فصل: فصل: يحوي مسائل من الصُّلح مع الإقرار، والمدَّعَى المَقَرُّ به دينٌ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: يحوي مسائل من الصُّلح مع الإقرار، والمدَّعَى المَقَرُّ به دينٌ:

4124- فلو استحق الرجل ألف درهم مؤجّلاً، وصالح على ألف حالٍّ، فهذا إسقاط الأجل عن الدين. ولا يسقط الأجل عن الدين. نعم، لو عجَّل من عليه الدينُ المُؤجَّلُ الدينَ، وقبله مستحق الدين، وقع الموقع. وإنّما الذي ذكرناه في أن هذا الصلح لفظٌ لا يوجب سقوط الأجل.
ولو كان الألفُ حالاًّ، فقال صالحتُ على ألفٍ مؤجَّل، فهذا ليس بشيء، وهو على الحقيقة إلحاق الأجل بالدين، والأجل لا يلتحق بالدين.
فلو صالح من ألفٍ مؤجَّل على خمسمائة حالّ، لم يجز، لأنه طلب الحلول، ورأى المقدار الذي ذكره حالاًّ أولى عنده من الألف المؤجّل، فكان ذلك على حقيقة المعاوضة. ومقابلةُ الألف بالخمسمائة باطل.
ولو قال: صالحت من ألفٍ حالٍّ على خمسمائة مؤجلة، فمعنى الكلام الإبراء عن خمسمائة، وإلحاق الأجل بالخمسمائة الباقية. وليس في هذا الكلام معنى المعاوضة، وطلب مقصود يُطلب بالمعاوضة، فالوجْه أن نقول: الإبراء صحيح عن خمسمائةٍ، وخمسمائة ثابتةٌ على حلولها، وذِكْره الأجلَ وعدٌ بالتأخير، فلا يلزمه الوفاء بهِ.
4125- ولو صالحهُ من ألف صحاحٍ على ألفٍ مُكسّرة، فهذا وعد جميل، من جهة صاحب الحق، لا يجبُ الوفاء به. نعم، لو قبض المكسر مسامحاً، وقع الموقع.
ولو صالح من ألف مُكسَّرٍ على خمسمائة صحاحٍ، لم يصح الإبراء عن شيء؛ فإن ذلك صيغة المعاوضة؛ إذ الصحة صفة مقصودة في الخمسمائة، فكأنه قابل الألفَ المكسّرَ بالخمسمائة الصحاح، فيبطل العقد لا محالة.
ولو صالح من ألفٍ صحاح على خمسمائة مكسرة، فليس في هذا ثبوت المعاوضة، فالوجه تصحيح الإبراء في الخمسمائة، والخمسمائة الباقية على صحتها، وذكر المكسرة وعد جميل منه.
ولو استحق على رجلٍ ألفَ درهم وخمسين ديناراً، فصالحه منها على ألفي درهم، فقد قال معظم الأصحاب: يجوز، ونجعله في أحد الألفين مستوفياً الألف الذي له، والثاني في مقابلة الدنانير، وهذا متجه حسن.
قال القاضي: الصحيح عندي فساد هذه المعاملة، وحمل الأمر على بيع ألف درهم وخمسين ديناراً، بألفي درهم.
والأوجهُ عندي ما ذكر الأصحاب؛ فإن الألف في مقابلة الألف استيفاءً، ولا يجوز تقدير البيع فيه، ولو قال مستحق الألف: بعتك الألف الذي عليك بهذا الألف الحاضر، فالذي جاء به لي بيعاً، وإنما هو استيفاء. وإذا اتضح ذلك، فالوجه حمل أحد الألفين على استيفاء الألف الذي كان ديناً، فتتجرد المعاوضة في الألف الأخير والدنانير، وذاك لا امتناع فيه.

.فصل:يحوي مسائل مقصودة في المذهب أَلزمَها أصحابُ أبي حنيفة في تصحيح صلح الإنكار منها:

4126- أن الرجل إذا طلق إحدى امرأتيه لا بعينها، ومات قبل التعيين، نوقف بينهما ميراثَ زوجة، فإن اصطلحتا على اقتسام الموقوف نصفين، أو على نسبةٍ، فقد أجاز الأصحابُ ذلك، فاستمسك أصحابُ أبي حنيفة بالمسألة، وقالوا: هما متناكرتان: كل واحدة تدعي أنها زوجته، وأن صاحبتها محرومة، فالذي جرى من الصلح صلح مع تقرير الإصرار على التناكر.
وهذا الذي ذكروه في الإلزام باطلٌ، واقتسام على التراضي صحيح. وما ذكروه من التناكر لا حقيقة له؛ فإنهما لو أنصفتا، لاعترفتا بالإشكال؛ إذ ليست إحداهما مختصة بنوع من البيان دون صاحبتها، فليس بينهما تناكر.
ولو فرضنا تناكراً، فلا محمل له إلا أن تدعي كل واحدة أنها اطلعت على بيانٍ في أنها الزوجة. فإن كان كذلك، فالصلح مع الإنكار على نعت الحطيطة. وقد ذكرنا أن صلح الحطيطة هل يحمل على الهبة أم لا؟ وفيه الخلاف المقدّم. وإن اعترفتا بالإشكال، فالقسمة على التراضي صحيحة.
فإن قيل: كيف صححتم المعاملة مع الجهل؟ قلنا: إذا انحسم البيان، وتعذر وقف المال إلى غير نهايةٍ، فالشرع يحتمل الجهالةَ في مثل هذه الصورة، ولا وجه إلا احتمالها.
4127- ولو صالحت إحداهما الأخرى على عينٍ أخرى سوى الموقوف بينهما، فقد قال الأصحابُ هذا باطل، مع الاعتراف بالإشكال، فإنه استبدال مالٍ هو ملك من يبذل، في مقابلة ما لا يعلم كونه ملكاً له. وليس كما لو اقتسما ذلك الموقوف؛ فإن كل واحدة تقول: إن كنت أنا الزوج، فالحاصل في يدي ملكٌ لي، والباقي أيضاًً ملكٌ لي، وإن لم أكن زوجة، فالحاصل في يدي موهوب مني من صاحبتي، وهذا لا يمكن اعتقاده، وقد بُذل عوضٌ آخر سوى الموقوف.
4128- ومما أَلزَموه ما إذا أسلم الرجل عن أكثر من أربع نسوة: فكنَّ خمساً، أو ستاً، ومات الزوج قبل البيان. فإنا نقف بينهن ميراثَ زوجة. ثم الكلام في الاصطلاح على حسب ما ذكرنا إلزاماً وجواباً.
4129- ولو ادعى رجلان داراً في يد إنسان، كل واحد يدعي تمامها لنفسه، فقال المدعى عليه: الدار لأحدكما، ولم يبيّن، ومات، وعسر تلقي البيان منه، فلو اصطلحا، واقتسما الدار، صح. وهذا فيه فضلُ نظر؛ فإنهما ما بنيا الأمرَ على الاعتراف بالإشكالِ، بل كل واحد ادعى الانفراد بالملك في جميع الدار، فكان هذا نظيراً لما إذا ادّعت المرأتان-وقد وقعت طلقةٌ مبهمةٌ بينهما- العلمَ بحقيقة الحال، فكانت كل واحدة تدعي: إني معينةٌ للزوجية. وقد ذكرنا أن الصلح في هذه الصورة، صلحُ حطيطة على الإنكار، فالقول في المدعيين يحل هذا المحل.
فصل:
قال: "فإن صالح رجل أخاه من موروثه... إلى آخره".
4130- إذا صالح واحد من الورثة الباقين عن حصةٍ من التركة، وهي أعيان، فهذا منه بيعُ حصّته بعوض، فحكمُه حكمُ البيع في كل معنىً، فقد يدخل فيه أحكام الصَّرف، وتفريق الصفقة، والقطع بالبُطلان في المجهول، والعبد الآبق.
ولا حاجة إلى البيان في الواضحات.
4131- ولو كانت التركة بين اثنين مثلاً، وكانت عشرةَ دنانير، وأقمشةً، فصالح أحدهما صاحبَه على عشرة، نقل القاضي عن الأصحاب جوازَ ذلك، وحكى عنهم أن ذلك استيفاءُ حصته من الدنانير، واعتياضٌ فيما زاد على حصته من الدنانير عن حصته من الأقمشة.
ثم قال القاضي: والذي عندي أنه لا يجوز، فإنه مقابلة دنانير بدنانير.
وهذا الذي ذكروه كلام مختلط. والوجهُ أن يقال: إن أحضر الدنانير سوى دنانير التركة، فالبيع باطل قطعاً، ولا يجوز تقدير خلافٍ في هذه الصُّورة من الأصحاب. وإن سُلمت الدنانيرُ التي في التركة إلى أحد الوارثَيْن، واكتفى بها، فالوجه القطع بجوازها؛ فإنه يكون مستوفياً لحقه من العشرة، وأخذ باقي العشرة عوضاً عن حصته من الأقمشة، لا وجه غيرُ هذا.
والذي قدمناه منه إذا كان على رجل ألفُ درهم دَيْناً وخمسون ديناراً وبذل ألفي درهم عما عليه، فتقديرُ المنع من هذه الصورة فيه إخالة على البعدِ؛ من جهة أن الألفين المنقودين عينٌ، والذي في ذمة باذلهما دينٌ، أمّا العشرة هاهنا إذا قبضها، فقَدْرُ حقه يقع استيفاءً، فتجرد باقي العشرة في مقابلة الأقمشة.
فصل:
قال: "ولو أشرع جناحاً على طريقٍ نافذةٍ... إلى آخره".
4132- إشراع الجناح والساباط فيه مسائل:
إحداها- أن يُشرِعَه في ملك الغير من غير إذنه، فهو ممتنع منقوضٌ على المُشْرع؛ فإن هواء الملك حق المالك، ولو أراد المصالحة عن ذلك الهواء بمالٍ يبذله، لم يجز ذلك؛ فإن العِوض مالٌ، فلا يجوز بذلُه إلا في مقابلة مال.
4133- والثانية- أن يُشرع في الشارع، وهو المسلكُ النافذ الذي يشترك فيه الطارقون، فالمرعي في المنع والجواز تضرر السالكين، وانتفاء ذلك، فإن كانوا يتضررون، امتنع الإشراع، وإن كانوا لا يتضررون لا يمتنع، ولا يتوقف على أمر مَنْ إليه الأمر، ولا مخاصمة لآحاد الناس فيه عندنا. وأبو حنيفة يعتبر في المنع مخاصمةَ من يخاصم من آحاد المسملين.
فإذا ثبت أن أصل الضرر هو المعتبر عندنا، فلا يخصص الضرر بالمشاة المارين، بل لو كان يتضرَّرُ الركبان بالجناح المشرَع، مُنع، حتى قال الأصحاب: ينبغي أن يكون الجناح بحيث لا يصطك به كنيسة على بعير، ولا نظر إلى أن هذا قد يندر؛ فإنه لا ضبط لأحوال المارة، واطراد الرفاق مع الحمولات، والكنائس، وغيرها، وقد يتفق ذلك ليلاً ونهاراً، فالوجه اعتبار الأقصى في الباب.
وحكى العراقيون وغيرهم عن بعض الأصحاب أن الجناح ينبغي أن يكون بحيث لا يناله رأسُ رمحٍ منصوب من رَاكب، وهذا عزاه العراقيون إلى أبي عبيد بن حَرْبُوَيْه، ثم زيف الأصحاب ذلك، وفيه زحف، وعدُّوه سرفاً في تصوير الصور؛ فإن إضجاع الرمح يسيرٌ غيرُ عسير، فينبغي أن يكون ضبط الضرر بما يتعسر تغييره على الطارقين، لمكان الأجنحة، كالكنائس، والحمولات.
4134- وممَّا يتعلق بأحكام الشوارع في الفن الذي نحن فيه: أن طائفة من أصحابنا قالوا: لو بنى الإنسان دَكَّةً على باب داره، أو غرس أشجاراً، فإن كان يتضرر به المارة، مُنع منه، وإن كان لا يتضرر به المارة، فلا منع. ثم قال هؤلاء: لا يختص بناء الدَّكة، وغرسُ الأشجار بفِناء الملك، بل لو تباعد عن داره، وبنى دَكة بقرب دار الغير، أو غرس أشجاراً لا يتضرر بها المارة، فلا يمتنع منه. هذا مسلكٌ لبعض أصحابنا، وإليه ميل القاضي فيما نقل الأثبات عنه.
