجب؛ فإن الرهن فاسداً قُدّرَ أو صحيحاً ممدودٌ إلى شهر، فلا رهن بعد انقضائه، ولا يد إلا عن جهة البيع الفاسد. وهذا ظاهرٌ، لا إشكال فيه.
وأبعد بعضُ الأصحاب، فنفى الضمان إذا لم يقصد المرتهنُ إمساكه وراء الشهر عن جهة البيع، وقصر الضّمان فيه إذا كان يقصد الإمساك على اعتقاد البيع. وهذا رديء لا أصل له، لما ذكرناه.
ووجه الغلط في الاستثناء أن المرهون وراء الشهر خارج عن كونه مرهوناً بحكم اللفظ، فما استثنى هذا القائلُ مرهوناً إذن، فكان ما جاء به لغواً.
وقد نجزت مسائل الكتاب. ونحن نرسم الآن فروعاً تجري مجرى الأصول، وقد يقع فيها مسائل متبدّدة غير منتظمة، والغرض الإتيان بجميعها.
فرع:
3778- قال العراقيون المودَع إذا ادعى رد الوديعة، على مالكها، فالقول قوله مع يمينه. ولو استأجر الإنسان شيئاً، ثم استوفى حقه منه لما قبضه، فهو أمانة في يده، ولو ادّعى أنه رده على المالك المكري، وأنكر المالك، فالقول قول المالك، فإنه قبض المستأجر لحق نفسه، لا لغرض المالك، ولا يُصدّق في دعوى الرد، بخلاف المودَع.
قالوا: كذلك إذا ادّعى المرتهن ردّ العين المرهونة على الراهن، وأنكر الراهن، فالقول قول الراهن؛ لما ذكروه من أن المرتهن تثبت يده لغرضه، فلا يُقبل منه يمينه برد ما قبضه.
ولو ادعى الوكيل الذي كان قبض من موكله عيناً ليبيعها أنه ردها على الموكل، قالوا: إن كان الوكيل يتصرف من غير جُعلٍ، فقوله مقبول، كما يُقبل قولُ المودَع؛ فإنه لا غرض له في قبضهِ ويدِه.
وإن كان يتصرف بجُعلٍ، فادّعى ردَّ العين، ففي المسألة وجهان.
وكذلك إذا ادّعى المقارض ردّ شيء من مال القراض على المالك، ففي قبول قوله وجهان:
أحدهما: لا يقبل قوله؛ لما له في المال الذي كان تحت يده من الغرض، فأشبه المستأجر، والمرتهن.
والوجه الثاني- يقبل قوله؛ لأنه لا غرض له في العين المقبوضة، وإنما غرضه في مالٍ قدر له بسبب العين التي في يده، وحق المستأجر والمرتهن في عين ما قبضه أولا ثم ادعى ردَّه.
هذا ترتيب أئمة العراق. وهو حسن بالغ.
وأما المراوزة، فإنهم قطعوا أقوالهم بأن كلَّ مؤتمن لو تلفت العين في يده من غير تقصيره، لم يلزمه الضّمان، فإذا ادعى رده على مالكه المطلق، فهو مصدق فيه مع يمينه، ولم يفصلوا بين الوديعة والرهن والإجارة. وهذا قياسٌ مُطَّرد، وهو أوقع في طريق المعنى مما ذكره العراقيون. وما أشاروا إليه من كون يد المرتهن والمستأجر عائدة إلى منافعها، لا معتبر به؛ إذ لو جاز التعويل عليه، للزم أن يكون ما ذكروه سبباً في إيجاب الضمان في الأصل على المرتهن والمستأجر لو تلفت العين في أيديهما، كما يجب الضمان على المستعير والمستأجَر، فإذا لم يكن كذلك؛ فلا معوَّل على ما ذكروه وليت شعري ما قولهم لو ادّعى المرتهن والمستأجر تلف العين في أيديهما، هل يصدقان عندهم أم لا؟ والقياس أن ينزل دعوى التَّلف منزلة دعوى الرد في كل تفصيل.
فرع:
3779- إذا رهن الغاصب العينَ المغصوبة عند إنسانٍ، وكان المرتهن يحسَبه مالكاً لتلك العين. فإذا تلفت في يد المرتهن، وجاء المغصوب منه مطالباً، قالوا: هل له مطالبة المرتهن أم لا؟ على وجهين:
أحدهما: لا يطالبه؛ فإن يده يدُ أمانةٍ على الجملة، ولم يوجد من جهته عدوان؛ فلا وجه لمطالبته.
