فصل: كتاب التفليس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب التفليس:

3789- التفليس والإفلاس في أصل اللسان، يعبر بهما عن الانتهاء إلى غاية الضُّر في المسكنة. وقول القائل: أفلس فلان، معناه انتهى بضرورته إلى فلوسه، ولم يبق له مال يُرمق. وقول القائل: أفلس، معناه وصل إلى الفلوس. وهو على مذهب العرب، إذا قالت: أسهل زيدٌ، وأحزن عمرو، إذا انتهيا إلى السهل والحَزْن.
والتفليس اكتساب المفلس نعتَ إفلاسه.
3790- والذي نصدِّر به الكتابَ أن من قلّ مالهُ، وكثرت ديونه، فللقاضي أن يحجر
عليه، لأجل غرمائه إذا استدعَوْا ذلك منه، ويستفيدون باستدعاء الحجر قصرَ يده عن التصرفات في ماله؛ حتى تُصرفَ أموالُه إلى جهات ديونه، والأصل في جواز ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه حجر على معاذ بن جبل رضي الله عنه، وباع عليه ماله في ديونه»، وعن عمر بن الخطاب أنه قال في أثناء الخطبة: "ألا إن الأُسَيْفعَ، أُسيْفِع جهينة، رضي من دِينه وأمانته بأن يقال: سبق الحاجَّ، فادّان معرضاً، فأصبح وقد رين به، وإنّا بائعو ماله غداً، فمن كان له عليه حق فليحضر".
ثم إذا زادت ديون المرء على ماله، واستدعى الغرماءُ الحجرَ عليه أسعفهم، وضرب عليه حجراً.
3791- فإن كانت ديونه على مقدار ماله من غير زيادة ولا نقصان، فهل يحجر عليه إذا استدعى الغرماء الحجرَ؟ فعلى وجهين مشهورين:
أحدهما: لا يحجر عليه؛ فإن ماله كفاءٌ لديونه، وفيه وفاءٌ بجملتها، وإنما فائدة الحجر تضارب الغرماء بحصصهم، ورجوع كلٍّ إلى ما يقتضيه بسبب حقه.
والوجه الثاني- أنه يحجر إذا استدعَوْا؛ فإن الديون إذا ساوت، فما أسرع ما تزيد، ولو لم يبتدر القاضي الحجْرَ، لجرَّ تركُ الحجر ضرراً على الغرماء، وهذا الوجه مختار عند الأئمة؛ فإنا إذا كنا نسعى في إيصال الغرماء إلى حصصٍ من ديونهم عند ضيق المال، فلنسْع في إيصالهم إلى كمال حقوقهم عند مساواة الديون المالَ.
3792- ولو كانت الديون أقل من مقدار المال واستدعى الغرماءُ الحجرَ عليه، فقد ذكر أصحابنا في إسعافهم وجهين مرتبين على الوجهين في مساواة الديون المال، والصورة الأخيرة أولى بأن لا يجابوا إلى ملتمسهم.
وأطلق الأئمة ذكرَ الخلاف في الديون القليلة، فلابد من تفصيل ذلك؛ فإنا على قطعٍ نعلم أن من يرجع إلى ثروة طائلة؛ ونعمة ضخمة، وعليه دين قليل بالإضافة إلن يساره، فتجويز الحجر على من هذا وصفه محال، وقائله في حكم الخارق للإجماع، فالوجه في تقرير القول في ذلك ما ذكره صاحب التقريب، حيث قال: إذا انحط قدر الدين عن قدر المال، ولكنا كنا نرى الديون إلى ازدياد، والدّخل إلى انحطاط، وظهر في ظننا إفضاءُ الأمر على قُربٍ إلى المساواة، ثم منها إلى الزيادة، فإذا كان كذلك، اتجه الخلاف في ضرب الحجر.
والأمر على ما ذكره، فلا يسوغ تخيلُ غيره.
3793- ثم ذكر أئمتنا في الدين القليل في التركة خلافاً أيضاً، في أنَّ الوارث هل يمتنع عليه التصرف في التركة بسبب الدين القليل؟ وقد قدمنا ذكرَ هذا في آخر كتاب الرهن. والنظر في هذا إذا كان الدين قليلاً على خلاف ما ذكرناه في حالة الحياة؛ فإن التركة متعلقة بالديون، كالرهون التي يتوثق الدين بها، وكرقاب الجناة. و على أي وجه فرضنا الأمر، فلا فرق بين القليل والكثير. والحجر في حالة الحياة ابتداءُ امرٍ لدرء الضرار عن الغرماء، وليست أموال من عليه الديون متعلقة للديون قبل اطراد الحجر.
3794- ثم قال العلماء: لا يضرب القاضي الحجر إلا إذا. استدعى الغرماء، فإن
استدعى كلُّهم، أجبيوا على التفصيل المقدّم وإن استدعى بعضُهم، نُظر: فإن كان دين
المستدعي بحيث يجوز الحجر بمثله لو لم يكن معه دين آخر، فإنه يجاب، ثم
لا يختص الحجر به، بل يصير محجوراً عليه في حقوق الغرماء كافة.
ولو لم يوجد من الغرماء كلِّهم الاستدعاء، واستدعى مَن دينُه يقل عن مبلغ المال، والتفريع على أن الدين القليل لا يحجرُ القاضي به، فهل يحجر إذا استدعى بعضُ الغرماء؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يحجُر، وهو اختيار شيخنا أبي محمد. ومن أصحابنا من قال: لا يحجرُ ما لم يبلغ ديونُ المستدعين مبلغاً يجوز الحجر بمثله لو لم يكن مزيد. ووجهه بيِّن.
ولو لم يستدعِ الغرماء الحجرَ أصلا، فليس للقاضي أن يحجُر على المديون ابتداءً، نظراً منه إلى طلب المصلحة الكلّية. هذا لا خلاف فيه.
3795- ولو ارتفع بنفسه إلى مجلس القضاء واستدعى منه أن يحجُر عليه، ويفض أمواله على غرمائه، فهل يجيبه أم لا؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فذهب الأكثرون إلى أنه يجيبه. وقال آخرون: لا يجيبه مالم يستدع الحجر غريمٌ، أو غرماء.
وقد قال العلماء: ما كان حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم على معاذ بن جبل من جهة استدعاء غرمائه، والأشبه أن ذلك جرى باستدعائه.
3796- ثم إن الشافعي ذكر بعد تمهيد القول في الحجر: أن البائع يرجع بعين المبيع إذا أفلس المشتري بالثمن، واطَّرد الحجر عليه، والقول في هذه المسألة وأطرافِها معظمُ الكلام في التفليس.
3797- فنقول: من باع عيناً وسلمها وأفلس المشتري، فحجر القاضي عليه، فللبائع أن يرجع بعين المبيع، ويفسخ البيع؛ حتى لا يحتاج إلى مضاربة الغرماء، و محاصصتهم بالثمن والأصل في ذلك الحديثُ، وهو ما روي عن أبي هريرة أنه رأى رجلا قد أفلس، فقال: "هذا الذي قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيمّا رجل مات أو أفلس، فصاحب المتاع أحق بمتاعه، إذا وجده بعينه " وقوله: "هذا الذي " ظاهر معناه أنه لم يُرد أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى على ذلك الشخص المعيّن، وإنما أراد بتعيينه التعرض لقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في صنفٍ عينه.
وأبو حنيفة خالف في المسألة، ومنع فرع البيع بعد تسليم المبيع.
ثم أجرى الفقهاء في الخلاف طرفاً من المعنى، ووجَّه الخصوم عليها أسئلة، فدفعها أئمة المذهب بأمور مستفادة مذهبية. ولا ينتظم ذكرها إلا في معرض الأسئلة والأجوبة.
3798- فالذي هو عماد المذهب في إثبات حق الفسخ أن الثمن أحد عوضي البيع، فليكن التعذر فيه بمثابة التعذر في المبيع؛ فإن البائع يستحق على المشتري تسليمَ الثمن كما يستحق المشتري على البائع تسليمَ المبيع، والتعاوض تبادل في العوضين، فالذي يقتضيه العقد استواء الشقين. ثم اعتضد الأصحاب بالقياس على تعذر المُسْلَم فيه بسبب انقطاعه.
هذا متعلق المذهب على الجملة أوردناه لنفضَّ عليه الأسئلة المذهبية.
3799- فإن قيل: لو كان الثمن كالمُسْلَم فيه، لما جاز الاستبدال عنه قبل قبضه كالمُسْلَم فيه. قلنا: في الاستبدال عن الثمن قولان منصوصان.
فإن قيل: هلا قلتم: انقطاع جنس الثمن يقتضي من الانفساخ، أو ثبوتِ حق الفسخ ما يقتضيه انقطاعُ المسْلم فيه؟ قلنا: هذا خارج على قولي الاستبدال، فإن ألحقنا الثمن بالمسلم فيه في الاستبدال عنه، فلو انقطع جنس الثمن، كان كما لو انقطع المسلم فيه.
فإن قيل: هلا أثبتم للبائع حقَّ الرجوع وإن تلف المبيع في يد المشتري؟ قلنا: سبب إثبات حق الفسخ الخلاص من زحمة المضاربة، وإنما يتأتى هذا بالرجوع إلى عيْنٍ لا يزاحَم الراجِع فيها.
فإن قيل: قدّموه بقيمة المبيع من غير مضاربة. قلنا: حقه في العين، فلا يقدَّم إذا فاتت.
3800- فإن قيل: الرهن قد يفوت، وتنتقل الوثيقةُ إلى بدله، فهلاَّ كان الأمر كذلك في البائع مع المفلس؟ قلنا: حق المرتهن لا يتأتى في وضع الرهن إلا من بدله، فلم يمتنع انتقال حقه إلى البدل، بخلاف البائع؛ فإنّ حقّه في العين. فإن قالوا: إنما يُثبتون للبائع حق الرجوع طلبا لفائدةٍ، وقد يستفيد بالمضاربة بالقيمة أمراً، وذلك إذا كانت القيمة أكثرَ من الثمن المسمى، فإذا ضارَب بالقيمة، كانت حصته أكثر من حصته في المضاربة بالثمن. قلنا: الأمور تحمل على اعتدال، والغالب أن القيمة كالثمن. وإن فرضت زيادتها تارة، لم يمتنع فرض نقصانها أخرى.
وقد قال بعض أئمتنا بالمضاربة بالقيمة إذا ظهرت الفائدة. وحكى الإمام ذلك، وحكاه غيرُه على ندور، واشتهر بين الخلافيين.
3801- فإن قيل: ينبغي ألا يفسخ إذا قدمه الغرماء بتمام الثمن، قلنا: له الفسخ وإن قدموه؛ لمعنيين:
أحدهما: أنه ربما لا يرضى بتقلّدِ منةٍ منهم، ويأبى إلا ما أثبته الله تعالى له.
والثاني: أنه لا يأمن ظهور غرماء لا يرضَوْن بتقديمه.
فإن قيل: قد استشهدتم بالانقطاع في المُسْلَم فيه، وذلك لما أَثْبتَ حقَّ الفسخ، لم يفرق فيه بين أن يكون رأسُ المال قائماً أو تالفاً. قلنا: السبب فيه أن المُسْلَم إليه إذا لم يكن مفلساً، فالرجوع إلى بدل رأس المال ممكن معه؛ إذ لا مضاربة حيث لا حجر.
فإن قالوا: لو أفلس المُسْلَمُ إليه وحُجر عليه وجنس المُسْلَم فيه غير منقطع، فماذا ترون؟
قلنا: يفسخ المسلِمُ، ويرجع إلى رأس المال رجوع البائع إلى المبيع. فلو كان رأس المال تالفاً في هذه الحالة، وجنس المسلَم فيه غير منقطع، فلا يثبت الفسخ بسبب فوات عين رأس المال، ومسيس الحاجة إلى المضاربة، كما قدمناه؛ فلا فرق بين الفلس بالمُسْلَم فيه، وبين الفلس بالثمن.
فإن قيل: لو اجتمع فَلَسُ المسلَم إليه، وانقطاعُ جنس المسلَم فيه، فماذا ترون؟ قلنا: اختلف أصحابنا في هذه المسألة، فمنهم من قال: لا يثبت الفسخ مع الفلس إذا لم يجد مَنْ يُقدَّرُ فاسخاً عيناً يُقدّم بها؛ لأنه لو فرع، لاحتاج إلى المضاربة، والفسخ إنما أثبت للخلاص منها. وظاهر المذهب أنه ثبت حق الفسخ في هذه الصورة؛ لأنه يستفيد بالفسخ الوصولَ إلى بعض حقه عاجلاً، ولو لم يفسخ، لأنظره إلى وجود الجنس، فربما يوجد الجنس ولم يبق بيده شيء يؤدى منه حق المُسْلِم.
3802- ومما يجري في هذه المسألة أنهم يقولون: الفسخ لا يرد على العين المبيعة، فإنه سلمها إلى المشتري، وإيراد الفسخ على الثمن وهو دين محال، فإن الفسوخ تعتمد الأعيان، فتردها، ثم تقتضي استرداد أعواضها. قلنا: هذا ينقضه السَّلم؛ فإنَّ الفسخ ينشأُ من تعذر فيه، وهو دين، ثم الفسخ يرد على العقد إذا قام ما يوجب الفسخ، وعلى هذا بنينا إجراء التفاسخ إذا تحالف المتعاقدان بعد تلف المبيع.
فإن قيل: هل تجوزون أن يقول البائع: رددتُ الثمن أو فسخت العقد فيه؟ قلنا: امتنع من إطلاق ذلك بعضُ الأصحاب، وقالوا: حق الفسخ أن يضاف إلى العقد المرسل، ثم إذا انفسخ استعقب الفسخُ مقتضاه. وقال قائلون: تصح العبارة على الوجه الذي طلبه السائل، ولا يضر إضافة الفسخ إلى الثمن، وقولنا في ذلك، كقول الجميع في السلم.
3803- فإن قيل: إذا باع رجل عبداً بجاريةٍ، وتقابضا، فقبض المشتري العبدَ والبائع الجاريةَ، وتلف العبد في يد قابضه، وأفلس، ووجد قابضُ الجارية بها عيباً، فإنه يردّها، فهل يتقدم بقيمة العبد المستردّ على الغرماء؟ قال القاضي: هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: لا يتقدم بها؛ لأنّها دَيْنٌ والتقديم بالدّين محال.
والثاني: يتقدم؛ لأن الغرماء، وإن قدمنا عليهم من ردّ الجارية، فذلك في مقابلة ما أدخلناه في حقوقهم، فإنا رددنا عليهم الجارية، وكان التقدم في هذه الصورة بالقيمة يضاهي تقديم من يعامله بعد الحجر بأثمان المعاملات.
فهذا تمام ما أردنا أن نذكره من دقائق المذهب في أثناء الأسئلة والأجوبة.
3804- ومما نلحقه بقاعدة الفصل أنا إذا أثبتنا حقَّ الفسخ للبائع، فهو على الفور أم على التراخي؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه على الفور؛ لأنه خيار فسخٍ شرع لدَرْء الضرار، فينبغي أن يكون على الفور، كخيار الرّد بالعيب والخُلف.
والثاني: أنه على التراخي؛ لأنه خيار يتضمنه الرجوع في عينٍ سلمها، وأزال الملك عنها، فأشبه ذلك حقَ الرجوع في الهبة.
قال القاضي: لا يمتنع أن يتأقت هذا الخيار بثلاثة أيام؛ فإنا سنذكر قولاً كذلك في خيار المعتقة تحت زوجها القن، إن شاء الله تعالى.
3805- ومما يتعلق بتمام الكلام في ذلك أن المشتري لو لم يكن مفلساً، ولكنه امتنع عن أداء الثمن، وعسر تحصيله منه، فهل يثبت للبائع حقُّ الرجوع؟ فوجهان:
أحدهما: يثبت للتعذر.
والثاني: لا يثبت، وهو ظاهر المذهب؛ لأن حكم الممتنع في الشرع أن يستوفَى منه الحقُّ طوعاً أو كرهاً. فإن فرض ماردٌ لم يُبْنَ الشرعُ عليه.
3806- وإن غاب المشتري، فإن كان للبائع بيّنة، وقد ترك المشتري في البلد ما يفي بالثمن، فلا يرجع في عين المبيع، وإن لم تكن له بينة، ولا له مال في البلد.
فهذا بمثابة الامتناع الذي حكينا تردّدَ الأصحاب فيه.
ويثبت الرجوع إلى عين المبيع بعد وفاة المشتري، وفي حال حياته إذا أفلس وضُرب الحجر عليه، وأثبت مالك الرجوعَ في حال الحياة، ولم يثبته بعد الوفاة. وتعرض الشافعي له بالمحاجة بأمورٍ لا حاجة بنا إليها.
3807- ومما نثبته في أصل الكتاب توطئةً للقواعد أن أصحاب الديون الحالّة يتضاربون في مال المفلس، واختلف القول في الديون المؤجّلة، فأحد قولي الشافعي أنها تحل بالحجر، كما تحل الديون المؤجلة بالموت. والقول الثاني: إنها لا تحل.
فإن قضينا بحلولها، اضطربوا مع المضطربين، وإن حكمنا بأنها لا تحل، فالمال العتيد الموجود مصروف إلى أصحاب الديون الحالة، وأصحاب الدُّيون المؤجلة يؤخَّرون. ثم إذا حلت آجال ديونهم بعد فضّ المال على الديون الحالة، لم يملكوا أن يرجعوا بشيء مما تضارب أصحاب الديون الحالة.
وسيكون لنا إلى تفصيل القول في حلول الآجال عودة، إن شاء الله تعالى.
فصل:
قال: "فإن تغيرت السلعة بنقصٍ في بدنها... إلى آخره".
3808- إذا أفلس المشتري، فالمبيع لا يخلو إما أن يكون تالفاً أو قائماً: فإن كان تالفاً، لم يثبت للبائع حق فرع العقد، وليس له إلا مضاربة الغرماء بمقدار الثمن، كما قررناه فيما تقدم.
فأمّا إن كان قائماً، فلا يخلو إما أن يكون متغيراً في ذاته، أو غير متغير. فإن لم يكن متغيراً، لم يخل إما أن يكون خرج عن ملك المشتري، ثم عاد إليه، أو لم يكن خرج عن ملكه. فإن كان خرج عن ملكه، ثم عاد إليه، ثم أفلس، نُظر: فإن عاد بهبة، أو وصية، أو إرث، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: يرجع نظراً إلى قيام السلعة في ذاتها.
والثاني: أنه لا يرجعُ؛ فإن حق الفاسخ أن ينقض بفرعه الملك الذي استقر منه بالعقد من جهته. والملك الزائل العائد ليس كذلك. ولهذا نظائر، منها زوال ملك المتهب وعوده بإحدى هذه الجهات، فهل للواهب الرجوع؟ فعلى ما ذكرناه من الوجهين.
وإذا زال ملك المرأة عن الصّداق، وعاد قبل الطلاق، فإذا طلقها زوجهاً قبل المسيس، فهل يرجع في نصف عين الصداق؟ فعلى ما ذكرناه من الخلاف.
وإذا باع عبداً بثوبٍ، فخرج العبد من ملك المشتري، ثم عاد إليه، وقد اطلع صاحبه على عيب بالعوض الذي قبضه، فله ردُّه، ولكنه هل يرجع بالعبد الذي زال وعاد؟ فعلى وجهين.
ومسلك الكلام في جميعها واحد.
3809- وكل ما ذكرناه فيه إذا كان زال ملك المشتري، وعاد بتبرع، أو بجهةٍ لا عوض فيها. فأما إذا زال ملك المشتري بجهةٍ من الجهات، أيةِ جهةٍ كانت، ثم عاد إليه ببيع، ثم أفلس، فقد تحقق إفلاسه بالثمن الأوّل في البيع الأوّل، وتحقق إفلاسه بالثمن الثاني، ففي المسألة أوجه: أحدها: أن حق الرجوع للثاني، وهو القياس، فيرجع في المبيع إن شاء؛ لأن تلقي الملك فيه من جهته الآن.
والوجه الثاني- حق الرجوع للأول؛ لأنه أسبق، فهو أولى بالتقديم. وهذا يتجه بالبناء على أن الرجوع يثبت في الملك الذي زال وعاد، كما ذكرناه، فكأن الملك لم يزل في حق الأول، وحقه مستدام فيه.
والوجه الثالث: أنهما يستويان فيه؛ لأن للأول حق السبق، وللثاني حق الدنوّ والقربِ، واطرادِ الملك من غير تقطع، وإذا تقابل المعنيان، أوجب ذلك أن يستويا، فيرجع كلٌّ بنصف الجارية ويضارب بنصف الثمن.
3810- ثم نفرع فنقول:
إن عفا الأول، فالحق للثاني وجهاًً واحداً، وإن عفا الثاني، فهل للأول حق الرجوع؟ فعلى وجهين مبنيين على أنه لو زال ملكه بهبةٍ، ثم عاد بمثلها، أو بإرث، فهل يثبت للبائع حق الرجوع؟ فيه الخلافُ الذي تقدّم.
هذا كله إذا كان قد خرج عن ملك المشتري وعاد.
3811- فإن لم يخرج عن ملكه، بل اطرد ملكه، فلا يخلو: إما أن تعلّق به حق الغير، أو لم يتعلق: فإن تعلق به حق الغير، لم يخل إما أن يكون متعلقاً بعينه، أو لا بعينه: فإن كان متعلقاً بعينه، كحق المرتهن، والمجني عليه، والكتابة، فلا يملك البائع إبطال هذه الحقوق. ولكن لو صبر حتى فك عن الرهن، وبرىء عن الجناية، فإنه يرجع الآن. هكذا قال فقهاؤنا.
وقد ذكرت طرفاً من هذا في أحكام الرد بالعيب.
وأما إذا كان مكاتباً، فصبر حتى رَقَّ المكاتَب، وعجز عن أداء النجوم، قال بعض أصحابنا: هذا يخرّج على الوجهين؛ لأن الكتابة ألحقته في أحكام الاستقلال بالأحرار، فيجعل الاتصاف بها والعود إلى الرق المطلق، بمثابة زوال الملك في المبيع وعوده.
هذا إذا كان الحق متعلقاً بالعين.
3812- فأما إذا كان متعلقاً بالمنفعة كالإجارة والتزويج، فيثبت للبائع حقُّ الرجوع ناجزاً. ولكن المنافع تبقى مستحقة. أما منافع الإجارة، فإلى الاستيفاء، ومنافع الزوج لا تتأقت، فهي مستحقة ما دامت الزوجية.
3813- فأمّا إذا كان المبيع قائماً، لم يتبدل الملك فيه، ولم يتعلق فيه حق، فلا يخلو إما أن يكون على هيئته التي كان عليها، غير متغير، لا بزيادة، ولا بنقصان، وإما أن يكون متغيراً: فإن كان غير متغير، فإنه يرجع فيه، كما قدمناه.
وإن كان متغيراً، لم يخل إما أن يتغير بزيادة أو نقصان: فإن تغير بزيادةٍ، لم تخل الزيادة إما أن تكون متصلةً وإما أن تكون منفصلة: فإن كانت متصلة، رجع البائع فيها مع الزيادة، ولا مبالاة بالزيادة المتصلة في قواعد الشريعة، إلا في أصلٍ واحد، وهو إذا أصدق الرجل امرأته عيناً، فزادت في يدها زيادة متصلة، وطلقها الزوج قبل المسيس، والعين زائدة، فللمرأة أن تتمسك بعين الصداق، ويرجع الزوج عليها بنصف القيمة، ولا فرق بين أن تكون موسرة أو معسرة.
ولو أفلست والعين الزائدة في يدها، وإذا لم يرجع الزوج، لم يملك شيئاً إلا المضاربة، ففي هذه الصورة وجهان:
أحدهما: أنه ليس له إلا القيمةُ، والمضاربة بها؛ فإن الزيادة قطعت حقه من العين.
والوجه الثاني- وهو اختيار أبي إسحاق المروزي أنه يرجع إلى نصف العين. وإن زادت لضرورة المضاربة، والإفلاسُ إذا كان يسلط على رفع أصل العقد، فلا يبعد أن يؤثر في قطع حقها من الاختصاص بالصّداق لمكان الزيادة. ثم عَسُرَ على الأصحاب الفرقُ بين الصداق، وبين سائر الأصول فيما يتعلق بالزيادة المتصلة.
ولعل المرضيَّ القريبَ أن الجهات التي يثبت فيها استردادُ العين تنقسم: فمنها الفسخ. والفسوخ تستأصل الأسباب من أصولها، فلا يبقى معها عُلقة لمن عليه الرجوع، ومنها ما يهجم على قطع الملك، كالرجوع في الهبة، فهو في معنى الفسخ، والزوج بطلاقه ليس فاسخاً، ولا هاجماً على الرجوع، وإنما التشطير حكم من الشرع، لم ينشئه الزوج بسبب يقطع أصلاً كالفسخ، ولم يتعمد قطع الملك، فقوي تعلُّقُها بعين الصداق.
فإن قيل: ما تقولون فيه إذا زاد الصّداق في يدها، ثم ارتدت قبل المسيس؟ قلنا:
اختلف أصحابنا في ذلك: فقال قائلون: المرأة أولى بعين الصداق، قياساً على تشطير الصداق عند الطلاق. والصحيح أن الصداق يرتد إلى الزوج؛ فإن طريقه الفسخ، وقد ذكرنا أنَّ الفسوخ تستأصل الأسباب والعلائق.
هذا في الزوائد المتّصلة.
3814- فأما الزياداتُ المنفصلة، كالثمار، والأولاد، والألبان، وما في معانيها، فهي خالصة للمشتري مصروفةٌ إلى ديون الغرماء. والبائع يرجع في عين المبيع.
هذا كله إذا كان التغير بالزيادة.
3815- فأما إذا كان التغير بالنقصان، لم يخل إما أن يكون نقصان جزء أو نقصانَ صفة، فإن كان نقصان جزء، مثل أن يبيع عبدين، ويموتَ أحدُهما في يد المشتري، ويبقى الثاني وما كان قبض البائع من الثمن شيئاًً؛ فإنه يرجع في الباقي من المبيع، ويضارب الغرماء بقسطٍ من الثمن، وتفصيل التقسيط يأتي في أثناء الكتاب، إن شاء الله تعالى؛ فإن هذا الفصلَ في حكم التراجم، والمعاقد، وشرح ما نفصل بين أيدينا.
3816- فأما إذا كان النقصان راجعاً إلى الصفة، فلا يخلو إمَّا أن ينتقص المبيع بآفة، أو بجناية جانٍ: فإن انتقص بآفة سماويةٍ مثل: أن سلم إليه العبد المبيع، فاعورّت عينُه في يده، أو شَلَّت يده. فنقول للبائع: المبيعُ كما ترى، فإن رضيتَ به معيباً، فارجع فيه، ولا حظَّ لك في غيره. وإن أردت أن تكون أُسوة الغرماء، فضاربهم بالثمن.
والعيب السماوي بالمبيع في يد المشتري في حق فسح البائع بمثابة العيب الحادث
في يد البائع بآفة سماوية في حق فرع المشتري. وقد ذكرنا في أحكام العيوب أن المشتري يتخيّر: إن شاء فسخ البيع بالعيب الحادث في يد البائع، وإن شاء أجازه بتمام الثمن.
هذا سبيل البائع مع المشتري فيما نحن فيه.
3817- ولو حدث النقصُ بجناية، لم يخل إمّا أن يكون الجاني أجنبياً، وإمّا أن يجني المشتري: فإن كان أجنبياً، فلا شكّ أنه يلتزمُ الأرشَ للمشتري. ثم الأصح أنه يلتزمه باعتبار النسبة إلى الجملة، فجراح العبد من قيمته كجراح الحرّ من ديته، فإن كان قطع يداً، أو عوَّر عيناً، فنصف القيمة واجبٌ على الجاني.
وإذا آل الأمر إلى البائع، قلنا له: أرش العيب على الجملة محطوط عنك؛ فإنَّا وجدنا للضمان فيه متعلَّقاً. فإذا لم يتعطل ذلك العيب في نفسه، لم يطوّق البائع أمره مجَّاناً، ولكن المعتبر في حق البائع نقصان القيمة، لا التقدير الشرعي المتعلق بنسبة الأعضاء إلى جملتها. وبيان ذلك أنَّ الجاني التزم للمشتري بقطع يده نصفَ القيمة، وكان انتقص ثلث القيمة بالسوق، فيعتبر في حق البائع نقصانُ السوق، فنقول: كأنك ظفرت بثلثي المبيع، فارجع فيما وجدت، وضارب الغرماء بثلث الثمن، ويصير نقصان الصفة في هذه القسمة بمثابة نقصان الجزء.
فإن قيل: هلا اعتبرتم تقدير الشرع في حق البائع؟ قلنا: الأطرافُ تتقدرُ في الجناية، فأمَّا المعاوضاتُ، فالأعواض تتقسط على المعوَّضات باعتبار القيم، وأرش الجناية تقدير الشرع.
ولو التزمنا هذا، فربما يلقانا محالٌ لا سبيل إلى التزامه؛ فإن الجاني لو قطع يدي عبدٍ معا، فعليه كمالُ قيمته، فإذا أفلس مشتري ذلك العبد بالثمن، لم يمكنا أن نقول: ليس العبد الأقطع موجوداً، ويستحيل أن نثبت حقَّ الرجوع فيه، ثم نُثبت المطالبةَ بجملة الثمن، نظراً إلى ما وجب على الجاني.
هذا إذا كان الجاني هو الأجنبي.
3818- فأما إذا جنى المشتري على العبد، فالصحيح أن المشتري كالأجنبي في حكم الجناية، وتفاصيل الرجوع. وقد مضى ذلك مبيناً الآن.
ومن أصحابنا من قال: حكم جناية المشتري حكم جناية البائع على المبيع قبل
القبض، حتى نقول في قولٍ: إنها كجناية أجنبي، وقد مضى. وفي قولٍ نجعل أثر جنايته كآفة سماوية.
والجملة في ذلك أن المشتري والمبيعُ في يده كالبائع في المبيع قبل القبض.
فهذا مجامع القول في التغايير التي تلحق المبيع حكماً وحقيقة.
3819- فرع: إذا اشترى حنطة فبثها بذراً، فنبت الزرع وأحصد، ثم أفلس المشتري، فالحنطة الحاصلة من زرع ذلك البذر لمن؟ اختلف أصحابنا فيها: فمنهم من قال: نجعلها مبيعة، ونقدر كثرتها زيادة متصلة، كالعبد يشتريه طفلا، ثم يشب ويترعرع، والفسيل يشتريه ويغرسه، ثم يصير أشجاراً، فيثبت للبائع الرجوع إذاً، ولا حكم لتلك الكثرة.
ومن أصحابنا من لا يجعل الحبَّ الحاصل من الزرع بمثابة مبيع زائدٍ، ولكنا نجعلها أعيانا مستفادة في ذواتها، وليس للمشتري إلا المضاربة. ووجه ذلك أن البذر يعفَن تحت التراب، ثم ينشأ الزرع منه بعد مصيره إلى حالة العفن، وفي هذه الحالة لا يُعدّ فيها مالاً. ثم الزرع نشءٌ جديد.
ومن هذا ما لو اشترى بيضة، وأحضنها دجاجة، فتفقأت عن فرخ: من أصحابنا من جعل الفرخ مبيعا، وقدّر ما لحقه من تغايير الخلقة بمثابة الزيادة المتصلة.
ومنهم من لم يقدره مبيعاً، ولم يُثبت للبائع حقَّ الرجوع.
ومن هذا القبيل ما لو اشترى عصيراً، فانقلب خمراً في يد المشتري، ثم انقلبت الخمر خلا، فالخل هل يكون مبيعاً أم لا؟ فيه التردد الذي ذكرناه. ولا خلاف أن الزرع مُلِك من البذر مِلْكِه، وكذلك القول في الفرخ والخل.
وسنذكر هذه المسائل في موقعها في كتاب الغصوب، إن شاء الله تعالى.