وكان شيخي يقول: لا يسوغ غرس الأشجار في الشوارع؛ فإن مكانه مستحق للطروق، وفي شغله بالغراس منعٌ للطريق.
والدَّكةُ المرتفعة في معنى الغراس، ولا نظر إلى اتساع الطريق وتضايقها، مع ما حققناه؛ فإن الرفاق قد تصطدم، وقد يفرض طروقُ عسكرٍ، أو أسرابٍ من البهائم. والذين ذكروا في الأجنحة توقع اصطكاك الحمولات والكنائس، لم يفصلوا بين اتساع الطرق وتضايقها.
ومن أشخص دكاناً أو غرس أشجاراً، فقد جمع بين شغل بقعةٍ من الشارع، وبين شغل هواء الشارع، فكان البناء والغراس أولى بالمنع، من الجناح المختص بشغل الهواء.
وإنما لم ينظر المحققون إلى اتساع الطرق؛ من جهة أن الرفاق قد تطرق ليلاً، ويعسر عليها مراقبةُ الأجنحة، وهذا يتحقق في الغراس والدَّكة.
4135- والذي يتحتم على من يسوّغ بناء الدَّكة وإثبات الغراس أن يفصل في الجناح بين اتساع الطريق وضيقها، وهذا لم نذكره إلزاماً، وإنما هو قولٌ لابد منه في التفريع على هذا الوجه.
وفي البناء والغراس مزيدُ أمرٍ، وهو أنه قد يلتبس على طول الزمان محلُّ البناء والغراس بالأملاك، وينقطع أثر استحقاق الطروق، وقد لا يتحقق ذلك في الأجنحة، ولا يتحقق شفاء الغليل في هذا الفصل إلا بذكر ماهية الشرع في أصل الوضع، وسنصف ذلك في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى.
وقد نجز القول في إشراع في ملك الغير، وفي الشارع المشترك بين الكافة.
4136- ونحن نذكر الآن التفصيل في إشراع الأجنحة في السكة المنسدةِ
الأسفل، فإذا أراد واحدٌ من أهل السكة أن يشرع جناحاً، فاشتغل به هواء السكة، فقد قال الأصحاب: إن الذين دون أسفل من موضع الجناح إلى أسفل السّكة لهم المنعُ من البناء، والنقضُ بعدَه؛ فإنهم في محاولة النفوذ من رأس السكة يطرقون ما يسامت الجناح من عَرْصة السّكة، فأمّا الذين دارهم أعلى من مكان الجناح، فقد اختلف أصحابنا فيهم: فذهب ذاهبُون إلى أنهم لا يعترضون؛ فإنّهم في النفوذ من السكة لا يطرقون مكان الجناح، فلا اعتراض.
وقال آخرون: لهم الاعتراض؛ فإن السكة في حكم عرصة مشتركة بين سُكَّان السّكة، فيثبت حق الاعتراض للجميع، ولمن تعلو داره حقُّ الاعتراض في جميع السّكة. وغاية هذا الفصل تتبين بذكرنا حقيقة المذهبِ في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى.
ولو صالح أهل السّكة مُشرع الجناح، لم يجز، لما قدمناه من امتناع المصالحة على الهواء المجرّد. فهذا الذي ذكرناه الطريقةُ المشهورة للأصحاب، وفاقاً وخلافاً.
4137- وقال العراقيون يجوز إشراع الجناح في السكة المنسدة، حيث يجوز إشراعُها في الشوارع، وإنما قال العراقيون ذلك فيمن له بابٌ نافذ في السكة، فأما من لا ممر له، وإنّما جداره على السّكة، فليس له أن يُشرع الجناحَ في السكة المنسدة.
وهذا نقلته من طرق معتمدة لهم على ثَبَت. فالمرعي عند هؤلاء الضرر وانتفاؤه، كما تقدّم في الشارع العام، وهذا لا تعرفه المراوزة أصلاً، ولعل العراقيين لم يثبتوا في عرصة السكة حقيقةَ الملك لأهل السكة، وإنما أثبتوا فيها حق الطروق، ولكنه مختص بسكان السكة. والطروقُ في الشارع العام لا اختصاص فيه.
4138- وممَّا يتعلق بهذه التصرفات فتح الأبواب و الكَوَّاتِ والمنافذ، فأمّا فتح الأبواب في الشوارع العامة، فلا منع منه؛ فإن الذي يفتحها يتصرف في جدار نفسه بالرفع، وذلك إليه، وإذا رفع مقداراً منه، استحال منعُه. ثم حق الطروق بعد الفتح ثابت؛ فإنه حقٌ عام للناس كافة.
فأما فتح باب جديد في السكة المنسدة، ففيه تردد يستدعي مزيد تثبت.
قال بعض المحققين: لو أراد من له باب في السكة المنسدة أن يفتح باباً آخر في
السكة على جداره المملوك، نُظر، فإن كان يفتحه دون باب دارِه، فللذين دورهم
أسفل المنعُ، وهل للذين دورهم أعلى من داره المنع؟ فعلى الوجهين المذكورين في الجناح. وإن كان يفتح الباب الجديد فوق بابه المعهود، فليس للذين دورهم أسفل المنعُ أصْلاً، وهل للذين دورهم أعلى من ذلك الباب المفتوح أو هم في مقابلة ذلك الباب المنع؟ فعلى وجهين. أما ذكر الوجهين في الذين بابهم أعلى من الباب المفتوح، فهو على القياس المقدّم في الجناح، وليس تفصيلاً محدثاً، وأمَّا القطع بأن الذين هم أسفل من بابه المعهود لا يعترضون وجهاًً واحداً، فهذا إحداث حكم لم نذكره في الجناح.
وكان شيخي يذكر في الذين هم أسفل وجهين إذا كان الفتح أعلى من الباب المعهود، كما ذكرنا وجهين في الذين هم فوق الجناح المشروع، ويقول: من أصحابنا من لا يخصص المنعَ ببعض السكان دون بعض، طرداً للقياس.
ثم الذي يتخيل في المنع من إحداثِ باب جديد ازدحامُ الناس عليه، أو وقوف
دابةٍ بالقربِ منه، وهذا في حق الأعلى والأسفل على وتيرة. فهذا ما قيل فيه.
4139- ووراء ذلك فكر لابد من الإحاطة به، وهو أنه إن سد الباب القديم، وأحدث فوقه باباً مما يلي الدرب، فلا يتجه أصلاً حق المنع لمن هو أسفل، ولا لمن هو أعلى.
وإن فتح باباً جديداً، ولم يسد الباب القديم، فقد يتجه حق المنع للمتسفلين، فإن هذا إحداث فتحٍ، وهو مظنة الشغل مع استدامة الأول، فالذين هم أعلى، فالأمر فيهم على التردد كما ذكرناه في السَّابَاطِ، والظاهر أن الذي يقابل الفتح الجديد يثبت له حق الاعتراض؛ لأن الضرر الذي أومأنا إليه يناله، وهذا مما يجب القطع به.
ولو كان الباب المقابل بين بابي هذا الفاتح القديم والحديث، فلا وجه إلا القطعُ بثبوت الاعتراض؛ فإن ممرّه على الباب المستحدث، وليس بابُه أسفل من الباب القديم؛ حتى يقال: هذا البابُ الحديث في معنى البابِ القديم، بل هو في حقه إحداث ممرٍّ لم يكن له. والسر في هذا مبيَّنٌ في آخر الفصل.
4140- والذي نذكره الآن نقل مقالاتِ الأصحاب، مع التحقيق الذي يليق به:
فأمّا فتحُ الكوّاتِ والمنافذ لجلب الضوء من غير إشراعٍ في الهواء، فلا منع منه أصلاً.
ولو فتح باباً جديداً وزعم: إني أريد الاستضاءة، ولست أطرق منه، وطلب أن يقيمه مقام كوة يفتحها، فقد اضطرب أصحابنا في ذلك: فمنهم من قال: لا سبيل إلى منعه، وكذلك لو أراد رفع جميع جدارِه، لم يمنع.
ومنهم من قال: يمنع؛ فإن الباب شاهد على حق المرور من محل الفتح، فليمنع من هذا، وليس كالفتحة العالية، التي لا يتوقع النفوذ منها.
4141- ولو كان للإنسان دار بابُها لافظٌ في سكة منسدة، وكانت تلي الشارع، ففتح لها باباً في الشارع، جاز ذلك. ولو كان بابُها لافظاً في الشارع، وكان جدارٌ منها يلي سكة منسدةَ الأسفل، لم يجز له أن يفتح باباً في تلك السكة إلا برضا أهلها، فإذا رضُوا، كان ذلك إعارةً منهم للمرور من السّكة، ومهما أرادوا الرجوع، رجعوا في العارية، ولا يلتزمون إذا رجعوا شيئاً، بخلاف ما إذا أعار مالك الأرض ممّن بنى عليها؛ فإن الرجوع وإن كان جائزاً، فقلْع البناء مجاناً لا يجوز، على ما سيأتي مشروحاً، إن شاء الله تعالى.
4142- ولو كانت له داران بابُ أحدهما لافظٌ في الشارع، وبابُ الثانية نافذٌ في سكة غيرِ نافذة، فأراد أن يفتح باباً من إحدى الدارين في الأخرى، ليصيرا واحدة، فهل لأهل السكة المنعُ؟ فعلى وجهين: أقيسهما- أنه لا يُمنع؛ لأن حق الاستطراق في السكة مُستحق له، ومنعه من فتح ملكه في ملكه لا وجه له.
ومن أصحابنا من جوز لأهل السكة المنسدة أن يمنعوه، والسَّبب فيه عند هؤلاء أنه أثبت للدَّار التي تلي الشارع ممراً في هذه السّكة لم يكن، وربما يسد باب الشارع، فيرجع الممرُّ من تلك الدّار إلى هذه السّكةِ.
4143- ولو كانت له داران بينهما جدارٌ، وباب أحدهما لافظٌ في سكةٍ، وبابُ الثانية نافذٌ في أخرى، والسّكتان منسدتان، فأراد فتحَ بابٍ بين الدّارين، فهل لأهل السّكتين المنعُ؟ فعلى الوجهين المتقدمين.
فهذا منتهى القول في المسائل التي ذكرها الأصحابُ في هذا الصنف.
4144- ونحن نختم الفصلَ الآن بتحقيق القول في أصل الشارع العام، ثم نذكرُ الآن حقيقةَ القول في السكة المنسدة.
أما الشارع فالذي نبتدىء به: أنا إذا ألفينا جادَّة معبّدةً، ومسلكاً مشروعاً نافذاً، تبينا حكمَ استحقاق الاستطراق بظاهر الحال، ولم نلتفت إلى المبدأ الذي عليه ابتنى مصير تلك البقعة شارعاً، وهذا لا خفاء به. ثم حكم الشارع ما قدمناه في مسائل الفصل.
وفيه أحكام تتعلق بالمقاعد في الأسواق، يحويها بابٌ من كتاب إحياء الموات.
وغرضنا وراء ذلك أن من جعل ملكاً من الأملاك شارعاً، وصرفه إلى هذه الجهة، صار الملك سبيلاً مسبَّلاً على السابلةِ، وكان ذلك جهةً في ثبوت الشارع.
4145- ولو أحيا جماعةٌ قريةً أو بلدة، وملكوا البقاع بطرق الإحياء، وفتحوا أبواب المساكن إلى صوب، وتركوا مسلكاً بين دورهم، ومساكنهم، وبساتينهم، نافذاً، فتصير تلك البقعة شارعاً؛ فإنهم لا يستغنون عن النفوذِ في مساكنهم إلى البقاع، وكذلك يحتاجون إلى نفوذ الناس إليهم.
وهذا من لطيف ما يتعين تأمله، فالموات لا ينتقل عن حُكمِ الإباحة من غير ظهور آثار حكم الإحياء فيه، وفي الآثار تفاصيل ستأتي في كتابها، إن شاء الله تعالى.
والشارع قد لا يحتاج فيه إلى إثباتِ أثر، ولكن احتفافَ الدور واصطفافَها، على شقي بقعةٍ من الموات، مع تهيئة المنافذ إليها يهيئها، وينزل منزلة التأثير في المواتِ باتخاذها مزارعَ، أو زرائبَ، أو دوراً، ولا حاجة في ذلك إلى لفظٍ ونطقٍ، ولا حاجة إلى تقدمٍ في المواتِ، ثم ردّه إلى جهة الاستطراق، وليس الشارع من حقوق الأملاك؛ فإن الناس فيه شَرَعٌ. فلم يلتحق بالحقوق المختصة كالدِّمَن، ومطارح التراب، وغيرها؛ فإذاً اتجه مصير المواتِ شارعاً بجهتين: إحداهما- صرفُ الملك إليه.