والوجه الثاني- أنه يطالَبُ؛ لأن العين المغصوبة تلفت في يده، ولم يوجد من جهة مالكها ائتمان فيها. ثم فرعوا على الوجهين. قالوا: إن قلنا: لا يطالب المرتهن، فلا كلام. وإن قلنا: إنه مطالبٌ، فهل يستقر الضمان عليه؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يستقر؛ فإن التلف حصل في يده، فأشبه ما لو أتلفه بنفسه، والتلف والإتلاف في الأعيان المغصوبة بمثابة واحدة، فينبغي أن يصير التلف منتهى الضمان في يد من وجد التلف في يده، وهذا معنى القرار. ثم من أثر الحكمِ بالقرار أنه إذا غرَّم المالكُ المرتهنَ، لم يرجع على الغاصب، فإذا غرَّم الغاصبَ رجع هو على المرتهن.
وقد طردوا ما ذكروه من الترتيب في يد المستأجر من الغاصب، ويد المودَع من جهة الغاصب، وكل ذلك وهم يحسبون أن الغاصب مالك العين.
وطريق العراقيين مخالف لطريق المراوزة في هذه القاعدة؛ فإن المراوزة يقطعون بتوجيه المطالبة على المرتهن والمستأجر والمودَع من جهة الغاصب على جهلٍ بحقيقة الحال في هذه المنازل، ثم يقطعون بأن الضمان مستقر على هؤلاء أصلاً. هذا بيان الطرق فيما ذكرنا.
فرع:
3780- قد ذكرنا صحة رهن المشاع عندنا، فلو كانت دار مشتركة بين شريكين، فلو رهن أحدُهما نصيبه شائعاً من بيتٍ معين من الدار المشتركة، فقد ذكر العراقيون وجهين في صحة الرهن: أصحهما- الصحة، جرياناً على القاعدة الممهَّدة.
والثاني: لا يصح؛ فإنا لو قدرنا الاستقسام من الشريكِ، فربما يتفق وقوعُ هذا البيت كلِّه في نصيب الشريك، الذي لم يرهن، وهذا يُفضي-لو صح- إلى بطلان الرهن. وهذه مسألة لطيفة.
ثم لو صححنا الرهن على الأصح، ففي كيفية إجراء القسمة تردّدٌ- إن كنا نرى إجراءها في المرهون؛ فإنا وإن جوزنا القسمة في المرهون، فليس فيها إبطال حق المرتهن بالكلية، ولكن يتعين حقه بعد أن كان مشاعاً. ولو أجرينا القسمة في الصورة التي ذكرناها، فقد يؤدي إلى إخراج البيت بالكلية عن الرّهن، وفيه إبطال حق المرتهن، فليتأمل الناظر في القسمة إن وقعت وتضمنت خروج البيت عن ملك الراهن بالكلية، أيتجه أن يقال: يغرَم الراهن قيمة الشقص المرهون، ويضعها رهناً عند المرتهن؟ أم كيف السبيل فيه؟
ووجه التردد أنه لم يأت من قبل الراهن شيء، ولم يجز الشريكُ المستقسم، فقد يحتمل أن يجعل هذا بمثابة تلف المرهون في يد المرتهن، ولكن قد اعتاض عنه الراهن؛ فإن ملكه إن زال عن قسطه من البيت، فقد وقع له في القسمة خلوص شيء آخر في قُطرٍ آخر، فالوجه إذن تغريمه القيمة.
فرع:
3781- إذا اشترى رجل عبداً بألف، فجاء إنسان وتبرع بأداء الدين، وكان ما أداه من جنس الثمن، فيصح، وتبرأ ذمة المشتري، ولا يرجع المتبرِّع عليه بما أداه، وإن أبرأ ذمته؛ فإنه لم يؤدِّ بإذنه، فلو خرج المبيع مستحقاً، وبان بطلان العقد، فالبائع يرد ما قبض على المتبرع، ولا يرده على المشتري؛ فإن المتبرع إنما أداه ثمناً، فإذا لم يكن، ردَّ عليه ما سلمه إليه.