3820- وكذلك لو اشترى رجل أرضاً مزروعة وكان الزرع بقلا، لم يُسنبِل بعدُ، فإذا ظهرت السنابل، ثم أفركت، وديست، فهل نجعل الحب مبيعاً؟ ذكر العراقيون وجهين وبنَوْهما على المسائل التي تقدمت، ورأَوْا جعلَ الحب مبيعاً-وقد كان المشترَى زرعا- أوْلى؛ من جهة أن الزرع يشمل الأخضرَ والمسنبِل، فالسنبلة تعد من الزرع، فهي بالاندراج تحت ما كان مبيعا أولى من الفرخ، بالإضافة إلى البيض؛ فإنهما متباينان صفةً واسماً.
3821- وحاصل القول في ذلك أن التغايير التي لا تنتهي إلى قلب الجنس، وتغيير الاسم لا حكم لها، ويبقى ما كان مبيعاً على حكمه، حتى يثبت للبائع الرجوع.
ثم إن كان التغيير إلى زيادة متصلة، فهي للبائع إذا أراد الرجوع.
وما تغير إلى نقصانٍ فلا حكم له عند قصد الرجوع، والبائع على خِيَرته إن شاء ضارب بالثمن، وإن شاء قنع بالمبيع الناقص.
وكل تغييرٍ ينتهي إلى قلب الجنس والاسم، ولكن المتغير مترتب على ما كان مبيعاً، كالزرع والبذر، والفرخ والبيض، ففيه الخلاف. وما يغير الجنس ويبقى اشتمال الاسم معه، ففيه خلافٌ قريب.
3822- وزوائد الأصول إذا انفصلت، وإن حصلت من أصولها، فهي منقطعة عنها؛ فإن الأصول قائمة على صفاتها، وقد تجدّد منها ما تجدّد. وليس كالبذر ينقلب زرعاً؛ فإنّه في نفسه ما بقي على ما كان عليه. نعم، الملك ينتظم الأصلَ والزيادةَ؛ فإنا لا نجد للزيادة مصرفاً أولى من مالك الأصل. فإن قدرناها جزءاً من الأصل، فلا كلام، وإن لم نفصل،. وهو الرأي، فالوجه أن نجعلها كصيود تتعقل بشبكات متهيئةٍ لها. وما ذكرته أصدق شاهدٍ في أن الزوائد المنفصلة ليست من عين الأصول؛ إذ لو كانت من أعيانها، لكانت كالحب الكثير ينبتها البذر اليسير، وكان يدرج في
قياس المسائل التي نظمناها.
فصل:
قال: "ولو باع نخلاً فيه ثمر أو طلعٌ قد أُبّر، فاستثناها المشتري... إلى آخره".
3823- قوله فاستثناها المشتري لنفسه معناه فاشترطها لنفسه، وهذا اللفظ يطلق في غالب الأمر في استثناء شيء من جملة، فاستعملها للمشتري في معنى الاشتراط.
والمسألة مصورة فيه، إذا باع نخيلاً، عليها ثمار ظاهرةٌ مؤبرة، وأدخل الثمار في البيع، ثم قبض المشتري الشجر والثمر، واستهلك الثمرة، وأفلس بالثمن كله، فالبائع يرجع في الشجر، ولا يكتفي بها؛ فإنها بعضُ المبيع، بل يضارب بقسطٍ من الثمن يقابل الثمرة الفائتة.
هذا الأصل ثابت لا شك فيه.
ولكن لا يمكن الوصول إلى ما يرجع به من الثمن إلا بمعرفة قيمة الثمار، وقيمة الأشجار، ثم إذا بانت القيمتان، قدَرَ توزيعَ الثمن على المبْلَغَيْن، فما يقابل الثمر، ضارب به، وما يقابل الشجر، يكتفي فيه بالشجر، إن أراد الرجوع فيها؛ فيأخذ الشجر بقسطها، ويضارب الغرماء بقسط الثمرة من الثمن.
3824- والكلام وراء هذا في أن قيمة الثمرة متى تعتبر، وكذا قيمة الشجر، ولا يلقَى الناظرُ في الكتاب أمراً أولى بإنعام النظر فيه من هذا، فهو عمدة الكتاب وسرّ الباب.
3825- قال الشافعي فيما نقله المزني: تعتبر قيمة الثمرة بيوم القبض، لا بيوم العقد، ولا بيوم الجائحة. هذا ما نقله. ونحن نستوعب ما يتعلق بالثمرة، ثم نذكر ما يتعلق بالشجر.
أما القول في الثمرة، فقد ذهب المحققون إلى مخالفة النص المنقول، وقالوا: نعتبر أقلَّ القيمتين من يوم العقد والقبض. فإن كانت قيمته يوم العقد أكثرَ، وقيمتُه يوم القبض أقلَّ، فالمشتري يقول: لا تحتسب عليَّ زيادة كانت في يد البائع، وإنما دخلت الثمرة في ضماني يوم قبضتُها. فليس للبائع أن يعتبر زيادةً قبل ضمان المشتري.
وإن كانت قيمته يوم العقد أقلَّ، وقيمته يوم القبض أكثر، فالمشتري يقول: ما كان من زيادةٍ بعد العقد، فهي لي وحدثت على ملكي، فليس للبائع أن يعتبرها في تقويم الثمن عليّ. ولا شك أن قيمة الثمرة إذا كثرت، كثر ما يرجع به من الثمن، فإذاً للمشتري أن يقول: لا تحتسب عليّ زيادةً، إن حسبتها، زاد مقدارُ ما ترجع به، والزيادة تثبت ملكاً لي.
3826- فإن قيل: الزيادة المتصلة ينبغي ألا تفرد بالاعتبار؛ فإنها كانت تكون للبائع لو بقيت الثمار، فالرجوع بحصتها من الثمن يجبُ أن يكون باعتبار زيادتها معها. قلنا: هذا غير سديد؛ فإنَّا لا ننكر أن الزيادة المتصلةَ حصلت للمشتري في ملكه، ولكن إذا كانت العين قائمةً، ومست الحاجة إلى ردّها، تبعت الزيادةُ الأصلَ ضَرورةً، وإذا فاتت العين بعدما طرأت عليها زيادةٌ متصلة في ملك المشتري، فأي ضرورة تحوج إلى عدّ تلك الزيادة الحادثة في ملك المشتري في حق البائع، حتى تكثر في التقويم، ليكثر ما يرجع به.
فيلتأمل الفطن أول هذا الكلام؛ فإنه منشأ غائلة الفصل، فقد حصل من وفاق المحققين أنا نعتبر أقل القيمتين للثمرة في يومي العقد والقبض.
3827- وحكى صاحب التقريب قولا مرسلا من بعض الأصحاب: أن الاعتبار بقيمة يوم القبض، ويزعم هذا القائل: أن القول مأخوذ من النص الذي نقله المزني.
فإن كانت قيمةُ يومِ القبض أقلَّ، فلا شك في اعتبارها، وإن كانت أكثرَ، فكأن هذا القائلَ يعتبر تلك القيمة؛ مصيراً منه إلى تقويم الزيادة المتصلة للبائع، بناء على أنها لو كانت باقية، لكان البائع يأخذها بزيادتها.
وهذا وهمٌ عظيم؛ من جهة أن البائع ليس يرجع عند تلفها إلى قيمتها، وإنما يرجع إلى قسطٍ من الثمن باعتبار قيمتها، والقسط من الثمن إذا أُثبت، فهو في مأخذ الأحكام على مضادة الرجوع في العين، فنعتبر والحالة هذه بقسطٍ لا يحسب فيه حقّ المشتري عليه للبائع.
هذا أقصى الإمكان في التعبير عن هذا الغرض. والفطن يبتدره، والبليد لا يزداد في هذا المقام بزيادة البيان إلا حَبَطاً.
ولا عود إلى ما ذكره صاحب التقريب؛ فإنه ساقط غير معتد به.
3828- هذا قولنا في القيمة التي نعتبرها للثمرة، وهذه القيمة لا تستقل بإفادة غرضها دون الإحاطة بقيمة الشجر، وقد اضطرب المحصلون في قيمة الشجر، ونحن نأتي بما قالوه، ونضبط حاصلَ الفصل عند نجازه بما يُبيّن مسلكَ كلِّ فريق.
3829- قال بعض الأثبات من أصحاب القفال: نعتبر في الشجر أكثرَ قيمةٍ، من يومي العقد والقبض. وهذا وإن كان في الظاهر يخالفُ ما ذكرناه في قيمة الثمرة، فهو موافق له في المقصود؛ فإن قيمة الشجر إذا كثرت، قلَّ ما يرجع به البائع من الثمر. وقيمةُ الثمر إذا قلَّت، قلَّ ما يرجع به البائع من ال ثمر، فإن الشجرة يأخذها البائع بقسطه، فإذا كثر، قل ما يبقى. وهذا الذي ذكرناه ضبط من طريق اللفظ، والتحقيق وراءه.
3830- وذهب القاضي إلى مسلكٍ آخر، فقال: إن كانت قيمة الشجر يوم العقد أقلَّ، وكانت يوم القبض أكثر، فالاعتبار بقيمة يوم العقد. واحتج عليه بأن قال: إذا كان البائع يأخذ الشجر، فالزيادة المتصلة مأخوذة له، فلا تحسب عليه، وكأنا نتبين بالأخرة أنها زادت له، فليقع الاختصَار على قيمة العقد. وليس ما نحن فيه بمثابة الثمرة؛ فإن الثمرة فائتةٌ، فليست زيادتها منقلبة إلى البائع، وليست مضمونةً له ضمان قيمة. وقد حدثت للمشتري وهلكت له، فلا تدخل في حساب التوزيع. فأما زيادة الشجرة؛ فإنها منقلبة إلى البائع، فلا تحسب عليه في حساب التوزيع.
وللقائل الأول أن يقول: حدوث هذه الزيادة على ملك المشتري لا شك فيه، فإن كنا نردها على البائع، وما حدثت في ملكه، فالذي يقتضيه الإنصافُ أن نقول: قدِّر هذه الزيادة أنها للبائع؛ كأنها كانت حالة العقد، وإذا قرن بها لأنها متصلة بالمبيع، فاعتبرها في قيمة المبيع، وليس من الإنصاف أن تفوز بها، وما حدثت في ملكك، ولا تحسبها من المبيع.
هذا بيان المسلكين وهما متجهان.
3831- وكأنَّ الكلامَ في الزيادة المتصلة في غرضنا يتعلق بثلاث مراتب: إحداها- أن
البائع إذا كان يرجع في المبيع الزائد زيادة متصلة، ولا حاجة إلى تقدير توزيع، فإن المبيع
بجملته باقٍ، فإذا كان كذلك، فلا نظر إلى الزيادة وهي تنقلب إلى البائع تبعاً للأصل.
المرتبة الثانية- إن زاد شيء من المبيع وتلف، واحتجنا إلى تقويم ذلك التالف المرجوع بقسط من الثمن يقابله، فلا تعتبر الزيادة المتصلة بالحادثة في ملك المشتري بعد العقد؛ فإن تلك الزيادة ليست ترتد إلى البائع ولا قيمتُها، فأخرجنا اعتبارها من البَيْن، حتى كأنها زيادة متَّصلةٌ غيرُ معتد بها.
المرتبة الثالثة- في زيادة ترتدّ مع أصلها إلى البائع، ولكن تخلَّف الحكم في شيء لا يرجع إلى البائع باختلافها، فهل نعتبر تلك الزيادة بمقدارٍ من الثمن يتعلق بغير العين التي رجع فيها أم لا نعتبرها، كزيادة الأشجار المنقلبة إلى البائع؟ إن اعتبرناها، قلّ قسط الثمار، وإن لم نعتبرها، كثر قسطها. هذا موضع تردد المحققين على ما حكيناه عن القاضي وغيره.
وإذا تمهد أصل الفصل، نهذبه الآن بالصور، ثم ننعطفُ على الأصلِ، ونَرِمّ ما نراه على إشكال في أطراف المسألة.
3832- فنصور كأن قيمة الشجرة كانت مائة، وقيمة الثمرة كانت خمسين، فإذا لم تفرض زيادة ولا نقصان في الشجر والثمر، وقد فاتت الثمر، فيرجع البائع في الشجر ويأخذها بثلثي الثمن، ويضارب بثلث الثمن في مقابلة الثمر.
ولو لم تختلف قيمة الشجر، واختلفت قيمة الثمر، فكانت يوم العقد تساوي خمسين، وصارت تساوي يوم القبض خمساً وعشرين، فالاعتبار بقيمة يوم القبض؛ فإنها أقل، وقيمة الشجر لم تختلف، فيأخذ البائع الشجر على نسبة الأخماس بأربعة أخماس، ويضارب الغرماء بخمس الثمن في مقابلة الثمر.
ولو كانت قيمة الثمر يوم العقد خمسين، فصارت يوم القبض تساوي مائة، فلا اعتبار بالزيادة؛ والتوزيع على نسبة الثلث والثلثين، كما تقدم هذا في تغيّر الثمر وبقاء الشجر.
3833- فأما إذا تغيرت قيمة الشجر، فنصور الشجر حالة العقد بحيث تساوي مائة، وكانت حالة القبض تساوي مائة وخمسين، وقيمة الثمرة كانت خمسين، وبقيت كذلك. أما من اعتبر في الشجر أكثرَ قيمةٍ، فيحسب زيادة القيمة على البائع إذا رجع، ويقول: الشجر مائة وخمسون والثمر خمسون، فيرجع البائع في الشجر بثلاثة أرباع الثمن، ويضارب الغرماء بربع الثمن في مقابلة الثمر.
والقاضي يقول: تلك الزيادة يفوز بها البائع غيرَ محسوبة عليه؛ فإنها زيادة متصلة فيأخذ الشجر إذاً بثلثي الثمن، ويضارب بثلث الثمن.
ولو كانت الشجر تساوي مائة، فصارت يوم القبض تساوي مائتين. أمّا الأول، يقول: يأخذ البائع الشجر بأربعة أخماس الثمن ويضارب في مقابلة الثمر بخمس الثمن. والقاضي لا يحسب الزيادة على البائع ويقول: الحساب من المائة التي كانت قيمة الشجر.
هذا بيان المذهب بالصور. ثم ننعطف الآن على أمور قد تزل عن فهم الناظر فنقول:
3834- القاضي لم يحسب الزيادة في الشجر على البائع، ولكنه قال: لو كانت الشجر تساوي مائة حالة العقد، ثم نقصت، فصارت تساوي خمسين، فالنقصان محسوب على البائع؛ فإنه حدث من ضمانه.
فإذا كانت الشجر تساوي يوم العقد مائة، فصارت تساوي يوم القبض خمسين، فيأخذها البائع بحساب المائة وهي الثلثان، ويضارب بالثلث. أما القاضي فيقول: النقصان محسوب على البائع.
وأما من اعتبر الأكثر من قيمة الشجر، فأكثر القيمتين المائة، فيتفق المسلكان لا محالة، وإنما يختلفان في العلّة.
3835- ومما يتعلق بأطراف المسألة، أنا قلنا في الثمرة: يعتبر فيها أقل قيمتي العقد والقبض، ولم نتعرض لما بينهما.
وهذا مما يخطر للفقيه، فنفصله، ونقول:
إذا كان قيمة الثمرة خمسين يوم العقد، فرجعت إلى خمسٍ وعشرين في يد البائع، ثم عادت إلى خمسين، فما حكم ذلك النقصان إذا تخلل وزال؟ قلنا:
3836- نجدد العهد بأصلٍ قدمناه في أحكام العيوب من باب الخراج بالضمان.
وذلك أن من اشترى عبداً وقبضه، وعاب في يده عيباً حادثاً، واطلع على عيب قديم به، فالعيب الحادث يمنع الرد بالعيب القديم، فلو زال ذلك العيب الحادث، فهل يتمكن المشتري من الرد بالعيب القديم؟ فيه تردد للأصحاب معروفٌ.
ولو عاب المبيع في يد البائع، فيثبت للمشتري حق الرد به، فلو زال ذلك العيب، وعاد المبيع كما كان، فظاهر المذهب أنه يزول حق رد المشتري، وفيه خلافٌ أيضاًً.
فإذا تجدد العهد بما ذكرناه، فنقول:
3837- لو عاب المبيع قبل القبض، وصار ناقص القيمة بسبب العيب، ثم طرأت
زيادة خِلْقية، ردت قيمة المبيع إلى ما كان، وذلك العيبُ باقٍ يثبت حقُّ الرّد للمشتري.
وكذلك لو نقصت القيمة بالعيب، ثم صار المبيع يشترَى بالقيمة التامة لارتفاع سعر السوق، فهذه الزيادة لا حكم لها، والرد ثابت.
فإذا ثبتت هذه المقدمات، عدنا إلى غرضنا، فنقول:
3838- إذا طرأ نقصان على المبيع بالسوق، ثم زاد، وعاد إلى ما كان عليه، فلا حكم لذلك النقصان المتخلل، فإنا مع تشديد الشرع على الغاصب، لا نؤاخذه بما يطرأ من نقصان السوق، فما الظن بالبائع. وإن طرأ على الشجر في مسألتنا نقصان من جهة الآفة، ونقصت القيمة بها، ثم ارتفع السوق، وعادت القيمة بسبب السعر إلى ما كان، فالذي أراه في هذه الصورة اعتبار قيمة يوم العيب. وإن كان ذلك اليوم بعد العقد وقبل القبض، فإن النقصان قد تحقق من ضمان البائع، وما كان من ارتفاع بعد هذا، فهو في حق المشتري وملكه، فلا ينْجبر به ما وقع من النقصان.
وإن نقصت الثمار بآفة وبقي النقص، ولكن حصلت زيادة خِلقية من جهةٍ أخرى، فالذي أراه أن تلك الزيادة لا تعتبر؛ فإن العيب قائم، ولا جبران على هذا الوجه.
فأما إذا طرأ النقصان بعيب، ثم زال بزوال ذلك العيب، فهذا يخرج على ما ذكرناه في مقدمة هذا، والظاهر أن هذا إذا جرى في يد البائع، فإذا زال، سقط حكمه.
هذا منتهى النظر في هذا.
3839- ومما يتعلق بأطرافِ المسألة أن الثمرة لو نقصت في يد المشتري بعد القبض، فكانت تساوي يوم العقد خمسين، ويوم القبض خمسين، فنقصت وصارت تساوي ثلاثين، ثم فاتت الثمرة، وحل وقت التوزيع عند الإفلاس، فنقول: ذلك النقصان محسوب على المشتري؛ فإنه حدث في يده؛ فَحُسِب عليه. وإن كنا نقول: لو بقيت معيبة، لم يكن للبائع-إن أراد الرجوع- إلا الرضا بها على عيبها، ولكن لا ننظر إلى هذا إذا كنا نعتبر قيمة الثمار لأجل التوزيع؛ فإن رضا البائع بعيب الثمرة لو بقيت في حكم الضرورة، إذا كان يرجع إلى العين، فالنقصان في يد المشتري محسوب عليه في مقام التوزيع، كما أن النقصان في يد البائع محسوب على البائع.
3840- ومن تمام البيان في هذا أن من اعتبر أكثر القيمتين في الشجرة إذا فرعنا على أصله، وقلنا: قيمةُ الشجرة يوم العقد مائة، ويوم القبض مائة وخمسون، ويوم رجوع البائع مائتان، فالوجه القطع باعتبار المائتين؛ فإنه يومئذ ياخذ، فيقع الحساب وقت قبضه، فإنا إذْ ذاك نقول: يأخذ ما يأخذ بكم؟ وعلى هذا المذهب لو كان يوم القبض مائة وخمسين، ويوم العقد مائة، ويوم أخذ البائع مائة، فيعتبر يوم أخذه؛ فإن ما طرأ من زيادة ثم زال لي هو ثابتاً يوم العقد، حتى نقول: إنه وقتُ مقابلة الثمن والمثمن، وليس وقتَ أخذ البائع حتى يحسب عليه، فلا وجه إلا ما ذكرناه.
وهذا منتهى الفكر لم نغادر منه للناظر مثارَ إشكال، إن شاء الله تعالى.
3841- وذكر الأصحاب صورةً تداني ما مهدناه، وهي أن الرجل إذا باع عبدين، قيمة أحدهما ألف، وقيمة الثاني خمسمائة، باعهما بألف، فإن أقبضهما من غير تغير، استحق الألف، وإن أقبض الذي قيمته خمسمائةٍ، فتلف الآخر في يد البائع، استحق البائع ثلث الألف، وسقط الثلثان؛ لأن المبيع تلف ثلثاه. ولو انحطّ الذي قيمته الألف إلى خمسمائة، ثم تلف في يد البائع، وأقبض الذي قيمته خمسمائة، يستحق أيضاً ثلث الألف كما بقيت لو بقيت قيمته ألفاً؛ فإن النقصان محسوب على البائع.
ولو أنه أقبضه الذي كانت قيمته ألفاً بعد أن تراجع إلى خمسمائة، ثم تلف الثاني في يده، استحق نصف الثمن لأنه يوم القبض كان نصف المبيع.
وهذا بيّن لمن تمهد عنده ما قدمناه من الأصول.
3842- ثم قال الشافعي: "وكذلك الزرع خرج أو لم يخرج".
منهم من قال: أراد به تسنبل الزرع، أو لم يتسنبل، وصورة المسألة أنه باع أرضاً مزروعة، فيرجع فيها مع الزرع، وإن كان تسنبل الزرع في ملك المشتري. وهذا يدل على أحد الوجهين المذكورين في فرع البذر والزرع، والبيضة والفرخ.
ومن أصحابنا من قال: "قوله: خرج أو لم يخرج " معناه نبت أو لم ينبت.
وصورة المسألة عند هذا القائل أنه باع أرضاً مبذورة، فأنبتت، ثم فرضنا الرجوع بعد الفَلَس. وهذا التأويل يخرّج على أصلين:
أحدهما: صحة بيع الأرض المبذورة، وفيها قولان، تقدم ذكرهما.
والثاني: في البذر إذا نبت، وقد ذكرنا الخلاف في ذلك في فرع البذر والزرع، والبيض والفرخ.
فصل:
قال: "ولو باعه حائطاً لا ثمرة فيه، أو أرضاً لا زرع فيها... إلى آخره".
3843- إذا باعه حائطاً لا ثمر على أشجاره، فأثمرت في يد المشتري وأُبّرت الثمار. أو باع أرضاً لا زرع فيها، فزرعها المشتري، ثم أفلس، فالبائع يرجع في الحائط والأرض، ولا حق له في الثمر والزرع وعليه أن يُبقي الثمارَ إلى أوان الجِداد، والزرعَ إلى وقت الحصاد؛ لأن الزراعة كانت بحق، وكذلك إمساك النخيل الذي جرى فيه بدوّ الثمار كان بحق، فلزم تقرير الزرع والثمار. والغاصبُ إذا زرع، قُلع زرعه لاعتدائه في ابتداء الزرع.
ثم البائع إذا ألزمناه تقرير الزرع، والثمر، فليس له أن يطلب أجرةً. أما الأشجار فلا أجرة لها اصلاً، وأما الأرض، فقد صادفت الزراعة فيها ملك المشتري، وقد دخل في العقد على أن المنفعة لا تكون مضمونة عليه؛ فإن منافع المبيع لا تكون مضمونة بعقد البيع، فلم تلزم الأجرة.
3844- ولو اكرى أرضا، فزرعها المكتري، وفُلِّس المكتري، فالمكري يرجع فيما بقي من مدة الإجارة، ونجعله في المنافع الباقية كالبائع يجد عين ماله، ثم إذا فسح الإجارة في بقية المدة، فلا يقلع زرعَ المكتري المفلس، ولكنه يغرِّمه أجرةَ المثل للمدة التي يبقى الزرع فيها، والفرق بين المشتري والمكتري أن المشتري لم يدخل في العقد على أن يضمن المنافع، والمكتري دخل في العقد على أن يضمن المنافع، وإذا انقطعت الإجارة، ضمن أجرة المثل لمدة الزرع. وما ذكرناه أن البائع والمكري لا يملكان القلع، عنينا به أنهما لا يملكان القلع لحق فسخ العقد، لما ذكرناه.
3845- ولكن وراء ذلك نظر في القلع والتبقية إلى الإدراك.
فإن رضي المفلس والغرماء بالتبقية إلى الإدراك، بقَّيْنا، وإن رضوا بالقلع، قلعنا، وإن قال المفلس: يبقى إلى أن يدرك، ويحصل منه وفاءُ الديون، أو مقدارٌ صالح. وقال الغرماء: يقلع ويباع بما يشترى، ولا نرضى بتأخير حقوقنا، بل نتعجل من حقوقنا ما نقدر عليه، فالغرماء يجابون إلى ما يبغون لما ذكروه.
ولو قال الغرماء: يبقى إلى أن يدرك، فقال المفلس: بل أقلع وأتعجل إنفاق مالي في الديون، حتى ينفك عني الحجر، فللمفلس ذلك.
وبالجملة كل من يدعو إلى التعجيل من المفلس والغرماء، فهو مجابٌ إلى ما يطلبه.
وهذا الذي ذكرناه فيه إذا كان للمقلوع قيمة، وإن قلّت. فأما إذا لم تكن له قيمة أصلا، فلا يجاب من يطلب القلع، من جهة أن ما يبغيه يؤدي إلى إبطال المالية، وتضييع الملك بالكلية. وقد نُهينا عن إضاعة المال.
3846- ولو قال بعض الغرماء: نقلع، وقال المفلس، وباقي الغرماء: نبُقي، فلابد من اتباع رأي من يطلب القلع. ولكن قال القاضي: إذا طلب واحدٌ القلعَ، قلعنا الجميع، فإنا لا ندري كم نقلع بحصة المستدعي، فإذا لم يمكنّا أن نُقدِّر شيئاًً، فلابد من قلع الجميع.
وهذا فيه نظر عندي، فإن الزرع قد يبلغ مبلغاً عظيماً، وأعداد الغرماء قد يكون مائةً فصاعداً، فكيف يحسن أن نقلعَ جميع الزرع بسبب دين درهم لرجل واحد؟ ونعطّلَ مائة ألف لمائة نفسٍ؟ وليس من الرأي أن نترك أصلاً ظاهراً لا سبيل إلى تقدير مثله، بسبب جهالة نستشعرها، فلا وجه لإبطال حقوقٍ كثيرة، بسبب تعنتٍ من ذي حق حقير.
فإن قيل: كم تقلعون لحق من يستدعي؟ قلنا: إذا كان حقه عُشراً، لم يخف علينا أن مقدار الخمس لا يقلع بسببه، ونحن نستيقن استيفاء العشر إذا زدنا عليه قليلاً، فلم نجبه إلى استيعاب الزرع بالقلع. فإن كان من نظرٍ، ففي المقدار الذي يتمارى فيه.
ثم يتجه احتمالٌ في القلع إلى درك اليقين أو في الاكتفاء بما نَحْزِرُ ونخمّن. ويجوز أن يخطر لذي نظر أنا لا نقلع ما نشك فيه مراعاة لحق الغرماء الآخرين؛ فيعود التردد إلى محل الإشكال، وفيه احتمال من الجهة التي ذكرتها، فأما استيعابُ الزرع بالقلع فلست أرى له وجهاًً.
3847- ولو قال الغرماء: نصبر، وقال المفلس: نعجل ونقلع؟ قد ذكرنا أن المفلس يجاب إلى القلع، فلو قال الغرماء: نبذل مؤنة الزرع من عند أنفسنا، ونسقي ونتعهد إلى الإدراك، ولا نقلع، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين في ذلك:
أحدهما: أنه يمنع من القلع إذا كان كذلك؛ فإنه لا غرض للمفلس. وقلعُه وهو مكفيٌّ المؤونةَ تعنت.
وهذا ضعيف؛ فإنه يقول: غرضي أن يتعجل انفكاك الحجر عني، وليس عليّ توفير حقوق الغرماء. وهذا لا يدرؤه قيامُ الغرماء بالمؤنة.
فإن قيل: لو قال الغرماء: لا نقلع، ونحن نفك الحجر عنك، فهذا كلام عريٌّ عن التحصيل؛ فإنه لو انفك الحجر عنه، كان له القلع بعلّة انطلاق الحجر. وإن استمر الحجر، كان له القلع باستعجال انفكاك الحجر، فلا حاصل إذاً لما قاله الغرماء.
3848- والذي نستتم به بيان الفصل أنه لو اجتمعت عليه ديون، وكانت أصنافٌ من الأموال، وعلمنا أنه لا ينتجز بيعُها إلا في مدة شهرٍ مثلاً، وكان الزرع يدرك في هذه المدة، فالذي أراه أنه لا يقلع الزرع، وإن استدعاه المفلس؛ من جهة أنه لا يستفيد بقلعه انفكاك الحجر عنه، والحجر سيتمادى إلى منتهى مدة إدراك الزرع، ومال المحجور عليه في حكم المتعيِّن لحقوق الغرماء، فلابد من رعاية غبطتهم فيه، إذا لم يظهر خلافَ جهة الغبطة غرضٌ ظاهر للمفلس.
هذا منتهى القول في ذلك.
3849- ومما ذكره الأصحاب في الفصل أنا قدمنا استيفاء الزرع والثمر، في الأرض والشجر، وأوضحنا أن البائع والمكري لا يجابان إلى تفريغ الشجر والأرض عن الثمر والزرع، فقد يكون البائع والمكري ذا دينين على المفلس، ويكونان من جملة غرمائه، ويثبت لهما طلب القلع على التفصيل المقدم في طلب الغرماء لحق استحقاق الدين، لا لحق الفسخ الثابت لهما في البيع والإجارة.
وهذا واضح لا خفاء به.
ولو اعتنى الفقيه بحل مشكلات الفقه، كان أولى من الاشتغال بتعقيداتٍ في الصورة.
فصل:
قال: "وكذلك لو باع أمةً، فولدت... إلى آخره".
3850- هذا الفصل يجمع صور الوفاق والخلاف فيما يبقى للمفلس والغرماء من الحمل، والثمر، فنقول: الوجه تقديم الكلام في الحمل، ثم إتباعه بالثمرة.
فمن باع جارية، فعلقت بعد البيع بولد، وانفصل الولد قبل رجوع البائع في الجارية، فالولد للغرماء يتضاربون فيه، وليس للبائع فيه نصيب؛ فإنه لم يكن موجوداً في طرفي البيع والرجوع.
3851- وإن باع جاريةً حبلى، وأفلس المشتري، ورجع البائع في الجارية قبل الولادة، ارتد الحمل إليه في هذه الصورة وفاقاً؛ من جهة أنه كان موجوداً في الطرفين، وتحقيق الفقه فيه أن المشتري استحق الحمل الموجود تبعاً، ثم لم تتغير الجارية عن صفتها، فيرجع كما خرج.
3852- ولو باع جارية حاملاً، فولدت في ملك المشتري، ثم رجع البائع بعد انفصال الولد، ففي المسألة قولان مشهوران:
أحدهما: أنه يرجع في الولد أيضاً؛ فإنه كان موجوداً حالة العقد، وسبيل كل ما ملك على البائع بالبيع أن يرجع إليه بالرجوع.
والقول الثاني- أنه لا يرجع الولد إليه؛ فإنه كان صفة حالة العقد غير موثوق بها، وهو الآن عبدٌ مملوك مستقلٌّ بنفسه، فقدرناه كأنه وجد جديداً بعدَ البيع. وبنى الأصحاب هذين القولين على القولين في أن الحمل هل يعرف؟ فقالوا: إن قلنا: إنه يعرف، فيرجع إلى البائع من حيث كان موجوداً حالة العقد. وإن قلنا: لا يعرف، فكأنه لم يكن حالة البيع، وإنما تجدد من بعد.
والأولى في ذلك ما ذكرته في التوجيه من كون الحمل صفةً، وكون المنفصل عبداً مستقلاً، ويجعل تجدد الاستقلال كتجدد الوجود. وهذا أوْلى في التوجيه على ضعفه من التعرض لكون الحمل مجهولاً؛ فإنا إن شككنا في الحمل حالة اجتنانه، فإذا انفصل لما دون ستة أشهر، لم نشك بعد انفصاله في كونه موجوداً عند العقد.