والثاني: ما ذكرناه من تشكيل الأملاك على شكلٍ، يقتضي مصيرَ المواتِ شارعاً.
4146- وكل موات في علم الله تعالى- فهو شارعٌ للخلق، على أنه لا منع من الاستطراق، ولكن لا يمتنع إحياؤه، حتى لو لم يفرض ما قدمناه من تهيئة الشوارع.
وكان بعض الناس يطرقون الموات، فلا يُمنع إحياؤه، والتحويطُ عليه، وصرفُ الممرّ منه.
وكان شيخي يقول: "هذا إذا لم يصر موضعٌ من المواضع جادَّةً مَتْناً، يطرقها الرفاق، فإن ظهرت جادةٌ موصوفة بهذه الصفة، وإن لم تحتفّ بها أملاكٌ ذاتُ منافذ، فلا يجوز تغييره، وصرفُ الممر عنه". فإن كان هذا يُعدّ إحياءً، فهو بدع لا نظير له، إذ ليس يُدرى فيه مبتدىء عن قصدٍ، وممهِّدٌ، ولا يتعين فيه قصدُ قاصد، ولكن إذا أُلفي، أُقرّ. فليفصل الفاصل بين الممر المعروف وبين مسلك التعاسيف. وكان يتردد في بُنيّات الطرق إذا لم تكن جادة، وكانت مسالك يعرفها الخواص في كل بقعة.
فهذا منتهى القول في الشارع العام.
4147- فأمّا السّكة المنسدة، فلا شك في اختصاص عَرصتها لأصحاب الدور التي لها أبواب إليها، ولو أراد أهلها أن يسدوا الدرب، حتى لا يدخلها داخل، كان لهم ذلك. وجواز دخول السّكة المنسدة إذا صودفت أبوابُها مفتّحةً، من قبيل الإباحاتِ المستفادة من قرائن الأحوالِ، على ما سيأتي تفصيل أصنافها، ومواضعها، إن شاء الله تعالى.
فأطلق الأئمةُ أقوالهم بأن عَرْصة السكة مملوكةٌ لأهلها، ولم يختلفوا في أنهم لو أرادوا أن يلحقوها بعَرصاتِ دورهم، ويوسِّعوا بها رِباعَهم، كان لهم ذلك. وكذلك لو رجعت الدور ملكاً لواحد، فله رفع السّكة وردها إلى رقعة الدور، ثم يفتح باباً أو أبواباً إلى الشارع العام.
وقال المشايخ: لو أراد من يسكن في أسفل السكة أن يُدخلوا ذلك القدر من السّكة في أملاكهم، فهل للذين يسكنون أعلى السكة حق الاعتراض؟ فعلى الوجهين المذكورين في الأجنحة وما في معانيها.
فتحصّل من كلام المشايخ أن السكة المنسدة مملوكة. وكان شيخي يطلق القولَ بجواز بيعها، وطريق تملكها على الاختصاص كطريق ثبوت الشارع العام، غير أنها أثبتت على هيئة الاختصاص، فمُلِّكت كذلك.
وقد نجز المقصود من تفصيل الفصل أولاً، وتأصيله آخراً.
فصل:
قال: "ولو أن رجلين ادعيا داراً في يد رجل، فقالا: ورثناها من أبينا... إلى آخره".
4148- إذا ادّعى رجلان داراً في يد رجل. وقالا: ورثناها من أبينا، ولم يذكرا أنهما قبضا تلك الدار، فإذا أقر المدعى عليه لأحدهما بنصف الدّار، فقد نصَّ الشافعي رضي الله عنه على أن ذلك النصف مشترك بين المدعيين، فإنهما ادعيا من جهة الإرث، وحكم الإرث الشيوع، فإذا تخلص بسبب الإقرار نصفُ الدار عن يد المدعى عليه، فهو ميراث أبيهما بينهما بزعمهما.
ولو قالا: ورثناها، وكانت في أيدينا، فغصبها منا، فإذا أقر المدعى عليه لأحدهما بنصف الدار، فقد اختلف أصحابنا فيه: فذهب الأكثرون إلى أن ذلك النصف مشترك بين المدعيين في هذه الصورة، كما ذكرناه في الصورة المتقدمة، ولا أثر لادعاء تقدم اليد، ونسبةِ المدعى عليه إلى الغصب.
وذكر صاحب التقريب والعراقيون، وجهاًً آخر أنه يختص بالنصف المقَرّ له، ولا يشاركه صاحبه؛ فإن الغصب الذي ادعياه، يُشعر بنوع اختصاصٍ، كأنّ كلَّ واحد منهما ادّعى أنه غُصب منه النصف، ومن صاحبه النصف الآخر، فإذا سلم لأحدهما نِسْبته إلى نفسه، لم يشارَك فيه. وهذا بعيد؛ فإن دعوى الغصب لا تقدحُ في شيوع الإرث، ولا تتضمن اختصاصاً معقولاً.
هذا قولُنا إذا ادعيا الإرث.
4149- فلو ادّعيا الدار عن جهتين، فقال أحدهما: النصف لي اشتريتُه منك، وقال الآخر: النصف لي وهبتنيه، فإذا أقر لأحدهما بنصف الدار مُطلقاً، ولم يتعرض لتصديقه في الجهة التي ذكرناها، فالنصف الذي يثبت له بالإقرار، لا يشاركه فيه الآخر وفاقاً؛ فإن السبب متميز عن السَّبب، ولا يمتنع ثبوت أحدهما دون الآخر، ويمتنع ثبوتُ الإرث لأحد الاثنين دون الثاني.
هذا إذا نسبا دعوتيهما إلى جهتين مختلفتين.
4150- فأمَّا إذا نسباهما إلى جهةٍ واحدة، غيرِ الإرث: مثل أن يقولا: الدارُ لنا، اشتريناها، أو اتهبناها، فأقر المدعى عليه لأحدهما بالملك المطلق في النصف، فقد اختلف جوابُ أئمتنا: فقال بعضهم: هذا النصف مشترك بينهما كما لو ادّعياه إرثاً، وهو اختيار القاضي، وجماعة من المحققين.
وذهب بعضهم إلى أنه يختص بالنصف المقَر له به، بخلاف جهة الإرث. وقد ذكره شيخي، والصيدلاني، وبعض المصنفين.
ووجهه في القياس أن الشراء يتميز عن الشراء، وإن جمعهما اسم واحد، فكان الشراء في حقهما كجهتين. وقد جلبتا الوفاق. والذي يحقق ذلك أنّه لو جرى شراؤهما في النصفين بدفعتين، وقعت الدعوى منهما كذلك، ولا يجوز أن يتخيل خلافٌ في هذه الصورة، بل الوجه القطع بأنه إذا أقر لأحدهما، لم يشاركه الآخر؛ فإن الشراء متميز عن الشراء تميُّز الشراء عن الهبة، والتميز هو المعتبر، لا صورة الاختلاف والتماثُل.
وإذا ثبت هذا فشراء رجلين في صفقة من رجل في ظاهر مذهبنا محمول على تفريق الصفقة وتعددها، وإذا ثبت ما ذكرناه، ترتب عليه أنهما إذا ادّعيا أنهما اشتريا معاً، فالأمر على الخلاف الذي ذكرناه، وإن ادّعى كل واحدٍ منهما انفراده بالعقد، في النصف الذي يدعيه، فلا مشاركة، إذا فرض إقرار لأحدهما.
وإذا ادّعيَا الشراء مطلقاًً، فهو متردد بين تعدد الشراء واتحاده، فإذا أقر لأحدهما روجع، فإن ادعى الانفراد بالشراء، انفرد بالمقر به. وإن ادعى وقوع الشراء معاً، فهو على الخلاف.
4151- ثم قال الشافعي إذا ادّعيا الدّار عن جهة الإرث، فأقر لأحدهما بالملك، وثبت أن صاحبه مشاركه في ذلك النّصف، فلو صالح المقر له من النصف المقر به، على مالٍ، فظاهر النص يشير إلى صحة الصلح، وكَوْنُ العوض ثابتاً على الاشتراك.
والوجه المبتوتُ في ترتيب المذهبِ أن يقال: إذا ثبت كونُ ذلك النصف مشترَكاً، فإن جرى الصلح بإذن الشريك، صح. وإن جرى من غير إذنه، فالصلح باطل في حصة شريكه، وهل يبطل في حصة المقَر له؟ فعلى قولي تفريق الصفقة.
هذا قياس المذهب.
4152- وذكر طوائف من أصحابنا وجهاً آخر في صحة الصلح، في جميع النصف، وهو ظاهر النص في (السواد) ولست أعرف لهذا وجهاًً. وكل ما تُكلف ذكرُه في التصحيح يتضمن استبداد المقر له بالنصف وثمنه، وأقصى ما قيل فيه: إن كان يعرف حكم المسألة يعترف لصاحبه بحصته في النصف المقر به، وإن كان لا يعرفه، فهو كذلك. ومَنْ ظن ملكَ الغير ملكَ نفسه، لم ينفذ بهذا السَّبب بيعُه فيه.
فرع:
4153- قال صاحب التقريب: إذا باع اثنان عبداً مشتركاً بينهما، بثمن معلوم، فهل لأحدهما الانفرادُ بقبض حصته من الثمن؟ ولو قبض شيئاًً من الثمن، فهل يشاركه فيه صاحبه؟ فعلى وجهين:
أحدهما: ليس له أن يشاركه، وله الانفراد بقبض حصته، ووجه ذلك في القياس بيّن. والوجه الثاني- أنه لا ينفرد، وما يجري القبض فيه مشترك، كما لو كاتَبَا عبداً، فأراد أحدُهما الانفرادَ بقبض حصته من النجوم، لم يكن له ذلك، كما سنذكره في كتاب الكتابة، إن شاء الله تعالى.
والقائل الأول يقُول: ليست الكتابة كالبيع؛ إذ يتصور من أحد الشريكين بيع نصيبه، وإن لم يبع الثاني، وليس لأحد السيدين أن يكاتب نصيبه دون الثاني، كما سيأتي في الكتابة إن شاء الله تعالى- وثَمَّ توضيح تعليل ما ذكرناه في الكتابة جُهدنا.
فرع:
4154- إذا ادّعى رجلان داراً في يد ثالثٍ على الشيوعِ وذكرا الملك المطلق، ولم ينسباه إلى سبب، فقد ألحق أصحابنا هذا بما لو نسبا دعوتيهما إلى الشراء أو غيره من الأسباب المتحدة الواقعة على موجب الشركة، وقد مضى التفصيل فيه.
فرع:
4155- إذا ادّعى رجلان داراً في يد رجل، وقال كل واحدٍ منهما: نصف هذه الدار لي، فأقر المدعى عليه بأن جميع الدار لأحدهما، وعيَّنه، نُظر: فإن لم يَزِد المقر له ابتداءً على أن نصف الدار لي، ولم ينف عن نفسه النصف الآخر، فلا يمتنع الحكم بجميع الدّار له آخراً بسبب الإقرار؛ إذ لا منافاة بين ادعائه النصفَ، وبين ثبوت الكل؛ إذ مستحق الكل قد يدّعي نصفَه.
وإن ادّعى أن النصف له، والنصف لصاحبه المدعي معه، فإذا أقر المدعى عليه له بالجميع، فلا يثبت له إلا النصف؛ تعلقاً بقوله الأول.
ولو ادعى النصف لنفسه، ونفى الاستحقاق عن غيره، ولم يثبته لشريكه في الدعوى، وقد أقر له صاحب اليد بالجميع، ففيه ثلاثة أوجه: جمعها العراقيون: أحدها: أن ذلك النصف مُقَرٌّ في يد المقِر، فإنه أولى به لثبوت يده في الظاهر، والمقَر له ينفيه.
والثاني: أنه يسلم إلى القاضي، فيحفظه، كما يحفظ الأملاك التي لا يتعين ملاكها، ويُنتظر البيانُ فيها.
والثالث: أنه يسلم النصف إلى الشريك الثاني المدعي؛ فإن المدّعى عليه أقر بزوال الملك له، ونفاه المقَرّ له عن نفسه، وأولى من يصرف إليه هذا الذي يدعيه. وهذا ضعيفٌ، لا أصل له، وهو على التحقيق إثبات الملك بالدعوى المجرَّدة.