ولو استمر العقد على الصحة، ولكن وجد المشتري بالمبيع عيباً، فرده على البائع، فالبائع يرد ثمنه. واختلف أئمتنا: فمنهم من قال: يرده على المشتري؛ فإن البيع لم يتبين بطلانُه، وبقي الثمن على حقيقته، فلا سبيل للمتبرع إلى الرجوع فيما تبرع به. وليس ذلك كصور الاستحقاق.
ومن أصحابنا من قال: يرد الثمن على المتبرع؛ فإنه ما جرى بينه وبين المشتري ما يتضمن تمليك المشتري من طريق التضمين. وإنما طلب المتبرع أن يبرىء ذمة المشتري من غير تقدير تمليك له، حتى يقال دخل المؤدَّى في ملك المشتري في ألطف زمان، ثم انتقل من ملكه، ودخل ملك البائع، فإذا لم يكن ذلك ممكناً، فالرجوع إلى المشتري بعيد مع أنه لم يخرج من ملكه شيء، وإنما يعود إلى الملك ما يخرج منه.
ولو جاء المتبرع وأدّى إلى البائع عَرْضاً عوضاً عن الثمن الذي في ذمة المشتري، فالمذهب أن ذلك جائز، كما لو تبرع بأداء جنس الثمن.
ومن أصحابنا من منع ذلك من المتبرع؛ فإن بذلَ العوض يستدعي دخول المعوَّض في ملك باذل العوض، وهذا غير متصور في حق المتبرع.
والأصح الوجه الأول، لما ذكرناه من نزول تبرع المتبرع منزلة الفداء، وذلك يجري في الجنس وغير الجنس.
ولو نكح الرجل امرأة وأصدقها شيئاًً، فتبرع أجنبي وأدّى ذلك الصدّاقَ عن الزوج من غير إذنه، ثم الزوج طلقها قبل المسيس، فنصف ما أدّاه المتبرع يرجع إلى الزوج أم يرجع إلى المتبرع، فعلى الوجهين؟ المذكورين في صورة الرد بالعيب.
فرع:
3782- إذا استحفظ الرهنَ عدلان، فهل لأحدهما أن ينفرد بالحفظ؟ فعلى وجهين ذكرهما القاضي وغيره:
أحدهما: أنه لا ينفرد؛ لأن ظاهر التفويض إلى شخصين يقتضي أن يشتركا فيه، ويجمعا نظريهما، كما نقول في الوصيين.
والثاني: يجوز لكل واحد أن ينفرد بالحفظ؛ فإن الاشتراك في عينٍ بحُكم العرف يقتضي تسليط كل واحدٍ على الحفظ. وقد ذكرت هذا فيما تقدم. ولكن رددت احتمالات، فقد وجدناها منصوصة للأئمة.
فإن كان الشيء مما ينقسم، وقد جوزنا الانفراد بالحفظ، فهل يجوز أن يقسم بينهما حتى ينفرد كل واحد بحفظ حصته؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أن ذلك جائز، كما يجوز على الوجه الذي نفرع عليه أن ينفرد كل واحد بحفظ الكل، إذا لم تكن منازعة.
والثاني: لا تجوز القسمة؛ فإن الانفراد قد تلقيناه من العرف، أما القسمة، فليس يشعر بها العرف، ولا يتضمنها الإذن.
فرع:
3783- إذا رهن رجل من رجل شيئاًً، ثم سلمه إليه، وقال: قصدت بالتسليم إليك إيداعه عندك ولم أقصد إتمام الرهن وإلزامه بالقبض، فهل يصدق الراهن؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يصدق؛ فإنه المسلَّم وإليه القصد والنية.
ولا خلاف أنه لو قال عند التسليم: خذه وديعة، ولست أقصد إلزام الرهن، فإنه يقع وديعة، والرهن على جوازه، وكذلك إذا نوى وقصد.
والوجه الثاني- أن القول قول المرتهن؛ فإن الغالب في العرف أن من رهن، فإنه لا يسلّم المرهون إلا من جهة الرهن، وإن هو لم يرد ذلك، فالغالب أنه يودع المرهونَ عند غير المرتهن، فصدقنا المرتهن لظاهر الحال. وللفرع التفاتٌ على أن اليد هل تدل على الرهن؟
فرع:
3784- قد ذكرنا أن يد العدل تنوب عن يد الراهن من وجه، وعن يد المرتهن من وجهٍ، وليس للمرتهن أن يأخذ الرهن من يد العدل، فلو أنه اغتصبه وأخذه من يده، فقد صار متعدتاً، ضامناً بما جرى منه، فلو جاء ورده إلى العدل، فالذي ذهب إليه جماهيرُ الأصحاب أن المرتهن يبرأ بما فعل عن ضمان الغصب؛ لأن يد العدل يدُ المالك؛ فإذا رد ما أخذه إلى نائب المالك، حكمنا ببراءته عن الضمان.