3853- ولو باع جارية حائلاً، ثم علقت بمولود بعد البيع، وأفلس المشتري وأراد البائع الرجوعَ، والجارية حامل، فظاهر النص أن الحمل يرجع إلى البائع، ويتبع الجارية، كما يتبعها حالة البيع، حتى يصير المشتري أولى بالتَّبع.
وخرّج الأئمة قولاً آخر: أن الحمل لا يرجع إلى البائع في هذه الصورة؛ فإنه إنما يرجع إليه ما كان موجوداً حالة العقد، وليس الحمل كزيادة متصلة.
3854- ونصُّ الشافعي دليل على أن الحمل لا ينفرد باعتبارٍ، وليس له قسط من الثمن، وسبيله التبعية. فإن قلنا: يرجع الحمل إلى البائع كما يقتضيه النص، فلا كلام. وإن قلنا: يبقى للمشتري وغرمائه، فلا ينبغي أن يمتنع رجوع البائع بالجارية بسبب حملٍ لا يرجع إليه؛ فإنا وإن منعنا بيع جارية في بطنها حملٌ حرٌ-على تفصيل قدمناه- فلا يمتنع الرجوع لمكان الحمل.
والقول في هذا وفي كيفية الرجوع في الجارية دون الحمل، وفي معنى الرجوع فيها دون الولد المنفصل، على قولنا بمنع التفريق بين الأم وولدها كلامٌ لا يتصور الوفاء ببيانه إلا بعد تقديم فصل الغراس والبناء. وهو إذا اشترى الرجل أرضاً وغرسها، أو بنى عليها، فأفلس وأراد بائع الأرض الرجوعَ بالأرض. وهذا الفصل يأتي مستقصىً، إن شاء الله بعد هذا، على القرب، ثم نعقبه بما ذكرناه من الحمل والولد المنفصل الذي يمتنع التفريق بينه وبين الأم.
هذا منتهى مرادنا الآن في الحمل.
3855- فأما إذا باع شجرة وعليها طلع لم يؤبر، فلأصحابنا في الثمار غيرِ المؤبرة، وفي تثبيه استتارها بالأكِمَّة باستتار الجنين بالأم، وتشبيه ظهورها بالتأبير بظهور الحمل بالولادة اضطراب. ونحن نجمع جميع مرادهم تحت سياق الترتيب.
وقد ذكرنا أربع صور في الحمل، فنقابل كلَّ صورة منها بصورة في الطلع.
3856- فلو باع نخلة وعليها طلع لم يؤبر، فأفلس المشتري، وكان رجوع البائع قبل أن يؤبر، فهذا يناظر ما لو باع جارية حاملاً، فأفلس المشتري وهي حامل، وقد ذكرنا ثَمَّ أن البائع يرجع في الجارية الحامل، فتنقلب إليه، كما خرجت عن ملكه. ونحن نقول في الثمار: إنها ترجع مع النخلة إلى الباح، على اتفاق، ولا حاجة إلى ترجيح محل الإجماع على محل الإجماع. وإذا ذكرنا الترتيب في صور الخلاف بأن غرضنا.
3857- ومن صور الحمل ألا يوجد في طرفي البيع والرجوع، بل تَعْلقُ بعد البيع، وتلد قبل الرجوع، فلا حظ لبائع النخلة في الثمار؛ فإنها لم تكن موجودة حالة العقد، ثم بدت وظهرت، وزايلت حدَّ التبعية قبل الرجوع.
3858- ومن صور الحمل أن يكون الحمل موجوداً حالة العقد، ثم ينفصل قبل الرجوع، وفيه قولان، ونظيره من الثمار، ما لو باع نخلة عليها طلع لم يؤبر، ثم يؤبّر قبل الرجوع. وفي هذه الصورة قولان أيضاًً، مرتبأن على القولين في نظير هذه الصورة من الحمل، والثمارُ أولى بأن يَرجع فيها البائع، والسبب فيه أنها وإن تبعت الشجرة في معظم تسميتها، فهي مقصودة في نفسها، ويسوغ في المذهب الظاهر إفرادها بالبيع، فكأنها جُعلت مقصودةً في العقد، فكانت بالرجوع أولى، والحمل كأنّه صفة، والولادة كأنه التجدد والحدوث، كما ذكرناه في توجيه القولين.
3859- ومن صور الحمل ألا يكون موجوداً حالة العقد، ويحدث العلوق به بعد العقد، ثم يتفق وقتُ الرجوع والحمل في البطن، فقد ذكرنا قولين في الحمل: أظهرهما- أنه يرجع في الحمل، والقول الثاني- أنه يبقى للمشتري، ونظير هذا من الثمر ما لو باع نخلة، لا طلع عليها، ثم أطلعت ولم تؤبر، وحان الرجوع، ففي الثمار قولان مرتبان على القولين في الحمل. فإن قلنا: لا يرجع البائع في الحمل،. فلأن لا يرجع في الثمرة التي لم تؤبر أولى. وإن قلنا: يرجع البائع في الحمل من حيث إنه غير مقصود، فهل يرجع البائع في الثمر أم لا؟ فعلى قولين. والفرق أن الثمر مقصود في نفسه، قابل للإفراد بالبيع، ولم يكن موجوداً حالة العقد، فرجوعٌ بشيء مقصود إليه لم يكن موجوداً حالة العقد بعيدٌ، بخلاف الحمل؛ فإن كونه مقصوداً مختلف فيه، فكان رجوعه إلى البائع أقربَ من الجهة التي اختلفت في كونه مقصوداً.
هذا بيان ترتيب المذهب في الثمار والحمل في الصور الأربع.
فصل:
قال: "ولو قال البائع: اخترت عين حقي قبل الإبار، وأنكر المفلس... إلى آخره".
3860- فرَّع الشافعي رضي الله عنه هذا الفصل على القول المنصوص الظاهر، وهو أن من باع نخلة، فأطلعت بعد البيع، وأفلس المشتري قبل التأبير، وأراد الرجوع، فله أن يرجع في الثمار مع الأشجار. ولو أُبرت الثمار قبل الرجوع، لم يرجع البائع في الثمار وفاقاً. ومضمون الفصل مُدارٌ على هاتين الصورتين.
3861- فلو قال البائع: رجعتُ والثمار غيرُ مؤبرة، فهي لي، وقال المشتري: بل رجعتَ بعد التأبير، فالثمار لي تصرف إلى غرمائي، فالقول قول المشتري؛ لأن الأصل إبقاء ملكه في الثمار، والأصل عدم رجوعه أيضاًً.
فإن قيل: قد تقابلَ قولُنا: الأصل عدم الرجوع و قولُنا: الأصلُ عدم التأبير، فتعارضا، وتقابلا، فليخرّج ذلك على تقابل الأصلين.
قلنا: تعارض القولان كما ذكره السائل، والأصل بقاء الملك للمشتري.
ثم إذا جعلنا القولَ قولَ المشتري، وأراد البائع تحليفه، فلا يتأتى منه تحليفه ما لم يدَّع عليه العلمَ بتقدّم رجوعه على وقوع التأبير، ولو كلفه أن يحلف أنه ما رجع قبل التأبير، كان مكلفاً إياه ما لا سبيل إليه.
ولو أقر البائِعُ بجهل المشتري بتاريخ الرجوع، فيكون مسلماً له الثمرة؛ إذ مبنى الأَيْمان المتعلقة بنفي فعل الغير على أن تتضمن نفي العلم بها؛ إذ ليس في القوة البشرية درْكُ القطع بأنتفاء ما يمكن من فعل الغير، فإن لم يدع البائع العلمَ، بقيت الثمار للمشتري وغرمائه.
فإن ادعى علمَ المشتري بتقدم رجوعه على التأبير، فيحلف المشتري على ذلك، فإن حلف بالله أنه لا يعلم أنه رجع قبل التأبير، انفصلت الخصومة، واستقرت الثمرة للمشتري على ذلك.
وإن حلف المشتري على البت بالله أنه لم يرجع، فالخصومة تنفصل أيضاً بهذه اليمين، وإن كان المشتري يُعدُّ مجازفاً، ومحملُ يمينه البتُّ والقطعُ على أمور مظنونة.
ومعظم الناس لا يميزون بين العلم وغالب الظن، فاليمين الباتة تفيد ما يفيده اليمين النافية للعلم. هذا إن حلف.
3862- فإن نكل المشتري، فهاهنا وقفة؛ فإن البائع لو رددنا عليه اليمين، وحلف، لفاز بالثمار.
فلو قال الغرماء: لئن قصر المشتري ونكل، فالثمار لو ثبتت له، لكانت مصروفة إلينا، فلئن لم يحلف، فنحن نحلف، فلا تردُّوا اليمين على البائع، فنقدم على ذلك أصلاً قريباً منه ونقول:
3863- إذا مات الرجل وعليه ديون، فادعى ورثة المديون ديناً للميت، وأقاموا به شاهداً، ونكلوا عن اليمين معه، فهل للغرماء أن يحلفوا؟ فعلى قولين مشهورين.
ولو ادّعى المفلس ديناً له على إنسان، وأقام شاهداً واحداً، ثم لم يحلف معه، فقال الغرماء: نحن نحلف معه، حتى إذا ثبت الدين صُرف إلينا، ففي المسألة طريقان:
أحدهما: تخرّج المسألة على قولين كما تقدم في ورثة المديون والغرماء، والطريقة الأخرى- القطع بأنهم لا يحلفون؛ فإن صاحب القصة-المتوفَّى في المسألة الأولى- وقد مات وأشكل أمره، فإذا حلف الغرماء لم يظهر نقيض الصدق في أيمانهم. والمفلس صاحب القصة في مسألتنا، فإذا امتنع عن اليمين، تمكنت التهمة من الغرماء إذا حلفوا.
فنعود بعد ذلك إلى اختلاف البائع والمشتري في الرجوع والتأبير، فنقول:
3864- إن لم يحلف المشتري، فهل يحلف الغرماء؟ فعلى الطريقين المذكورين فيه إذا أقام المفلس شاهداً على دينٍ، ولم يحلف معه، فأراد الغرماء أن يحلفوا، لا فرق بين المسألتين؛ فإن نكول المفلس فيهما جميعاً يجرّ تهمة إلى الغرماء، على أن الغرماء ليسوا مستحلفين من جهة المدعي، وإنما هم يقتحمون اليمين ويبغونها، والأصل المستحلَف ناكلٌ، وأيمانهم على صورة النيابة عن يمين المشتري، والنيابةُ لا تتطرق إلى الأيمان في وضعها.
ونذكر لاستكمال هذا الفن مسألة أخرى، ثم نرجع إلى ترتيب المسألة، فنقول:
3865- لو أقر المفلس لإنسانٍ بدَيْنٍ، فقد اختلف قول الشافعي في قبول إقراره في الحال، وسيأتي ذكر ذلك. فإن قبلنا إقراره، فلا كلام، وإن لم نقبل إقراره بسبب الغرماء، فهل للمقَر له أن يحلَّف الغرماء؟
قال العراقيون: في المسألة طريقان، على العكس مما تقدم: فمن أصحابنا من قال: في المسألة قولان؛ لأن الغرماء ليسوا أصولاً في الخصومة، والخصومة وإن أمكنت النيابةُ فيها، فلا نيابة في الأيمان، والطريقة الأخرى- القطعُ بأنهم يحلفون؛ فإنهم ليسوا نائبين عن المفلس في أيمانهم، والخصومة موجهة عليهم، ولولا حقوقهم، لنفذ إقرارُ المفلس، فإذا أرادوا أن يأخذوا أموالهم، ويحرموا المقرَّ له، فقد انتصبوا خصومه.
عدنا إلى ترتيب المسألة: إذا نكل المشتري عن اليمين.
3866- فإن قلنا: الغرماء يحلفون، فيحلفون على نفي العلم، كما كان المشتري يحلف لو رغب في اليمين، وإن قلنا: إنهم لا يحلفون، فترد اليمين على البائع. وكذلك إن قلنا: إنهم يحلفون، ونكلوا، فإن نكل البائع عن يمين الرد جُعل نكوله كحلف المشتري، وبقيت الثمار للمشتري يتضارب فيها غرماؤه.
وإن حلف المشتري فقد قال الأصحاب: هذا يخرّج الآن على الاختلاف في أن يمين الرد تنزل منزلة البينة المقامة للخصومة؟ أم تنزل منزلة إقرار المدعَى عليه؟ وفيه اختلاف معروف.
وهذا أوان تقريره.
فنذكر ما سرده الأصحاب على وجهه. قالوا:
3867- إن قلنا: يمين الرد كالبينة، قضينا بالثمرة للبائع، كما لو أقام بينة على تقذم رجوعه على التأبير، وإن قلنا: يمين الرد كإقرار المدعى عليه، فتخرج المسألة على قولين مبنيين على أن المفلس لو صدّق البائع، وأقر له بما يدعيه من الثمار، فهل يُقضى له بموجب إقراره على الغرماء؟ وفيه قولان مرتبان: فإن رأينا قبول إقراره، فلا كلام، وينفذ القضاء بالثمرة للبائع، وإن رأينا ردَّ إقراره وقد نزلنا يمين البائع منزلة إقرار المشتري بحقوق الغرماء مقدمةً في الحال، فيتضاربون في الثمار تضاربهم في سائر أصناف الأموال.
فإن قيل: فاليمين التي أقدم عليها البائع لاغيةٌ في عقباها، فلم حلّفتموه؟ قلنا: ليست لاغيةً؛ فإنّ تيك الثمار لو فصلت عن الديون، بأن وجدنا في السلع التي كنا نبيعها من يشتريها بأكثر من أثمانها، وفصلت الثمار، وانطلق الحجر، فهي مصروفة إلى البائع بيمينه.
3868- فإن قيل: نراكم تذكرون هذا الأصل تارة، وتزيفون البناء عليه، وأنتم الآن لم تظهروا تزييفة، فأظهروا آراءكم فيه.
قلنا: نعم، إنما نزيف التلقي من هذا الأصل إذا كان يفرِّع المفرع عليه بما يُفضي إلى إزالة ملك الغير بعد ثبوته له، ولا تعلق للخصومة به، مثل أن يقرّ الراهن لأحد المتداعيين بالتقدم بالرهن والإقباض، وينفذ الحكم بإقرار المالك الراهن، فإذا ادعى الآخر على الراهن، وحلّفناه، فنكل، ورددنا اليمين على المدعي، فمن قال من أصحابنا: إنا إذا جعلنا يمين الرد بمثابة البينة؛ فإنا نسترد الرهن من المقر له أولاً، فهذا مزيف لا سبيل إلى اعتقاده؛ من قِبل أن الإقرار الأول قد نفذ، فنقضُه بسبب إنكار المقر ونكوله محال؛ فإنه لو صرح بالرجوع، لم يكن لتصريحه بالرجوع عن الإقرار حكم، وحَلْفُ المردود عليه قولُ خصمه، والقضاء عليه بيمين خصمه-وكان معه في رتبة المدعين- محال. هذا هو الذي يزيَّف ويُطَّرح.
3869- فأما إذا توجهت الدعوى على المفلس، فهو المخاطب بالخصومة، ولو ثبت له ملك، لكان له، ثَمَّ صَرْفُه إلى ديونه، قد يكون وقد لا يكون، وإن اتفق ذلك، فهو من مصلحته أيضاًً، ولا يمكننا أن نقول: للغرماء حق ثابت في هذا المتنازع فيه، لم يثبت بعدُ، فيجري التفريع على أن يمين الرد كالبينة، أو كالإقرار في مثل هذه الصورة، وذلك أنه لم يثبت بعدُ للغرماء حقٌ في الثمار، والمفلس ذُو عبارة صحيحة في الخصومة، فإذا انتظم من مخاصمته انتهاء الأمر إلى يمين الرد، فلا يمتنع القضاء به، ويكون ذلك منعاً للغرماء مما يرونه لأنفسهم، ولا يكون قطعاً لحقوقهم.
3870- فإن قيل: إذا كنتم تردون إقرار المفلس في الحال، فلا يمتنع عليه أن يواطىء كلَّ من يريد الإقرار له حتى يدعي عليه، فينكر، وينكل، فيرد اليمين عليه.
قلنا: هذا لو لم يكن لليمين بالله تعالى موقع في النفوس، وهي معظمة في دين الله تعالى، فمن أنكر أثرها، لم يبعد إنكار أثر الأَيْمان كلها. ومن ها هنا ينشأ التردد في أنه بينة، أم هي نازلة منزلة إقرار الخصم.
3871- ومما يتم به التفريع في هذا الطرف أنا إن قضينا بيمين البائع في الحال، فلا كلام.
وإن أبَيْنا القضاء بيمينه، فحكم هذا أن يفوز الغرماء بالثمار، ويعود حق البائع إلى مطالبة المشتري بعد انفكاك الحجر عنه.
3872- فلو قال البائع للغرماء: احلفوا لي بالله لا تعلمون تقدّمَ رجوعي على التأبير، فهل له أن يحلّفهم؟ فعلى طريقين ذكرناهما الآن: إحداهما- القطع بأنهم يحلفون، لما سبق تقريره. فإن رأينا ذلك، وحلفوا، فذاك، وإن نكلوا ردّت اليمين على البائع مرة أخرى في الخصومة الجديدة، وكأن اليمين الأولى من البائع لم تكن، ثم إذا حلف بعد نكول الغرماء، قُضي له بالثمار، لا محالة.
فهذه صورة تنجَّز الكلام فيها.
3873- فلو صدّق المشتري البائع فيما ادعاه من استحقاق الثمرة، وكذبه الغرماء، فالمسألة تخرّج على القولين في أن إقرار المفلس هل يقبل في الحال؟ فإن قبلنا إقراره، فلا كلام. وإن رددناه، فالبائع المقر له هل يحلّف الغرماء؟ فعلى ما ذكرناه من اختلاف الطريقين.
3874- ولو ادعى البائع ما ادعاه، فكذبه المفلس، وصدقه جميع الغرماء، وانتجزت الخصومة بين البائع وبين المفلس، فإن حلف المفلس على ما أوضحنا كيفية حلفه، فلا يقبل تصديق الغرماء للبائع في وجوب تسليم الثمرة إليه، غير أنهم لو أرادوا أن يطالبوا المشتري بتسليم تلك الثمار إليهم عن جهة ديونهم، لم يكن لهم ذلك من قِبل اعترافهم بأنهم لا يستحقونها، فتبقى الثمار في يدي المشتري، لا تسلم إلى البائع، ولا يتعلق بها الغرماء لإقرارهم السابق. ثم لا يملك المشتري التصرف فيها؛ لأنه محجور عليه على حالٍ، وقد يظهر له غرماء لسنا نعرفهم الآن.
ثم إن ضاق المال عن الديون، فالمفلس يلتمس من الحاكم أن يصرف إليهم تلك الثمار، فيما يصرفه إليهم. فإن قالوا: نحن نعلم أنها مغصوبة، فلِمَ يكلفنا أخذَها؟ قلنا: لا يقبل قولكم في حق المفلس، والحجر مطرد عليه، وغرضه ظاهر في حصول براءة ذمته عن ديونه، فخذوا الثمار عن حقوقكم، أو أبرئوه عن مقدارها من الديون، على نظرٍ في ذلك نستقصيه.
فإن أخذوها، حكمنا ببراءة المفلس عن أقدارها من الديون ثم كما ثبتت أيديهم على الثمار، لزمهم الرد على البائع لاعترافهم السابق؛ فإن إقرارهم إن كان مردوداً على المفلس وما يتعلق بأمره، فهو مقبول عليهم. وهذا بيِّنٌ في قواعد الشريعة.
3875- ولو قالوا: لا تكلفونا قبض الثمار، ولا تصرفوا أثمانها إلينا، ونحن نرضى برفع الحجر عنه، فهل يجبرون على قبض ذلك؟ فعلى قولين. وهذا هو الأصل الذي تكرر مراراً، من قِبل أن الغرماء إذا كانوا لا يدّعون للمفلس مالاً، سوى ما في يد الحاكم، واعترفوا بأن الثمار ليست له، فالحجر ينفك، أو يفك، على تفصيل يأتي لا محالة، إن شاء الله. إلا أن يدّعوا له مالاً خفياً، وسيظهر أثر ذلك من بعد.
فكأن المشتري مديون أتى بمالٍ ليصرفه إلى مستحق الدين، فأبى عن قبوله، وزعم أنه غصبٌ، فقوله بأنه غصب مردود، وهل يجبر على قبوله؟ فعلى القولين المشهورين في أن من جاء بدين مؤجل عليه أو حالٍّ، فامتنع المستحِق عن قبوله، فهل يجبر عليه أم لا؟ هذا حاصل الكلام في ذلك.
3876- ولو جاء المكاتَب بالنجم، فقال السيد: إنه مغصوب، لم يقبل قول السيد، وأجبر على القبول؛ فإن للمكاتب غرضاً صحيحاً في قبول ما جاء به، وقول السيد مردود عليه.
نظير هذا من مسألتنا ما لو امتنع الغرماء من قبول الثمار، وأبَوْا أن يفكوا الحجر، وزعموا أن له مالاً سوى الثمار مغيّباً، وكانت الديون تتأدى بالثمار، فيجبر الغرماء حينئذ على القبول؛ لظهور غرض المفلس في استفادة انفكاك الحجر.
هذا فيه إذا كذب المفلس البائع، وصدقه الغرماء.
3877- فأما إذا كذب المفلس البائع، كما ذكرناه، وانقسم الغرماء، فصدّق بعضهم البائعَ، وكذبه آخرون، فالأولى أن يَرفُق الحاكمُ بالمصدقين، ويصرف الثمرة إلى المكذبين، ويصرفَ إلى المصدقين صنفاً آخر؛ فإنه لو لم يفعل ذلك، وصرف إلى المصدق شيئاًً من الثمرة، لكان ذلك خسراناً عليه، من جهة أنه يلزمه تسليمه إلى البائع المقَر له.
ثم يُبيّن المصدقَ والمكذبَ حكمٌ نصفه في صورة. فنقول: الثمرة خمسمائة، وللمفلس ألف سواها، وله غريمان لكل واحد منهما ألفٌ. فإذا صرفنا الخمسمائة إلى المكذّب منهما، وبقي الألف بين المصدق والمكذب، فلو قال المصدق: ضارب في الألفِ بخمسمائة؛ فإنها حقك بزعمك، فالألف بيننا أثلاثاً أضرب فيه بسهمين، وتضرب فيه بسهم، فكيف السبيل؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: تقسم الألف ثُلثاً وثلثين بينهما، ويؤاخذ المكذب بإقراره. وقد قال: قبضت من حقي خمسمائة. هذا وجه ظاهر.
ومنهم من قال: يضارب المكذب المصدق في الألف الباقي على نسبة التشطير، ويقول: ألفي باقٍ على زعمك، وأنت مؤاخذ بإقرارك، وقد فرّطتَ وضيعتَ مضطرَبَك؛ إذ صدقت البائع، فيرجع من الألف خمسمائة إلى المكذب، ويتوفر عليه حقُّه كملاً.
3878- وما ذكرناه من أمر الحاكم بتسليم الثمرة إلى المكذب كيف قولنا فيه؟ أهو حتمٌ؟ أم للحاكم أن يقسط الثمرة على المكذب والمصدّق؟ ذكر العراقيون في ذلك وجهين:
أحدهما: أنه لا يجوز للحاكم صرفُ الثمرة إلى المصدّق إذا أمكنه صرفُها إلى المكذِّب لما فيه من التخسير.
والثاني: لا يجب على الحاكم رعاية هذا، وإنما يُمضي حكمَه وقضاءَه على قول مَنْ جعل الشرعُ القولَ قولَه، والأصح أنه يجب عليه رعايةُ هذا، فإنه ناظِرٌ للمسلمين، فلا يجوز أن يسعى في إيذائهم من غير غرض.
فصل:
قال: "وإن وَجَدَ بعضَ ماله، كان له بحصته... إلى آخره".
3879- وهذا مما سبق تقريره فيما مضى، ولكنا نعيده لغرضٍ لنا، فنقول إذا باع شيئين بثمن وسلمهما، فأفلس المشتري، وقد تلف في يده أحدُ الشيئين، فقاعدة المذهب أنه يرجع بالعين الباقية، ويأخذها بما يخصها من الثمن، ويضارب الغرماء بما يخص العين الفائتة من الثمن.
هذا هو الأصل.
3880- وذكر صاحب التقريب والعراقيون في هذه المسألة، وفي كل مسألة تضاهيها أن من أصحابنا من خرّج هذا على أصلٍ ذكرناه في تفريق الصفقة، وهو أن من اشترى عبدَيْن، فتلف أحدهما قبل القبض، وانفرع العقد فيه، وأجاز المشتري البيع في الباقي، الخِيَرةُ بتمام الثمن أو بقسطه؟ فعلى قولين: فقال قائلون: ها هنا يخرّج هذان القولان أيضاًً، ففي قولٍ، نقول للبائع: خذ العين القائمة بجميع الثمن، أو دَعْها، وضارب بجميع الثمن.
وفي قولٍ، نقول: يأخذ ما وجد بحصته ويضارب الغرماء بحصته من الثمن.
والقول المذكور في أن العقد يجاز في العبد الباقي بعد تلف العبد الآخر بتمام الثمن، في نهاية الضعف، والمصير إلى ذلك القياس في هذا المقام خرقٌ لنظم المذهب بالكلية.
3881- وطرد هذا القائل هذا المسلك في الشفعة، فقال: من باع سيفاً قيمته مائة، وشقصا قيمته عشرة، بمائة وعشرة، فجاء الشفيع يطلب الشقص؛ فنقول في قول: خذ الشقص بجميع الثمن، أو دع الشفعة، وفي قول نقول: خذ الشقصَ بنسبته. وهذا الآن عندي قريب من خرق الإجماع، فالوجه القطع بأن البائع يرجع فيما بقي ويأخذه بقسطه، ويضارب بقسط من الثمن.
فإن قيل: كيف نعتبر قيمة الفائت والباقي؟ قلنا: نحن على قرب عهدٍ بهذا، فالفائت بمنزلة الثمار في المسألة العويصة في صدر الكتاب إذا صوَّرنا فواتها، والعبد الباقي بمثابة الشجرة الباقية. وقد ذكرنا تفصيل المسألة على أحسن مساق.
فصل:
قال: "ولو كانت داراً، فبنيت، أو أرضاً، فغرست... إلى آخره".
هذا من فصول الكتاب، فليخصِّصْه الناظر بتثبُّت في الفكر.
3882- إذا باع الرجل أرضاً من إنسان، وسلّمها، فغرسها المشتري، أو بنى فيها، ثم أفلس. وما كان أدّى الثمن، والأرض مبنية و مغروسة، فالوجه التنبيه لمثار الإشكال في المسألة أولاً، ثم نخوض فيها بعون الله وتوفيقه.
3883- فنقول: المشتري بغرسه وبنائه متصرف في ملك نفسه، وليس أيضاًً على رتبة مستعير؛ فإن العاريّة عرضة الاسترداد، و لما أفلس وقد تمهد في الشرع أن البائع يرجع إلى عين ماله، وعين ماله عتيدة، ولكنها مُغيَّرة. والجمع بين تفريغ الأرض له وبين رعاية حق المشتري والغرماء عَسِر، فكيف السبيل؟ فنقول أولاً: إن طمع البائع في أن يقلع البناء والغراس مجاناً وتحبَطَ قيمة البناء والغراس، ويرد إلى النقض والحطب، فهذا طمع محال؛ فإن المشتري لم يكن غاصباً، وإنما يُنقض على هذا الوجه بناء الغاصب وغراسه.
فلو قال البائع: لست أرجع في عين الأرض إلا على هذا الوجه، قلنا: فلا مرجع لك إذاً، فضارب الغرماء بالثمن، واقنع بما يخصك.
وإن كان لا يبغي البائع هذا المحال، ولكن أراد أن يرجع إلى عين حقه، ومعلوم أن الأرض البيضاءَ أكثرُ قيمة من الأرض المبنية والمغروسة، إذا كانت تباع دون الغراس والبناء، فلابد وأن يتداخله نقص.
فإذا تنبه الفقيه لهذا، ولما ذكرناه، فعبارات الأصحاب فيها بعض الإيهام والخبط. وأنا بعون الله تعالى آتي بمقصود الطرق على أقرب صيغةٍ إن شاء الله تعالى.
فأقول:
3884- حاصل ما ذكره الأئمة في ذلك أقوال: أحدها: أنا نجعل البائع واجداً عين ماله، فليرجع فيها من غير أن يعتقد جواز القلع مجاناً، وله أحكامٌ على هذا القول سأصفه في التفريع.
والقول الثاني- أنا نجعل بائع الأرض فاقداً عين ماله. فإن قيل: لم ذلك؟ وهو
يقول: أنا أقنع بالأرض ناقصةً، ولا أقلع الغراس والبناء؟ قلنا: قد جرى البناء بحق، وقيمته على مبلغ لو كانت الأرض معه، ولو رجع البائع بعين ماله، لنقص البناء وإن لم يقلع، فتضمن ذلك غضاً من قيمة البناء. وقد أُنشىء بحق، وليس كما لو كان المبيع مجرداً، لا يؤدي الرجوعُ فيه إلى تنقيص حق المشتري. ويتم وجه هذا القول بأن الباني يغرَم في البناء أموالاً يجبرها قيمة البناء، فإذا قطعنا الأرض عن البناء، تضمن ذلك تخسيراً للمشتري ظاهراً، وهذا يضاهي الردَّ بالعيب القديم مع عيب حادث؛ فإنه لو تسامح، كان استدراك ظلامة في ضمن إلحاق ظلامة.
هذا بيان هذا القول.
3885- وذكر بعض أصحابنا قولاً ثالثاً، وهو أن البائع يرجع في عين الأرض، ولكن لا يمكن بيعها، فتباع الأرض مع البناء؛ حتى لا يؤدي إلى التخسير، ويجعل البائع الراجع شريكاً، بمثابة صاحب الثوب غير المصبوغ إذا صبغ المشتري ثوبَه، على تفاصيلَ ستأتي، إن شاء الله عزّ وجلّ، ثم الثوب المصبوغ يباع ويوزع الثمن على قيمة الثوب والصبغ، وهذا عدلٌ في رعاية الحقين؛ فلا صاحب البناء يبيع بناءه وحده، ولا صاحب الأرض، بل تباعان.
ومن سلك المسلك المقدم، استبعد الحجر على صاحب الأرض في بيعه أرضَه، وقال: ليس ذلك كالثوب والصبغ؛ فإن إفراد أحدهما بالبيع غير ممكن، فاضطررنا إلى بيع الثوب في الحقين.
3886- وحكى العراقيون قولاً آخر بعيداً، وقالوا: إن كانت قيمة البناء أكثر، فليس بائعُ الأرض واجداً عينَ ماله. وإن كانت قيمة الأرض أكثر، فصاحبُ الأرض واجدٌ لعين ماله. ولعل هذا القائل يذهب مذهب اتباع الأقل و الأكثر، ولم يتعرضوا لاستواء القيمتين، وهذا يقل قدره عن إتعاب الفكر في تفريعه.
3887- والآن نفرع على الأقوال، فنقول: من قال: إنه فاقدٌ لعين ماله، فنجعل حقه في المضاربة بالثمن، ومن قال: إنه واجد وليس وجدانه على مذهب الشركة التي ثبتت في الثوب المصبوغ، فظاهرُ التفريع على هذا القول أنه إذا رجع في عين الأرض، ثبتت له سلطنة، وهي خِيَرةٌ بين ثلاث خلالٍ. فإن أراد بذَلَ قيمة البناء والغراس ثابتين، وإن أراد قلَعَهما، وضمن ما ينقصه القلع. وإن أراد بَقَّاهُما وألزم من يبقى البناء له أجر المثل له في المستقبل.
والتعيين في كل خصلة من هذه الخصال إلى البائع الراجع، وكأنا أحبَبْنا ردَّ الأرْض عليه كما خرجت عن ملكه، فصدّنا عنه امتناعُ إبطال البناء والغراس، فأثبتنا له رتبةَ سلطان المالكين، حتى كأن البناء صدر عن إذنه، وكأنه المعير. ومن أعار أرضاً حتى نبتت وغرست، فمآل الأمر يؤول إلى ما ذكرناه.