4156- ولو ادّعى أولاً النصف، ونفى استحقاقَه عن غيره، ثم تخلل زمان يجوز أن يتجدّد في مثله له ملكٌ في النصف الباقي، ثم أقر له صاحب اليد بجميع الدّار، فصدّقه المقَر له، يثبت له الملك في جميع الدار؛ إذ لا منافاة بين الأوّل والثاني. وإن لم يتخلل زمان يفرض فيه تجدد الملك، فالإقرار في النصف الثاني مردود للمقر له، لقوله الأول، والمرء مؤاخذ بالقول الأول. فإن قيل: إذا قال أولاً: النصف لي، والنصف لصاحبي، فأقر صاحب اليد بالتمام له، فهل يؤثر إقراره أولاً لصاحبه بثبوت الملك له؟ قلنا: لا أثر لهذا الإقرار في هذا المعنى. والأمرُ على الأوجه الثلاثة التي ذكرناها.
4157- ولو قال رجل: هذا العبد لزيد، وكان في يد عمرو، وتحت تصرفه، فرد قوله، ثم أكذب نفسه في قوله الأول، واشترى ذلك العبد من صاحب اليد؛ فإنا نحكم بصحة البيع ظاهِراً لتقارّ المتعاقدين لذا العقد، ثم إذا حكمنا بالصحة بينهما، ألزمنا المشتري أن يرد العبد إلى من أقر له به أولاً؛ فإنه تمكن من ذلك الآن. وليس هذا كما إذا أقر أحد المدعيين للثاني بالنصف، ثم أقر صاحب اليد له بالجميع؛ فإن الإقرار له مردود في الشرع بقوله، فلا حكم له، وليس كالشراء. وهذا بيّن.
فصل:
قال: "فإن تداعى رجلان جداراً بين داريهما... إلى آخره".
4158- وصورة ثبوت الجدار أن يكون حائلاً بين عرصتي الداريْن، أو بين بيتَيْن من الدارين، أو بين بيت وعرصة.
فإذا تنازع مالكا الدارين في الجدار، لم يخلُ: إما أن يكون متصلاً ببناء كل واحدة منهما اتصال ترصيع، وإما أن يكون متصلاً ببناء أحدهما دون الآخر.
4159- وأول ما نبدأ به بيان التصوير. واتصال البناء معناه أن يتداخل نصفٌ من الجدار المتنازع فيه، في الجدار المتفق عليه، ونصف من ذلك في هذا. وإنما يظهر ذلك في الزوايا، فإذا كان الجدار ممتداً بين الدارين كما قدمناه، واتصل أحد طرفيه بجدارٍ هو ملك لمالك إحدى الدارين، وانعطف أحد الجدارين على الثاني، وظهر في المنعطف زاوية، وكانت على هيئة التداخل والترصيع، فهذا هو الاتصال. ونقيضه أن يُرى انعطاف الجدار على الجدار، ولا ترصيع بينهما عند الملتقى في طرف الجدار، بل كان أحدهما ملصقاً بالثاني، إلصاق مجاورة. فهذا منفصل.
4160- فإذا تبين ذلك قلنا: إذا لم يتصل طرفٌ من الجدار الواقع بين الدارين بجدار دارِ واحدٍ منهما اتصال بنيان، فاليد في الجدار لهما جميعاً؛ والسَّبب فيه أن الجدار سورُ دار كل واحد منهما، أو سور بنيان داره، ولو لم تقدَّر الدارُ الأخرى، لكان جزءاً من هذه الدار قطعاً؛ فإذا وقع الجدار من دار كلٍّ منهما هذا الموقع، فقد تحقق استواؤهما فيما لو انفرد كل واحد منهما به، لكان اليد له. والاشتراك في هذه الصورة يتضمن الاشتراك في ظاهر الملك.
4161- فهذا إذا لم يتصل الطرفان اتصال بنيان، ولو اتصل الطرفان بالدارين اتصال بنيان، فالجوابُ كما مضى، وهما متساويان في اليد وظاهرِ الملك.
وإن اتصل أحد طرفي الجدار بجدارٍ خالص من دار أحدهما، عند المنعطف، اتصال بنيان، ولم يتصل الطرفُ الآخر من الجدار بدار الآخر، إلا اتصال جوارٍ، فاليد في الجدار لصاحب الاتصال، اتفق العلماء فيه؛ والسَّبب فيه أنا على تحقيق نعلم أن هذا الجدار بني مع الجدار الآخر بناءً واحداً، والوصف والترصيع شاهد فيه لا يدافَع، فلزم الحكم به؛ إذ يستحيل أن يُبنى جدار الغير مع جداره ترصيعاً، ثم لا يتصل بدار من يدعيه إلا جواراً.
ثم قال الأئمة: ما ذكرناه من الترصيع فيه، إذا كان الجداران على هذا النّعت من الأصل، والأمر إلى الطرف الأعلى، حيث نتبين أنه لا يتصور إحداثه بعد البناء.
فأمَّا إذا وجد التداخل في جر ـن من الجدارين، بحيث يظهر أنه بعد البناء، فلا تعلق به، وذلك مثل نزع طوبة وإدخال أخرى على التداخل.
4162- وإذا كان الجدار بين الدارين، وكان لأحد المالكين على الجدار جذوع، ولم يكن للثاني جذوع، فلا ترجيح لصاحب الجذوع، والجدارُ في أيديهما ولا فرق بين الجذع الواحد والعدد. ومعتمد المذهب أن وضع الجذوع يقع بعد بناء الجدار، وقد ذكرنا أن كون الجدار بين الدارين مثبتٌ لمنصب اليدِ في حق كل واحد منهما، وكيف لا، وهو جزء من كل دارٍ، ووضع الجذوع يقل عن هذا، ويقصُر عنه، ويتجه حمله على الإعارة، والإجارة، وابتياع حق البناء، كما سنذكره بعد هذا، فاختصاص أحدهما بالجذوع اختصاصُ مزيد انتفاع، بعد الاستواء في اليد، فكان كما لو سكن رجلان داراً لأحدهما فيه أمتعةٌ وأقمشة، ولا قماش للثاني.
4163- ولو تنازع رجلان دابةً، أحدُهما راكبها، فالركوب يناظر وضعَ الجذوع، ولكن لم يثبت متعلَّق في اقتضاء اليد في الدابة فتعَلَّقنا بالركوب. وقد أوضحنا ثبوتَ اليد في الجدار، ورددنا وضع الجذع إلى مزيد انتفاع بعد الاستواء في اليد.
ولو تنازعا دابة، وأحدهما راكبها والثاني متعلق بلجامها، أو تنازعا ثوباًً، وأحدُهما لابسه، والثاني متعلق به يجاذبه، فالمذهبُ أن اليد للراكب واللابس.
وأبعد بعضُ الأصحاب، فأثبت اليد لهما.
4164- وهذه الأحوال حقها أن تؤخذ من العاداتِ؛ إذ ليس فيها توقيفاتٌ شرعية، ولا يخفى أن الرّاكب هو الذي يعد مستولياً على الدابة، دون المتعلَّقِ باللجام، وكذلك القول في لابس الثوب وجاذبه.
4165- ثم لما ذكر الشافعي معتبرهُ في الجدارِ، وأوضح أن الرجوع إلى اتصال البنيان كما وصفناه، قال: فإن لم يكن، فالجدار مقر على اليدين، واعتبار تقريره على اليدين أوْلى من كل ما يتخيل بعده، سوى اتصال الرّصف والترصيع، وعدَّه ممّا لا يعتبر، مما قد يُخيل.
وأشارَ إلى خلاف العلماء، قال: "لا أنظر إلى من إليه الخوارج والدواخل وأنصافُ اللَّبن ومعاقدِ القُمط" والقُمُط جمع القِماط، وهو الحبل.
وأراد بالدواخل والخوارج الكتابةَ بالجص والآجر، إذا كان على أحدِ وجهي الجدار كتابة، فلا تعويل عليها، وكذلك إذا كان على أحد وجهي الجدار تزويقاتٌ أو طبقات تزين الجدار، وأراد بأنصاف اللبن أن الجدار لو كان متخذاً من اللبناتِ المقطعة، وكان الوجوه إلى أحد الجانبين والجوانب المكسرة من الجانب الآخر، فلا احتفال بشيء من هذا. ومعاقد القمُط يظهر في الستر بين السطوح والمتخذ من القصب والحُصر وغيرهما، فقد يشد عليها خشبة مستطيلة ومعترضة بالحبال، وقد يُظن أن الباني لها لا يجعل وجه العقد والخشب في جانب نفسه، ويجعل الوجه المستوي إلى الجانب الذي يليه، ولا تعويل على ذلك، ولا ترجيح خلافاً لمالكٍ.
4166- ولو كان لأحد المتنازعين في الجدار على الجدار أَزَجٌ، نظر: فإن كان على منتهاه، فهو بمثابة وضع الجذوع بعد تمام البناء، وقد ذكرنا أنه لا تعلق بوضع الجذوع، ولو كان الجدار من أصله مقوساً من جهة أحدهما إلى منتهى الأَزَج، فإذا فرض النزاع والحالة هذه، فصاحبُ الأزَج صاحب الجدار؛ فإن الجدار جزء من الأَزَج، وليس الأزَج موضوعاً بعد بناء الجدار، ولا يعد مثل هذا سوراً في جانب جدارٍ من الأزج له، فإذا كان البيت المؤَزَّج لأحدهما وفاقاً، فالجدار الذي ذكرنا من غير الأَزَج. فهذا منتهى القول في ذلك.
4167- ثم ردد الشافعي قوله في أمر نحن نوضِّحه ونستعين بالله تعالى فيهِ، فنقول: إذا كان بين رجلين جدار مشترك، فأراد أحدهما أن يضع عليه جذوعاً، لم يكن له أن ينفرد به دون إذن شريكه؛ فإن انفراد أحد الشركاء بالتصرف في الملك المشترك لا مساغ له.
وقال الشافعي رضي الله عنه في القديم: إن ثبتت حاجةُ الجار إلى الجذوع على الجدار، وجب إسعافه، ولا يختص هذا بالجدار المشترك؛ فإنه لو كان الجدار ملكاً خالصاً للجار، ومسَّت إليها حاجة الآخر-كما ذكرناه- لم يُمنع من وضع الجذوعِ على الجدار، واعتمد في القديم ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فلا يمنع جاره بأن يضع خشبة على جداره» وقيل: كان الناس لا يعملون بهذا، فلما ولي أبو هريرة مكة أو المدينة قال: "ما لي أراكم معرضين عنها، والله لأرمين بها بين أكتافكم" واختلف في تفسير لفظه، فقيل: معناه لأكلفنكم ذلك، ولأضعن جذوع الجيران على أكتافكم، ضرباً للمثال، وقصداً إلى المبالغة في البيان. وقيل: أراد بقوله لأضعنها: أي لأضعن هذه السُّنة بين أكتافكم، ولأحملنكم العمل بها.
4168- فإن فرعنا على الجديد، فلا سبيل إلى الوضع على الملك الخالص، ولا على الملك المشترك، وإن مست الحاجة إليه. وهذا قانون الشرع، ومقتضى القياس الكلّي والجزئي، وحديث أبي هريرة محمول على التأكيد في الندب والاستحباب، وقد يرد أمثال هذا في الحث على المكرمات.
4169- وإن فرعنا على القول القديم، فلابد من فرض حاجةٍ.
ثم قال الأصحابُ: هذا مشروط بشرطين:
أحدهما: أن يضع ما لا يُثقل الجدار، ولا يؤدّي إلى هدمه، فأما أن يبني عليه ما يثقله، فهو ممنوع إلا بالرضا.
والثاني: أن تكون الجوانب الثلاثة من البيت لصاحب البيت، وهو يحتاج إلى جانب رابع. فأمّا إذا كان الكل للغير، فلا يضع الجذوع عليها قولاً واحداً.
ومن أصحابنا من لم يشترط هذا الشرط الأخير.
والحاجة التي أطلقناها لم نُرد بها ضرورةً، وإنما أردنا حاجة البناء، حتى لا يظن ظان أن المعنيَّ بالحاجة ضرورةٌ مرهقةٌ، وداعيةٌ مستقرة. ولكن لو بنى بناء لا يحتاج إليه، وكان البناء يحتاج إلى ما وصفناه من وضع الجذع، فله الوضع. وفي هذا أدنى نظر عندي.