ومن أصحابنا من قال: لا يبرأ عن الضمان ما لم يرد المأخوذ إلى المالك. ثم
يأذن للعدل إذناً جديداً في قبض الرهن من المرتهن؛ وذلك أن يد العدل قد زالت بطارىء العدوان، فإعادة اليد أمر جديد، فلابد فيه من إذن جديدٍ، والأصح الأول.
وإن قلنا بالثاني، فليس للعدل أن يقبضه منه إذا جاء به؛ فإنا نزعم أن التعديل الأول قد انقطع وزال، فلابد من تجديد.
وما ذكرناه في العدل، فلا شكّ في جريانه في المودَع، وسيأتي شرح ذلك، وتفصيلُ القول في أنَّ المودَع هل يخاصِم من غصب الوديعة حتى يستردها- في كتاب الوديعة، إن شاء الله عز وجل.
فرع:
3785- إذا رهن عند إنسانٍ أرضاً، وشرط للمرتهن أن يغرسها لنفسه بعد مضي شهر، فيدُه قبل انقضاء- تلك المدة يد أمانةٍ، وإذا انقضت المدة، وأخذ في الانتفاع، صارت يده يدَ عاريةٍ؛ من جهة أنه منتفع بالإذن، من غير استحقاقٍ. وهذا معنى المستعير. فلو أنه غرس قبل المدة المضروبة، فقد تعدى موجَب الإذن؛ وغراسه لهذا السَّبب مقلوع، ولو أنه غرس في أوان الإذن في الغراس، فهو مستعير غارس، فلا يُقلع غراسه مجاناً، كما سيأتي ذلك مشروحاً في كتاب العارية.
ولو قال الراهن: رهنتك الأرضَ فإذا مضى شهرٌ، فهي مبيعة منك. فإذا انقضى الشهر، فغرسه، فلا شك أن الأرض ليست مبيعةً منه، فإذا غرسها نُظر: فإن كان يعتقد أنها مبيعة، وأن غرسه واقع في ملكه، فقد نقل أئمة المذهب عن الشافعي في هذه الصورة أنه قال: "هو في غراسه كالمستعير إذا غرس على وفق الإذن، فإنا لا نقلع غراسه مجاناً". وهذا حسن منقاس لا شكّ؛ فإن ما جرى من صورة البيع، لا ينحط عن الإذن في الغراس.
فأما إذا كان عالماً بفساد البيع، وأقدم على الغراس، مع العلم بحقيقة الحال، فقد نُقل عن الشافعي أنه قال: "غراسه مقلوع".
فإن قيل: إن لم يصح البيع، فهلا قيل: ما صدر من الراهن إذنٌ في الغراس؟ قلنا: لم يتعرض الراهن لتفصيل التصرفات، وإنما ذكر بيعاً، فإن صح، حكم به، وإن فسد وجرى غرس على جهل، يعذر الغارس، وكان كالمستعير. وَإن غرس عن علم، فلا عذر.
وهذا على حاله غير خالٍ عن ضرب من الاحتمال.
فرع:
3786- من مات وخلف تركة والديون على قدرها، أو أكثر، أو أقل، فالذي أطلقه علماء الشريعة أن الديون تتعلق بأعيان التركة، وتصير التركة موثقة بها. ثم ذكر العراقيون قولين في أن تصرف الوارث هل ينفذ في التركة قبل أداء الدين:
أحدهما: أنه لا ينفذ، وهو ظاهر ما اختاره المراوزة.
والقول الثاني- إنّ تصرفه نافذ، ونزلوا تعلق الدين بالتركة منزلة تعلق الأرش برقبة العبد الجاني، وقد مضى في بيع الجاني قولان، والتفريع عليهما في كتاب البيع، وإنما شبهوا هذا بتعلق الأرش؛ من قِبل أن الأرش يتعلق برقبة الجاني من غير قصدٍ من المالك، كذلك الدين يتعلق بالتركة من غير إيثار واختيارٍ من المتوفَّى ومن الورثة.
وهذا الذي ذكروه تشبيه حسن من طريق الظاهر.