3888- ومن تمام البيان في ذلك أن الغرماء لو امتنعوا عن قبول هذه الأشياء، واختلفوا: فعيّن البائع خصلة وطلبَ الغرماءُ والمشتري خصلة، فكيف السبيل والحال هذه؟ اختلف أصحابنا في هذه المسألة: فمنهم من قال: إذا استيقن منهم النكد، وظهرت المخالفة، قُلع الغراس والبناء مجاناً، كما يفعل ذلك بين المعير والمستعير؛ فإن المستعير إذا أبى قبول خصلة من الخصال التي ذكرناها، قُلع غراسه مجّاناً. وقد نزّلنا البائع على التقدير الذي ذكرناه منزلة المعير. هذا وجه.
والوجه الثاني- أنهم وإن خالفوا ولم يقبلوا، لم يُقلع بناؤهم مجاناً، ولكنا نقول للبائع: ماذا تريد؟ فإن أراد القلع، قلعنا، ولهم ما ينقصه القلع. وإن أراد تملك البناء والغراس بالقيمة، ملّكناه تلك الأعيان، وألزمناه قيمتها. وإن أراد أن يلزمهم الأجرة ما أبقَوْا البناء والشجر، ألزمناهم؛ فلا حاجة إلى تعطيل حقوقهم، وقلع بنائهم وغراسهم مجاناً، ونحن نتمكن من تحصيل ما يريده البائع في الخِيَرَات الثلاث.
نعم، إذا عاند المستعير، ارتفع عذرُ المعير، وجاز له استرداد الأرض كما كانت من غير غرم، وسنستقصي ذلك في كتاب العاريّة. والمشتري لا يعتمد بناءه وغراسه إذنا متعرضاً للرجوع، ولكنه اعتمد ملكه الثابت، فلا حاجة لتعطيل تصرفه وتخسيره ماله.
3889- وإن فرعنا على أن بائع الأرض يرجع فيها رجوع بائع الثوب بعد صبغه، فمعنى ذلك أن الأرض والغراس أو البناء يباعان معاً، ويوزّع الثمن عليهما، فما خص الأرض كما سنصف التوزيع ينفرد البائع به، وما خص البناء، فهو للمشتري وغرمائه.
ومن امتنع من بيع ما أضفناه إليه، أُجبر على البيع؛ فإنا لو كلفنا واحداً أن ينفرد ببيع ملكه، لكان ذلك مضراً به مُخسراً إياه، وسبيل الأرض والبناء في هذه القاعدة-وهي الحَمْل على بيعهما- كسبيل الثوب والصبغ، على ما سنذكره.
هذا بيان هذا القول على الجملة. وتمام بيانه موقوف على بيان كيفية التوزيع.
3890- وقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: تقوَّم الأرض دون النخيل، والبناء، ثم مع النخيل، والبناء، فنقول: قيمتهما دونها مائة، ومعها مائة وخمسون، فيقسم الثمن أثلاثا بالغاً ما بلغ، ثلثاه لمالك الأرض. ومنهم من قال: تقوّم الأرض دون النخيل والبناء، فإذا قيمتها مائة، ثم يقوّم البناء والنخيل دون الأرض، فإذا قيمتهما مائة، فيقسم الثمن بينهما نصفين، وقد تقدّم نظير هذا الاختلاف في الأصول السابقة.
3891- ولو وهب رجل أرضاً بيضاء وسلمها، وكان يثبت له حق الرجوع في
الهبة، فلو بنى المتَّهب وغرس فيها فرَجْع الواهب في الأرض بعد بناء المتهب وغراسه، كرجوع البائع في كل تفصيلٍ، بلا فرق في الأقوال، والتفريع عليها.
3892- فرع: إذا باع الرجل جاريةً، فولدت في يد المشتري وأفلس المشتري، وكان الولد بحيث لا يرجع فيه بائع الجارية، ومنعنا التفريق بين الأم وولدها، فكيف يرجع البائع، وليس الولد له؟
ذكر العراقيون وجهين:
أحدهما: أنه يقال له: إما أن تبذل قيمة الولد فتأخذه مع الجارية، وإما أن يباعا معاً، فتأخذ حصتك من الجارية، وتدفع إلى الغرماء ما يقابل الولد.
والوجه الثاني- أنه يقال: إما أن تبذل بدلَ الولد، وإما ألافجعلك واجداً لعين مالك، فتضارب الغرماء بثمن الجارية، ويبطل حقك من الرجوع، فإذا كان يرجع البائع في الجارية الحامل، ولا يرجع في حملها على قولٍ في صورةٍ، فلا وجه إلا المكث إلى انفصال الولد، وعند ذلك يتفرع ما ذكرناه في الجارية، وولدها من اختلاف الجوابين عن طريقة العراق، ولا يمكننا أن نقوّمها حاملاً، ونقوّمها حائلاً؛ فإن الحمل غير موثوق به قبل الانفصال، فلا ينتظم توزيع يُهتدى إليه. والأصحُّ، وظاهر النص أنه يرجع في الحمل كما تقدم.
فصل:
قال: "ولو كانا عبدين بمائةٍ... إلى آخره".
3893- صورة المسألة باع عبدين متفقي القيمة بمائةٍ، وقبض خمسين، فتلف أحدهما في يد المشتري وفُلِّس، فقد اجتمع في المسألة تبعيضٌ في الثمن، وتبعيض في المثمن، فإن البائع قبض نصف الثمن، وبقي في يد المشتري عبدٌ، وهو على نصف قيمة المثمن. فالذي نص عليه الشافعي أن البائع يرجع في العبد الباقي ببقيّة الثمن، فجميع المقبوض من الثمن في الهالك، والباقي في القائم، وصار في هذا إلى أن إحالة البائع على المفلس بشيء من الثمن مع أن الباقي من المثمن وافٍ بالباقي من الثمن لا وجه له، وكأن هذا القائل يجعل تعلق البائع بالمبيع في الثمن بمثابة تعلق المرتهن بالرّهنِ في مقابلة الدين.
وفي المسألة قول آخر، خرّجه الأصحاب من أجوبة الشافعي في الصداق والزكاة. وهو أن المقبوض من الثمن يتوزع على التالف والباقي؛ والباقي من الثمن يقابل التالف والباقي، وهذا يتضمن أن يرجع في نصف العبد القائم الذي في يد المشتري، ويضارب الغرماء بما يقابل نصف التالف، فيقع الرجوع في ربع الجملة، وهو نصف العبد القائم، وتقع المضاربة في ربع الثمن.
وهذا القول المترجم بالشيوع اختيار المزني. وهو القياس. والقول الأول يُشهر بقول الحصر.
وسنذكر حقيقة الشيوع في كتاب الصداق، إن شاء الله تعالى.
فصل:
قال: "ولو أكراه أرضاً، ففُلِّس، والزرع بقلٌ في أرضه... إلى آخره".
3894- إذا اكراه أرضاً مدة، ولم يقبض الأجرة، وسلّم الأرض، ثم أفلس المكتري، فالمكري في بقية المدة بمثابة البائع الواجد لبعض المبيع بعينه، والمنافع في المدة الماضية مستوفاة فائتة، فلا يتوقع الرجوع فيها، والمنفعة الباقية بمثابة بعض المبيع؛ فللمكري أن يفسخ الإجارة في بقية المدة، ويرجع إلى قسطٍ من الأجرة، في مقابلة المنافع المستوفاة.
هذا هو المنصوص عليه، وهو الذي قطع به جماهير الأئمة.
3895- وحكى صاحب التقريب قولاً غريباً أنه لا يثبت الرجوع بالمنافع، وليست كالأعيان؛ فإن الوجود لا يتحقق فيها، وإنما الرجوع في الأعيان القائمة، فلا مرجع للمكري إلا إلى المضاربة بالأجرة المسماة، ثم تلك المنافع في بقية المدة ينبغي ألا تضيع، ولكن تكرى الأرض في بقية المدة، وتصرف أجرتها إلى ديون المفلس.
وهذا القول وإن كان يتجه بعض الاتجاه، فليس معدوداً من متن المذهب.
فنعود إلى التفريع على النص ونقول:
3896- إذا أراد الرجوع إلى المنفعة في بقية المدة، فالوجه تقويمها فيما يبقى من الزمان، حتى إذا ثبت مقدار أجرتها، قيس بمقدار أجرة المثل للمنفعة الماضية، ثم يقع التوزيع على المبلغين، فيأخذ المنفعة الباقية بما يساويها من الأجرة المسماة، المنسوبة إلى أجرة المثل، ويضارب بما يقابل أجرة المنفعة الماضية من الأجرة المسمّاة. ولا تعويل على زمانٍ؛ فإن الأوقات ليست معقوداً عليها، وإنما المعقود عليه المنافع الواقعة فيها، فهي لها ظروف مقدرةٌ، كالآصع والمكاييل للمكيلات، ومبَالغ الأجر تتفاوت بكثرة الراغبين وقلتهم، فيعتبر ذلك، لا الزمانُ نفسه، وقد تقع المنافع في الزمان الماضي وفي المستقبل في مواسم الرغبات، فالمسكن في موسم الحج قد يكترى بالمائة، وأيام الموسم شهرٌ أو أقل، وذلك المسكن يكترى في طول السنة بعشرة، فلابد من اعتبار هذا. وسنصفه إن شاء الله تعالى.
3897- ولو كان أكرى أرضا وسلَّمها، فزرعها المكتري، وفُلِّس، واختار المكري الرجوعَ إلى المنفعة في بقية المدة، فليفعل ذلك، وليفسخ الإجارة، ولا سبيل إلى قلع الزرع؛ فإنه زرع بحق الملك. ولا يجوز للمكري القلع بشرط ضمان النقصان، بخلاف ما ذكرناه في الغراس والبنيان. والسبب فيه أن الغراس والبنيان لا ينتهيان إلى أمدٍ في الزمان، فلم يبعد التسليط فيهما على القلع بشرط الضمان، والزرعُ له أمد معلوم.
وأقرب المسالك في استدارك الحقوق جُمَع تبقيةُ الزرع. ثم فائدة فرعه الإجارةَ أنه يرجع إلى أجرة المثل للمدة الباقية، لا يضارب بها، بل يُقدَّم بها، كما نُقدِّم مَنْ تعامل بعد الإفلاس معاملة تليق باستصلاح أموال المفلس، فيرجع بأجرة المثل فيما بقي من المدة مقدَّماً بها، ويضارب بأجرة مثل ما سبق من المنافع الغرماءَ.
3898- وقد كنا ذكرنا أن من باع أرضاً وسلمها؛ فزرعها المشتري ثم أفلس، ورجع البائع إلى عين الأرض، فالزرع يبقى إلى الحصاد، كما ذكرناه، ثم لا يرجع البائع بأجرة مثل الأرض في تلك المدة، وفرقنا بين الشراء والاكتراء، بأن المكتري خاض في العقد على ضمان المنافع، والمشتري لم يخض على ضمان المنفعة. هذا ما ذهب إليه جميع الأصحاب.
3899- وحكى صاحب التقريب قولاً مخرجاً عن ابن سريج في أن البائع إذا فسخ البيعَ، ورجع في المبيع، استحق أجرة المثل لبقية المدة؛ فإن الأرض انقلبت إلى ملكه، والمنافع المحتسبة بسبب إبقاء الزرع تالفة من حقه وملكه، فلتُضمن له.
وأقرب نظير في هذا أن المشتري لو بنى وغرس، فأراد البائع الراجع في المبيع أن يُبقي البناءَ والغراسَ، ويُلزم المفلسَ أجرة المثلِ مدة بقاء البناء، فله ذلك، وهذا أجرة منفعة في عاقبة بيعٍ فُسخ بالإفلاس، فلا فرق بين منافع الأرض في مدة الزرع وبين منافعها في آمادٍ من البناء، إلا أنَّ لإحدى المنفعتين أمداً محدداً.
وهذا منقاسٌ بالغ.
ولكن المذهب المشهور ما ذهب إليه الجمهور، من أن منفعة الأرض في مدة الزرع في صورة البيع لا تقابل بأجرة، وتعتقد كأنها تابعةٌ، ومدةُ مهلة في تفريغ المبيع.
3900- ثم ما ذكرناه من أن الزرع لا يقلع عَنَيْنا به أن المكري لا يملك القلع بحق الفسخ، فلو طلب الغرماء القلع ليتعجلوا ميسور حقوقهم، أجيبوا. ولو كان المكري من الغرماء بسبب المنفعة المستوفاة في الزمان الماضي، فله المطالبة بالقلع لحق تعجيل الدين، لا لحق الفسخ. وهذا مما سبق تقريره.
ولو اتفق الغرماء على التبقية، واحتيج إلى السقي، والتعهدِ إلى الإدراك؛ فإنْ تطوَّع الغرماءُ بهذا، فلا كلام، وإن أرادوا بذلَ المؤنةِ على أن يُقدَّموا بها، ورضي المفلس، واقتضت المصلحة ذلك، أجيبوا إلى هذا.
فلو فرضنا غريمين لا غيرَ، ثم قَدَّما المؤنة على نسبة حقَّيهما، فإن لم يَبْدُ غريمٌ غيرُهما وحقوقهما تزيد على مبلغ المال، فلا يظهرُ أثرُ تقديمنا للغريمين ما عجلاه من المؤنة؛ فإن المال كلَّه مصروف إلى حقوقهما. وإن فرض بُدُوُّ غريمٍ ثالث، فإذ ذاك يتبين أثر تقديمنا للغريمين بما عجلاه لمؤنة تبقية الزرع.
وهذا واضحٌ لا خفاء به.
فصل:
قال: "وإن باعه زيتاً فخلطه بمثله... إلى آخره".
3901- إذا اشترى زيتاً وخلطه بما عنده، لم يخل: إما أن يخلطه بجنسه، وإما أن يخلطه بما ليس جنساً له، فإن خلطه بجنسه: إما أن يخلطه بمثله، أو أردأ منه، أو أجود منه، فإن خلطه بزيتٍ مثله، أو أردأ منه، فظاهر النص أن بائع الزيت واجدٌ عينَ ماله، وسبيل رجوعه إلى عين ماله القسمةُ فإن كان الخلط بالمثل، وكان خلطه مكيلةً بمكيلةٍ، فالقسمة على السّوية.
وإن خلطه بأردَأ منه، فالقسمة على السوية أيضاًً.
ثم إذا رَدَدْنا من هذا المختلط مقدار المبيع إلى البائع، فلا شك أن حقه ناقص، ولكن ما لحقه من النقص ملحقٌ بعيب يفرض طريانه. وإذا عاب المبيع، ثم أفلس المشتري وأراد البائع الرجوع إلى عين المبيع، فيلزمه أن يقنع بالمبيع معيباً. ولا يرجع بأرش.
وهذا كلامٌ منّا مُبْهمٌ في صدر الفصل، ولا ينتجز الفصل إلا بعد انكشاف الغطاء، إن شاء الله تعالى.
هذا إذا كان الخلط بالمثل أو الأردأ.
3902- فأما إذا خلط المشتري الزيتَ بزيت-عنده- أجود، فهل يكون البائع واجداً عين ماله؟ تردد قولُ الشافعي فيه، فقال في أحد القولين: إنه واجد كما إذا وقع الخلط بالمثل أو الأردأ، وكما لو باع ثوباً فصبغه المشتري فبائع الثوب واجد عينَ ماله، وإن اتصل به عينُ مال المشتري اتصالاً لا يقبل التمييز، على ما سنذكر هذا على الاتصال بهذا الفصل.
وقال في القول الثاني: البائع فاقدٌ-في الحكم- عينَ المبيع. قال الشافعي: لأن الذائب إِذا اختلط بالذائب، انقلب. وأشار إِلى أن عين المبيع لا يمتاز أصلاً، ولا يتأتى امتيازه حساً ودَرْكاً. وليس كالثوب يُصبغ، والسَّوِيقُ يُلتُّ بالسّمن؛ فإِنّ أحد الجوهرين ممتازٌ في الدرك.
ثم إِن أصحابنا لما رأَوْا الشافعي يتعلق بانقلاب الذائب، انعكسوا على الخلط بالمثل والأردأ، فرأى بعضهم أن يخرّج فيما مضى قولاً أن البائع فاقدٌ عين ماله؛ فإن المبيع لا يأتي تميُّزه فصلاً، ولا دَركُه على التعيين. وقد ذكرنا أن من اشترى حنطة، فانثالت عليها حنطة أخرى للبائع قبل التسليم إِلى المشتري، فهل يُقضى بأنفساخ العقد؟ فعلى قولين. وإِذا كنا نجعل الاختلاط في قولٍ بمثابة تلفِ المبيع، فلا يبعد أن يجعل الاختلاط بالمثل في يد المشتري بمثابة التلف.
ومن أصحابنا من أجرى الخلط بالمثل والأردأ على القطع، وخصص القولين بما إِذا كان الخلط بالأجود. وهذا ظاهر النص، ومقتضى نظم كلام الشافعي. ويبعد عن موافقة مراده أن نقول: ما فصَّله، ثم قطع جوابه في بعض التفاصيل، وردده في البعضِ لا فرق فيه.
وهذا إِن قيل به ردٌّ لكلام الشافعي، وإِبطالٌ لتقسيمه وتفصيله.
3903- ونحن نذكر تنبيهاً على قواعدَ في الخلط، فنقول:
أما فرض الاختلاط في البيع قبل القبض، فإِنه جارٍ في ملكٍ غيرِ مُفضٍ إِلى القرار، وهو عرضةٌ للانقلاب إِلى البائع، فإِن تردد القول، وتمثل في انفساخ العقد عند اختلاط المبيع بمثله، فسببه ما ذكرناه.
ولو كان للرجل ملكٌ مستقر في شيء دون شيء من ذوات الأمثال، فاختلط به ملكٌ لغيره مثلٌ له، وليس بينهما عقد يُفسخ، فالوجه قسمة ذلك المختلط بينهما، لا طريق غيره. وليس في هذه الواقعة عقد يتوقع رفعه، بل الاختلاط في المثليات يصير بمثابة الشيوع في الملك، فلا فرق بين أن يرث رجلان صاعين من الحنطة في أن طريق التفاصل القسمة، وبين أن يختلط صاعٌ لأحدهما بصَاعٍ لآخر؛ ولهذا صحت الخلطة في المثليات عمدةً للشركة، كما سنصف ذلك في قاعدة الكتاب، إِن شاء الله تعالى.
وإِذا باع شيئاًً من ذوات الأمثال، فخلطه المشتري بجنسه، فهذا خلط في معقودٍ عليه، جرى بعد قرار الملك، ولكن طريان الإِفلاس يسلط البائعَ على الرجوع في المبيع، فكان على مخالفة المبيع قبل القبض، ولم يكن أيضاًً كاختلاط ملك بملكٍ من غير فرض عقد؛ فإِن البائع إِنما يرجع في المبيع لمكان البيع الذي جرى. وهذا يقتضي أن يرجع فيما كان مورداً للعقد. فألحق بعضُ الأئمة الخلطَ كيف فرض بالخلط قبل القبض، حتى يتردد القول في الخلط بالمثل والأجود والأرْدأ.
والوجه في المذهب ألا يُقضى بأن الخلط في عينه يؤثر، من قِبَل أنه جرى في ملكٍ مستقر، ولكن إِن أمكن فرض الرجوع من غير تعذر، لزم إِثباته، وتنزيلُ الأمر على التفاصل الذي يجري بين الملكين إِذَا اختلطا. وإِن فرض تعذرٌ في طريق الرجوع كما سنصفه في الخلطِ بالأجود، فينشأ منه تردُّدٌ في أن البائع هل يكون واجداً عين ماله؟ وسبب التردد تعذر تصوير الرجوع إِلى المقدار المبيع. وهذا إِنما يتبين بالتفريع.
فهذا بيان قاعدة الفصل، في الفرق بين الخلط بالمثل، والأردأ، والأجود.
3904- عُدنا إِلى التفريع على القولين في الخلط بالأجود، فنقول:
لو كان الزيت المشترى يساوي درهماً، وقد خلطه بمقدارٍ من الزيت الجيد مثلِ مقدار المبيع، ولكن كان قيمةُ الجيد درهمين. فإِن قلنا: لا يكون البائع واجداً عين ماله، ضارَب بالثمن، وكان أُسوة الغرماء. وإِن جعلناه واجداً عين ماله، ففي طريق إِيصالِه إِلى حقه من عين المبيع إِذا اختار فسخَ البيع قولان:
أحدهما: أن الزيتين يباعان، ويوزع الثمن بالغاً ما بلغ على الثلث والثلثين. وهذه النسبة مأخوذة من تفاوت القيمتين. هذا قول.
والقول الثاني- أن الزيت المختلط يقسم بين البائع والمشتري على نسبة القيمة ثلثاً وثلثين، فإِن كان المقدار المختلط مكيلتين، قسمناها ثلثاً وثلثين، فرددنا إِلى البائع ثلثي مكيلةٍ، وبقَّينا على المشتري مكيلةً وثلثاً، يضطرب فيها غرماؤُه.
3905- فإِن قيل: هذا صورة الربا؛ فإِنه سلّم مكيلةً، وألزمتموه الاكتفاء بثلثي مكيلةٍ، قلنا: هذا القول يخرّج على أصلين:
أحدهما: أن القسمة إِفراز حق؛ فإِنا لو قدرناها بيعاً، فلا مجاز لهذا؛ إِذ حقيقته مقابلة مكيلة ببعضها، ثم لا تخرج القسمة مع التفريع على أنها إِفراز حق إِلا على أصلٍ آخر، وهو أن القسمة التي تبنى على تعديل القيمة، لا على تسوية الأجزاء، هل يقع الإِجبار عليها؟ وهي كفرض قسمةٍ بين عبيدٍ ودورٍ وغيرها. بأن تُفصّلَ أقساماً معدَّلة القيم، فتُوقع العبيدَ مثلاً في قسم، والثيابَ في آخر، والدور في آخر، على ما يتفق من ضم بعض الأصناف إِلى البعض، فهذا الضرب من القسمة هل يجري الإِجبار فيها؟ فعلى قولين، سنذكرهما في كتاب القسمة.
فإِن رأينا الإِجبار على مثل هذه القسمة، واعتقدنا أن القسمة إِفرازٌ، انتظم منه قسمة الزيتين على تعديل القيمة، من غير نظر إِلى الجزئية. أما الربا، فلا يلزم القول به، لمصيرنا إِلى أن القسمة ليست بيعاً، وأما الإِجبار من غير جزئية تعويلاً على التعديل بالقيمة؛ فإِنه خارج على الأصل الآخر الذي ذكرناه.
3906- فإِن قيل: هلا قسمتم الزيت بين البائع والمشتري نصفين، وألحقتم ما ثبت من المزية بسبب الخلط بالأجود بالزيادات المتصلة، ولو باع الرجل عبداً صغيراً، فشبَّ ويَفَع في يد المشتري، وتضعَّفت قيمتُه، فالبائع يرجع في عينه؟ قلنا: لا سبيل إِلى ذلك؛ فإِن عين ملك المشتري اتصل بالمبيع، فإلحاقه بالزيادات المتصلة لا وجه له. وما كان المشتري معتدياً فيما فعل، فتخسيره وضم ماله إِلى مال الراجع محال. فلا وجه مع القول بكون البائع واجداً عينَ ماله إلا ما ذكرناه من القولين في كيفية الرجوع.
والأصح أنه يباع الزيتان، ويقسط الثمن على القيمتين؛ فإِن القسمة على مخالفة الجزئية تقع على صورة الربا، وإِن تكلفنا له تخريجاً على الأصلين، والشرع حرم مقابلة المطعوم بمثله، وبأكثر من مثله، لا لاسم البيع، فلتحرم المقابلة على نعت المفاضلة كيف فرضت.
3907- وذكر صاحب التقريب تصرفاً عن ابن سريج في خلط الزيتِ بالأردأ، وذلك أنه قال: إِذا كنا نرعى مقدارَ قيمتي الزيتين عند التفاضل في العين، أو عند البيع، وقد اتفق الخلط بالأجود، فيجب سلوك هذه الطريقة في الخلط بالأردأ، حتى يقال: إِذا كان قيمة الزيت المبيع درهمين والزيت الذي خلطه المشتري به درهماً، فيتجه قولان:
أحدهما: أنه يباع المختلط، ويصرف ثلثا الثمن إلى البائع.
والثاني: أنه يقسم الزيتان على هذه النسبة، فيصرف ثلثاه إلى البائع، ويبقى ثُلُثُه للمشتري؛ فإنه إذا قسمنا الزيتين نصفين، واعتقدنا الرداءة التي لحقت الزيت المبيع عيباً سماوياً، لزمنا أن نعتقد الجودة التي لحقت في الخلط بالأجود زيادةً متصلة. هذا ما يقتضيه الإنصاف والنظر للجانبين.
3908- ومن صار إلى طريقة الجماهير، فصل بين الجانبين بأن المشتري تصرف بحق، ورجوع البائع إلى عين المبيع ليس ضربة لازب، فلا يجوز أن نعتبر جانبَ الرّاجع بجانب المشتري، بل لا يبعد أن يقال للبائع: إما أن تقنع، وإما ألا ترجع أصلاً، فأما أخذ عين من مال المشتري ليستمر للبائع رجوعه، وهو نقضٌ لبيعٍ لزم، فهذا لا سبيل إليه.
هذا منتهى القول في المسألة.
3909- وكل ما ذكرناه فيه إذا وقع الخلط بجنس المبيع، فأما إذا وقع المزجُ بما لا يجانس المبيعَ، فلا يخلو: إما أن يختلط اختلاطاً لا يبين معه في الحس لمدرِكٍ، وإمّا أن يتميز المبيع في الحس للمدرِك، وإن عسر تمييزهُ فعلاً. فأما إذا تحقق الاختلاط، وعسر المَيْز والدرك، مثل أن يختلط الزيت بدهن البان، أو الشَّيْرج، فهذا اختلاط مع اختلاف الجنس وتعذُّر التمييز بالفعل والدرك. فقد ذهب جماهير الأصحابِ إلى القطع بأن البائع فاقدٌ لعين ماله، بخلاف ما إذا اتحد الجنس؛ فإن القسمة يمكن فرضُها مع اتحادِ الجنس، ولا يمكن تقديرها، والجنس مختلف.
وهذا ينقدح فيه احتمال ظاهر، مع تحقق وجود المبيع، وإمكان بيع المختلط، فالوجه أن نقول: إذا جعلنا سبيل إيصال البائع إلى حقه في الخلط بالأجود بيعَ المختلط، وفَضَّ الثمن، فهذا ممكن و الخلطُ بغير الجنس.
3910- وإن قلنا الطريق في إيصال البائع إلى عين حقه القسمةُ، فالقسمة عسرة مع اختلاف الجنس، وقد ينقدح للفطن تخريجاً على قسمة التعديل؛ فإن هذا المنهج إذا احتمل مع التفاوت في المقدار نظراً إلى التعديل، لم يبعد ذلك مع اختلاف الجنس.
وهذا لعمري محل النظر؛ فإن قسمة التعديل في الأجناس المختلفة إنما تجري بسبب ثبوت الشيوع في كل جنس، فيقع التفاصل بالتعديل من جهة القيمة. ولم يكن للمشتري قبل الشراء في الزيت شِرْك، ولم يكن للبائع في البان شرْك، وهذا يعارضه زيادة المقدار، أمّا تخريجه على قول البيع وفضّ الثمن، فظاهرٌ لإدراكه.
والذي يعضد ذلك القسمُ الثاني، وهو إذا خلط المبيعَ بجنسٍ يخالفه، وكان متميزاً في الدَّرْك والإحساس. مثل أن يشتري صِبغاً ويصبغ به ثوباً عنده، أو يشتري ثوباً ويصبغه بصبغ عنده، فقد تحقق الاشتباك بين المبيع وغيره، وأجمع الأصحاب على أن البائع واجدٌ عين ماله. هذا متفق عليه.
ولا فقه في إمكان الرؤية بعدما تحقق تعذر التمييز بين الثوب والصبغ المعقود.
ثم سبيل إيصال البائع إلى حقه بيعُ الثوب المصبوغ، وقسمةُ الثمن على قيمة الثوب والصبغ، كما سنذكره بعد هذا في مسائل الكتاب، إن شاء الله تعالى.
ولو اشترى سويقاً ولتَّه بسمن عنده أو على العكس، والسمن بادٍ على السويق حسَّاً، فهو ملتحق بصبغ الثوب. وسيأتي إن شاء الله متصلاً بهذا.
وقد نجزت أطراف المسألة، ولم يبق فيها للناظر مضطرَب إلا فيما أصفه: فأقول:
3911- لو اشترى مائةَ منٍّ من الزيت، وخلطه بربع رطل عنده، أو أقل على شرط أن يكون متمولاً، والغرض بالتصوير أن يُفرض كونُ الأكبر غامراً للأقل، وكونُ الأقل مستهلكاً فيه حساً.
وهذا يحسن تصويره على قولنا: إن الاختلاط يُلحق المبيع بالمفقود والمعدوم.
فإذا كان المبيع كما وصفناه، كيف السبيل؟
قلنا: إن كان ذلك المقدار النزر بحيث لا يبين له أثر من طريق القدر، وذلك بأن يفرض وقوعُ مثله بين الكيلين والوزنين. فإن كان كذلك، فالوجه عندي القطع بكون البائع واجداً عين ماله، ولا يحبَط حق المشتري مع ذلك، فنرد عليه مقدار ما خلطه.
3912- فإن كان هذا المقدار النزرُ مبيعاً، وكان الأكثر للمشتري، فالظاهر عندي القطعُ بكون البائع فاقداً، ولا يبعد خلافُ ذلك.
أما وجه الظهور، فلأن مثلَ هذا المقدار لا يشيع في المقدار الكثير، ولا يثبت على الانبساط في الجميع، وليس كذلك إذا كان المبيع مقداراً بيِّناً يظهر اختلاطه؛ فإنه إذا رجع لابد وأن يرجع إلى شيء من عين ماله. فلا يبعد أن يقال: هو واجد، ثم يسلم إليه مقدار المبيع من المختلط.
3913- فإن كان الخلط بالأجود، فعلى ما يقتضيه القولان، والتفريع عليهما. وإن كان المقدار النزر بحيث يبين من الكيلين والوزنين، ولكنه مغمورٌ بالمقدار الكبير، فيجوز أن يخرّج على التفاصيل المقدمة، حيث لا غمر، ويجوز أن يرتب على ما تقدم. وتجعل هذه الصورة أولى بأن يكون البائع واجداً إذا كان نصيبه كثيراً غامراً، ويجعل أولى بالفقدان إذا كان نصيبه مغموراً.
هذا منتهى الفصل، والله أعلم.
فصل:
قال: "وإن كان حنطة، فطحنها، ففيها قولان... إلى آخره".
3914- هذا من الفصول المنعوتة في الكتاب فلْيخُض الناظر فيه على أناةٍ مستعيناً بالله تعالى. وسبيل بيان مضمونه أن نطرد ما ذكره الأصحاب مرتباً على أحسن مساق، ثم ننعطف عليه، ونتدارك مواقع الإشكال، فنكون جامعين بين النقل، وبين حلّ المُعْوصات، فليقع في ابتداء الفصل طرفٌ من حكم الصبغ، ثم نبني عليه ما عداه، ثم نختم الفصل باستقصاء القول في الصبغ، فنسأل الله تعالى التأييد والتوفيق.
3915- فإذا اشترى الرجل ثوباًً وصبغه بصِبغ من عنده، فالصِّبغ عين مال المشتري ألحقه بالثوب المشترَى، فإن لم يبن مزيدٌ في قيمة الثوب، وانعقد الصبغ عليه، وعسر التمييز، فالصبغ ضائع. وذلك إذا اشترى ثوباً بعشرة، وصبغه بصبغ يساوي درهماً، فإذا كان الثوب مصبوغاً يساوي عشرة، فنقول: ضاع الصبغ للمشتري، ويرجع البائع إلى الثوب المصبوغ. اتفق الطرق عليه. والسبب فيه أنه لو صبغ بشيء لا قيمة له، وليس مما يتمول، فلا يخفى أنه لا وقع، ولا أثر لما استعمله في الثوب، فكذلك إذا لم يبق للصبغ قيمة؛ فإنه كان مالاً قبل الاستعمال، والآن صار في حكم الصفة للثوب، ولم يظهر له في الثوب قيمة؛ ولأنه صار بالاستعمال غيرَ متمول.