ولا يمتنع تخصيص ما ذكره في القديم بحاجةٍ إلى أصل الوضع، وهذا التردد يضاهي ما ذكرناه في كتاب الطهارة من تضبيب الإناء بالفضة، إذْ شرطنا الحاجة إلى التضبيب.
4170- وإذا فرعنا على القول الجديد، قلنا: إن رضي مالك الجدار بوضع الجذوع على جداره من غير عوض، كان ذلك إعارة، وسنصف في كتاب العارية أن من أعار أرضه، أو جداره للبناء عليه، أو للغراس، فإذا بنى المستعير، وغرس، فللمعير الرجوع في العارية، ولكن يضمن ما ينقُصه بالقلع في الغراس والبناء.
وسيأتي هذا على الاستقصاء في موضعه، إن شاء الله تعالى.
وغرضنا الآن: أن من استعار أرضاً وغرسها، أو بنى فيها، فللمعير الرجوع، على شرط ضمان النقصان.
ومن استعار جداراً ووضع عليه جذوعاً، فإذا أراد مالك الجدار الرجوعَ في العارية، رفعَ الجذوعَ والتزمَ غرامةَ النقصان.
وظاهر المذهب أن ذلك سائغ على قياس الباب.
وقال بعض أصحابنا فيما حكاه القاضي: لا يجوز الرجوع في هذه العارية؛ فإن ضرر القلع والرفع يتداعى إلى ما هو خاص ملك المستعير؛ فإن الجذوع إذا رفعت أطرافها من جدارٍ لم تستمسك على باقي الجُدُر فإذا عظم الضرر، امتنع القلع.
فأثرُ رجوع المعير أن يُلزم المستعير أجر المثل في مستقبل الزمان، وتفصيل ذلك يأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى.
4171- وممّا أجراه الأئمة من أحكام العارية إذا اتصل الكلام بها أن من استعار أرضاً وزرعها، لم يكن للمستعير قلعُ الزرع قبل إدراكه، بخلاف الغراس؛ فإن الزرع له أمدٌ معلوم. فلو كان غرس، فأثمرت الأشجار، فلا يجوز للمعير قلعها قبل جِدادِ الثمار؛ فإن الثمار لها أمدٌ كالزرع. وهذا منقاسٌ لا خفاء به. فإذا جُدَّت الثمار؛ فإذ ذاك يقلع المعيرُ إن أراد، على شرط الضمان.
فرع:
4172- إذا كان الجدار المتنازع. بين الدارين مبنياً على خشبةٍ طويلة، وكان طرفٌ من تلك الخشبة والِجاً في ملك أحدهما، ولم يكن شيء منها والِجاً في ملك الثاني، قال العراقيون: الخشبة تكون لمن يكون طرفها في ملكه، ثم قالوا: إذا ثبت أن الخشبة له، فالجدار المبني عليها تحت يده؛ فإن الظاهر أن جدار غيره لا ينبني على ملكه. هذا ما ذكروه، ولم أجده في طرقنا، وليست المسألة خاليةً عن احتمال في الخشبة والجدار.
فرع:
4173- قال العراقيون: إذا تنازع الجاران الجدارَ بينهما، وشهدت بيّنة لأحدهما بملك الجدار، ولزم القضاء بها، فيصير صاحبَ يدٍ في القاعدة التي عليها الجدار.
وكذلك إذا تنازع رجلان شجرة وشهدت البينة لأحدهما، فيصير مالك الشجرة صاحبَ يد في مغرس الشجرة. هكذا قالوا. وهو قياس طريقنا.
فإن قيل: الجدار على قاعدته، والشجرةُ على مغرسها بمثابة الجذع على الجدار، فكيف يدلُ على اليد وقاعدته؟ وكذلك السؤال في الشجرة ومغرسها؟ قلنا: نبهنا على هذا؛ إذ قلنا: الجدار بين الدارين في يدي مالكهما؛ من حيث إنه جزء من كل دارٍ، فكان هذا التمسك بالجزئية أولى من التعلق بوضع الجذع. وهذا لا يتحقق في قاعدة الجدار ومغرس الشجرة، فصار الجدار يداً في القاعدة، والشجرة يداً في المغرس.
ونظير ذلك أن الدار إذا كانت مشحونة بأمتعة إنسان، وكان لا يسكنها أحد، فالدار تحت يد صاحب الأمتعة. ولو كان يسكنها رجلان، ولأحدهما أمتعة، فلا نظر إلى الأمتعة مع شهود المتداعيين في الدار وسكونها.
4174- ثم قال العراقيون: لو أقر إنسان بجدار لإنسان، أو بشجرة، فالإقرار لهما هل يكون إقراراً بقاعدة الجدار وبمغرس الشجرة؟ فعلى قولين مأخوذين من أن البيع فيهما هل يتناول أصلهما، وفيه قولان، قدمنا ذكرهما.
وفي المسألة فضل نظر فيما نصفه سؤالاً وجواباً.
فإن قيل: إذا كان لفظ المقر مع اختصاصه بالجدار يتعدّى إلى أصله، حتى يجعل إقراراً به في أحد القولين، مع أن مبنى الإقرار على الحمل على الأقل. فإذا شهد عدلان لإنسان بملك جدار، فقولوا: لفظ الشهود يتضمن الملك في أصل الجدار على أحد القولين قياساً على الإقرار. قلنا: هكذا نقول، ولا فرق، والعلم عند الله تعالى.
4175- وهذا يلتفت إلى أصلٍ، وهو أن الشاهد على البائع تقبل شهادته مطلقاًَ، من غير بحث عن شرائط صحة البيع، على المذهب الظاهر، ويحمل البيع المشهود به على الصحّة، على ما سيأتي ذلك في موضعه، إن شاء الله تعالى.
فصل:
قال: "ولا أجعل لواحد منهما أن يفتح كوة فيه... إلى آخره".
4176- الجدار المشترك بين شريكين لا يجوز لأحدهما أن يفتح كوة أو يثبت فيه وتداً يعلق فيه شيئاًً؛ فإن التصرف في الجدار المشترك تصرفٌ في ملك الشريكِ، والتصرف في ملك الشريك من غير إذنه غيرُ سائغ، ولا يمتنع على كل واحد من الشريكين أن يستند إلى الجدار المشترك، أو يسند إليه شيئاً من الأمتعة؛ فإن هذا النوع من المنفعة غيرُ معتدٍ به، ولا أثر له. ولو استند إنسان إلى جدارٍ خالص لغيره، لم يمتنع ذلك، ولو منع المالكُ منه، ففيه تردد للأئمة.
ويخرَّجُ عليه ما لو تمانع الشريكان في هذا النوع أيضاً؛ فإن الملك المشترك في حكم الملك الخالص.
وأمّا الاستظلال بظل جدار للغير في الشارع، فلا أثر له، ولا يملك مالك الجدار المنعَ منه.
4177-و كما يمتنع التصرف في الجدار المشترك بالفتح، يمتنع البناءُ عليه.
ولا يجوز للشريك في الدار أن يسكنها دون إذن الشركاء، وإذا تمانعوا، فالمهايأة إذا رضوا بها، توفر عليهم حقوقهم من المنافع، وهي في الظاهر تناوبُ في المنافع، وفي الحقيقة بيعُ المنافع، فإذا تراضى شريكان بالمهايأة على أن يسكن أحدهما شهراً، فالمنفعة الحاصلة في كل نوبةٍ في أصل الوضع مشتركة، فكأنَّ كلَّ شريكٍ باع حصته من المنفعة في نوبة شريكه بما يتوفر عليه في نوبته من حق شريكه.
4178- والصحيح أن المهايأة لا تلزم، ولا يجب الوفاء بها وإن وقع التراضي فيها.
فإن قيل: لو اكترى رجل داراً سنة بمنفعة عبد سنة، أو أكثر، أو أقل؛ فالإجارة صحيحة، ومقابلة المنفعة بالمنفعة سائغةٌَ عندنا، فهلا وقع القضاء بلزوم المهايأة الصَّادرة عن التراضي؟ قلنا: من ضرورة التناوب بالمهايأة على منافع العين الواحدة أن تنتجز نوبة وتتأخرَ الأخرى، والمنافع المضافة إلى المدة التي ستأتي، لا يجوز إيراد العقد عليها عندنا؛ فإن من استأجر داراً السنة القابلة، لم يصح، فلا تلزم المهايأة على هذا الأصل، وليست معاملةً تقتضي تمليكاً على الصحة. نعم، هي على صورة بيع فاسد، ولهذا قلنا: لا يصح الإجبار عليها؛ فإن الإجبار على البيع الصَّحيح ممتنع، فما الظن بالإجبار على ما هو على صورة البيع الفاسد.
فإن قيل: هلا جعلتم المهايأة قسمة بمعنى الإفراز؛ تخريجاًَ على أن القسمة إفراز حق؟ قلنا: ليست المهايأة على صورة القسمة الصحيحة أيضاًً؛ فإن القسمة ينتجز فيها الأقساط والحصص، ويفرض تعديلها وتنزيل الشركاء عليها، والمنافع توجد شيئاًً فشيئاً، وليس من التعديل مقابلة واقع منتجز بمتوقع.
4179- وذهب بعض أصحابنا إلى الإجبار على المهايأة؛ لأن الضرورة ماسّةٌ إليها عند تنازع الشركاء، ولو لم يجبر عليها، لتعطلت المنافع. وهذا بعيد عن القياس، ولكن مبناه على الحاجة الحاقّة العامّة، وقد نميل عن مسلك القياس بمثل ما ذكرنا.
4180- فإن قلنا: لا إجبار على المهايأة، فلو تهايأ شريكان على التراضي واستوفى أحدهما المنفعة في النوبة التي قُدّرت، ثم أراد الرجوعَ فيما توافقا عليه ومَنع شريكِه من استيفاء المنفعة في نوبته، فله ذلك، ولكنه يغرَم لشريكه قيمةَ حصته من المنفعة في النوبة التي استوفاها.
وإن قلنا: بالإجبار على المهايأة، فإن استوفى أحدُهما النوبةَ الموظفةَ، لم يكن له الرجوع، بل تُوفَّر على الشريك مثلُ تلك النوبة. ثم تعتقب النوب الموضوعة، إلا أن يتراضى الشركاء على نقضها، فلابُدّ من اتباع رضاهم.
ثم النوب تطرد إلى غير نهاية، وهذا من الوجوه الظاهرة في الخروج عن القياس.
ثم إن قلنا بالإجبار على المهايأة، فلا كلام، وإن منعنا الإجبار عليها، واستمر الشركاء على التدافع، فهذا يؤدي إلى تعطيل المنافع، فهل يباع عليهم الملك عند الامتناع من المهايأة، وإدامةِ الطلب؟ فعلى وجهين حكاهما القاضي:
أحدهما: أن العين تباع على الشركاء، لقيام النزاع، وإفضاءِ الأمر إلى تعطيل المنافع وهذا وجهٌ ضعيف، لم أره في غير هذه الطريقة.
والأصح أنه لا إجبار على المهايأة، ولا على البيع، وتترك المنافع تتعطل إلى أن يتراضيا.
ولم يذكر أحد من الأصحاب الإجبارَ على الإجارة، ولعل السَّبب فيه أن الأمد في الإجارة لا متوقف له، ولا سبيل إلى التحكّم بهذه، والإجبارُ يقدر والشريكان متمانعان، والبيع يرد على مورد متعين. وكل ذلك خبط، والوجه نفي الإجبار في المهايأة والبيع.
فصل:
قال: "وقسمته بينهما إن شاءا... إلى آخره".
4181- الكلام في هذا الفصل يتعلق بأمرين:
أحدهما: التفصيل في قسمة الجدار المشترك، إجباراً، واختياراً.
والثاني: القول في قسمة أُس الجدار ومبناه، إذا كان قد انهدم الجدار وانهار.
4182- فأمّا الجدار المشترك، فقسمته تفرض على وجهين:
أحدهما: قسمة جميع الطول في نصف العرض، فهذا النوع لا إجبار عليه لوجهين:
أحدهما: أن قسمة الإجبار لو فرضت، لكان التعيين بالقرعة، ثم القرعة ربما تخرج على خلاف ما يقصد في جهة الانتفاع، بأن تخرج قرعة زيد على الشق الذي يلي دارَ صاحبه، ولا يتأتى-والحالة هذه- من واحدٍ منهما الانتفاع المقصود. هذا وجه.