ولكن الذي يقتضيه الأصل عندي أن تعلق الدين بالتركة يضاهي طريق تعلق الرهون، والدليل عليه أن هذا مما حكم الشارع به نظراً للمتوفَّى، ولأجل تحقيق ذلك الحكم بحلول الآجال، مع ما فيها من التفاوت في المالية. فإذا كان سبب تعلق الديون بالتركة ما وصفناه، فلا يليق بهذه المصلحة تسليطُ الوارث على التصرف، وليس كالأرش؛ فإنه أمر جزئي في حالٍ نادر، والديون في التركات عامة الكَوْن والوقوع.
ثم فرع العراقيون، وقالوا: إن رددنا بيع الوارث، فلا كلام. وإن نفذناه، نظر: فإن أدّى الدينَ من ماله، جرى البيع على نفاذه، وإن امتنع، نقضنا بيعه والتفريع على الجملة يقع على حسب تفريع بيع السيد للعبد الجاني. فإن قلنا: لا ينفذ بيع الوارث، لمكان الدين، لم يفصل بين الدين المستغرق وبين الزائد وبين الناقص.
هذا ظاهر المذهب.
وذكر بعض أصحابنا وجهاًً أن الدين إن كان أقلَّ من التركة، لم يمتنع به التصرف
على الوارث، وينفذ التصرف إلى أن لا يبقى من التركة إلا كِفَاء الدين. وسنعود إلى هذا في كتاب التفليس، إن شاء الله عز وجل على قياس الديون في الرهون.
3787- وإن لم يكن في التركة دين، وكان البائع باع عبداً واستوفى ثمنه وأتلفه، ثم مات، وخلف تركة، ولم يخلف ديناً، فتصرف الوارث في التركة بالبيع، ثم وجد مشتري العبد به عيباً، فردّه في التركة فيصير الثمن ديناً، وهل يتبع تصرف الورثة في التركة بالنقض، لمكان الدين المنعكس على التركة؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون، مفرَّعين على أن الدين الناجز في التركة يمنع التصرف:
أحدهما: أنا نتبين فساد تصرفه في الأصل، ونجعل ما لحق من الدين بسبب الرد بمثابة ما يكون موجوداً حالة الإقدام على التصرف؛ فإن السبب الموجب لذلك كان مقارناً، كمَا لو كان الدين
مقارناً.
ثم إن قلنا: يتبين فساد التصرف، فلا كلام. وإن قلنا: لا يستند، والبيع قد انقضى على نعت اللزوم، فإن أدّى الوارث الثمن المنعكس على التركة، فذاك، وإن لم يؤده، فهل يفسخ تصرفه؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنا نفسخه؛ فإنا لو لم نفعل ذلك، أدى إلى أن لا يجد من رد بالعيب مرجعاً، ولا سبيل إلى تضييع حقه.
والوجه الثاني- أنا لا نفسخ ذلك التصرف؛ فإنه كان انتهى إلى صفة اللزوم، فلا وجه لمنع لزومه على الوجه الذي نفرع عليه، ولو كنا نُسند الأمر إلى ما سبق، لأسندنا تبيّن الفساد إلى التصرّف، فعلى هذا إذاً لا وجه إلا مطالبةُ المتصرف في التركة، كما يطالب بدينه المختص به. ورُبَّ دينٍ يلزم إنساناً، وإن لم يكن ملتزمَه في الابتداء، كما يلزم الضامن بسبب الضمان.
3788- ولو خلف تركة ولا دين، فاقتسم التركة الورثةُ وتصرفوا فيها، ثم تردَّى متردٍّ في بئر كان احتفرها المتوفَّى في محل عدوان، فاقتضى الحالُ انعكاسَ الضمان على التركة، فهل يُتبع ما تقدم من التصرفات بالنقض؟ في المسألة وجهان مرتبان على التي نجزت الآن. وهذه الأخيرة أولى بأن لا تنقض التصرفات فيها إسناداً؛ فإن من مات وكان باع عبداً، فعهدة العقد قائم، فكأنه ترك على الورثة ذلك العبدَ بعهدته، ولا شك أن هذا أقرب من فرض تردِّي بهيمة في بئر بعد سنين، ثم التفريع في هذه المسألة على حسب التفريع في مسألة الرد بالعيب. والله أعلم بالصواب. وإليه المرجع والمآب. انتهى كتاب الرهن.