وإن ظهر مزيدٌ في قيمة الثوب، فصاحبُ الصِّبغ شريك في الثوب. وإذا بيع الثوب، قُسِّط الثمن كما سنوضح تفصيلَه. وليس الكلام في الصبغ من غرضنا الآن.
وإنّما ذكرنا هذا المقدار ليبين للناظر كون الصبغ عيناً.
3916- ونحن نبني الآن عليه القِصارةَ في الثوب وما في معناها.
فإذا اشترى رجل ثوباًً على البت، وقصره، ثم أراد البائع الرجوع في الثوب، فالذي. أطلقه الأئمة في صدر الفصل أن قالوا: القِصارة في الثوب، والطحن في الحنطة، وما في معنى هذين أثرٌ في الثوب أم عين؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنه أثر.
والثاني: أنه عين، هكذا عبر الأئمة عن القولين.
وقد ذكرنا أنا نسوق ترتيب الأصحاب، ثم ننعطف على مواقع الإشكال.
3917- والقدر الذي يلوح به القولان ويعلقان بالفهم إلى تمام البيان: أنا إن قلنا: هذه الصفات آثار، فلا حكم لها، ولا تعلق بها، ومن له الاستحقاق في العين على استحقاقه، لا يزاحم فيها.
وإذا قلنا: هذه الصفات أعيانٌ، أردنا أنها كالأعيان المشابكة للموصوفات بها، كالصبغ في الثوب، والسَّمن في السويق، وما في معناهما. ومن حُكم هذا القول أن يصير محصِّل هذه الصفة شريك في الثوب، كمالك الصبغ.
فإذا ظهرَ المراد من رسم القولين، فهذان القولان لا يجريان في جملة الصفات المتجددة؛ فإن السِّمن، وكبر الغلام وإرقال الشجر زوائدُ متصلة، لا حكم لها؛ فقال الأئمة: القولان يجريان في كل صفةٍ تحدث في العين، يتسبب إلى تحصيلها بفعلٍ يجوز الاستئجار عليه، وتعدّ الصفةُ من آثار الفعل، ثم لابد من ظهور الصفة. فلو استأجر المشتري من يحفظ الدابة المشتراةَ، ويسوسها، فهذا فعل يجوز الاستئجار عليه، ولكن لا تظهر منه صفة في الدابة، فإن هي كبرت، فللترقي في السن، وإن سمنت، فمن العلف. والقصارة أثر يوقعه فعل القصّار في الثوب، وكذلك الطحن في الدّقيق.
ويتصل بذلك ما يتعلق بالأخلاق كارتياض الدابة، وتعلّم العبد الحرف، فلتلتحق الأخلاق بالصفات التي تحسن.
هذا بيان محل القولين.
3918- ثم فرع الأصحاب في غير المفلس على القولين، ثم اندفعوا في تفريع أحكام المفلس. فمما فرعوه في غير المفلس أن القصارَ المستأجَر على القصارة، إذا قصر الثوبَ، أو طحن الطحان البُّرّ، فهل يثبت للصّابغ حبسُ محل صُنعه، حتى يحبس القصار الثوب، والطحان الدقيق إلى أن يتوفر عليه الأجرة، حَبْسَ البائع المبيع-إن رأينا له الحبس- إلى توفية الثمن؟ هذا يُخرّج على القولين في الأثر والعين.
فإن جعلنا هذه الصفات آثاراً، فلا يجوز للعَمَلة حبسُ محالّ العمل بسبب الأجرة.
وإن جعلناها أعياناً، فالعمَلةُ في حبس محال العمل كالبائع في حبس المبيع.
3919- ومما فرعوه أن العامل إذا وفَّى عملَه، وأثبت الصفةَ المطلوبةَ في محلّها، فلو تلف محلُّ العمل في يده قبل تسليمه إلى المالك، فهذا يتفرعّ على الأثر والعين. فإن جعلنا القصارة أثراً، فللعملة أجورُهم، وهي لا تسقط بسبب تلف المحالّ في أيديهِم. وإن قلنا: إنها أعيان، سقطت أجورهم، كما تسقط الأثمان بتلف الأشياء المبيعة في أيدي البائعين.
هذا ما فرعه الأصحاب على القولين في حق غير المفلس.
3920- ثم اندفعوا في تفريع حكم المفلس، فصوروا فيه صورتين: إحداهما- ألا يتعاطى القِصارةَ بنفسه، ويحصلها بعمل أجيرٍ، ويوفِّي أجرته قبل التفليس، ثم يُفلس، فهذه صورة. وسنذكر الأخرى إذا نجز الكلام في الأولى.
فإذا جاء بائع الثوب، فصادفه مقصوراً، فهذا يفسخّ على الأثر والعين. فإن جعلنا القِصارة أثراً، فإن البائعَ أحق بالثوب، ولا حكم للقصارة، وهي نازلة منزلة الزوائد المتصلة. هذا اختيار المزني. والتمسك بالزوائد المتصلة احتجاجُه.
3921- وإن حكمنا بأن القِصارة عين، فهي في معنى الصبغ، فنقول: إن كانت قيمة الثوب بعد القِصارة كقيمتها وهي على البت، فلا شركة للمفلس في الثوب والقصارة مُنمحقة. وقد ذكرنا ذلك في الصبغ المنعقد، وهو جِرمٌ على التحقيق.
فأما إذا زادت قيمة الثوب بسبب القصارة التي حصلها المفلس، فهو شريك بمقدار الزيادة: يُباع الثوب ويقسم الثمن على قيمة المِلْكين: الثوب والقِصارة، فلو كان الثوب يساوي على البت عشرة، وهو يساوي مقصوراً خمسة عشر، فالقِصارة قيمتها خمسة، فإذا بيع الثوب بخمسة عشر، فالعشرة مدفوعة إلى البائع، والخمسة إلى المشتري، يقتسمها الغرماء.
فلو لم يتفق بيعُ الثوب حتى ارتفعت القيمة إلى ثلاثين، فيضعّف حق البائع والمفلس، والقسمة على نسبة الثلث والثلثين: للبائع عشرون، وللمفلس عشرة بين غرمائه.
3922- ولو عهدنا الثوب بخمسة عشر على الترتيب الذي ذكرناه، الثوب عشرة، والقِصارة خمسة. ثم انحطت قيمةُ الثوب بالسوق إلى عشرة، فهي مقسومة بين البائع والمفلس ثلُثاً وثلثين. فينقص حقُّ كل واحدٍ بانحطاط السوق.
وإنما يظهر التصوير بما نذكره، فنقول؛ كان الثوب على البت عشرة، والنقصان خمسة. والآن يوجد ثوبٌ على البت بستة دراهم وثلثي درهم، والقصارة في مثله لا يساوي إلا ثلاثة وثلثاً. فهذا معنى الانحطاط.
ولْيميز الناظر هذا عما قدمناه من أن القِصارة قد تنمحق في الثوب بألاّ يزيد في قيمته شيئاًً، وذلك بأن يكون الثوب على البت والثوب المقصور متساويين في القيمة.
والذي ذكرناه أخيراً فرضُ نقصانٍ في قيمة جوهر الثوب، وصفة القصارة.
3923- ولو ارتفعت قيمة الثوب دون القصارة، فالزيادة للبائع، ليس لصاحب القصارة فيها شيء. وبيان ذلك أن الثوب على البت كان عشرة ومع القصارة خمسة عشر. والآن صار الثوب على البت يشترى، بخمسة عشرَ، وهذا المقصور يشترَى بعشرين، فالقصارة ما ازدادت قيمتُها، وإنما الازدياد في جوهر الثوب. لا جرم نقول: يصرف إلى البائع من العشرين خمسةَ عشرَ، ويصرف إلى صاحب القِصارة خمسةٌ، بلا مزيد.
3924- ولو فرض الارتفاع في القِصارة، فالزيادة الحاصلة من أجلها مصروفة إلى صاحب القِصارة. وتصوير ذلك أن الثوب المقصور كان يساوي خمسة عشر على الترتيب الذي ذكرناه، عشرة للثوب وخمسة للقِصارة، ثم صار هذا الثوب المقصور يساوي عشرين، ونحن نجد ثوباًً على البت مساوياً لهذا الثوب بعشرة، فنستبين أن الزيادة منحصرة في قيمة القصارة، لا جرم نصرفها إلى مستحق القصارة، ونبيع الثوب بالعشرين، فنصرف نصف الثمن إلى البائع، ونصفه إلى المفلس يتضارب فيه غرماؤه. ثم إذا تمهدت عندنا نسبة في قيمتي الثوب والقِصارة، فلو وجدنا زبوناً يشتري الثوب رغبةً بأكثر من قيمته بالقصارة، فالمأخوذ منه مقسّط على النسبة التي تمهدت عندنا في القيمتين، فالثوب الذي جعلناه نصفين، وهو يساوي عشرين، لو اشتراه راغب بثلاثين، فللبائع من الثلاثين خمسةَ عشرَ، وللمشتري خمسةَ عشرَ، في الصورة الأخيرة.
ولا يخفى قياس الباب.
فلو قال قائل: إذا ارتفعت قيمة القِصارة، كما صورتم في الصورة الأخيرة، فهلاّ قلتم: يرجع من الزيادة شيء إلى بائع الثوب؛ فإن القصارة ما قامت إلا بثوبه، وهو حاملها؟ فهلاّ كانت القصارة كالبناء يَسْتَجِدُّه المشتري في الأرض المشتراة؟ قلنا: حقيقة هذه الصورة تحل هذا الإشكال، وتدفع هذا السؤال؛ فإنا في الأرض المبنية لا نزيد لمالك الأرض على قيمتها بيضاء، وقد تنقص، على اختلافٍ ذكرناه للأصحاب في كيفية التوزيع. وإذا نحن وفينا مالكَ الثوب قيمةَ ثوبه على ما باعه من غير قِصارة، فطمعه في الزيادة والمشتري قصر بحقٍّ طمعٌ في غير مطمع.
هذا الذي ذكرناه كلامٌ في إحدى الصورتين في المفلس.
3925- الصورة الأخرى: أن يشتري ثوباًً، ويستأجر من يقصره، فيقصره الأجير، ولا يتوفر عليه الأجرة، ويُفلس المشتري، فللأجير تعلُّقٌ بالقِصارة على قول العين، فيزدحم على الثوب القصارُ للقِصارة التي حصَّلها، وبائع الثوب. فنقول: إن حكمنا بأن القِصارةَ أثر، فلا أثر لها، ولا حكم، وبائع الثوب يرجع إلى الثوب المقصور، ولا يُزاحَم فيه، والأجير أُسوة الغرماء؛ يضاربهم بالأجرة، من غير تعلّق بالعين.
وإن قلنا: القصارة عينٌ، فللأجير على الجملة تعلق، فإن لم يزدد بالقصارة أولاً شيء في قيمة الثوب، وكان الثوب مقصوراً يساوي عشرة، ولو فرض على البت، لكان يساوي عشرة، فالثوب مسلّم إلى البائع بلا زحمة، وقد انمحقت القِصارة، وصارت مستهلكة.
فأما إذا زاد بالقصارة شيءٌ، فنقول: أجرة القِصارة درهم وقيمة القصارة خمسةٌ، فالثوب على البت عشرة، وهو مع القصارة خمسة عشر، فإذَا بيع بخمسةَ عشرَ، فالعشرة لبائع الثوب، والدرهم للقصّار، يقدم به على الغرماء، لتعلقه بعين القصارة، وأربعة دراهم للمشتري يتضارب فيها غرماؤه. هكذا نص الشافعي.
ولو استأجر الأجيرَ بخمسة، والثوبُ على البت عشرة، وهو بعد القصارة أحدَ عشرَ، فإذا بعنا الثوب بأحدَ عشرَ، سلمنا عشرة إلى مالك الثوب، ودرهماً إلى القصّار-على قول العين- يقدم بها، ويضارب الغرماء ببقية أجرته، وهو أربعة.
هذا تفريع الشافعي، والأصحابِ على قولي الأثر والعين. وقد تخطينا مواقع الإشكال لإنهاء الترتيب نهايته.
و الآن ننعطف عليها بعد وقوع الإيناس، وتتبُّع مظنة كل إلباس. ونبدأ بخاتمة الكتاب.
3926- فإن قيل: فرّع الشافعي على قول العين، فاقتضى ذلك أن يقال: ليس
للقصّار إلا القصارة، إذا أراد التعلق بها، ويلزم من مساق هذا أن نقول: إذا كانت قيمة القصارة خمسة، وأجرة القصارة درهماً، فأراد الرجوعَ في القِصارة، فينبغي أن يفوز بقيمة القِصارة، وهي الخمسة بتمامها، ولا نظر إلى أجرته، نقصت، أو زادت؛ فإن الأجرة كالثمن، والقصارة كالعين المبيعة. وقد قال الشافعي: إذا كانت الأجرة درهماً، فليس للقصّار إلا درهم، وهذا يناقض التفريع على قول العين.
ثم تمام السؤال أن الأجرة لو كانت خمسة، وقيمة القصارة درهم، فإذا آثر القصّار التعلق بالقصارة، وجب ألا تثبت له إلا القصارة، كالمبيع إذا قلت قيمته، وزاد مبلغُ الثمن عليها، فإذا أراد البائع الرجوعَ، لزمه الاكتفاء بالمبيع. وقد قال الشافعي: إذا كانت القصارة درهماً، والأجرة خمسة، أخذ القصار الدرهم، وضارب بالأربعة الباقية. وهذا أيضاً يخالف قياس قول العين.
3927- وقد اعتاص على كثير من الأصحاب الخروج عن عهدة هذا السؤال، ولا يبيّن الغرضَ فيه إلا التصريحُ بحقيقة هذا القول، وكنا لا نقدر على البوح به قبل الإحاطة بمجامع المسألة، وتقاسيمها. فالآن نقول: ليست القصارة على قول العين عيناً على الحقيقة، مملوكة، تباع وتشترى، ويتصرف فيها بالرجوع والاسترداد حسب ما يتصرف في الأعيان. هذا محال تخيُّلُه مع العلم بأن القصارة صفةٌ. والدليل عليه أن المشارك في الثوب بالقصارة ليس مالكَ عين، ولو كانت القصارة عيناً، للزم أن يقال: من غصب ثوباً وقصره، وزادت قيمة الثوب بسبب القصارة؛ فيصير شريكاً في الثوب، كما لو صبغ الثوبَ بصِبغٍ من عنده. وقد اتفق العلماء على أنّ الغاصب يصير شريكاً في الثوب إذا صبغه بصِبغٍ من عنده، ولا يصير شريكاً إذا قصره.
فحاصل قولنا: "القصارة عين" أنها صفة مقصودة، يتعلق بها العامل المُوقعُ لها تعلق اختصاص كما يتعلق المرتهن بالرهن.
هذا قولنا في الأجير.
أمَّا إذا أضفناها إلى المشتري، فله فيها حقيقة الاستحقاق؛ لأنها وقعت في ملكه. وإذا تبين أن تعلق الأجير على النحو الذي ذكرناه، فإن كانت الأجرة درهماً، وقيمة القصارة خمسة، فلا يزاد الدين بزيادة قيمة الرهن. وإن كانت الأجرة خمسة ووالقصارة درهماً، فإذا صرفت القصارة إلى الأجرة، كان ذلك كصرف الرهن إلى الدين. وإذا نقص ثمنُ الرهن عن مبلغ الدين، فالفاضل من الدين يبقى لا محالة.
فتمهد مما ذكرناه أن القصارة ليست في حكم المملوكة للأجير، وإنما تكون في حكم المملوكة للمشتري.
3928- وههنا الآن غلطتان نذكرهما، لا ليلتحقا بالمذهب، ولكن ليتبين وجه الغلط: إحداهما- أن الأجرة إذا كانت درهماً، والقصارة خمسة، والثوب عشرة، فقد ذكرنا من نص الشافعي أن الثوب إذا بيع بخمسةَ عشرَ، فللبائع الراجع عشرةٌ، وللأجير درهم، وللمشتري أربعة. فلو زادت قيمة الثوب؛ فاشتري بثلاثين، قال شيخي في دروسٍ: يتضاعف حق كل ذي حق، فلصاحب الثوب عشرون، وللأجير درهمان، وللغرماء ثمانية. أما تضعيف حق صاحب الثوب، وتضعيفُ حق الغرماء فبيّن؛ فإن الثوب ملكُ البائع الراجع، والقصارة مستحقة للمشتري، فارتفاع قيمة المستحق ليس بدعاً، فأما تضعيف الأجرة، فلا وجه له؛ فإنا ذكرنا أنّه ليس مستحقاً للقصارة؛ إذ لو كان مستحقاً، لفاز بجميعها فَوْزَ البائع بجميع المبيع، وإن ارتفعت قيمته. فالوجهُ القطع بأنه على درهمه ولكنه مقدم به لتعلّقه بالعين كما يقدم المرتهن بالدين الموثق بالرهن، فذلك الدرهم إذاً للمشتري؛ فإنه من قيمة القصارة، وليس للبائع إلا ثلثاً الثمن، وما سلّم إلى القصّار من حساب القصارة. فهذه غلطة.
3929- الغلطة الأخرى، وهي شائعةٌ في ألفاظ الأصحاب، ولا يتجه فيها احتمال، وذلك أنهم قالوا في التفريع على قول العين: يفسخ القصّارُ العقدَ، ويرجع إلى القِصارة، ثم فصلوا المذهب. وهذا بعينه مصير إلى أن القصارة هلكت من القصّار، وهي ترجع بالفسخ إليه. ولو كان كذلك، لاستحق القصارة بكمالها بالغة ما بلغت قيمتها، وليس الأمر كذلك؛ فليس للقصار من القصارة إلا التوثّق المحض، ولا معنى مع هذا الذكر للفسخ. نعم لو أراد المضاربة، كان كالمرتهن يُبطل حق توثقه ويجعل نفسَه مع الغرماء مضارباً، ويسلم لهم محل تعلقه.
هذا تفصيل القول في ذلك، والتنبيه على محل الإشكال والانفصال، وإيضاح
عثراتِ العاثرين.
3930- فإن قيل: أليس ذكر الأصحابُ قبل الخوض في أحكام التفليس من هذا الفصل أن العامل يحبس الثوبَ المقصورَ حبس البائع المبيع؟ قلنا: ليس ذلك بدعاً، والمرتهن يحبس المرهون إلى توفير الدين عليه، وحبسُه آكد من حبس البائع.
فإن قيل: إن كان كذلك، فلا وجه لدفع قولهم: لو تلف الثوب في يد القصار، سقط حقُّه من الأجرة، كما يسقط الثمن بتلف المبيع قبل القبض، ولو كان تعلقُ حقه على قياس تعلق حق المرتهن، لما سقط حقه بتلف متعلَّقه، كما لا يسقط الدين بتلف الرهن في يد المرتهن.
قلنا: هذا الآن يُحْوِجُنا إلى فن آخر من الكلام، فنقول: سبب سقوط أجرته أننا نقدر القصارة كأنها جزء من عمله، فإذا لم ينته إلى يد المستأجر، وكان عمله بعدُ في ضمانه، فإذا تلف الثوب، سقطت الأجرة لذلك، ولا تكون القصارة مملوكةً مبيعةً.
هذا واضح. ولم يبق بعد هذا إشكال على ذي نظر.
3931- وحان أن نخوض في فصل الصِّبغ مشمرين مستعينين بالله تعالى، فنقول أولاً: إنما أخرنا طرف الصِّبغ، لأنّه يتعلق بما هو عين وفاقاً، وهو جِرمُ الصِّبغ، وإنما اختلف القول في أنه أثر أو عين فيما هو صنعة الصباغ المسمى الصَّبغ. فإذا تمهد القول في محل الأثر والعين، ينتظم بعد ذلك ما نحاول في هذا الفصل، إن شاء الله تعالى.
فنقول:
3932- من اشترى ثوباًً وصبغه بصبغ من عنده، فالصِّبغ القائم في الثوب عينٌ حسّاً، فلو ارتفعت قيمة الثوب والصّبغ أيضاً، مثل أن يكون الثوب غيرَ مصبوغ عشرةً، والصِّبغ درهم، والثوب المصبوغ خمسةَ عشرَ، فالزيادة على قيمة الثوب وجِرم الصِّبغ إنما حصلت بالصَّبغ وحسنِ الصنعة، وما يحصل من الصنعة، فهو على قولين في أنه أثر أو عين، كالقِصارة. فنبيّن غرضَنا بالصور نرسلها، ونأتي في كل واحدة بما يليق بها.
3933- فإذا ابتاع الثوب بعشرة، وقيمته عشرة، فصبغه بصبغ من عنده، يساوي خمسة، نُظر: فإن كان الثوب يساوي مصبوغاً عشرة، فقد ضاع الصِّبغ، والثوب المصبوغ للبائع الراجع، لا حق للمشتري والغرماءِ فيه، فصار الصبغ مستهلكاً. وقد قررنا ذلك مراراً.
ولو كان الثوب مصبوغاً يساوي ثلاثة عشر، فالنقص محسوبٌ على الصِّبغ دون الثوب؛ فنقول: يسلم إلى صاحب الثوب عشرة كاملة، وإلى المشتري والغرماء ثلاثة. ولو لم تزد قيمة الثوب والصبغ، ولم تنقص، وكان الثوب مصبوغاً يساوي خمسةَ عشرَ، والثوب وحده عشرة، والصبغ خمسة. فليس في هذه المسألة للصنعة أثر. فإن كان من نعتٍ، فضائعٌ غائصٌ في عين الثوب والصبغ. فإذا بعنا الثوب بخمسةَ عشرَ، فالثلث من الثوب مصروف إلى المشتري وغرمائه، والثلثان للبائع.
ولو كانت قيمة الثوب كما وصفنا عشرة، وقيمة الصّبغ خمسة، والثوب المصبوغ يساوي عشرين، فالزائد على خمسةَ عشرَ من آثار الصنعة، فتخرج المسألة على قولين، في أنها هل تكون في حكم الأثر، أم في حكم العين؟ فإن قلنا: هي أثر، فلا حكم لها، وكل زيادة حصلت أثراً للصنعة، فهي مصروفة إلى بائع الثوب، يستبدّ بها، بلا مزاحمة. هكذا أورده الشيخ أبو علي في الشرح.
3934- وكنت أودّ أَنْ يُفَضَّ أثرُ الصنعة على الثوب وجرم الصَّبغ، فيصرف إلى صاحب الثوب ثلثاه وإلى المشتري الذي هو مالكُ جِرم الصَّبغ ثلثه؛ فإن الصنعة اتصلت بالصَّبغ والثوب جميعاً، وهذا بيّن. ولكن لعله قال ما قال من حيث إن الموصوف هو الثوب وإليه يرجع أثر الصنعة. فليقف المتأمّل إذا انتهى إلى ذلك، ولينعم النّظر.
وإن قلنا: سبيله سبيل العين، فقد حدثت العين للمشتري، وقد فرضنا فيه إذا كان الصّبغ مملوكاً للمشتري، فالصَّبغ له، وأثر العمل له، فإذا بعنا الثوب بعشرين، صرفنا عشرة إلى صاحب الثوب، وعشرة إلى المشتري وغرمائه، خمسة في مقابلة الصِّبغ وخمسة في مقابلة أثر الصنعة. وإذا كان كذلك، فلو وجدنا راغباً يشتري الثوب بثلاثين، فقاعدة الحساب بيننا التنصيف في الثوب كما ذكرناه.
3935- صورة أخرى: إذا كان الثوب يساوي عشرة، والصِّبغ يساوي درهماً، فلما صبغ المفلسُ الثوبَ، صار يساوي خمسةَ عشرَ، فقد زادت أربعة دراهم بالصنعة. قال الشيخُ: إن قلنا: ما يحصل بالصنعة أثرٌ، لا حكم له، فالأربعة لبائع الثوب مع العشرة، وليس للمشتري إلا قيمة صِبغه، وهذا جوابه الأول. وعليه من السؤال ما تقدّم.
فأما إذا قلنا: أثرُ الصنعة عينٌ، فهي للمشتري، فله إذاً خمسة، وللبائع عشرة.
فلو كانت المسألة بحالها، ووجدنا راغباً اشترى الثوب بثلاثين، فإن جعلنا الزيادة للمشتري، فثلث الثمن يصرف إليه، والثلثان للبائع. وإن قلنا: الزيادة للبائع، فثمن الأصل خمسةَ عشرَ. وإنما اتفق البيع بالثلاثين رغبة، فيوزع الثمن على خمسةَ عشرَ، فللبائع من أصل القيمة أربعةَ عشرَ، فنضعِّفها له، وللمشتري درهم، فنضعِّفه له.
فنقول للبائع ثمانية وعشرون، وللمشتري درهمان.
فإن قيل: هلاّ جعلتم هذه الزيادة للبائع؟ قلنا: ليست هذه زيادةَ صنعة، وإنما هي اتفاق ربح، فيقسط الربح عليهما على مقدار استحقاقهما في الأصل، وتضعّفُ قيمةِ الصبغ منقاسٌ، وإنما الغلط تضعيفُ أجرة الأجير في القصارة كما بيّنته من غلط بعض الأئمة.
3936- ثم ذكر الشيخ أبو علي قولي الشافعي في أن القِصارة أثر أم عين، وحكى عن صاحب التلخيص شيئاًً ممّا لابد من ذكره، فقال: إذا باع ثوباًً قيمته عشرة، واستأجر المشتري مَنْ قَصره بدرهم، فإذا الثوب المقصور يساوي خمسةَ عشرَ، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أن القِصارة عينٌ.
والثاني: أثرٌ.
فإن قلنا: إنها أثر، فهي للبائع. لكنا نقول للبائع: لك الثوب المقصور لا تُشارَك فيه، وعليك أجرة القصارة حتى كأنك استأجرته. وهذا غلط منه باتفاق أصحابنا.
فإنّا إذا قلنا: إن القصارة أثر، فللبائع الثوبُ، ولا شيء عليه من الأجرة.
والأجير يضاربُ الغرماء بأجرته. وذلك أنّا لم نجعل القِصارة عيناً، فيتعلق بها الأجير، وبائع الثوب لم يستأجره. فهذا غلط ظاهر لا شك فيه.
وقد نجز الفصل بأطرافه.
فصل:
ذكره صاحب التلخيص، وغلط فيه من أوله إلى آخره.
3937- ونحن ننقل أجوبته، ونذكر وجه الصواب فيها.
قال: إذا اشترى رجل من العصير عشرة أرطالٍ بعشرة دراهم، ثم أغلاه بالنار حتى رجع إلى ثمانية أرطال، وصار رُبّاً.
ذكر ثلاثة أحوالٍ في المسألة، فقال: إذا كان العصير يساوي عشرة، ولما عاد إلى ثمانية أرطال، صار يساوي سبعة؛ فللبائع الرجوع في عين الرُّب، ومضاربة الغرماء بقدر نقصان القيمة. وقدرُ النقصان ثلاثةُ دراهم، فيضارب بها. وعلل بأن قال: ليس ما حدثَ مجرد نقصان صفة، بل انضم إليه نقصان العين. هذا جوابه وتعليله. وهو خطأ.
والصواب أن نقول: قد نقص بالنار خُمس المبيع، فهو كما لو نقص بانصبابٍ أو غيرهِ من أسباب الضياع، فيرجع في الرب إن شاء، ولا حظَّ له في مقابلة الدرهم الناقص من القيمة؛ فإن العين باقية في أربعة الأخماس وزناً وقدراً، فليرجع إن أراد في الأربعة الأخماس كما هي، ويضارب بخمس الثمن، وهو درهمان.
وإن لم يُرد الرجوع في المبيع ضرب مع الغرماء في جميع الثمن. والجملة في هذا أنا نجعل النقصان بسبب الغليان بمثابة التلف في ذلك القدر، ويجري في الباقي على قياس الأصول. فهذه حالة من الأحوال الثلاثة.
3938- أما الحالة الثانية- فهي أن تكون قيمةُ العصير عشرة، كما صورناه، فلما صار رُبّاً، رجع إلى ثمانية، ولكن كان يساوي عشرة مع نقصان وزنه. قال صاحب التلخيص: إن أراد الرجوع، فيرجع في الرُّب، ولا يضارب الغرماء بشيء؛ فإنه قد وصل إليه قدرُ المبيع قيمةً. وقد ساعده بعض الأصحاب في هذه الصورة.
وهو خطأ.
والسديد أن نقول: أما القدر الذي هو نقص، وهو خُمس المبيع، فله أن يضارب الغرماء في مقابلته بخمس الثمن، ويَبْقى الكلام في أربعة أخماس المبيع، وقد زَادت قيمته بالصّنعة. فإن قلنا: زيادة الصنعة للبائع، وهي أثر، فيرجع في الرُّب، ويفوز بالزيادة، ويضارب الغرماء بخمس الثمن، كما ذكرنا.
وإن قلنا: زيادة الصنعة بمنزلة العين، وهي للمشتري، فقد قال القفال في هذه الصورة: إن هذه الزيادة على هذا القول للبائع أيضاً؛ فإنها بمنزلة السِّمَن وكِبر الغلام؛ فإن الغليان مما لا يجوز الاستئجار عليه، فلا يصح أن يُستأجر رجل ليرد عشرةَ أرطالٍ بالإغلاء إلى ثمانية؛ فإن هذا مما لا ينضبط. هذا طريق القفال.
وذهب بعض أصحابنا إلى أن الاستئجار عليه جائز، فالزيادة إذاً للمشتري، وقد ضارب البائع بخمس الثمن، وبقي أربعة أخماس المبيع، للبائع فيه ثمانية وللمشتري درهمان.
وقد سبق القول في مثله.
والجملة في ذلك أن هذه المسألة تنزل منزلة ما لو باع ثوبين، أحدهما يساوي درهمين، والثاني يساوي ثمانيةً، فتلف في يد المشتري الذي يساوي درهمين، وقَصَر المشتري الآخر، فصار يساوي عشرة.
3939- والحالة الثالثة- هي أن يكون العصير مساوياً عشرة، كما قدمنا، ورجع وزن الرُّب إلى ثمانية، ولكنه يساوي اثني عشر درهماً.
قال صاحب التلخيص: البائع بالخيار إن شاء لم يرجع في العين، وضارب الغرماء بالعشرة التي جعلت ثمناً ابتداءً. وإن أراد الرجوعَ إلى الرُّب، فله ذلك، ولكنه يغرَم الزيادة على القيمة الأولى، فيرجع إلى الرّب ويغرَم للمشتري والغرماء درهمين وطرد قياسه الفاسد في الأحوال الثلاثة.
والصحيح أن نقول: أما خمس المبيع، فقد فات، فيضارب الغرماء بخمس الثمن، وأمّا أربعة الأخماس، فقد زادت. فإن قلنا: زيادة الصنعة أثر، فهي للبائع، فيرجع في الرُّب بكماله، ويستبدّ بالزيادة، ويضارب الغرماء بخمس الثمن.
وإن قلنا: الزيادة الحاصلة بالصنعة للمشتري، فعلى طريقة القفال هي للبائع في هذه الصورة. وعلى طريقة غيره هي للمشتري، وقد رجع البائع في خمس الثمن بجهة المضاربة، وله في الأخماس الباقية ثمانية دراهم، وللمشتري أربعة دراهم.
وقد سبق التفصيل في مثله.
3940- هذا بيان جوابه في الأحوال الثلاثة، ووجهُ الصواب في هذا. وقولُه في هذا الفصل غير معدود من المذهب؛ فإنه هفوة. وقد ذكرنا أن هفوات الأئمة إذا لم يكن للظن فيها مضطرب لا يعتد بها.