والثاني: أن الإفراز على الحقيقة لا يتصور؛ من قبل أنا وإن فصلنا شِقاً عن شق بخط نرسمه فاصلاً بين الشقين، فلو وضع أحدهما على شقه جذوعاً، أو بنى عليه أدّى ذلك إلى تثقيل الشق الآخر والتحامل عليه. وهكذا يكون نعت الجدار "فلا تتأتى المفاصلة إذاً.
وذكر صاحب التقريب وجهاً بعيداً في الإجبار على هذا النوع من القسمة، إذا دعا إليها أحد من الشريكين. ثم قال: "نخصص كلَّ واحد منهما بالحصة التي تليه من غير قرعة". وهذا بعيد في الحكاية، وإن كان يتجه بعضَ الاتجاه، وما ذكرناه من أن المفاصلة لا تتحقق، فيه نظر؛ من قِبل اتفاق الأصحاب على تصحيح القسمة بالتراضي. ولو كانت المفاصلة لا تتحقق، لامتنعت القسمة أصلاً.
وما ذكرناه في قسمة الجدار في جميع الطول في نصف العرض.
4183- فأمّا قسمة الجدار في جميع العرض في نصف الطول، فإنها صحيحة مع التراضي، وهل يجبر عليها الممتنع منهما إذا دعا إليها أحد الشريكين؟ فعلى وجهين مذكورين في الطرق، بناهما المرتِّبون على المعنيين اللذين ذكرناهما في الصورة الأولى. فإن اعتمدنا تعطل الانتفاع لأمرٍ يرجع إلى خروج القرعة، فهذا لا يتحقق في الصورة الأخيرة، فليقع الإجبار على القسمة.
وإن اعتمدنا على أن المفاصلة لا تتحقق، فهذا المعنى قد يجري في النوع الأخير من القسمة؛ فلا إجبار إذاً.
4184- ولو انهدم الجدار وبرز الأُس، فأراد قسمته، فالقسمة في جميع العرض في بعض الطول يجري الإجبار عليها، لفقد المعنيين، فأمّا القسمة في جميع الطول في بعض العرض، فإن جرينا على تعيين حصة كل شريك فيما يليه من غير قرعةٍ، فالإجبار جائز، وإن قلنا: لابد إذا فرضت القسمة من إجراء القرعة، ففي الإجبار على القسمة وجهان مبنيان على المعنيين المذكورين في قسمةِ الجدار نفسه على هذه الصورة.
فصل:
4185- إذا انهدم الجدار فعمّراه، وأعاداه بالأعيان التي كانت في الجدار، من غير مزيدٍ، واستويا في العمل وفي الاستئجار عليه، واشترطا أن يكون الثلثان لواحد، والثلث لآخر، فهذا الشرط لغوٌ، والجدارُ نصفان كما كان. ومن رضي بالنقصان منهما واعدٌ هبةً، فإن وفَّى بها، فذاك، وإلا، فلا طَلِبَة عليه.
4186- ولو اختص أحدهما بالإعادة، وشرط أن يكون الثلثان من الجدار له، فتقدير ذلك مقابلة عمل العامل على الثلث الذي يقدّر بقاؤه، وللذي لم يعمل بالسدس من ملكه في الجدار، فالسدس إذاً أجرةُ العمل على الثلث. وهذا سائغٌ، على شرط تقدير ذلك من الأساس والنقض؛ حتى تكون الأجرة عتيدة.
ولو فرض ربط الأجرة بالسدس بعد البناء، لم يصح؛ فإن هذا تعليق في عين.
4187- وذلك إذا لم يجدّد العاملُ عيناً في الجدار من ملك نفسه، فلو جدد، ليقع الفرض فيه إذا أعاد الجدار بأعيانٍ من عند نفسه من غير أن يستعمل شيئاًً من النقض- فهذه المعاملةُ يتدبرها النّاظر تصوراً، ثم لا يخفى الحكم فيها. فالعامل كأنّه يبيع ثلثَ الأعيان التي أتى بها، ويضم إليها عملَه فيها، والعوض المقابل السدس من أس الجدار.
هذا تقدير المعاملة، وهي مشتملة على الجمع بين العين والمنفعة، وهو من صور تفريق الصفقة. والتنبيه كافٍ فيما ذكرناه.
ولا بد في الصورة الأخيرة من تعيين الأعيان، والإشارة إليها على سبيل الشيوع، أو ذكرِها وصفاً على سبيل السَّلم.
4188- ثم ذكر الشافعي في آخر الفصل أن الشريكين لو اصطلحا على وجه يصح، وشرطا أن يحمل أحدهما على الجدار ما شاء، فهذا الشرط مفسد؛ فإن الجدار لا يحتمل الوفاء بالشرط، والقدرُ المحتمل مجهول، فالشرط فاسد، وإذا فسد، أفسد ما يفرض من معاملة.
فهذا طرد المذهبِ على وجهه في التفصيل.
4189- وقد ذكر صاحب التقريب وجهاً بعيداً في الصورة الأولى، لا وجه له، فأخرته، وأنا الآن ذاكره. قال: لو استويا في الإعادة بالنقض القديم، ولم يتخصص أحدهما بمزيدٍ، فلا يمتنع أن ينقص نصيب أحدهما بالتراضي، وزعم أن المشتركَيْن في الدار على تقدير التشطير، لو قال أحدهما: بعت نصفي من الدار بثلث الدار من نصفك، فقال المخاطبُ: قبلت. قال: لا يمتنع أن يحصل بهذه المعاملة أحدهما على الثلثين، ويبقى للآخر الثلث.
وهذا عندي كلام ملتبسٌ، لا أصل له. والوجه القطع بفساد هذا النوع من المعاملة.
ولو قال أحد الشريكين لصاحبه مع استمرار الشيوع: بعت نصفي من الدار بنصفك، فلا يجوز أن يقدر هذا بيعاً، حتى يترتب عليه تقدير شفعةٍ، أو غيرها من أحكام البيوع؛ فإن وضع الشرع في البيع على إفادة التبادُل، ولا يتحقق مع اطراد الشيوع، فلا وجه لما قال إذاً.
فرع:
4190- إذا استعار رجل جداراً ووضع عليه جذوعاً، ثم انهدم الجدارُ، نُظر: فإن أُعيد الجدارُ بأعيانٍ جديدةٍ، لم يملك المستعيرُ ردَّ الجذوع على الإعارةِ الأولى، وإن أعيد الجدارُ بنقضه من غير مزيدٍ، واستعمالِ عين جديدة، فقد ذكر العراقيون وغيرُهم وجهين في أن المستعير هل له ذلك من غير مراجعةٍ؛ بناءً على الإعارة الأولى؟ ففيه الخلاف الذي ذكرناه.
ولا ينبغي أن يُعتقد خلافٌ في أن صاحب الجدار، لو منع من الإعادة يبقى للمستعير خيار. ثم إذا منع، فلا يغرَم ما يغرَمه لو رفع الجذوع، ونقض بناء المستعير، مع بقاء الجدار، فعاد الخلافُ إذاً إلى الاستمرار على حكم الإعارة الأولى. ثمَّ لو فرض إعادة الجذوع تفريعاً على جواز ذلك، فلا ينقض المستعير إلا مع ضمان أرش النقصان.
فصل:
قال: "وإن كان السفل في يد رجلٍ، والعلو في يد آخر، فتنازعا سقفه... إلى آخره".
4191- إذا كان السفل في يد إنسانٍ، والعلو المسامتُ له في يد آخر، فتنازع صاحبُ العلو والسفل السقفَ الحائلَ بينهما، نُظر: فإن كان بناء سقف العلو قبل بناء سقف السفل ممكناً، بأن يفرض سقفٌ عالٍ، ثم يفرضَ سقف دونه، بأن تدرج رؤوس الجذوع في وسط الجدار، وينظم عليها السقف، فإذا كان هذا التصوير ممكناً، فالسَّقف الحائل بين العلو والسفل إذا تداعياه، فهو في أيديهما؛ فإنه في حكمِ الجزء للعلو أرضاً، وهو أيضاً في حكم الجزء للسفل سماءً وسقفاً، فصار توسط السقف بين العلو والسفل كتوسطِ الجدار بين دارين، الواقع سوراً لكل واحدٍ منهما.
هذا إذا كان إحداث سقفٍ للسفل ممكناً بعد تقدير سقف العلو.
4192- فأمّا إذا كان لا يمكن إحداث سقف السفل على وسط الجدار بعد امتدادِه إلى منتهى العلو، وذلك كالأزَج، فإنه لا يمكن استحداثُه على وسط الجدارِ، فإذا كان كذلِك، علمنا أن السَّقف بُني أولاً، واستحدث بعده جدار العُلو وسقفُه، فالسقف في هذه الصورة في يد صاحبِ السُّفل.
4193- وممَّا يجبُ تأمله فيما قدمناه من تفصيلٍ القولُ في التنازع في الجدار الممتدّ بين الدارين: ذكرنا تفصيلاً في الأَزَج، وجعلنا الأَزَج المبني على الجدار المستوي بمثابة الجذوع التي توضع بعد تمام بناء الجدار، والأزج الذي قوّس له الجدار من أسّه هو المعتبر، وهذا التفصيل لا وقع له فيما ذكرناه في السفل والعلو؛ فإن الجُدران المحيطةَ بفضاء السفلِ لا نزاع فيها، وهي مختصة بيد صاحبِ السفلِ، والأَزج هو الذي فيه الكلام، وقد تبين أنه ما بُني أرضاً للعلو، وإنما تم بناء السفل بالأَزَج، ثم كان استحداث العلو بعده، فلم يكن الأَزَج مضافاً إلى العلو والسفلِ، على قضية الاستواء أرضاً وسماءً. وهذا بيّنٌ.
4194- فإن كان السقف كما ذكرناه في القسم الأوَّل، وحكمنا بأنه في أيديهما، فلا خلاف أن صاحب العلو يجلسُ عليه، ويضع عليه أثقاله على الاعتيادِ في مثله، وهذا انتفاعٌ بالمشتركِ، وقد تقدم امتناع الانتفاع بالمشترك، ولكن هذا منزَّل على الاعتياد في مثله.
واتفق الأصحابُ على أن صاحبَ السفل، لو أراد تعليق شيء من السَّقفِ، لم يمنع منه، والسَّبب فيه أن صاحب العلوّ انتفع بالسّقف، وملك تثقيله بنفسه وأمتعته، فملك صاحبُ السفلِ مساواتَه في تعليق الأثقال في السَّقف، وهما محمولان على حكم العادة في الباب.
هذا هو المذهب الظاهر.
ومن أصحابنا من لم يجوز لصاحب السفل تعليقَ ثقل في السّقف، ويُلزمه أن يكتفي بالاستظلال من السَّقف. ومن أصحابنا من قال: إن أمكن التعليق من غير إثبات وتدٍ في جرْم السّقف، جاز، مع اجتناب السَّرَف، ولزومِ الاقتصاد، فأما إثبات الوتد في جِرم السقف، فممتنع.
فتحصل ثلاثةُ أوجهٍ على ما ذكرناه.
4195- والذي يجب الاعتناء به صرفُ الفكر بين الجدارِ الممتد الواقع بين الدارين سوراً لهما، وبين السقف الفاصل بين العلوّ والسفلِ، فنقول:
أصل الفرق لابُدّ منه؛ فإن جلوس صاحب العلوّ، ووضعَه الأثقالَ على السّطح انتفاعٌ ظاهر مؤثر في السقف، وهو مسوَّغ بلا خلاف، ولا يجوز مثله في الجدار الممتد بين الدارين، والسبب فيه أنا لو منعنا صاحبَ العلو ممّا ذكرناه، لتعطل العلو، فكان هذا في حكم الضرورة، من وضع العلو والسفل، ثم ثار الاختلاف بين الأصحاب في صاحب السفلِ، ثم حاولوا أن يسوّوا بين صاحب السفل والعلوّ، فكان الظاهرُ تمليكَ صاحبِ السفل تعليق شيء في السقف، ليوازي صاحبَ العلو في تثقيل السقف. ومنع مانعون ذلك، صائرين إلى أن الاستظلال في حق صاحب السفلِ هو قدْرُ الضرورة، وفصَل فاصلون بين نصب الوتِد والتعليق وغير ذلك، كما قدمناه.
4196- وكان شيخي يقول: إذا منعنا صاحب السفلِ من نصبِ وتِد في الوجه الذي يليهِ من السقف، فنمنع صاحب العلو في العلو من غرز الوتِد أيضاًً؛ إذ لا ضرورة فيه. وإن جوزنا لصاحب السفلِ نصبَ الوتِد في الوجه الذي يليه، فهل يجوز ذلك لصاحب العلو؟ فعلى وجهين؛ فإن صورة التعليق قد تُحوج إلى نصب وتِد، ولا يتحقق مثلُه على هذا النسق في حق صاحب العلو.