3941- ومما ذكره صاحب التلخيص في أثناء كلامه أن من اشترى عبداً وعلمه
حرفة، أو علمه القرآن، فهذا بمثابة القصارة في الثوب. وهذا الذي ذكره صحيح.
وقد ذكرناه في فصل القصارة، وإنما أعدناه لأن الشيخ أبا علي حكى عن بعض الأصحاب وجهاًً أنّ الزيادة الحاصلة من هذه الجهة أثرٌ، قولاً واحداً، وإن جاز الاستئجارُ على تحصيله، لأنه لا يظهر على المبيع ظهوراً محسوساً، وإنما القولان في أثر يُحسّ كالقصارة في الثوب، والطحن في الحنطة، والحِرفُ ليست كذلك. وهذا مزيّفٌ مردود. والصحيحُ طرد القولين في كل صفةٍ يتوصل إلى تحصيلها بالاستئجار، سواء كانت مدركة بالحس أو لم تكن مدركة.
فصل:
قال: "ولو تبايعا بالخيار ثلاثاً، فَفُلّسا أو أحدهما، فلكل واحد منهما إجازةُ البيع وردُّه دون الغرماء؛ لأنّهُ ليس ببيع مستحدث... إلى آخره".
3942- من اشترى شيئاًً على شرط الخيار أو باع شيئاًً كذلك، فَفُلِّس، وجرى الحجر عليه، ففي إجازته وفرعه بحكم الخيار طريقان لأصحابنا:
أحدهما: أن تصرفه ينفذ بالفسخ والإجازة من غير رعاية مصلحةٍ وغبطة، كما كان ينفذ وهو مطلق.
وما صدّرنا به الفصلَ من لفظ الشافعي دليل ظاهر على هذا. ووجه ذلك أن التصرف بحكم الخيار مستفاد بعقدٍ مضى في حالة الإطلاق، فهو مستند إليه، وما يجري منه
لا يحمل على تصرف مبتدأ.
والذي يوضح ذلك أن الحجر يطَّرد على الأملاك الثابتة؛ فإنها مهيأة للتصرف إلى ديون
الغرماء، والمعقود عليه على حكم الخيار ليس كذلك؛ فإنه لا يؤثر الحجرُ فيه، ومساق
ذلك يقتضي استثناءَه عن حكم الحجر، وبقاءه على موجب الإطلاق. وليس المفلس
منظوراً له بخروجه عن الاستقلال، وإنما سبب الحجر عليه قَصْرُ تصرفه عما يجب صرفه
إلى الدَّين، وهذا إنما يتحقق في الأملاك اللاّزمة؛ فإذاً لا يفصل هذا القائل في تنفيذ
الفسخ والإجازة بين البائع والمشتري، ولا يخصص ما ينفذه بقولنا: لا يحصل الملك
في زمان الخيارِ للمشتري؛ بل يطرده على كل قول، في كل حالٍ.
هذا بيان هذه الطريقة.
ولو جن المشتري في زمن الخيار، وانتصب قوّامٌ عليه، فلابد من رعاية مصلحته
في الفسخ والإجازة؛ لأنه منظور له، ولا وجه لتصرف وليه إلا طلب مصلحته.
3943- والطريق الثاني- يُبيّنُه تفصيلٌ، فنقول: من اشترى على شرط الخيار، ثم
فُلّس- في مدة الخيار، فرعنا ذلك على القولين في حصول الملك. فإن قلنا:
لا يحصل الملك في المبيع للمشتري، فإن فرع المشتري أو أجاز على وفق
الغبطة، فلا شكّ في نفوذ ذلك. ولم يختلف أصحابنا في تنفيذ الفسخ والإجازة
منه. وإن كان لا ينفذ بيعه في أمواله التي شملها الحجر، وإن وافق الغبطة. وفي
شرائه كلام سيأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وهذا يوضح أن التصرف بالفسخ والإجازة مستثنى على الجملة عن التصرفات.
فأمّا إن فرع أو أجاز على خلاف الغبطة، قلنا: أمَّا الفسخ على خلاف الغبطة، فنافذ؛ فإنه ليس يُخرِجُ به عن ملكه شيئاًً، وإنما يمنع به عن جلب ملك، والتفريع
على أنه لا ملك له في زمان الخيار في المبيع والثمن قارٌّ على ملكه؛ فقد بقي بالفسخ على ملكه الثمن، ولم يحصل له الملك في المبيع. ورجع ترك نظره إلى عدم الكسب والجلب، وليس على المفلس أن يكسب وإن قدر عليه. هذا إذا فسخ.
وأمَّا إن أجاز العقد على خلاف الغبطة-والتفريع على أن لا ملك له في المبيع في زمان الخيار- فإجازته على خلاف الغبطة مردودة؛ من جهة أنه يُخرج بها الثمنَ عن ملكه، على خلاف المصلحة، وليس له أن يُخرج عن ملكه شيئاًً على خلاف الغبطة.
وإن قلنا: إن الملك في المبيع للمشتري في زمان الخيار، فإن فسخ أو أجاز، ولم يخالف الغبطة، نفذ ذلك.
والذي دل عليه كلام المشايخ في هذه الطريقة- أنه ينفذ الفسخُ والإجازةُ إذا استوى وجه الغبطة، ولم يترجح وجهٌ على وجهٍ. فأمَّا إذا فسخ والغبطة في الإجازة، ففسخه مردود؛ من جهة أنه بفسخه يُخرج المبيع عن ملكه، والغبطة في خلافه. وإن أجاز على هذا القول على خلاف الغبطة، نفذت إجازته؛ لأنه بالإجازة تاركٌ ردّ الثمن إلى ملكه، وإذا ملكناه المبيع في زمان الخيار، ملكنا البائع الثمن لا محالة؛ فهو بالإجازة تاركٌ جلبَ الملك في الثمن، وليس على المفلس الجلبُ والكسبُ، كما قدمناه.
فحاصل الطريقة إذاً راجع إلى أنا لا ننفذ منه على خلاف الغبطة إخراجَ شيء عن ملكه، ولا نكلّفه ردَّ شيء إلى ملكه.
هذا بيان الطريقتين.
3944- ونقل الأصحاب نصاً عن الشافعي متعلقاً بالرد بالعيب، قال رضي الله عنه: "إذا اشترى في الصحة عبداً، ثم مرض، واطلع على عيبٍ به في مرضه، لزمه الرد، وإن لم يَرُد، حُسب من ثُلثه؛ لأن العيب كفقد جزء".
كلامه المطلق يحتاج إلى التفصيل، فنقول: إن اشترى في الصحة عبداً بمائةٍ، وقيمته خمسون، لو كان سليماً، فالمحاباة محتملة بسبب جريان العقد في الصحة.
فلو اطلع على عيب في مرض الموت ينقص عُشرَ قيمة العبد، فإن رده، فذاك. وإن أجاز العقدَ، كان متبرعاً بعشر الثمن، وهو عشرة، ولا نجعله متبرعاً بعشر قيمة العبد؛ لأنّ المسترد في مقابلته الثمن، والأرش المقابل للعيب عشر الثمن لا عشر القيمة، فإجازته تتضمن ترك عشر الثمن، والمحاباة وراء ذلك جارية في الصحة، وليس على المريض أن يكسب للورثة باسترداد جميع الثمن.
3945- وفي الفصل غائلة ننبه عليها، وندرؤها بسؤالٍ وجواب. فإن قيل: قد
ذكرتم أن المريض ليس عليه الاكتساب، فليس عليه أن يقبل الهبة والوصية، ولا أن
يكتسب بجهة أخرى، والملك حاصل للبائع في جميع الثمن، واستردادُ الأرش نقصٌ
للملك في حق البائع، وجلبٌ من جهة المشتري، فلم كان تركه تبرعاً؟ قلنا: هذا
العقد يتضمن الاستحقاقَ، فإسقاطه إسقاط حق مستحق تضمنه العقد، وقد ثبت
هذا في مرض الموت، وكان إسقاطه بمثابة إسقاط دين، والدين وإن سميناه ملكاً، فليس شيئاً محصلاً، ولكنه استحقاق التوصل إلى تحصيل الملك في عين، ولذلك
يحط الأرش عن الشفيع، وإن كان مقتضى الشرع أن يأخذ الشّقصَ بثمن العقد، وليس هذا كما ردَّدْناه في خيار الشرط؛ فإن ذلك تروٍّ محض، وليس الفسخ به والإجازة متضمنين إسقاط حق مستحق. فليفهم الناظر ذلك، فبه تمامُ الغرض.
3946- فإن قيل: الرد مستحق أيضاًً بالعيب، فأوجبوه. قلنا: لو أوجبناه، لألزمنا نقضَ المحاباة التي أمضيناها في صحته، وهذا لا سبيل إليه.
فإن قيل: لو كان الثمن جارية، وقد فرض الاطلاع على العيب، فهل تجوزون لقابض الجارية وطأها؟ قلنا: نعم؛ فإن الجارية في يده وإن تعرضت للاسترداد بمثابة الجارية في يد المتهب، مع استمكان الواهب من الرجوع في الهبة.
3947- فإن قيل: لو كانت المسألة مفروضة حيث نقلتم نص الشافعي في الصحة والمرض، فإذا ترَوْن؟ قلنا: إن كان الثلث وافياً، فمجوز الوطء إلى أن يتفق ما يجري من بائع الجارية، وإن لم يكن الثلث وافياً، فالمحذور الرجوع إلى قسط من الجارية، ولو فرض ترك ذلك القسط على قابض الجارية؛ فهو في الحال تبرع.
ولكن لو تبرع المريض بجارية لا يملك غيرها، وأقبضها، تسلط المتهب على وطئها، بناءً على استمرار الحياة. ثم إذا مات المتبرع، نقضنا تبرّعه في ثلثيها تبيُّناً، وقد نلزمه ثلثي مهرها، كما سيأتي في الوصايا.
فخرج من مجموع ذلك أنا لا نحرم الوطءَ كيف فرض الأمر، وهذا تصريح بحقيق الملك. ومع ذلك نجعل ترك مقدار الأرش تبرعاً.
3948- وتمام القول فيه أنه لو مات هذا التارك للأرش المريض ولم يَفِ الثلث، فالزائد على الثلث-على قولنا: التبرعُ الزائد مردود- يُثبت للورثة ملكاً لهم، أم هم يثبتوه؟ الظاهر عندنا أنه يثبت لهم. ولا حاجة إلى إثباتهم لأنفسهم. وما قدمناه من التسليط على الوطء محمول على مذهب التبيّن بالأَخَرة والإسناد.
فانتظم من هذا أنّه إذا مرض مرضَ موته، وفرض الاطلاعُ على العيب، وتَرْكُ الأرش، فقد تبيّن بالأَخرة رجوعُ شيء من الثمن إسناداً. فليفهم الناظر ذلك.
ويحتمل أن يقال: للورثة حق الرجوع في الأرش بعد الموت، وإذ ذاك يثبت ملكهم، والأظهر الأول.
3949- ونحن نذكر صورة أخرى في ذلك، فنقول: لو اشترى عبداً قيمته مائة بخمسين، واطلع على عيب به ينقص عشرَ القيمة، فلو رد، كان الرد على خلاف الغبطة؛ فإن العبد مع العيب يساوي تسعين، فلو رده واسترد خمسين، كان متبرعاً بأربعين، فالرد إذاً تبرع-كما ذكرناه- لأن الغبطة في إمساكه، وهو ملكه الحاصل، ورده إخراجٌ له عن الملك، فإذا كان على خلاف الغبطة، كان متبرعاً. فلو قال:
أرجع بالأرش، فقال بائع العبد: بل ردّه، فليس له مطالبة بالأرش؛ فإنا نبني الأمر على حياته. وإذا كان الرد ممكناً في الحياة، لم يجز التحكم بإلزام الأرش. ولو مات فأراد الورثة المطالبة بالأرش، لم يكن لهم ذلك أيضاًً؛ فإن المريض تبرّعُه في الرد، فإذا لى يرد، فإنما راعى الغبطة في ترك الرد، ويستحيل أن يقع ترك الرد غبطة، وينضمُّ إليه الرجوعُ إلى الأرش.
ونظير هذا ما لو اشترى الولي للطفل عبداَّ بَخمسين، وقيمته مائة لو كان سليماً، فلو اطلع على عيب به ينقص عشرَ قيمته، فليس له الرد، وليس له أن يُطالبَ بائع العبد برد شيء من الثمن. هذا ما نراه، واللهُ أعلم.
وقد يخطر لمن لا يغوص أن الرد إذا امتنع، فالأرش جزءٌ مستحق الاسترداد.
وليس الأمر كذلك.
فصل:
قال: "ولو أسلفه فضة بعينها في طعام، ثم فُلّس، كان أحقَّ بفضته... إلى آخره".
3950- قد ذكرنا في غير المفلس أن من أسلم في جنس وانقطع جنسُ المسلَم فيه عند المَحِلِّ، ولا إفلاس، ولا حجر، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أن العقد ينفسخ.
والثاني: أن المسلم يتخير: إن شاء فسخ، وإن شاء أنظر المسلَم إليه إلى وجود الجنس، ونحن نذكر في السلم بعد تجديد العهد بهذا الأصل صورتين في المفلس: إحداهما- أن يفلس المسلم إليهِ، والمسلَمُ فيه عامّ الوجود. فإن كان رأس المال قائماً، فللمسلم فرع العقد، والرجوعُ إلى رأس المال. ولا فرق بين أن يعيّن رأس المال حالة العقد، وبين أن يطلق ذكر الدراهم حالة العقد، ثم يعينها في المجلس بالإقباض. فإذا كان ما عين أولاً بالتسمية، أو عين بالإقباض في المجلس قائماً، فرع العقد، ورجع في تيك العين. وإن أراد المضاربة، فسنذكر في آخر الفصل كيفية المضاربة بالمسلَم فيه.
ولو كان رأس المال تالفاً، فهل للمسلم أن يفسخ العقد؟ فعلى وجهين: أصحهما- أنه لا يفسخ؛ لأنه لو فسخ، لضارب ببدل رأس المال؛ إذْ عيْنُه تالفة، وإنما يثبت الفسخ بعذر الفلس إذا كان الفاسخ يتخلص عن المضاربة. والوجه الثاني- أنه يثبت له الفسخ بتعذر الوصولِ إلى تمامِ المسلم فيه. وإذا كان التعذر بانقطاع الجنس يثبت حق الفسخ، فالتعذر بالفلس ينبغي أن يُثبت حق الفسخ. وهذا القائل لا يخرّج قول الانفساخ بسبب الفلس، بخلاف ما إذا انقطع الجنس. هذا بيان صورة واحدة.
3951- الصورة الثانية: مفروضة فيه إذا أفلس المسلم إليه، وانقطع المسلم فيه، فاجتمع الفلس والانقطاع؛ فإن كان رأس المال قائماً، فسخ العقد، ورجع فيه. وإن كان تالفاً، فهل يثبت للمسلم حق الفسخ؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يثبت؛ لأنه لا يتخلص عن مضاربة الغرماء.
والثاني: وهو الأصح- أنه يثبت له حق الفسخ؛ لأنه بالفسخ يصل إلى بعض حقه في الحال. ولو لم يفسخ، وصبر إلى عود جنس المسلم فيه فربما لا يجد في يده شيئاًً يأخذه بحقه؛ فترك الفسخ يلحق به ضرراً بيِّناً. وأيضاًً، فإن حق الفسخ إذا كان يثبت في حالة الإطلاق، فيستحيل أن لا يثبت في حالة الحجر، وكل سبب أثبت الفسخ في الإطلاق، لم يُبْن الأمرُ فيه على الغرض، فإن من اطلع على عيب المبيع الذي قبضه، فله رده على مفلس لا يجد ما بقي بالثمن.
وقد نعود في آخر الفصل إلى تحقيق هذا الوجه من هذه الصورة إن شاء الله تعالى.
3952- ونحن نذكر الآن كيفية المضاربة في المسلم فيه، فنقول: إذا كان المسلم فيه جنساً من الأجناس، فالمضاربة به غير ممكنةٍ؛ لأن التضارب إنما ينتظم في النقود، فإذا لم يكن المسلم فيه نقداً، فلا وجه لتقدير المضاربة به. ولكنا نرده إلى القيمة تقديراً، ونُثبت المضاربة بها، ثم ننظر إلى مقدار ما يخصه في المضاربة، فإن كانت القيمة مائة، وقد خصه بالمضاربة عشرة، لم نترك العشرة عليه؛ فإنا لو فعلنا ذلك، كنا معتاضين عن المسلم فيه، وأخذ البدل عن المسلم فيه باطل، غيرُ مباح، فالوجه أن يصرف ما يخصه من الدراهم والدنانير إلى جنس المسلم فيه وتسلمه إليه، فتكون المضاربة واقعةً في أحد النقدين، وملكُ المسلِم مستقرٌ آخراً في مقدارٍ من جنس المسلَم فيه.
والذي قطع به الأئمة أن ملك المسلم لا يثبت في الحصة التي تميزت له من الدراهم، وإنما يثبت ملكه في القدر الحاصل من المسلَم فيه. فلو ميزنا له باعتبار القيمة عشرة، وقدرناها عُشْرَ حقه مثلاً، فهاج رخصٌ وانخفض السعرُ قبل اتفاق صرف الدراهم إلى جنس المسلم فيه، ووجدنا بذلك القدر الذي أقررناه له قدرَ حقه من جنس المسلم فيه بكماله، قال الأصحاب: صرفنا الكلَّ إليه وأوصلنا إليه حقه كَمَلاً، وبرئت ذمة المسلم إليه.
وان وجدنا به أكثر من حقه، فالزيادة مردودة على الغرماء.
3953- قال القاضي: هذا مشكل. والقياسُ أن نقول: إذا هاج الرِّخص، وصار ما كنّا نقدره بمائة يوجد بعشرة، فنغير اعتبار القيمة، ونقول: إنه يضرب بعشرة، وننظر ما يخصه مع مزدحم الديون، ونبتدىء بتبيّن مقدار حقه. وإنما كان كذلك، لأن الحصة المقررة له على حساب المائة لم تدخل في ملكه لما قدمناه من استحالة ملك عوض المسلم فيه، فإذا لم يثبت ملكه فيما ميزنا، بان أن الأمر موقوف على ما يتبين آخراً، وقد بان برخاء السعر، وظهور الرخص أن قيمة المسلم فيه عشرة، فدينه إذاً يقدر بهذا.
هذا ما قاله.
3954- والذي ذهب إليه الجماهير ما قدمناه أولاً.
فانتظم مما قالوه، وقاله القاضي وجهان:
أحدهما: ما ذكره القاضي، ووجهه القياس البيّن الذي ذكره.
والثاني: ما ذكره الأصحاب، ووجهه أنا وإن كنا لا نملِّك المسلِم العشرةَ الدراهم، فنجعله أولى بها؛ حتى كأنها مرتهنة بحقه، وكأنه مرتهن فيها. ولو كان كذلك، لكنا نقدمه بتمام حقه فيما هو مرهون عنده، فيجري إذاً قياس الرهن. ونقول: إن وفّى ما ميزناه بحقه أدينا منه حقه كاملاً. وإن زاد على مقدار حقه، أدينا منه قدرَ حقه، وصرفنا الفاضل إلى الغرماء، كدأبنا في المرهون إذا بعناه.
فإن قيل: لم فعلتم ذلك؟ قلنا: إفراز الحاكم للحصص تخصيصٌ منه لكل ذي حق بمقدار، فما يتصور فيه التمليك حُمل تخصيصه على حقيقة الملك، وما امتنع التمليك فيهِ حُمل على ما يتصوَّر، وهو التخصيص بطريق الاستيثاق، فكأن حقوق الغرماء انقطعت عن العشرة بالقسمة التي جرت على التقدير الصحيح ابتداءً.
فهذا هو الممكن في توجيه ما قاله الأصحاب. وليس يخفى ظهور ما قاله القاضي في القياس.
3955- ثم إن كان المسلم فيه شيئاًً من ذوات الأمثال، وقد خص المسلِم عشرُ
قيمته، فإنا نصرفه إلى عشر المسلم فيه. وإن كان المسلم فيه ثوباًً واحداً، أو حيواناً، فالوجه صرف ما يخص المسلِم إلى جزء شائع من ثوب، أو حيوانٍ مستجمعٍ للصفات المذكورة لا وجه غيره. هكذا ذكره صاحب التقريب وغيرُه. فإذا ضارب بمائة، فخصه من زحمة الديون عشرة، وصرفناها إلى جنس المسلَم فيه، فلو انطلق الحجر، وحدث له مال جديد وعاد الغرماء يضاربون، فللمسلم حق المضاربة في بقية حقه في المال الجديد، فتقوَّم السلعة مرة أخرى، فإن كانت مثل القيمة الأولى، فلا كلام. وإن كانت القيمة أعلى من هذا الوقت، فإنه يضارب بالقيمة العالية؛ فإنَّ المقصود إيصالُه إلى جنس المسلم فيه، والقيمة في البين واسطةٌ، اضطررنا إلى اعتبارها، فنعتبر إذاً قيمة المسلم فيه بالغة ما بلغت. وهذا سديد.
3956- فأمَّا إذا قومنا المسلم فيه آخراً في الصورة التي انتهينا إليها، فكانت قيمته أنقص في الكرّة الثانية، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين في ذلك:
أحدهما: أنه يضارب باعتبار القيمة الثانية، وهي قيمة الوقت. ووجهه بيّن.
والوجه الثاني- أنه يضارب بالقيمة الأولى المعتبرة في الحجر الأول. وهذا لا أدري له وجهاًً، مع قطعنا بأن القيمة ليست عينَ حقه.
ولو لم يتفق الحجر الثاني، ووفى ما في يد المسلم إليه بتمام حق المسلِم، وهاج الرخص، فليس على المسلم إليه إلا توفيةُ حقه.
وإذا رخص السعر، فإذا فرض حجرٌ ثانٍ وجب أن يضارب بالقيمة الناجزة، فإن القيم تقديرات، والغرض الوصول إلى المقوّم. ولولا أن صاحب التقريب كرّر هذا الوجه الثاني، وإلا كنت لا أذكره لضعفه.
فصل:
قال: "ولو أكرى داراً منه سنة، ثم أفلس المكري... إلى آخره".
3957- هذا الفصل يشتمل على بيان إفلاس المكري، وإفلاس المكتري والبداية بإفلاس المكري.
ولا تخلو الإجارة إما أن تكون واردة على العين، وإما أن تكون واردة على ذمة المكري، فإن كان الكراء على العين بأن أكرى داره أو دابته، وعقد إجارةً على شرط الصحة، فإذا أفلس المكري قبل انقضاء الإجارة، وحصول الوفاء بها، فالإجارة لا تفسخ لمصلحة المفلس، حتى لو فرعنا على منع بيع المكرى؛ فإنا نمتنع عن بيع العين المكراة إلى انقضاء مدة الإجارة، وفاءً بما اقتضاه العقد. وإن قلنا: يجوز بيع المكرَى، فنبيعه في ديونه، ولو كانت قيمته تنقص لمكان الإجارة، لم نبال بنقصانها. فإذا اتفق بيعُ الدار المكراة، وصرْفُ ثمنها في حقوق غرماء المكري، وانفصل الأمر، وانطلق الحجر، والإجارة باقيةٌ، فلو انهدمت الدار في بقية المدة، وقضينا بأنفساخ الإجارة، وكان المكتري وفَّى الأجرة كاملة، فيثبت له حق الرجوع بقسط من الأجرة لانفساخ الإجارة في بقية المدة. وهذا الحق يثبت جديداً مترتباً على الانفساخ الواقع بالانهدام. فهل لهذا المكتري أن يزاحم الغرماء الأولين فيما اقتسموه بينهم، وتضاربوا به؟ فعلى وجهين: ذكرهما العراقيون أحدهما- أنه لا يزاحمهم؛ لأن دينه متجدد حادث بعد القسمة، وفضّ المال على الغرماء، فلا يثبت لأصحاب الديون الجديدة مزاحمةُ القدماء من الغرماء.
والوجه الثاني- أن المكتري يزاحمهم مزاحمةَ غريم يبدو أخِراً ونتبين استحقاقَه لدَيْنه متأخراً بتاريخ سابق لاستحقاق الأولين ديونَهم حالة المزاحمة. ووجه ذلك أن الرجوع وإن ثبت الآن، فهو مستند إلى موجَب عقد سابق، وهو الإجارة. فإذا كان رجوع المكتري مستنداً إلى الإجارة السابقة، كان حقه بمثابة دين سابق يبدو.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت الإجارة واردة على العين وقد أفلس المكري.
3958- فأما إذا كانت الإجارة واردة على ذمة المكري، وما كانت ربطت بعين، وهذا كالتزام المكري نقلَ مقدار مبيّنٍ من طعامٍ أو غيره، من بقعة إلى بقعة، فهذا لازمٌ ذمةَ المكري، فإذا أفلس وفي ذمته ما وصفناه، لم يخلُ: إما إن كان سلّم دابةً إلى المكتري ليحمّلها الطعامَ المذكور. وإما إن لم يكن سلم إلى المكتري شيئاًً.
فإن لم يكن سلم إليه شيئاًً، فالذي في ذمته دينٌ من الديون. فإن كان عِوضُ الإجارة باقياً، وقد أفلس المكري، فللمكتري الرجوع إلى العوض الذي صادفه باقياً. وإن كان العوض تالفاً، ضارب المكتري الغرماءَ بأجر مثل ما استحق من المنفعة، على القياس الذي ذكرناه في رجوع المسلِم، إذا أفلس المسلم إليه.
3959- ثم يعرِض في منتهى الكلام أمرٌ يجب إنعام النظرِ فيه. وهو أنا إذا أثبتنا للمكتري حقَّ المضاربة بأجرة المنفعة المستحقة، فإذا بأنت حصته في تقدير المضاربة، فصرْفُ ذلك المقدارِ إليه بمثابة صرفِ مقدارٍ من قيمة المسلم فيه إلى المسلِم. وهذا اعتياضٌ عن المسلم فيه.
3960- وقد اختلف أصحابنا في الإجارة الواردة على الذمة هل تنزل منزلة السلم حتى نرعى فيها ما يُرعى في السلم من وجوب تسليم الأجرة في مجلس العقد، أم كيف السبيل فيه؟ وسيأتي شرح ذلك في كتاب الإجارة، إن شاء الله تعالى.
فإن جعلنا الإجارةَ الواردة على الذمة بمثابة السَّلم، وهو الصحيح، فلا سبيل إلى ترك حصة المكتري-النازل منزلة المُسْلِم- عليه من القيمة؛ فإن ذلك اعتياضٌ عن المسلم فيه.
ثم إن كان المقصود أمراً لا يتبعض، مثل أن يقول: تحملني إلى بلدة عيّنها، فالحمل إلى بعض الطريق قد لا يفيد، أو، ربما يكون الموضع المقدَّر مهلكة، فإذا تحقق التعذر، وامتنع الاعتياض، فلا وجه إلا تخيير المكتري في الفسخ، وإذا فسخ العقد، ضارب الغرماء بقيمة الأجرة التي كان بذلها، وقد يتجه عُسرٌ إذا كان المسلَم فيه ثوباًً؛ فإنه إذا خصّه عشرُ القيمة، فلا يجد به عشرَ ثوب، فإذا ظهر تعذرٌ يجر نقيصةً وخسراناً، ثبت الخيار، كما ذكرناه.
وإن كان ألزم ذمة المكري حملَ مائة منٍّ إلى بقعة، وكان حَمْلُ البعضِ مُفيداً على قدره، صرفنا القيمة التي خصته إلى البعض.
والجملةُ أن التبعيض إن أمكن من غير تعذر، صرفنا حصة المضاربة إليه. وإن عسر، أو تضمن التبعيض نقصاً، ثبت الخيار، لا طريقَ غيرُه. ولا وجه لتمليك القيمة، والتفريع على أَنَّ الإجارة سلمٌ.
3961- وإن حكمنا بأن الإجارة الواردة على الذمة لا تكون بمثابة السلم، فإذا ضارب المستحق الغرماء بأجرة المنفعة المستحقة، وبانت حصته منها، لم يمتنع أن يملك حصته من القيمة عوضاً؛ فإن الاعتياض عن الديون غيرُ ممتنع، إذا لم يكن مسلماً فيها. وللنّظر فيها مضطرب، والعلم عند الله.
3962-و كل ما ذكرناه في الإجارة الواردة على الذمة إذا لم يكن قد سلم المكري عيناً إلى المكتري. فإن كان ألزم ذمته حمل مائة منٍّ، فسلم إليه دابة، حتى يحمّلها المائة. ثم أفلس المكري، فظاهر المذهب أن تلك الدابة متعيّنة لاستحقاق المكتري، كما لو استأجرها في عينها وأورد الإجارة عليها، فليستوف حقه من تلك الدابة وليحمّلها؛ فإنها سُلمت إليه قبل اطّراد الحجر، فتعينت كما تتعين الدراهم إذا سلمها من عليه الدراهم. والحقوق المتعلقة بالذمم تتعين بالتعيين والتسليم.
ومن أصحابنا من قال: لا تتعين تلك الدابة؛ فإنها ليست مورد الإجارة، والمنافع ليست أعياناً. ويشهد لهذا أن تلك الدابة لو عطبت لم تنفسخ الإجارة بعطبها، بخلاف ما لو وردت الإجارة على عينها. فإذا كان لا يثبت لها حُكم التعيين في انفساخ الإجارة عند تقدير تلفها، لم يثبت لها حكم التعيين في اختصاص المكتري بها؛ فعلى هذا إذا أفلس المكري، فلا حكم لتسليم تلك الدابة.
والأصح الأول.
3963- وهذا يخرّج على اختلافٍ للأصحاب، سيأتي مشروحاً في الإجارة. وهو أَنَّ من التزم حمْلَ إنسان إلى موضع، وسلم إليه دابةً، فهل له أن يبدلها بأخرى، من غير سببٍ؟ فيه اختلاف سيأتي موضحاً، إن شاء الله تعالى.
هذا كله إذا أفلس المكري.
3964- فأما إذا أفلس المكتري، فلا يخلو: إما أن تكون الإجارة على العين أو على الذمة. فإن كانت الإجارة على العين، بأن كان اكترى داراً معينة أو دابةً معينة، وما سلم الأجرة، فأفلس، والإجارة باقية، فالمذهب الصحيح أنه يثبت للمكري الرجوعُ إلى المنافع في بقية المدة. فإن آثر ذلك، فلتفرع الإجارة في بقية المدة، ويضارب الغرماء بأجرة المنفعة الماضية. وقد تقدم شرح هذا.
3965- ثم قال العلماء: إن كان أجَّر أرضاً، فزرعها المستأجر، وأفلس، فللمكري الفسخ و لا يقلع الزرع، بل يرجع بأجرة مثل بقية المدة، يقدم بها من غير مضاربة، كما تقدم.
ولو كان اكترى دابة وحمَّلها، وأفلس في خلال الطريق، فللمكري الفسخُ.
ولكن لا يضيّع متاع المفلس، بل يمكّنه من نقله إلى مأمن، وليس عليه أن يمكنه من نقله إلى مقصده؛ فإنّ المطلوب ألا يضيع حق المكتري، لا أن يحصِّل مقصودَه.
ولو لم يؤثر المكري الفسخ وأراد مضاربةَ الغرماء بالأجرة المسماة، فله ذلك، ولا تضيع المنفعة في بقية المدة على الغرماء؛ فإن كانت مشغولة بزراعة أو غيرها، فهو المراد. وإن لم تكن مشغولة، أكريت تلك العين، وصرفت أجرتها إلى حقوق الغرماء.
هذا إذا كانت الإجارة واردة على العين.
3966- فأمّا إذا كانت على الذمة، وأفلس المكتري، فإن كان المكري قد استوفى الأجرة قبل الحجر، فلا كلام، والمنفعة في ذمة المكري، حقٌّ من حقوق المكتري المفلس، تُصرف إلى ديونه كسائر أمواله.