وما اختلف الأصحاب فيه من التعليق، فيما يُقدَّر له أثر، فأما ما لا أثر له كتعليق ثوب، أو غيره ممّا لا يؤثر على طول الدهر في السقف، فلا منع منه، ولا يُدرج في الخلاف الذي حكيناه؛ إذ هو بمثابة الاستناد إلى الجدار المشترك الممتد بين الدارين.
وقد يتعلق بهذا الفصل أحكام من عمارة الأملاك المشتركة.
فصل:
4197- الأملاك المشتركة إذا استرمَّت، ومست الحاجة إلى العمارة، فإن توافق الشريكان على العمارة، أو على تركها، فلا كلام.
وإن امتنع أحدهما عن العمارة، ودعا الثاني إليها، ففي إجبار الممتنع عن العمارة قولان: أقيسهما وهو المنصوص عليه في الجديد- أنه لا يجبر الممتنع؛ فإن الملك المشترك يشتمل على ملك الممتنع وعلى ملك غيره، ويبعد أن يجبر لملكه، كما لو انفرد بملك شيء، ويبعد أن يجبر لملك غيره.
والمنصوص عليه في القديم أن الممتنع يُجبر على العمارة، وهذا القول مبني على مصلحةٍ عامة لا سبيل إلى إنكارها، ولو لم يفرض الإجبارُ، لأفضى إلى ضرر بيّن، سيّما في القنوات، وما في معناها من الضِّياع وغيره. وإن كنا نجبره على القسمة لضرر المداخلة في المساهمة، فالضرر بترك العمارة أشد وأعظم.
التفريع على القولين:
4198- إن جرينا على الجديد وفرضنا الكلام في العلو والسُّفل ليقيس النّاظر على محل الكلام ما في معناه، قلنا: لو انهدم العلو، والسفل، وامتنع صاحب السفل من العمارة، لم نجبره، فإن قال صاحب العلو لصاحب السفل: أنت حامل ثِقْلي، فأعد الأمر إلى ما كان، واحمل ببناء السفل ثِقْل العلو، لم نجبه إلى مراده في إجبار صاحب السفل؛ فإن جدران السفل خالصُ ملكه، فلم يُجبر على إعادتها. وما ذكره صاحب العلو من حقه مردود عليه؛ فإن ذلك إنما يثبت إذا بُني السفل، فأمّا الإجبار على تحصيل السّفل لمكان العلوّ، فلا سبيل إليه على هذا القول.
4199- فلو قال صاحب العلو: أنا أبني السُّفل، وأعيد عليه علوي، فلا يمتنع عليه البناء، وإن كان ذلك تصرفاً في ملك صاحب السفل؛ فإنا إن كنا لا نلزم صاحب السفل شيئاًً، فإبطال حق صاحب العلوّ محال، ومنعه من التوصل إلى حقه في العلو ببناء السفل تعطيلٌ لصاحب العلو.
ثم لا يخلو إما أن يعيد السفلَ بالنقض القديم من غير مزيدٍ، وإمّا أن يُدخل فيه أعياناًَ من ملك نفسه، وأي الأمرين فعل لم يُمنع منه. أجمع الأصحاب عليه، لما ذكرناه؛ لأن المنع من ذلك تعطيل لحقه.
4200- ثم ينظر: فإن بنى بالنقض القديم، وكانت أعيان السقف الفاصل بين السفل والعلو عتيدة، فلصاحب السُفل أن يأوي إلى سفله، وينتفع به على حسب ما كان ينتفع به قبلُ من المسكن والاستظلال.
فلو قال صاحب العلو: اغرَم لي أجرة البانين، لم يُجب إلى ذلك. وإن قال: أمنعك من السكون، لم يجب إلى ذلك؛ فإنه أوى إلى ملك نفسه. وإن قال: إذا كان كذلك، فأنا أنقض بنائي، وأرُدُّ الأمرَ إلى ما كان، نُظر: إن لم يأت بعينٍ جديدة في البناء، فليس له نقضه؛ إذْ ليس له في الجدار إلا حقُّ الصنعة، وقد كان انفرد بها، ولا سبيل إلى استدراك الصنعة، فالصنعة لا تستدرك.
وإن كان أعاد جدران السفل بأعيانٍ من عند نفسه، فله نقضه، وليس له منعُ صاحب السفل من السكنى إلى اتفاق النقض؛ لأنه يقول: أنا أدخل ملكي، فلا سبيل إلى منعه، ثم حيث نمنعه من النقض-وذلك إذا لم يحدث عيناً في البناء- فلو هدم، فالمذهب أنه يغرَم ما ينقصُه النقض؛ فإنه إذا بنى، فقد انقطع عمله، والبناء على صفته مملوك لصاحب السفل، فإذا هدمه، كان جانياً على ملك غيره. وسنمهد هذه القاعدة في كتاب الغصوب، ونذكر فيها ضبطاً لبعض الأصحابِ، إن شاء الله تعالى.
4201- ولو كان بنى السفل بأعيان ملكه، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنه لا يمنع صاحب السفل من الانتفاع بالسفل سُكنى، وليس للباني إلا النقضُ، والرجوعُ إلى عين ماله.
وذكر صاحب التقريب وجهاً أن لصاحب العلو الباني منع صاحب السفل فيقول له إما أن تبذل قيمة أعيان ملكي، وإما أن تنكف عن الانتفاع بها، وإذا دخلت السفل، فقد انتفعت بالسقف والجدران، وهي من أعيان ملكي، وقد بنيتُ ولي البناء.
وهذا وجهٌ غريبٌ غيرُ معتد به، والمذهب والقياسُ ما قدمناه، من أن الباني لا يملك إلا نقضَ البناء، فأما المنع من الانتفاع، فلا. والذي ذكره صاحب التقريب يشبه قياس المصالح، والمصلحة تقتضي الإجبارَ على العمارة. وتفريعنا على الجديد.
4202- فأما إذا قلنا بالقول الثاني، وهو أن الممتنع مجبر على العمارة، فلسنا نعني بها عمارةً تجلبُ مزيداً، فإنا لو أجبرنا عليها، فقد لا نجد لها موقعاً، سيما في، وإنما الإجبار على العمارة التي لو تركت، لاختل الملك بتركها، ثم قد يتداعى الخلل.
فإن اتفق إجباره، فلا كلامَ، وإن لم يصادفه، فالقاضي يبيع عليه ماله إن وجده، وإن لم يجد له مالاً، فله أن يستدين عليه، وله أن يأذن للشريك في الإنفاق على شرط الرجوع على الشريك الغائب.
ثم الأولى أن يُشهد على ما يجري ليكون أقطعَ للخصومة. ولو لم يُشهد، وأنكر صاحبه، إذْ ذاك يكون القول قول المنكر مع يمينه، فإن استبد الشريك، وأنفق بنفسه من غير مراجعة القاضي، فالذي قطع به معظم الأصحاب أنه لا يرجع على شريكه.
وذكر شيخي وصاحب التقريب وجهاًً آخر أن للشريك أن ينفرد بالعمارة، ويرجع، وهذا الوجه خرجوه على ظفر صاحب الحق بغير جنس حقه؛ فإنا في وجهٍ نجوّز له الانفرادَ ببيع ما ظفر به، واستيفاءِ الحق من ثمنه.
وقال قائلون: إن أمكنه مراجعة الحاكم، فليس له أن يستبد إذ ذاك بالإنفاق.
وهذا أعدل الوجوه، وله التفات إلى هرب الجمَّال واستئجار صاحب المتاع جمَّالاً، وستأتي تلك المسألة، إن شاء الله تعالى.
4203- ثم قال الأئمة: كما اختلف القول في الإجبار على عمارة الملك المشترك، كذلك اختلف القول في أن صاحب السفل هل يُجبَر على العمارة، مع العلم بأن السُّفل خالصُ حقه. ولكن يتعلق ببنائه حقُّ صاحب العلو، فجرى الإجبار على القول القديم على العمارة؛ لمكان حق البناء لصاحب العلو.
وإذا فرعنا على القول القديم، فبنى صاحب العلو السفلَ بأعيان ملكه، فلو أراد نقضَه، فقال صاحب السفل: لا تنقضه، وأنا أغرَم لك قيمة أعيان ملكك، فأبى الباني إلا النقضَ، فقد أجمع الأئمة في الطرق على أنه يُمنع من النقض على القديم، ونسعف صاحب السفل فَنَقْنَع منه ببذل القيمة؛ فإنا نفرع على القول القديم، ومبناه على رعاية المصلحة، والمصلحة تقتضي ما ذكرناه.
فصل:
4204- إذا ملك الرجل بيتاً، فجاء رجل واشترى منه حقَّ البناء على سطحه، فقد أجمع أصحابنا على جواز ذلك، ودلَّ عليه نص الشافعي. ثم الذي أطلقه الأصحاب أنَّ هذا بيعٌ، واتفقوا على أنه لا يعتمد ملكَ عين، ولم يمتنعوا من تأبيد العقد، والقضاءِ بلزومه، وترددوا في جواز إنشاء هذا العقد بلفظ الإجارة، فجوز بعضهم ذلك، وامتنع آخرون مصيراً إلى أن الإجارة في وضع الشرع تستدعي إعلام المقصود بطريق النهاية، وذلك يحصل بضرب المدّة تارة، وبذكر عملٍ متناهٍ أخرى: مثل الاستئجار على خياطة الثوب ونحوها.
فإن قيل: ما وجه تسمية هذه المعاملة بيعاً، ومقصودُها منفعة؟ قلنا: البيوع وإن كانت في الظاهر ترتبط بأعيانٍ تقضي بجريان الملك فيها، فنهاية المقصود ترجع إلى الانتفاع، وملكِ التصرف، وهو ضربٌ من الانتفاع، ولكن أضيفت المنافع إلى عينٍ هي متعلّقها، وُضع عن جميع حقوق المنافع فيها بلفظ الملك.
4205- قال المحققون: هذا النوع الذي نحن فيه بيعُ حقوق الأملاك، وقد قال الشافعي رضي الله عنه: الإجارة صنفٌ من البيوع، وذهب المحققون إلى جواز عقد الإجارة بلفظ البيع، ومعتمد المذهب في ذلك مسيس الحاجة إليه، وهو مضنون به، يهون بَذْلُك العوضَ في مقابلته. ثم إنما ينتظم هذا النوعُ من الانتفاع بالتأبيد، كما أن مقصود النكاح ينتظم بالتأبيد، ولا ضرورة إلى تأبيد الاستئجار للسكون وغيرِه من جهات الانتفاع، والأبنية وضْعُها التأبيد. ويجوز الوصية بالمنفعة أبداً؛ فإنا نحتمل في الوصية ما لا نحتمله في المعاملات. فهذا عقد المذهب.
4206- وذهب المزني إلى أن هذه المعاملة فاسدة، لخروجها عن قضية الإجارة والبيع جميعاً، وهذا معدود من مذهبه المختص به، لم يخرِّجه للشافعي.
واحتج المزني بأن قال: لو أخرج الرجل جناحاً في ملك غيره بعوض، لم يصح ذلك، فليكن ما نحن فيه بهذه المثابة.
قلنا له: ما استشهدتَ به يعتمدُ الهواءَ المحضَ، وأمّا حق البناء، فإنه يتعلق بعينٍ، والدليل عليه أن المزني لا يمنع استئجار بقعةٍ مدةً معلومة للبناء عليها، ولا يجوز فرضُ مثل هذا في إشراع الجناح، فبان افتراق الأصلين، في باب جواز المعاملة، في جواز أحدهما ونفيه في الثاني، وآل الكلام بعد ذلك إلى أنا نجوز تأبيد المعاملة للحاجة الماسة، كما تقرر، ولا نمنع أيضاً من تقرير هذه المعاملة إن وقع التوافق عليها.
4207- وينتظم للفقيه في ذلك مراتب: إحداها- البيعُ. والتأبيدُ مستحق فيه؛ فإنه يتضمن التمليك الحقيقي، واستئصالَ حق المتقدم بالكلية.
و هذا يشعر على بقاء الملك للمُكري، ودخول المستأجر على وجه الإلمام، والأصلُ لغيره.
ثم هذا ينقسم إلى ما يجب ضبطه بالنهاية؛ إذ لا حاجة إلى إثباته دون الضبط، وفي هذا القسم ضرورات الإجارات، ويقع في هذا ما يظهر فيه قصد التأبيد، كما نحن فيه، ولا يمتنع تأقيتُه أيضاًً.
ومن المراتب- ما يقصد فيه المنفعة، ولكن لا ينتظم أيضاً إثباته على نعت التأقيت
كالنكاح؛ فإن الغرض منه التواصل والتوصل إلى النسل، وذلك ينافيه التأقيت.
و لما كان النكاح يسوغ تأقيته في ابتداء الإسلام-لعله- كان يشير إلى اكتفاء بعض الناس بقضاء الأوطار أياماً معدودة، ثم استقر الشرع على استحقاق التأبيد؛ ليقع النكاح على وضعه، ثم قدرة الزوج على الطلاق تُفيده الاستمكانَ من الخلاص إن أراد.
4208- ثم ما ذكرناه من المعاملة لا يختص بحق البناء؛ إذ لو أراد ابتياعَ حق الممر، أو حقِّ مجرى الماء، أو مسيله في ملكه، ساغ ذلك كلُّه. والضابط أنها حقوق مقصودةٌ، تتعلق بأعيان الأملاك.
وهذا يَقُضُّ من لا خبرة له بالحقائق، وزعم أن هذه المعاملات بيعٌ، والمبيع منها الصفحةُ العليا من الموضع الذي يتعلق الحق به، وإنما أُتي هذا القائل من ضِيق العَطن، وبلادةِ الفِطن، والمصيرِ إلى أن ما سماه الشرع بيعاً يستدعي عيناً مملوكة.
وقد مهدنا القول في هذا بما فيه أكمل مقنع.
4209- ثم إذا تمهدت المعاملة، فلابد فيها-وإن تأبَّدت- من الإعلام اللائق بها، فإن كان مقصودها البناء على جدارٍ، فلابد من إعلام المبني؛ فإن الغرض يختلف بذلك، فتُذكر الجدران طولاً وعرضاً، وتوصف بكونها مُطبقة أو رَصْفاً، وتوصف السقوف بما يثبتها، ولم يشترط معظم أصحابنا ذكرَ الوزن، وحكى شيخنا عن بعض الأصحاب اشتراط ذلك. وهذا غلوٌّ ومجاوزةٌ لحكم العادة في الإعلام.
4210- ومن اشترى من أرضٍ حقَّ البناء عليها، فلا حاجة بعد تعيين الأرض وإعلام رقعتها إلى إعلام القدر المبني؛ فإن الأرض تحتمل كلَّ ثقل. وعلى هذا قال الأئمة: لا يجوز أن يقول الباني على العلو: أبني ما أشاء، ويجوز إيراد المعاملة على الأرض بهذه الصيغة.
4211- ومن لطيف ما يذكر في ذلك أن من اشترى البناء على علوّ، وصح له ما يبغيه، ثم انهدم السفل، فالقول في عمارة السُّفل والإجبار عليها، كما تقدم.
4212- والغرض الآن أن ما اشتراه إذا سُلّم إليه، وثبتت يده عليه، ثم فرض التلف، فلا يكون ذلك بمثابة انهدام الدار المكراة؛ فإن الإجارة تنفسخ، وقد تقدّم أن المقصود من المعاملة التي نحن فيها منفعةٌ مؤبدة، فلا انفساخ؛ إذ لا خلاف أن السفل لو أعيد، فحق البناء ثابتٌ لمستحقه، والدار لو أعيد بناؤها، لم تعد الإجارة التي حكمنا بأنفساخها.
فخرج مما ذكرناه أن التلف بعد التسليم لا يوجب الانفساخ، والعوض المأخوذ لا يرتد، ولكن من أتلف هذا الحق على إنسانٍ، ضمن له قيمتَه، فيقال له: اغرَم قيمةَ حق البناء على هذا الموضع.
4213- ولو باع صاحب السفل حقَّ البناء، ثم إنه أتلف السُّفل بعد التسليم، وغرمناه القيمة كما ذكرناه، وقررنا العوضَ في يده، فلو أعاد البناء بعد سنةٍ مثلاً، فيعود حق البناء. ويسترد تلك القيمةَ، ويُقضى بأنها سلمت في مقابلة الحيلولة، كما يغرَمُ الغاصب قيمةَ العبد المغصوب إذا أبق، وإذا رجع استرد العوض المبذولَ على مقابلة الحيلولة.
4214- فإن قيل: فهل يغرَم متلفُ السفل لمستحق البناء على العلو أجرةَ البناء للمدة التي دامت الحيلولة فيها؟ قلنا: لا سبيل إلى ذلك؛ فإن هذا مما يبعد تبعيضه، ومن هدم على رجلٍ داره، غرِم أرشَ النقض، ولم يغرَم قيمة منفعة الدار، بعد هدمها، كذلك القول في إتلاف السفل، وتعطيل حق البناء.
ومن هذا الوجه يُشبّه المعقودُ عليه في هذه المعاملة بالعين المملوكة تتلفُ.
والذي يوضح المقصود: أن حق البناء إذا عاد، فقيمته-وهو مؤبّد- لا تنقص عن قيمته قبل هذا بسنين وهو مؤبد، فإن ما يقدّر لا يُحطُّ مما لا يتناهى.
وليس من حصافة الفقيه أن يقول: قد يستأجر الرجل علواً للبناء عليه عشر سنين، فلنوجب مثلَ ذلك العوض على من أوقع الحيلولةَ في تلك المدة؛ فإن مسألتنا مفروضةٌ فيه إذا عاد إليه الحق المؤبد، فليفهم الناظر، ولْيتأنَّ في هذا المقام.
فرع:
4215- إذا كان للإنسان حق مجرى ماءٍ في ملك غيره واسترم ذلك المجرى، فلا يجب على صاحب الحق المشاركة في العمارة "فإن تيك العمارة تتعلق بأعيان الملك، وليست الأعيان لمستحق المجرى.
ولو كان ذلك الاختلال بسبب جريان الماء، فعمارةُ المجرى على مَنْ؟ هذا محتملٌ عندي، والظاهر أن العمارة لا تجب على مستحق الجري، ولعلنا نطلع في ذلك على تصرفٍ لبعض الأصحاب فنلحقه بهذا المحل.
فصل:
4216- إذا كان لرجل سُفل دارٍ، أو سفل خَانٍ، وما فيه من بيوت، وأروقة، وصُفَف، وكان علو الخان لآخر، وصاحب العلوّ كان يرقى من درجٍ في السفل إلى علوّه. فلو تنازعا في العرصة هي في يد من؟ فكيف التفصيل؟ قال علماؤنا: إن كان المرقى في آخر الخان، بحيث يخرق الماشي إليه العرصةَ، فالعرصةُ-والحالة هذه- في يد صاحب السفل والعلو جميعاً، فإنها محل انتفاعهما. أجمع الأصحاب على هذا في الطرق.
وفي القلب من هذا أدنى شيء؛ من جهة أنا لا نلقى لصاحب العلو في العرصة إلا حقَّ الممر، وقد قدمنا في الفصل السابق أن حق الممر يجوز أن يُشترَى على حياله، ووجدنا لصاحب السفل حقُّ الممرّ، والتبسطُ في العرصة، بالوضعِ فيها، والجلوس، وما شاء من ذلك، وكان لا يبعد في طريق المعنى ألا يثبت لصاحب العلو إلا حقُّ الممرّ، فأمّا الملكُ في رقبة العرصة، فلا.
ولم يصر إلى هذا أحدٌ من الأصحاب؛ فإنَّ المقصود الظّاهر من العرصات المرور؛ والذي يرقى إلى العلو لا يلزمه أن يستدّ في مقابلة المرقى، ولو أراد أن يجلس ساعة، أو يقف، فلا منع. وكذلك جرى العُرف بأن صاحب العلو لا يُمنع من وضع شيء في عرصة الخان.
فهذا منتهى القول في ذلك.
4217- ولو كان المرقى في دهليز الخان، فتنازعا في ذلك، فقد ظهر اختلاف الأصحاب في ذلك: فمنهم من قال: اليد فيها لصاحب السفل. ولعله الأصح، ووجهه بيِّن.
ومنهم من قال: هي في أيديهما، وهذا الخلافُ قرَّبَه الأصحابُ من التردد الذي ذكرناه في السكة المنسدّة الأسفل، إذا أشرع بعض السكان جناحاً في أسفل السكة، فهل يثبت لمن أعلاها حقُّ الاعتراض، ولا ممرَّ له في أسفل السِّكة، وهذا التشبيه قريب.
ويمكن أن يقال: العلو محتفٌّ بالعرصة احتفافَ السفل، والهواء محتوش بالسفلِ والعلو، فلا يبعدُ والحالة هذه أن تضاف العرصة إليهما؛ فإنه يقال: صحن الخان، وعرصة الخان، والعلو والسُفل من الخان. وهذا الذي ذكرناه ظاهر فيه إذا كان مالك العلو يحيط ملكه بالعلو كله.
وإن ملك بعضاً منه، وملك إنسان بعضاً من السُفل، فالاستحقاق من المستحق على قدر الاستحقاق في السفل والعلو، على التفصيل الذي ذكرناه.
4218- ولو كان المرقى على نصف العرصة لا في صدر الخان، فإن قلنا: اليد في العرصة لهما لو كان المرقى في الدهليز، فما الظن بهذه الصورة؟ وإن قلنا: يختص باليد على العرصة صاحب السفل، إذا كان المرقى في غير الدهليز، فاليد تثبت لصاحب العلوّ على ما يُسامت ممشاه من العرصة، وفيما وراء المرقى التردد الذي ذكرناه في أعلى السكة وأسفلها.
وهذه الصورة على حالٍ أولى بأن تثبت اليد فيها لصاحب العلو على ما لا ممشى له فيه من العرصة.
4219- ولو كان مرقى العلو خارجاً من خِطة الخان، فيبعد-والحالة هذه- أن يثبت لصاحب العلو يدٌ في العرصة، وليس كما لو كان المرقى في الدهليز؛ فإنَّ الدهليز من العرصة، فكان من العرصة كأعلى السكة من أسفلها.
هذا قولنا في العرصة وثبوت اليد فيها.
4220- فأمَّا الدرج والمرقى، فقد قال الأصحاب: إن لم يكن لصاحب السفل به انتفاع، ولم يكن تحته بيت مسكون، فاليد في المرقى لصاحب العلوّ فحسب. وإن كان ينتفع صاحب السفل بالدرج، بأن كان يصفف عليها الصفريّات وغيرها، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن اليد لصاحب العلو، كما ذكرناه.
والثاني: أنهما مشتركان، فإنهما مشتركان في المنفعة.
والأصح الأول؛ فإن الدرج لا تبتنى لذلك، وإنما تبنى للرقي فيها.
ولو كان تحت المرقى بيت، وهو سقفه، فاليد لهما في الدرج؛ فإنها سقفُ أحدهما من جهة، وممرّ الآخر من أخرى، فصار كالسقف من السفل والعلو.
ولو كان لا ينتفع صاحب السُّفل إلا بوضع الجدار والكيزان تحت الدرج مستظلاً بها، فالظاهر أن ذلك لا يوجب له يداً في الدرج، وفيه شيء بعيد.
4221- وأصل الدرج في يد من الدرج في يده؛ فإن مغرس الشجر، وأسَّ الجدار في يد من له اليد في الشجرة والجدار.
وقد نجز الغرض من المسائل المقصودة في الصلح. وذكر المزني فصولاً معادة، قليلةَ الفائدة، سنجمعها في فصلٍ في آخر الكتاب.
فصل:
قال: "وإن كان لرجلٍ شجرةٌ، أو نخلةٌ، فاستعلت أغصانُها... إلى آخره".
4222- إذا غرس الرجل شجرة في ملكه، فعلت وانتشرت أغصانها في هواء ملك الغير، فله أن يمنعه من ذلك؛ فإن هواء ملكه حقُّه، وإن أمكن صرفُ الأغصان عن الهواء، بأن تضم إلى الشجرة، كفى ذلك، وإن كان لا يتأتى تفريغ الهواء إلا بقطع الأغصان، فلابد من قطعها، إذا طلب صاحب الهواء تفريغه.
وانتشار العروق تحت الأرض، كانتشار الأغصان في الهواء، والأرض أولى بالتنقية؛ فإنها مملوكة، والهواء حق الملك، والشكاير التي تنبت على العروق المنبثة لمالك العروق، وإن حدثت في ملك الغير، خلافاً لأبي حنيفة.