وإن لم يكن المكري قبض الأجرة، وفرعنا على أن الإجارة الواردة على الذمة ليست سلماًً، ولا يجب تسليم الأجرة في المجلس، فإذا أفلس المكتري، فللمكري فسخُ الإجارة بسبب تعذر العوض؛ فإن آثر ذلك، برئت ذمته منه عما عليه من الحق، وانفسخت الإجارة.
فصل:
"ولو قسم الحاكم ماله بين غرمائه، ثم قَدِم آخرون... إلى آخره".
3967- إذا حجر القاضي على المفلس، وقسم ماله على غرمائه، ووزعها عليهم، فلا شك أن التوزيع يقع على أقدار الديون، لا على أعداد الرؤوس. فإذا كان له غريمان لأحدهما عليه أربعة آلافٍ، وللثاني ألفان، وجملةُ ماله ثلاثة آلافٍ، فيصرف ألفان إلى من له الأربعة ألف، وألف إلى من له ألفان.
ووضوح ذلك مغنٍ عن بسطهِ. فإذا قسمنا المال على مبالغِ الديون، فظهر للمفلس غرماء آخرون بعد القسمة وفَضِّ الأموال على الحصص، وتبين أن الذين ظهروا كانوا على استحقاقهم حالة الحجر، ولكن كانوا غُيَّباً، فهؤلاء يخاصمون الذين قسمنا المال عليهم، وينزلون معهم منزلة ما لو كانوا موجودين حالة القسمة، حتى إذا كان المال ثلاثةَ آلافٍ، والغريمان الأولان على أربعة آلافٍ وألفين، فظهر غريمٌ ثالث بأربعة آلافٍ؛ فإنه يسترد من الألفين الذين سلمناهما إلى صاحب الأربعة ثمانمائة، ويسترد من صاحب الألفين من الألف أربعمائة، فيخلص له ألف ومائتان، ويبقى لصاحب الأربعة آلاف ألفٌ ومائتانِ، ويبقى في يد صاحب الألفين ستمائةٍ، فتعتدل القسمة على الاحتياط والحصص.
3968- ولو كان عند القسمة غريمان لكل واحد منهما ألف، والمال ألف، فقسمناه بينهما نصفين، فأتلف أحد الغريمين حصته وأعسر، وظهر غريم ثالث بألف ولم يجد مرجعاً على الغريم الذي أتلف ما خصَّه وأعسر، فصادف الخمسمائة في يد الآخر، فبكم يحاصّه؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فذهب الأكثرون إلى أنه يشاطره فيها، ويقول: تلك الحصة قد فاتت وأنا وأنت سيّان فيما بقي، وتقدُّمُ صورة القسمة لا يخلّفني عنك، وقدْرُ دَيْني كمقدار دينك، فيشترك في هذا الباقي على استواءٍ.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنه لا يأخذ من هذه الخمسمائة إلا ثلثها؛ فإن الحصة الأخرى لو كانت باقية، لكان يأخذ منها ثلثها أيضاً، فلئن فاتت تلك الحصة وأعسر صاحبها، فلا ينبغي أن يرجع بما فات من حقه بسبب تلك الحصة الفائتة على الحصة الباقية، وكان حقه في أيديهما، ففواته بسبب فوات ما في يد أحدهما لا يرد جميع حقه إلى ما في يد الثاني.
وهذا الخلاف قريبُ المأخذ من القولين في أن أحد الوارثَيْن لو أقر بدَيْنٍ وأنكر الثاني، فهل ينحصر جميعُ الدين في حصة المقر؟ أم لا يلزمه منه إلا ما كان يطالَب به لو أقر صاحبه معه؟ وفيه قولان سيأتي ذكرهما في كتاب الأقارير، إن شاء الله تعالى.
3969- ومما أطلقه الأصحاب في قاعدة هذا الفصل أن قالوا: إذا اقتسم الغرماء مالَ المحجور، ثم ظهر غريم بدين قديم، فالقسمة السَّابقة لا تنقض، ولكن الغريم الظاهر يُحاصن كلَّ واحد بمقدار حقه، واعتلّوا بأن قالوا: الغريم لا حق له في أعيان الأموال، وإنما تعلقه بالمالية، وإذا كان يرجع على كلٍّ بحصته، فلا معنى لنقض القسمة مع وصوله إلى ما هو حقه، من غير تقدير تعويض وإبدالٍ.
وهذا يظهر جداً إذا ردت الأمتعة إلى النقود وفُضّت على أقدار الديون، ولم يكن لواحد من الغرماء في محل الكلام عين مال، وإنما حقوقهم ديون مرسلة.
3970- ولو اقتسم الورثة أعيان التركة، ثم بدا دينٌ، فالأصح المنصوص عليه أن القسمة لا تنقض ببَدْو الدَّيْن، بل يرجع الغريم على كل وارث بحصته إلى استيعاب حقه؛ فإن حقه يتعلق بمالية التركة، لا بأعيانها. وأثر القسمة في إفراز الأعيان. وإلا فالتركة في أيدي الورثة.
ولو اقتسم الورثة أعيان التركة، ثم ظهر وارث آخر، فالقسمة منقوضة؛ فإن الوارث يتعلق استحقاقه بالأعيان، فتصحيح الإفراز مع شيوع شركته في التركة محال.
وللشافعي قول آخر: إنه إذا بدا دين، تبيّنا انتقاض القسمة من أصلها؛ لأن التركة مرتهنة بالدين، والتصرف في المرتهن مردود، وسنذكر هذا في موضعه، إن شاء الله تعالى.
3971- ولو أجرى مُجرٍ هذا القول في بُدوّ غريم للمحجور عليه بعد اقتسام الغرماء الأوَّلين، لم يكن بعيداً؛ إذ لا فرق بين بُدوّ دَيْنٍ في التركة، وبين ظهور غريم للمحجور عليه.
3972- ومما يتعلق بهذا الفصل أن المحجور عليه لو استفاد مالاً جديداً، والحجر مطّردٌ عليه، بأن قبل هبةً، أو وصية، أو احتش، أو احتطب، أو اشترى وصححنا شراءه على الأصح، فهذه الأملاك الحادثة في اطراد الحجر هل يتعدى إليها مقتضى الحجر، حتى لا ينفذ فيها تصرف المحجور عليه؟ أم هي خارجة عن موجَب الحجر؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنها خارجةٌ عن موجب الحجر؛ فإن الحجر تعلق بالأموال العتيدة الموجودة لدى الحجر، وكان المقصود منه قصر يد المفلس عن التصرّف فيها، فلا سبيل إلى تعدية الحجر عن تلك الأموال. والحجر من القاضي في أموال المفلس، كحجر الراهن على نفسه في العين المرهونة، ثم الرهن لا يتعدى موردَه. هذا وجه.
والوجه الثاني- أن الحجر يتعلق بالأموال المستجدة؛ فإن السلطان لم يقصد بحجره تخصيصَ مالٍ، وإنما قصد التسبب إلى إيصال الحقوق إلى مستحقها، وهذا القصدُ لا اختصاص له بالمال الموجود، فليكن المحجور عليه تحت الحجر فيما كان موجوداً، وفيما استجدّه واستحدثه.
3973- ومن الأصول اللائقة بما نحن فيه أَنَّ الحجر إذا انطلق-كما سنوضح سبب انطلاقه في آخر الفصل- وكان الغرماء على بقايا من ديونه، فلو حدث للمديون مالٌ بعد انطلاق الحجر، لم يعد محجوراً عليه بنفس حدوث المال، ولكن لو استدعى الغرماء إعادةَ الحجر بسبب المال الحادث، وكانت بقايا الديون زائدةً على المال الحادث، أو مساوية له- على التفصيل المقدم في أول الكتاب- فالقاضي يجيب إلى ذلك.
فلو تجددت له ديون مع تجدد الأموال، لم يختص الغرماء الذين حدثت حقوقهم بالمال الحادث، بل اشترك فيه القدماء من الغرماء الذين حدثت حقوقهم.
ولو بدا للمحجور عليه مال قديم، اختص بالتضارب فيه الغرماء القدماء، ولم يشاركهم فيه من حدث حقه.
3974- والضَّابط فيه أن المال الحادث يشترك فيه الغريم القديم والحادث، والمال القديم الذي كان في الحجر الأوَّل يختص به الأولون، ولا يشارك فيه من حدث حقه بعد انطلاق الحجر الأوّل. ولو انطلق الحجر الأول، وحدث بعده مال، ولا حجر بعدُ، وحدث بعد حدوث المال دين، ثم ضرب الحجر ثانياً، اشترك القدماء، ومن حدث دينه، وليس للقدماء أن يقولوا: لا يشركنا في المال الحادث من حدث دينه بعد حدوث المال؛ فإن ذلك الدين إذا حدث قبل عَوْد الحجر، فلا نظر إلى تقدم المال عليه إذا اجتمع حدوث المال والدين في انطلاق الحجر. وهذا واضحٌ لا يخفى على الفقيه، ولا يضرّ التنصيص عليه.
3975- ومما يليق بمضمون الفصل أَنَّ الديون التي تتجدد في زمان الحجر تنقسم: فمنها ما يتجدد في المصلحة المتعلقة بمال المفلس كالمؤن التي تلزم: من أجرة الدلال أو الكيّال أو غيرهما، فما كان كذلك، فهو متقدّم على حقوق الغرماء، من غير مضاربة؛ فإنا لو لم نقدم هذه الديون، لامتنع التصرف في مال المفلس على مقتضى الصَّلاح، ولرغب العمَلة عن العمل الذي لابد منه.
وأما ما يتجدد من دَيْن في ماله، ولا تعلق له بصلاح الأمر، وحاجة الوقت، فلا تعلق لمستحق هذا النوع من الدين بمال المحجور عليه، فإن ذلك المال في حق الغرماء الذين جرى الحجر باستدعائهم بمثابة المرهون في حق المرتهن، فلو أتلف المفلس مالاً، تعلق بدلُه بذمتهِ، ولم يزاحم مستحقُّ الدين الغرماء في الأموال.
وكذلك القول في جملة الديون التي لا يتعلق لزومها بالمصلحة والحاجة.
فهذا تمامُ القول في ذلك.
فصل:
قال: "وإن أراد الحاكم بيع متاعه أو رهنه، أحضره... إلى آخره".
3976- إذا استمر الحجر، اشتغل الحاكم على القُرب بتنجيز الأمر حتى لا يطول أمد الحجر من غير حاجة، وذلك بأن يبتدر بيعَ الأمتعة ويَنْصِب في ذلك كافياً أميناً إن كان لا يتعاطاه بنفسه، ولا ينبغي أن يُفْرِط في العجلة، فتُشتَرَى الأمتعة ببخس، ولا يتأنَّى بعد حصول الاحتياط اللائق بالحال.
ثم قال: ينبغي أن يحضر المحجورُ عليه مكانَ البيع؛ فإن ذلك أنفى للتهمة، وقد يعرف صاحب المتاع مما يُروِّج به متاعَه ما لا يعرفه غيره، وهذا استحباب، وذكرٌ للأَوْلى.
ثم قال: ينبغي أن يبدأ ببيع الحيوانات؛ فإنها عرضةٌ للتلف، وفي إبقائها تكثيرُ المؤن. ثم يبيع ما يتسارع إليه الفساد، ويؤخر بيعَ العقار. ويبيعُ كل شيء في سوقه، فإن ذلك أرْوج لها، وأحرى بأن يَنْفَد العَرْض فيها.
3977- ثم إن رضي الغرماء، جَمْعَ أثمان السلع، حتى إذا انتجزت، فرقها حينئذ على أقدار الحقوق. وإن أبَوْا أن يصبروا، ورأَوْا أن يفرّق عليهم كلَّ مقدار ينتجز ويَحصُل، أجيبوا إلى ذلك. وإن رضوا بالجمع، جمع القاضي عند عدل. ولا يبعدُ في مسلك الرأي أن يُقرِضَ ما يتحصل مَليّاً وفيّاً؛ فإن أعيان الأموال قد تضيع، والدين في ذمة المليء الوفي أقربُ إلى الثبوت. وقد ذكرنا في تصرف القُوَّام أنهم لو شاؤوا أن يُقرضوا مالَ الطفل على موجَب المصلحة، فلا معترضَ عليه.
3978- ثم قال صاحب التقريب: إذا أراد القاضي أن يبتدىء قسمةَ المال، لم يُحوج الغرماء أن يقيموا بيِّنةً على أنه لا غريمَ للمحجور غيرُنا. وقد نقول: لا يقسم الحاكم التركة بين ورثة المتوفَّى، حتى تقوم بينة من أقوام ذوي خبرة بباطن أمر المتوفى أنهم لا يعرفون له على طول المخالطة والخبرة وارثاً سوى الحاضرين. وسيأتي ذلك في كتاب الدعاوى، إن شاء الله عز وجل.
قال صاحب التقريب: إذا حجر القاضي، وشَهَر حجرَه، وأشاعه في الناس، كفى ذلك في حصول الغلبة على الظن بأنه لا غريم له سوى هؤلاء؛ إذ لو كانوا لظهروا. ولما حجر عمر رضي الله عنه على الجهني، اكتفى بأن شَهَر الحجرَ بذكره إياه في أثناء الخطبة. وما ذكره صاحب التقريب حسن. ولكن لا فرق عندنا بين القسمة على الغرماء، والقسمة على الورثة، فحيث نقول: لابد من إقامة الشهادة على أن لا وارث، فلابد من مثله في القسمة على الغرماء.
3979- وممّا يتعلق بتمام الفصل أن القاضي إذا قسم ما وجد من ماله على غرمائه، واعترف الغرماء بأن لا مال له سوى المقسوم علينا، فهل يُحكَم بانطلاق الحجر عنه، أم لابد أن يتولى القاضي إطلاقَه؟ فعلى وجهين في طريقة العراق:
أحدهما: أنه لا حاجة إلى إطلاقه؛ فإن موجَب الحجر قد زال.
والثاني: أنه لابد من الإطلاق؛ فإن ذلك مجتهَدٌ فيه، وقد تمس الحاجة إلى مزيد بحث، فليتوقف الأمر على إطلاق القاضي، حسماً للمادّة، وقطعاً للتهمة، وكما لا يثبت الحجر ابتداء من غير ضرب، ينبغي ألا ينحلّ انتهاءً من غير رفعٍ، وليس كحجر الجنون والصبا، على ما سيأتي ذكرهما في كتاب الحجر، إن شاء الله تعالى.
3980- ثم المنصوبُ الذي يتولى بيع مال المفلس بإذن الحاكم ليس له أن يسلّم مبيعاً من ماله قبل توفير الثمن عليه. وقد ذكرنا في أن البداية في التسليم بالبائع أو المشتري أقوالاً في كتابِ البيع، ولا يجري منها في الذي يبيع مال المفلس إلا قولان:
أحدهما: أن المشتري منه هو المجبر على تسليم الثمن. والقول الثاني- أنهما يجبران على تسليم المبيع والثمن معاً ولا يخرج قولنا: إن البائع يجبر على البداية؛ من جهة أنه يجب على النائب رعاية حق من يتصرف له. هذا هو اللائق بمنصب النائب الأمين. ولا يخرج أيضاًً قولنا: لا يجبران؛ فإن الحاجة ماسة إلى تنجيز الأمر، حتى لا يطول أمد الحجر.
3981- وقد يقع الفرض في صورة لا يخرج فيها إلا قولٌ واحد. وهو أن يكون البائع نائباً كما ذكرناه، ويكون المشتري وكيلاً أيضاً، فلا يخرجُ في هذه الصورة قولُ إجبار المشتري على البداية، وينحصر الجواب في أنهما يجبران معاً، حتى يتوفر الغرضان، ويعتدل الجانبان.
وما ذكرناه في المتصرف في مال المحجور يجري في كُلّ وكيلٍ.
3982- ولو باع الوكيل سلعةَ مُوكِّله، ونَهَيْنا عن البداية بالتسليم، كما تقرر، فلو ابتدر وسلم المبيع، فقد تعدّى وأساء، ولو وُفّر الثمن عليه، خرج عن حكم العهدة، إذا كان مأذوناً له في قبض الثمن، ولا نقول: تعدّيه في البداية يُديم عليه حكمَ العدوان في الثمن الذي توفر عليه.
ولو سلم المبيع، وعسُر قبض الثمن، وفات الأمر، فيضمن الوكيل. وفيما يضمنه وجهان ذكرهما صاحبُ التقريب:
أحدهما: أنه يضمن الثمن؛ فإنه فوّت متعلّق الثمن، وكان كالشاهد الزور إذا أوقعت شهادته حيلولة، ثم رجع عن شهادته. وهذا القائل يعضد مذهبه بأن تغريم الوكيل قيمة المبيع للموكِّل بالبيع بعيد، والمبيع ليس ملكاَّ بَعدَ البيع للمُوكِّل بالبيع. وليس كالمرهون الذي يضمن متلفه قيمتَه للمرتهن؛ فإن حق الوثيقة يتعدى إلى القيمة.
والوجه الثاني: أنه يضمن قيمة المبيع، من جهة أنه التزام بالخوض في البيع ألا يسلمه، ولا يثبت حق موكله فيه إلا بشرط، فإذا لم يف بالشرط، لزمته القيمة؛ نظراً إلى ما قبل البيع. وإن كان المبيع عند التسليم خارجاً عن ملك الموكل.
3983- وهذا الضمان على الجملة بدعٌ خارج عن قانون الضمان؛ فإنه لم يلتزم الثمنَ بجهةٍ، ولما سلم المبيع، لم يجر عدوانُه في ملك الموكِّل، وحق الحبس لا يُضمن بالقيمة، فالقياس الكلّي نفيُ الضمان، والاقتصار على تأثيم الوكيل إن عمد؛ فإن المشتري إذا قبض المبيع، وأتلفه، فقد وقع القبض مستحقاً. ولكن اتفق الأصحاب على الضمان. وهو من آثار عهدة العقد، فالأوجه إذاً ألا يلزم الوكيلَ إلا الأقلُّ؛ فإن كان الثمن أقلَّ من القيمة، لم يلزمه إلا الثمن. وإن كانت القيمة أقل، فقد يقول الوكيل: احسبوني غاصب عين ومتلفها.
وإلزامه الثمنَ، والقيمة أقل، له وجهٌ على بعد، وأما إلزامه القيمة والثمن أقلُّ، فلا وجه له.
فصل:
قال: "وينبغي أن يُشهد أنه وقف مالَه... إلى آخره".
3984- إذا حجر على المفلس الحاكمُ، فالأوْلى أن يُشهد على الحجر وليس ذلك بواجب، ولكن الأولى ما ذكرناه. والغرض منه شَهْرُ الحجر، ونشر الأمر، والتأكيدُ بالإشهاد، حتى إذا ظهر ذلك، لم يعامَل المحجور اغتراراً بما عُهد له من مال.
3985- ثم ذكر الشافعي تفصيلَ القول فيما يمتنع من تصرفات المحجور.
والقول الجامع أن تصرفاته تنقسم إلى ما يتعلق بعين ماله، وإلى ما لا يتعلق بها: فأما ما يتعلق بعين ماله، فلا ينفذ في الحال انفرادُه بالتصرفات، وهذا أثر الحجر، ولو كان من ماله عبيدٌ، فأعتقهم، لم ينتجز نفوذُ العتق فيهم وفاقاً، وإذا مست الحاجةُ إلى بيعهم في الديون، بعناهم، وصرفنا أثمانهم إلى الغرماء. وإن جزم المفلسُ إعتاقَهم.
3986- ولو أعتق الراهن العبدَ المرهون، فقد اختلف القولُ في نفوذ عتقهِ، فقد نقول: في قولٍ: ينفذ عتقه، وإن كان معسراً. وهذا مما يجب التنبيه له، والوقوفُ عنده؛ فإنَّ الفقيه قد يرى الحجر بالرّهن المنبرم بالإقباض آكد. والتحقيق في هذا أن القاضي يحجر على تصرفه، وليس يرهن ماله، فأثر حجره منعه من التصرف. والرهن متضمنه تعليق وثيقة بعين، فتخيل قائلون أن ملك الراهن أقوى من حق وثيقة المرتهن.
ولكن إذا أعتق المفلس عبداً، واتفق تأدية الديون، بأن وجدنا راغبين اشتَرَوْا الأمتعةَ بأكثرَ من قيمتها، وفضَلَ ذلك العبدُ، فهل نحكمُ بنفوذ العتق فيه، وقد برئت الذمة؟ فعلى قولين، وتوجيههما: أن العتق من المفلس مردود أم موقوف؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنه مردود؛ فإن الحجر تضمن إبطالَ عباراته في التصرفات المتعلّقة بالمال، فلغا ما قال.
والقول الثاني- العتق موقوف؛ فإن القاضي لم يلحق المحجور عليه المفلسَ بالناقص بصباه أو سفهه، وإنما راعى حق الغرماء، فالمفلس تامٌّ بصفته، والعتق قابل للوقف، فانتظم منه انتظار العاقبة. ثم إذا فضل ذلك العبدُ، تبيّنا نفوذَ العتق على هذا القول من وقت اللفظ. هذا في إعتاقه.
3987- ولو كاتب عبداً لم تنجّز الكتابة، حتى نقدرها مانعة من صرف هذا العبد إلى الدين. ولكن لو فضل هذا العبدُ عن الديون، كما صورناه في العتق، ففي نفوذ الكتابة على مذهب التبيّن القولان.
ولو باع شيئاً من أمواله، لم يكن بيعه مانعاً للقاضي من تصرفه اللائق بالحال.
ولكن لو فضل ذلك المبيع، ففي نفوذ البيع على التبيّن قولان.
3988- وكان شيخي يرتب هذه المسائل، ويجعل العتق أولى بالنفوذ، من قِبَل قبوله التعليق بالأغرار، والوقفُ دون التصريح بالتعليق. والكتابة تلي العتقَ، وتستأخر عنه لما فيها من المعاوضة. والبيع يترتب على الكتابة، وهو أولى بأن لا ينفذ؛ لأنه معاوضة محضة عرية عن قبول التعليق بالأغرار، والهبة في هذا الترتيب في درجة البيع، فإنها لا تُعلّق، كما أن البيع لا يعلّق.
فهذا بيان ترتيب هذه المسائل.
3989- فإن رأينا إلغاء هذه التصرفات وإبطالَها في الحال والمآل، تصرفنا في المبيع، والمعتَق والمكاتَب تصرُّفَنَا في سائر الأموال. وإن رأينا إجراءها على الوقف، وأمكننا تأدية الديون دون التصرف في محال تصرفات المفلس، أخرنا محالَّ تصرفه، وإن انتهت الحاجةُ إليها، ابتدرنا ما وهبه، وقدمنا التصرف فيه على التصرف في المبيع؛ فإن البيع ألزم من الهبة، وأبعد من النقض، ثم نتصرف بعد الموهوب في المبيع، ثم في المكاتَب، ويؤخر المعتق. وهذا الذي نذكره على قول الوقف استحقاقٌ، وترتيبه واجب، وليس على مذهب الأوْلى والمستحب، وكل تصرف كان أقوى، فإنا نؤخر محلَّه جهدنا.
3990- ولو لم نجد زبوناً يشتري من أمتعة المحجور إلا العبد الذي أعتقه، والتفريع على قول الوقف، فقال الغرماء: حاجتنا ماسة في الحال إلى شيء، فلا تؤخروا حقّنا، ونَجِّزوا بيعَ هذا العبد، فهذا فيه احتمالٌ ظاهر؛ فإن تأخير حقهم بعيدٌ، وإبطالُ الإعتاق لتوقفٍ-مع الاشتغال والتشمير- فيه بعيدٌ أيضاًً؛ فلينظر الناظر.
وغالب الظن أن الغرماء يجابون في الصورة التي ذكرناها.
فهذا بيان تصرفات المفلس في أعيان أمواله.
3991- فأما تصرفه الذي لا يتعلق بعين ماله، فنذكر ما قد يخفى، ونترك ما لا خفاء به، كنفوذ طلاقه وخُلعه، وعفوه عن القصاص، واستلحاق النسب، ونفيه باللعان، فلا خفاء بنفوذ هذه الأشياء.
3992- والذي يُعتنى به أنه لو نكح امرأةً، صح. وإن كان النكاح يُلزمه النفقة، على ما سنعيد هذا في الفصل المشتمل على بيان النفقات، إن شاء الله تعالى.
3993- ولا شكّ أنه لو اتّهب، أو قبل الوصيّة، صح ذلك منه؛ فإنّ ما يأتي به من هذه الأجناس اكتساب أموالٍ، وليس تصرفاً في المال الذي اشتمل الحجرُ عليه.
3994- ولو اشترى المفلس، فالمذهب الأصح أن شراءه صحيحٌ، إذا كان الثمن وارداً على الذمة؛ فإنه ليس محجوراً عليه في لفظه وذمته. وذكر بعض أصحابنا قولاً في إبطال شرائه، توجيهه يظهر بالتفريع.
فإن قلنا: لا يصح الشراء، فلا كلام. وإن قلنا: يصح الشراء، فلا يؤدَّى الثمنُ من المال الذي اشتمل الحجر عليه. ولكن هذا يخرّج عندنا على الخلاف المقدّم في أن المال الذي يحدث للمحجور هل يشتمل عليه الحجر؟ فإن قلنا: يشتمل الحجر على ما يستحدثه، فهذا القياس يقتضي أن يصرف ما اشتراه إلى ديونه، ويقال لمعامله والبائع منه: أسأْتَ إذ عاملته، فاكتف بذمته، وارتقب يُسره في ثاني الحال. هذا هو القياس، وفيه تحقيق.
3995- وحاصل المذهب المأخوذ من مرامز كلام الأصحاب وجهان:
أحدهما: ما ذكرناه، وهو أن الغرماء يتضاربون في المبيع، والبائع محالٌ على ذمة المفلس، يطالبه بالثمن إذا انطلق عنه الحجر. وتعليله ما ذكرناه.
والوجه الثاني- أن البائع لا يضارب الغرماء في الأموال التي انعقد الحجر عليها؛ فإن دينه جديد، ولكنه يضارب الغرماء في ثمن المبيع المستفاد منه؛ فإن في دينه يثبت مع ثبوت الملك في المبيع، وهو عوض المبيع. فلا أقل من أن يشارك الغرماءَ في العين المبيعة.
3996- وممَّا يتعلق بتمام البيان في هذا الفصل القولُ في أن البائع لو أراد الرجوعَ في العين المبيعة على الأصل الممهد في إثبات ذلك للبائع، إذا وجد عين ما باعه في يد المشتري. ونحن نقدم على ذلك مسألة، ذكرها الشيخ في شرح التلخيص: وهي أَنَّ العبد القِنَّ لو اشترى بغير إذن سيده شيئاًً، فالمذهب أن البيع فاسد، ومن أصحابنا من حكم بصحة البيع. وقد ذكرنا ذلك في كتاب البيع.
فإن فرعنا على صحة البيع، فلا شكّ أنه يتعذر على البائع استيفاء الثمن؛ فإن متعلقه الذمة على الإطلاق، وكل دين تعلق بالذمة، فالعبد لا يطالَب به في رقِّه، ولكن إذا عَتَق اتُّبع به.
فإذا علم البائع ذلك، وكان الثمن حالاًّ، ولم يكن عالماً بكونه عبداً حالة العقد، فله حق فسخ البيع، والرجوع إلى المبيع. قطع به الشيخ، وحكى فيه وفاق الأصحاب.
ولو كان عالماً بحقيقة رقِّه عند البيع، ففي ثبوت الخيار وجهان:
أحدهما: أنه يثبت الخيار. وهو الذي حكاه الشيخ في الشرح.
والثاني: أنه لا خيار له، حكاه غيره، ووجهه أنه أقدم على معاملته مع العلم بحقيقة صفته، فلا يثبت الخيار لمن يكون مطلعاً على سببه عند العقد.
فإذا ثبتت هذه المقدمة، عدنا إلى غرضنا، فنقول:
3997- إذا باع شيئاًً من المفلس المحجور عليه، وكان عالماً بحاله عند العقد، فظاهرُ المذهب أنه لا خيار له، بخلاف العبد؛ فإن انطلاق الحجر عنه مأمولٌ قريب، غيرُ بعيد، بخلاف العتق؛ فإن توقعه بعيد، وظاهرُ الرق الاستمرار، فإذا انضم ذلك إلى علمه بفلسه، امتنع ثبوت الخيار.
وفي المسألة وجه آخر بعيد: أن الخيار يثبت كما ذكرناه في العبد إذا اشترى بغير إذن مولاه، ووجه الجمع بيّنٌ واضح.
ولو باع من المفلس ظانّاً أنه مطلق في تصرفه، فإذا تبيّن له فلسه، واطرادُ الحجر عليه، فالظاهر أنه يثبت له حق الفسخ؛ لاطلاعه على السّبب الذي تعذر به استيفاء الثمن.
ومن أصحابنا من لم يُثبت الخيارَ في هذه الصورة؛ إذ لا خلاف أنه لو باع من معسرٍ غيرِ محجور عليه، لم يكن له أن يفسخ، إذا اطلع على إعساره، حتى يُحجر عليه. والحجر الواقع في مسألتنا لم يضرب لأجل البائع، بل كان المحجور مطلقاً في حق البيع الذي جرى؛ فإنه استبد بنفسه فيه، فنفذناه دون مراجعة الوالي والغرماء، فكان بيعه مستثنى عن حكم الحجر، وهو بمثابة ما لو باع شيئاًً ممن ظنه موسراً، وسلمه إليه، ثم تبين أنه معسر؛ فإنه لا يفسخ البيع من غير حجر على المشتري.
3998- ومما يتعلق بتصرفات المفلس، أنه لو أقر في حال قيام الحجر بدين في ذمته، فالمقَر له لا يضارب الغرماء الذين ثبتت ديونهم إذا لم يصدقوا المفلسَ. ولكن الدين يثبت في ذمة المفلس للمقر له، يطالبه به إذا انطلق الحجر عنه، واستفاد مالاً. وهذا متفق عليه؛ فإن الإقرار ليس عقداً أنشأه.
وإذا كنا نقول: الظاهر صحة شرائه لوروده على الذمة، وإن كان الشراء عقْدَ عهدة على الجملة، فالإقرار الذي هو إجبار محض يُلزم ذمتَه المقَرَّ به لا محالة. من غير تخيل خلاف، ولكن لا يضارب المقَرُّ له الغرماءَ في الأموال التي جرى الحجر فيها.
3999- ولو أقر المفلس بأن عيناً من الأعيان- التي اطرد الحجر عليها ظاهراً وكانت في يده مغصوبةٌ، وهي لفلان، فقد نص الشافعي في كتبه القديمة على قولين في إقراره بالعين:
أحدهما: أنه لا ينفذ في الحال، وإن مسّت الحاجة إلى صرفها إلى ديونه، صرفت إليها.
والثاني: أن إقراره ينفذ في العين، وهي مصروفة إلى المقر له بها؛ فإن عبارة المفلس صحيحة، ولا تهمة في قوله.
فقال الأئمة: يجب طرد القولين في الإقرار بالدَّين المرسل:
أحدهما: أن المقر له لا يضارب الغرماء بالدين.
والثاني: أنه يضارب تخريجاً على قبول إقراره بالعين ناجزاً. وهذا القول يتجه في القياس. وفي الجملة لا فرق بين الدين والعين.
والمريض وإن كان محجوراً عليه في الزائد على الثلث، فقراره بالدين المستغرِق مقبول. وكذلك لو أقر بعين مالٍ، قُبل إقراره.
4000- فإن قيل: قطعتم القول برد عتقه وبيعه في الحال، وذكرتم القولين في نفوذهما لو سلم محالهما عن الصرف إلى الديون على مذهب الوقف، وذكرتم قولاً في تنفيذ الإقرار بالعين والدين المرسل ناجزاً، وإن أضر ذلك بالغرماء. قلنا: هو كذلك؛ فإن الحجر مقصوده منع المحجور عليه من التصرف؛ فتنفيذ تصرفه فيما جرى الحجر عليه يناقض مقصود الحجر، والحجر لم يسلبه العبارة عن أمرٍ مضى، وليس هو إنشاء تصرف في الحال؛ فكان ذلك فرقاً واضحاً.
وإذا لم ينفذ إقراره بالعين في الحال، ولكن سَلِمت العين عن الصرف إلى الديون، وانطلق الحجر، فلا خلاف في مؤاخذة المحجور بإقراره في تلك العين بعد ارتفاع الحجر، ولا يخرّج على القولين المذكورين في البيع والعتق وغيرهما؛ فإنَّ مذهب الوقف في العقود على التردد مشهور، والإقرار يحتمل مثل ذلك، ولو قال إنسان: إن فلاناً أعتق، فرُدّ قولُه فيه، فلو اشتراه، كان مؤاخذاً بموجب قوله السابق.
فهذا منتهى المراد في تصرفات المفلس في غرض الفصل.
فصل:
قال: "وذهب بعض المفتين إلى أن ديون المفلس تَحِلُّ بالحجر... إلى آخره".
4001- لا خلاف أن من مات وعليه ديون مؤجلة، حلت الديونُ بموته، وهذا متفق عليه، وإن كان قد يظهر إضرار ذلك بالورثة؛ فإن الدين المؤجل إلى عشرين سنة لا يساوي شيئاًً به مبالاة؛ وإذا حل الدين، فقد تضاعفت المالية في حق مستحق الدين، ولكن الأمر على ما وصفناه.
4002- ولو جن من عليه ديون مؤجلة، ففي حلول الدين وقد استمر الجنون قولان: أصحهما- أنها لا تَحِلُّ؛ فإن حلولها على الميت غير منقاس. على أن الممكن أن الآجال مَهْلٌ وفَسْحٌ. والغرض منها طلبٌ لمحل الدين في مدة الأجل؛ وذلك مأيوسٌ منه في حق المتوفَّى؛ فإن الموت حسم إمكان العمل، واستأصل أصلَ الأجل؛ فلا يبعد أن يقطع مدّة الأجل، وهذا لا يتحقق في طريان الجنون؛ فإن الآمال مبسوطة، ما بقيت الحياة.
4003- وكان شيخي أبو محمد يذكر في طريان الجنون القولين، كما ذكرناهما.
ثم كان يذكر في طريان الحجر بسبب الفلس قولين مرتبين على القولين في الجنون، ويجعل الجنون أولى بمضاهاة الموتِ في اقتضاء الحلول من الحجر؛ من قِبل أن المجنون لا استقلال له، ولكن يخلفه قيِّمه ووليّه، كما يخلف الوارثُ الموروثَ، والمفلس ليس خارجاً عن الاستقلال في التصرفات المختصة به.
وهذا فيه نظر عندي؛ من قبل أن قيّم المجنون لو أراد أن يتصرف له تصرفاً مشتملاً على ثمن مؤجل، لم يمتنع ذلك ابتداءً؛ وإذا كان لا يمتنع ما ذكرناه ابتداء، فاقتضاؤه قطعَ الأجل محالٌ لا اتّجاه له. والوجه عندي تخصيص القولين بالمفلس المحجور، نظراً لمستحق الدين، والحجر مضروبٌ لمصلحة أصحاب الديون.
وبالجملة لا وجه للمصير إلى حلول الأجل في غير الموت. والمعتمد في الموت الاتباع كما ذكرناه. ولا يستدّ فيه معنى على السبر.
ونحن الآن نفرع على القولين في حلول الأجل وبقائه، فنقول:
4004- إن حكمنا بأن الأجل لا ينقطع، والدين لا يحل، فنتكلم في أمرين:
أحدهما: المضاربة بالدين المؤجل.
والثاني: فسخ البيع.
فأمَّا الكلام في فسخ البيع، فالمذهبُ الأصح أن من باع شيئاًً بثمن مؤجل، وفُلّس المشتري بسبب ديونٍ حالة، فليس للبائع، والثمن مؤجل أن يفسخ البيع، ويرجع إلى عين المبيع؛ فإن الأجل يمنع حقَّ الطلب، والفسخُ مترتب على تعذر الثمن المطلوب.
وذكر العراقيون، وغيرُهم وجه آخر، وقالوا: نقرر المبيع، ولا نصرفه إلى الديون الحالّة، وننظر ما يكون، فإن حل الأجل والحجر قائم بعدُ، فللبائع حقُّ الفسخ، وإن كان الحجر قد انطلق، وأمكن استيفاء الثمن كاملاً، استوفاه البائع، وإن كان معسراً، فقد ثبت حقُّ الفسخ، كما سنصفه في التفريع.
وهذا القائل يحتج بأصل هذا الوجه بأن حق البائع متعلق بالمبيع، تعلقَ حق المرتهن بالمرهون. ثم لو فرض دَيْنٌ مؤجَّل موثَّق برهن، ثم جرى الحجر، فاختصاصُ المرتهن بالرهن قائم مع استمرارِ الأجل، فليكن الأمر كذلك في الثمن المؤجل.
وهذا مزيف عند المحققين؛ فإن اختصاص المرتهن كان ثابتاً مقدَّماً على جريان الحجر، فدام ذلك الحق. ومن باع شيئاًً مؤجَّلاً، فمقتضى بيعِه تسليمُ المبيع، وتركُ التعلّق به، فإثبات الاختصاص بالمبيع مع دوام الأجل بعيد.
وهذا الوجه على بعده مشهور؛ فلابد من تفصيله بالتفريع، فنقول:
إذا حل الأجل والحجر قائم، فحق الفسخ يثبت كما ذكرناه، وإن انطلق الحجر، وحل الأجل والمشتري معسر، فالظاهر على هذا الوجه أن يفسخ البيع من غير حاجةٍ إلى إعادة الحجر؛ فإنّ وَقْفَنا المبيع وعزلَنا إياه على انتظار حلول الأجل من أحكام الحجر، فكأنّ حكمَ الحجر قائم باقٍ في حق المبيع.
ومن أئمتنا من قال: إذا حل الأجل والعسر دائم، أعدنا الحجرَ، ليفسخ البائع.
وهذا بعيد غيرُ سديد.
4005- ومما يتصل ببيان هذه القاعدة أنا إذا كنّا لا نحكم بحلول الأجل؛ جرياً
على الصحيح، فلو لم يكن على المشتري إلا أثمانٌ مؤجلة، ولم يكن عليه دين حال، فلا يثبت لأصحاب الأثمان المؤجلة طلب الحجر عليه، وإن فرعنا على الوجه البعيد
في عزل المبيع للبائع بالثمن المؤجل؛ فإنَّ من لا يملك طلب الثمن كيف يملك طلب
الحجر؟ والتفريع على بقاء الأجل. وإن رأينا عزلَ المبيع وانتظارَ حلول الأجل، فسببه ألا يصرف المبيع إلى الديون الحالة، فيخيب البائع. وهذا واضح لا إشكال
فيه.
وما ذكرناه تمام الغرض في حكم فسخ البيع على الوجه الذي فرعنا عليه.
4006- فأما القول في المضاربة بالدين المؤجل، فقد قطع الأصحاب كافة بأن صاحب الدين المؤجل لا يعزل له مقدارُ دينه؛ فإن أصحاب الديون الحالة يختصون بالتضارب في الأموال العتيدة التي جرى الحجر فيها، واطرد عليها، والوجه الذي حكيناه في عزل المبيع سببه على بعده تشبيه المبيع بالمرهون. وهذا المعنى لا ينقدح في مؤجل لا متعلق له بعين.
4007- وكل ما ذكرناه تفريع على أن الأجل لا يَحِلّ، فأمّا إذا قلنا: بحلول الأجلِ، فأصحابُ الديون المؤجَّلة يضاربون أصحاب الديون الحالة. وهذه فائدة الحلول.
ولا يشك فقيه في أن من مات، وكانت عليه ديون حالة، وأخرى مؤجلة، ووقع الحكم بالحلول بسبب الموت، استوى في التضارب من كان دينه مؤجلاً، ومن كان دينه حالاً.
ولو كان في يد المفلس مبيع، وقد وقع الحكم بحلول الثمن، فالمذهب أن البائع يملك فسخ البيع بسبب حلول الثمن مع الحجر.
ومن أصحابنا من قال: وإن حكمنا بحلول الثمن، فلا يثبت حق الفسخ، والسَّبب فيه أن البيع مع الأجل مبناه على انقطاع حق البائع عن المبيع بالكلية، ولهذا لا يثبت للبائع حق حبس المبيع إذا كان الثمن مؤجلاً، فلا ينبغي أن يتغير البيع عن وضعه، وينقلب البائع إلى التعلق بالمبيع، وهذا ضعيف لا أصل له؛ فإن الثمن إذا كان حالاًّ، فحق الحبس يبطل بتسليم المبيع إلى المشتري طوعاً قبل استيفاء الثمن، ثم يعود تعلّق البائع بالمبيع بسبب طريان الفلس؛ فالوجه إذاً القطع بأنه يثبت للبائع حق الحبس إذا فرّعنا على اقتضاء الحجر حلولَ الثمن.
4008- وذكر بعض أصحابنا وجهاً بعيداً في التفريع على وجه الحلول، فقال: فائدة الحكم بالحلول ألا يخيب من كان حقه مؤجّلاً. وإذا كان كذلك، اكتفينا بأن نعزل حقَّ من كان دينه مؤجّلاً على ما يقتضي حسابُ التضارُب، ثم ننتظر حلول الأجل، فكأن الأجلَ باقٍ في حق المفلسِ، وإن سقط أثره في حقوق الغرماء، الذين هم أصحاب الديون الحالة.
وهذا مزيّف لا أعدُّه من المذهبِ، ولا يجب أن نعتقد جريان هذا الوجه الضعيف في حق الميت إذا حلت الديون عليه؛ فإنه ليس للانتظار وجهٌ في حقوق الورثة. وإنما ذكر الأصحاب هذا الوجهَ في حق المفلس الحي، وهو باطل حيث ذكروه.
4009- ومما يتعلق بتمام البيان في التفريع على حلول الديون في حق المفلس أنه إذا لم يكن على الإنسان دَيْنٌ حال، وإنما ديونه مؤجَّلة كلها، فهل يملك أصحابها المطالبةَ بالحجر حتى لا تضيع حقوقهم؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنهم يملكون ذلك؛ فإن ديونهم تحل بالحجر، فينبغي أن يملكوا طلبه.
والثاني: لا يملكون ذلك؛ فإن طلب الحجر يتبع طلب الدين، وليس ذلك ثابتاً لهم، فكيف يملكون الحجرَ وطلبَه، وهم لا يملكون طلبَ أصل الدّين، حتى إذا تعذر مطلوبُهم توصلوا إلى استدعاء الحجر، وهذا الوجه أصح وأقيس.
فرع:
4015- إذا قلنا: لا يحل الأجل بالحجر، فلو باع الإنسان شيئاًً بثمنٍ مؤجَّل، وحل الأجل، وحجر على المفلس، والمبيع قائم، فالمذهبُ أن البائع يملك فسخ البيع، طرداً للقياس في الباب.
وقال بعض أصحابنا: لا يملك الفسخ؛ لأن مبنى العقد على انقطاع علائق البائع عن المبيع بالكلية. وهذا غير سديد.
ولا خلاف أن أصحاب الديون المؤجَّلة إذا حلت حقوقُهم، ملكوا طلب الحجر، كما يملكه من كان أصل دينه حالاً.
فرع:
4011- إذا باع شيئاًً من عبدٍ بغير إذْن مولاه، وفرَّعنا على الوجه الضعيف في صحة البيع، فلو أراد البائع فسخَ البيع، قبل حلول الأجل، لم يملكه. قطع به الشيخ في الشرح.
وإذا حل الأجل، فأراد الفسخَ، فقد قطع أيضاًً بأنه لا يفسخ. وهذا محتمل أن يثبت له حق الفسخ، كما إذا كان الثمن حالاً، ولهذا قلنا: يثبت حقُّ الفسخ لمن كان الثمن في بيعه مؤجَّلاً، ثم يحل قبل الحجر، ثم يتفق الحجر.
وإذا فرعنا على أن الثمن لا يحل بالحجر، وجرينا على أنه لا يثبت للبائع حق الفسخ بأن يعزل المبيع له، وحكمنا بأن المبيع مستحق الصرف إلى الديون الحالة، فلو لم يتفق صرفُه إليها حتى حل الأجل في أثناء الأمر، فهل يثبت له الآن حق الفسخ؟ فيه احتمالٌ، وترددٌ، مترتب على ما مهدناه في نظائر ذلك.
فصل:
قال: "ولو جُني عليه عمداً... إلى آخره".
4012- مضمون الفصل ذِكْرُ الجناية على المفلس، وعلى عبده، وذكْرُ جناية المفلس وجناية عبده.
فأمَّا الجناية على المفلس، فإن كانت موجبة للقصاص، فله حق الاقتصاص، وليس
للغرماء أن يكلفوه العفوَ على مالٍ ليصرف إلى حقوقهم. وإن عَفا على مالٍ، صُرف إلى ديونه؛ تفريعاً على الأصح في أن ما يستفيده المفلس جديداً، فحكم الحجر جارٍ فيه.
وإن عفا المفلس على غير مال، فهذا يتفرع على أن موجب العمد ماذا؟ وسيأتي شرح هذا في كتاب الجراح، والفصلُ بين المفلس وبين المبذّر والسّفيه.
ولو كانت الجنايةُ موجبة للمال ابتداءً، فهو مصروف إلى الديون؛ جرياً على اطراد الحجر على المال المستحدث.
والجناية على عبد المفلس كالجناية على المفلس نفسه، فتنقسم إلى العمد وغيره.
وتفصيل القصاص والعفو عنه، كما سبقت الإشارة إليه، وإحالة الاستقصاء على كتاب الجراح.
4013- فأما إذا جنى المفلس، فلا يخفى تفصيل القصاص عليه. وإن جنى جناية موجَبُها المال، لم يشارك المجنيُّ عليه أصحابَ الديون في الأموال التي جرى الحجر فيها؛ فإن الأرش دينٌ جديد، وليس متعلقاً بمصلحة الحجر، فإن صدرت الجناية من عبد المفلس، فهو من جملة الأموال الموقوفة للغرماء، فلو أراد المفلس أن يفديه بعين من أعيان أمواله، فهذا تصرُّفٌ منه في أعيان الأموال، وقد سبق التفصيل في تصرفاته، فلا حاجة إلى إعادتها. والقاضي لو أراد الفداء، ورأى ذلك مصلحة وغبطة، نفذ ذلك منه. وحق المجني عليه إذا تعلق برقبة العبد مقدم على حقوق الغرماء، كما نُقدِّم حقَّ المجني عليه على حق المرتهن، إذا جنى العبد المرهون.
وهذا واضح. وليس كالجناية على المفلس نفسه. ووضوح ذلك يغني عن بسطه.
فصل:
قال: "وليس على المفلس أن يُؤاجر نفسه... إلى آخره".
4014- ليس على المديون عندنا، محجوراً كان، أو مطلقاً، أن يكتسب لأجل الدّين؛ وإن كان ممكناً منه. وقال أحمد: عليه ذلك، وزعم أن القاضي يؤاجر المفلسَ، ويصرف أجرته إلى نفسه. ومعتمدنا أن الرّب تعالى قال في كتابه {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] أوجب الإنظار، ولم يُلزم الاكتساب. وفي إيجاب الاكتساب لأجل النفقة كلامٌ، سيأتي في كتاب النفقة، إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: أليس روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم باع سُرَّقا في دينه، وحُمل ذلك على أنه آجره؛ فإن الحر لا يباع؟ قلنا: يحتمل أنه كان عبداً، فباعه في أرشٍ كان تعلق برقبتهِ.
4015- ولو كان للمفلس أم ولد، فهل يؤاجرها القاضي ليصرف أجرتها إلى الديون؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يفعل ذلك؛ فإن منافعها مالٌ، فلئن تعذر بيعها، فلا تعذر في صرف منافعها إلى الدين.
والثاني: لا يفعل ذلك؛ فإنّ المنافع ليست أموالاً عتيدة موجودة، ولو كانت بمثابة الأموال الموجودة، لوجب إجارةُ المفلس من نفسه.
واختلف الأئمة فيه أيضاً إذا كان على المفلس وقفٌ، وأمكن إجارته هل يجب ذلك، وصرفُ الأجرة إلى الديون؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه في أم الولد. ثم إن لم نوجب الإجارةَ، فلا كلام، وإن أوجبناها، فالوجه أن نوالي بين المُدد في الإجارة إلى الوفاء بالديون؛ فإن المنافع لا نهاية لها، وليست كالأموال العتيدة التي تعنى بالصرف إلى الديون.
فإذا كان كذلك، فيلزم من قياس هذا أن يدوم الحجر إلى أداء الديون من جهة الإجارة. وهذا فيه بُعد لا يخفى مُدركه على الفقيه.
فصل:
قال: "ويترك له من ماله ما لا غِنى به عنه... إلى آخره "
4016- الحاكم قبل تفرقة مال المفلس ينفق عليه، وعلى من تلزمه نفقته من زوجاته وأقاربه الذين يستحقون إنفاقه عليهم. فإن قيل: النفقة على المفلس بيّنة، فما سبب الإنفاق على غيره، والمال موقوفٌ بسبب الديون؟ قلنا: النفقة في ترتيب المعاملة مقدمة على أداء الديون في كل يوم، وأمواله بنفقاته أولى منه بديونه. والإشكال في نفقة الأقارب. وكان لا يمتنع أن يُلحق في حقوقهم بالفقير الذي لا مال له. ولكن أجمع الأصحاب على ما ذكرناه، فليثق الطالب بما نقلناه.
4017- ولو كان عليه دينٌ، وقد رهن به مالاً لا يملك غيره، لا ينفق عليه، ولا على أهله وأولاده منه؛ فإن المرهون خارجٌ عن حكم تصرفه إلى الفكاك، والأموالُ باقية على حق المحجور، ولكنه بالحجر محمولٌ على أن يبتدر إلى صرفها إلى ديونه، ثم القاضي يجري فيها على ما كان يجري المديون لو لم يكن محجوراً عليه.
وفي القلب من نفقة الأقارب مخالجةٌ ظاهرة، ولكن المذهب نقلٌ. ونحن لا نذكر وجهاً إلا عن نقل صريح، أو أخذٍ من رمز وفحوى في كلام الأصحاب، ولم أر فيما حكيته شيئاًً.
ثم لا شكَّ أن نفقته نفقةُ المعسرين.
4018- وإذا فضّ القاضي أموالَه على ديونه، فلا شكّ أنه يُبقي له نفقةَ اليوم الذي يتفق التفريق فيه، قال الأصحاب: يُبقي أيضاً نفقة زوجاته وأقاربه في ذلك اليوم، كما تقدم، ولا مزيد على نفقة ذلك اليوم؛ فإنه لا ضبط بعده يقف عنده.
4019- ثم قال: "يُبقي له دستَ ثوبٍ من ماله". والأمر على ما ذكره؛ فإنه لا سبيل إلى تركه عارياً، ولا خلاف أنا لا نكتفي بما يستر عورته، بل نرعَى ستراً لا يخرم مروءته، ويختلف ذلك باختلاف الدّرجات. فإن كان الرجل من العلماء، فقد قال كثير من الأئمة: يُبقي له دَسْتَ ثوب، ومن جملته طيلسان، وخُفّ. ولي في الخف والطيلسان نظرٌ؛ فإنهما معدودان وراء الاقتصاد، وليس في تركهما خرمٌ للمروءة، والمتبع أن لا تنخرم مروءته. ولا شك أنا لا نبقي له دستَ ثوب يليق بحاله في بسطته وثروته، ولكن ليكن ما نُبقيه لائقاً بحالته. وإن كان الرجل سوقياً نبُقي له دستَ ثوب يليق بحاله. وإن كان أتونياً، نبُقي له أطماراً لائقةً به. وإن كان في انبساطه تزيّدٌ في التجمل على ما يليق برتبته، فنرده في إفلاسه إلى ما يليق بمنزلته، ولا يُعتبر مجاوزتُه حدَّ الاعتدال اللائق بحاله. ولو كان في ثروته يلبس الخسيس من الثيابِ، وكان يُعدّ مقتراً على نفسه، فإن أفلس، رضينا له بما كان يرضى به في ثروته؛ فإنا لا نزيده في حالة الإفلاس على ما كان عليه قبله. نعم لا نقول بحطه عما كان يعتاده من الخسيس بسبب إفلاسه، كما قد نفعل ذلك في حق المقتصد.
فليفهم الناظر ذلك.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاث منجيات، وثلاث مهلكات، فالمنجيات القصدُ في الغنى والفقر، والعدل في الرضا والغضب»، وذكر الله تعالى على كل حال. والمهلكات شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه.
ويعطيه في الصيف ما يليق به، وإن اتفق تفريق ماله في الشتاء، أعطيناه ما يليق بالشتاء، ولا يجمع له بين كسوتي فصلين.
4020- ولو مات المفلس، بدَأْنا بكفنه، ومؤنة دفنه، وفي القدر الذي يكفن به خلافٌ، ذكرناه في كتاب الجنائز. ونحن نرمز إليه لغرضٍ لنا في فقه هذا الفصل.
قال أبو إسحاق المروزي: إذا مات المفلس، اكتفينا بستر عورته بخرقة، وهذا مأخوذ عليه، واختلف أصحابنا في تزييف هذا المذهب على وجهين:
أحدهما: أنه يكفن في ثوب واحد يواريه؛ فإن الغرض المواراة بالكفن، وقضاء دينه أهم من تكفينه في ثلاثة أثواب.
والوجه الثاني- أنه يكفن في ثلاثة أثواب إقامةً لشعار الدين في إكرام جثة المسلم.
والغرض ممّا ذكرناه أن الأصحاب فرقوا بين الكفن وبين ما نبقيه للمفلس من دست ثوب؛ إذ أجمعوا على أن الثوب الواحد لا يكتفى به في حق الحي، وفي الاكتفاء بالثوب الواحد الساتر الخلافُ الذي ذكرناه. والفرق أن الحي يراعَى فيه ما يُبقي عليه رتبتَه ومروءتَه، والميت وإن شُرع إكرامُه، فإلى البلى مصيره، فليعرف الناظر قصدَ الأصحاب في الفرق بين الباب والباب.
ولو مات عبده أو قريبه الذي يمونه، فالكفن من المال العتيد، كالنفقات الدارّة.
والقول في تكفين هؤلاء كالقول في تكفين المفلس نفسه.
4021- ولو ماتت زوجةُ المطلِّق الموسر، ففي وجوب تكفينها على الزوج وجهان مشهوران ذكرناهما. وإن كان الزوج مفلساً، ففي وجوب التكفين الخلافُ الذي ذكرناه، ولا معنى لتخيل الترتيب؛ فإن كل مؤنة لا يشترط فيها اليسار مُخْرجة من مال المفلس بسبب الذين يمونُهم المفلس.
4022- وممّا يتعلق بتمام البيان في الفصل أن المفلس لو كان مخدوماً، وكان أَلِف غلاماً يخدمه، فالمنصوص عليه أنه يباع في الدين، ونص في الكفارة على أن ذلك العبد غيرُ محسوب على من عليه الكفارة، ولا يلزمه صرفه إليها، واختلف أصحابنا، فمنهم من جعل في المسألتين قولين، نقلاً وتخريجاً. والمذهب تقرير النصين. والفرق من وجهين:
أحدهما: أن العتق في الكفارة حق الله تعالى، وحقوق الله تعالى مبناها على المسامحة، ومبنى حقوق الآدميين على الضيق.
والثاني: أن العتق له بدل في الكفارة ينتقل إليه، ولا بدل للدّين.
هذا قولنا في الخادم. ثم إن رأينا إبقاءه، فليكن قريبَ القيمة، لائقاً بأحوال المعسرين.
ولو لم يكن له خادم وكان ممن يُخدم، فهل نشتري له خادماً، كما نشتري له دستَ ثوب إن لم نصادفه؟ فعلى وجهين: والأصح أنا نشتريه إن فرّعنا على هذا الوجه الضعيف، فظاهر المذهب أنا لا نبقي له خادماً، بل نصرفه إلى الديون.
4023- فأما المسكن، فهو أحق من الخادم إذا كان لائقاً بالحال، ولم يكن رفيع القيمة، وإبقاءُ المسكن أولى من إبقاء الخادم، على كل حال، سيّما إذا كان الرجل ضعيفاً ذا عيلةٍ. وذِكْرُ الخلاف في إبقاء المسكن للمفلس أقربُ من ذكره في إبقاء الخادم، لما أشرنا إليه من الفرق بينهما في حكم الحاجة. وذكر الخلاف على طريق النقل في احتساب المسكن على من لزمته الكفارة المرتبة أبعدُ من تقدير النقل في الخادم.
4024- وإذا أردنا جمع مقتضى ما أشرنا إليه من الفرق بين الخادم والمسكن في حق المفلس، فالصيغة المشعرة بالمقصود أن نقول: في الخادم والمسكن في حق المفلس ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أنهما لا يبقيان له.
والثاني: أنهما يبقيان. والثالث: أنه يبقى المسكن دون الخادم. ومهما أبقينا له شيئاًً مما ذكرناه، اشترينا له إن لم نجده، كدأبنا في الثياب.
فصل:
قال: "وإن أقام شاهداً واحداً على رجل بحق ولم يحلف مع شاهده... إلى آخره".
4025- قد سبق منا تمهيد هذا الأصل، ولكنا نعيد تنبيهنا عليه للجريانِ على الترتيب، فالذي نص عليه الشافعي أن المفلس لو ادّعى ديناً على إنسان، وأقام شاهداً واحداً، وامتنع عن الحلف معه؛ فأراد الغرماء أن يحلفوا مع شاهده، لم يكن لهم ذلك.
وقال الشافعي: "لو أقام الوارث شاهداً واحداً على رجل بدين للميت، ولم يحلف معه، فأراد غرماء التركة أن يحلفوا، لم يكن لهم، كما ذكرناه في المفلس".
هذا نصه في الجديد. ونص في القديم على قولين في مسألة الوارث:
أحدهما: أن الغرماء يحلفون.
والثاني: أنهم لا يحلفون.
فمن أصحابنا من ذكر في غرماء المفلس قولاً بنقل الجواب عن غرماء التركة أنهم يحلفون إذا لم يحلف المفلس. والصحيح الفرقُ بين المسألتين، وقَطْعُ القول بأن غرماء المفلس لا يحلفون؛ فإن المفلس صاحبُ الواقعة، وقد ادّعى الدين لنفسه، فإذا امتنع عن اليمين من ادعى الحق لنفسه، بعُد تحليف غيره، والدين في مسألة الوارث يُدّعى للميت، فكان حَلِفُ الغريم أقربَ إذا فرض نكول الوارث.
4026- ومما يخرّج على ما ذكرناه أنه لو لم يُقم المفلسُ والوارث شاهداً، ولكنهما ادّعيا، فحلَّفنا المدعى عليه، فنكل عن اليمين، واقتضى الحال ردّ اليمين على المدعي، فنكل المدعي، فهل يحلف الغريم يمين الرد؟ ترتيب المذهب فيه كترتيب المذهب في اليمين مع الشاهد.
ولو ادعى الراهن أنه استولد الجارية المرهونة بإذن المرتهن، والتفريع على أن الاستيلاد لا يثبت دون إذنه، فإذا أنكر المرتهن الإذنَ وحلّفناه، فنكل، فإن حلف الراهن، ثبت ما يبغيه، وإن نكل، فأرادت الجارية أن تحلف، كان لها ذلك، نصَّ عليه في الجديدِ والقديمِ قاطعاً جوابه. والفرق بينها وبين الغريم في المفلس والوارث ظاهر، وذلك أنها صاحبة حق في تأكد حق الحرية لها، وهذا في حكم حق ثبت ناجزاً من غير تقدير توصل إليه، بخلاف الغريم؛ فإن الدين لو ثبت لم يكن حقاً له، ولكنه قد يصير إليه بطريقِ الصرف.
4027- وممّا يجب أن يُعتنى به أن الأصحاب وإن ذكروا خلافاً في حِلْف الغريم، قالوا: لو لم يدّع المفلس والوارث، لم يكن للغريم أن يدعي في المسألتين ابتداءً، وإنما التردد فيه إذا سبقت الدعوى من الوارث والمفلس، وأفضى الأمرُ إلى الحلف، كما ذكرناه.
وكان شيخي يصرح بنقل الخلاف في أن الغريم هل يبتدىء الدعوى؟ ويقول: الحلف تِلْوُ الدعوى، فمن ملكه، لم يمتنع أن يملك الدعوى. وهذا وإن كان قريباً في المعنى، فلم أره إلا له.
وقطع الأصحاب القول بأن الدعوى ممتنعة، وإنما ذكروا الخلاف في الحلف إذا سبقت الدعوى من المفلس والوارث.
والمستولدة إذا ادعت عُلقةَ الاستيلاد، والرّقُ بعدُ مستمر عليها نُظر، فإن ادعته والمولى يبغي بيعها، فحاولت دفعَ ذلك، فالوجه قبول دعواها. وإن كان المولى لا يتعرض لبيعها، ففي قبول دعواها على الابتداء، والمولى صامتٌ غير متعرض تردّدٌ ظاهر، واحتمال بيّنٌ، مأخوذ من فحوى كلام الأئمة.
4028- ومما يتعلق بتتمة الكلام في الفصل أن رجلاً لو ادّعى على المفلس ديناً، فإن أقر به، ففي قبول إقراره وردّه الخلافُ الذي تقدم ذكره في تصرفات المفلس. وإن أنكر، كان إنكاره مقبولاً على معنى أنه يبتدىء عليه تحليفه. فإن حلف، انقطعت الخصومة إذا لم تكن بيّنة، وإن نكل، فهل تردّ اليمين على المدعي؟ قال الأئمة: هذا يخرّج على أن يمين الرد بمنزلة البينة في الخصومة، أو بمنزلة إقرار المدعى عليه. فإن قلنا: إنها كالبينة، حلّفنا المدعي يمين الرد، وقضينا بثبوت الدعوى. وإن قلنا: إنها كالإقرار، ورأينا التفريع على ردّ إقرار المفلس، فلا تُثبت يمين الردِّ حقَّ المدعي حتى يثبت له مضاربةُ الغرماء.
وصورة يمين الرد تجري بلا خلاف. وإنما الكلام في تعلق حق المضاربة ناجزاً، فإنا وإن رددنا إقراره في حق الغرماء في الحالة الراهنة، لم نختلف في ثبوت موجَب إقراره في حق المفلس نفسه، حتى يطالَب به إذا انطلق الحجر عنه. وإذا كان كذلك، فإجراء صورة يمين الرد تخرج على ما مهدناه من ثبوت حكم إقراره على الجملة.
فرع:
4029- نص الشافعي على أن الرَّجل لو كان وَهَب شيئاًً في حالة الإطلاق، ثم أفلس وحجر عليه، فأثابه المتهب ما هو أكبر قيمةً من الموهوب، لم يلزمه القبول في حالة الحجر، وإن أثابه ما هو أقل قيمة من الموهوب، فله الرضا. وهذا يبتني على أصلٍ سنشرحه في الهبات، إن شاء الله تعالى.
والوجه في النص في الهبة المطلقة، والتفريعُ على أنها تقتضي الثواب. ثم إذا جرينا على هذا، ففي مقدار الثواب خلافٌ، وتفصيلٌ طويل، فإن قلنا: الهبة المطلقة تقتضي المثلَ في الثواب من جهة المالية والقيمة، فلا يجوز أن يرضى المفلس بما هو أقل من ذلك؛ فإن المثل عِوض مستحق. نعم، لا يلزمه قبول الزائد على مقدار المثل.
وإن قلنا: للمتهب أن يثيب بما شاء، وإن قل وانتقصَ عن المثل، فعلى هذا يخرّج نص الشافعي " فإن زاد الثوابُ على المثل، لم يلزمه القبول "؛ فإن الزيادة غير مستحقة، وليس على المفلس قبول الهبات والتبرعات. وإن كان الذي بذله أقلَّ من المثل؛ فإنه يقبله؛ إذ لا يجب على المتهب غيرُه، والرجوع فيما نثُبته ونَنْفيه إلى أصلين أحدهما أنه لا يجب على المفلس قبول التبرع، وليس له أن يُسقط مستحقاً.