فصل: فصل يجمع المسائل التي ذكرها المزني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل يجمع المسائل التي ذكرها المزني:

4223- ونحن نورد صورها، ونرمز إلى المُعاد، ونذكر ما يشتمل على فائدةٍ جديدة. فممَّا ذكره: أن من صالح عن دراهمَ بدنانير، أو عن دنانير بدراهم، أو عن عين بدين، أو عن دين بعين، وكل هذا ممَّا تقدّم. وممَّا زاده أنه إذا جرى القبض في المجلس، فيتعلق القول بتفريق الصفقة.
4224- وممَّا ذكره أن من ادعى داراً في يد إخوةٍ، وكانت تحت أيديهم على حكم الإرثِ في الظاهر، فقال المدعي: هذه الدار لي، كان غصبها أبوكم مني، فلو صدقه أحدُ الإخوة، وكذبه الآخران. فيثبت الثلث بتصديق ذلك المصدق.
فلو صالحه الأخ المقِر على جميع الدار، فنقول: أما صلحه عما في أيدي إخوته، فسبيله كسبيل صلح الأجنبي عن العين المدعَى عليه مع إنكاره، وقد مضى، فإن صححناه، فذاك، وإن أبطلنا الصلح في حق الآخرين، فهل يصح في حقه؟ فعلى قولي تفريق الصفقة، وقد مضى هذا في تأصيل الكتاب.
فصل:
4225- إذا ادعى على رجلين داراً، فأقر له أحدُهما بنصيبه، وأنكر الثاني، فقد
ثبت النصف بحكم الإقرار للمدَّعي، فلو صالحه المقر عن النصف الذي أقر به على مالٍ، فالصلح صحيح بينهما. فلو قال الأخ المنكر: آخذ هذا النصف بالشفعة، نُظر: فإن كان سبب استحقاق كل واحد منهما مخالفاً لسبب استحقاق الثاني، فيثبت للمنكر حقُّ الشفعة، كأن كان أحدهما اشترى نصيبه، والثاني ورثه من جهةٍ أخرى، أو اتّهبه. والسَّبب فيه أن السبب إذا اختلف، فليس في إنكار المنكر في نصيبه تكذيبُ المدعي في نصيب صاحبه، وإن كان ثبت حقهما ظاهراً من جهة واحدة لا تنقسم كالإرث مثلاً، فإذا ادّعى عليهما، فأقر أحدهما، وأنكر الثاني، ففي ضمن إنكار المنكِر تكذيبُ المدّعي في جميع دعواه، فإذا جرى الصلحُ، وحكمنا بصحته بين المدّعي والمقر، فالمذهب الظاهرُ أنه لا يثبت حق الشفعة للمنكر، وأبعد بعض أصحابنا فأثبت له الشفعة، وهذا بعيد، لا أصل له؛ فإن الإنسان مؤاخذ بحكم قوله في حق نفسه.
4226- وممَّا ذكره المزني أن من ادعى داراً في يد إنسانٍ، فأقر المدعى عليه بها، ثم صالحه على أن يبني على سطحها، جاز، وهذا كلام عري عن التحصيل، وحاصله أنه أقر بالدار، ثم طلب منه أن يُعير منه سقفها ليبني عليه، وليس هذا مما يورد في المختصرات.
4227- وممَّا ذكره المزني نقلاً عن كتاب أدب القاضي أن الشافعي قال: "لو كان البيت علوُّه لواحد، وسفلُه لآخر، فأرادا أن يقتسماه على أن يصير العلوّ لصاحب السُّفل، والسفل لصاحب العلو، قال الشافعي: لا يجوز ذلك". وإنما نقل هذا تأكيداً لمذهبه في أن حق البناء لا يجوز بيعه، وهذا كلام مضطرب؛ فإنه يجوز بيع العلو بالسفل، وإنما أورد الشافعي هذا في سياق ما لا يجبر عليه من أنواع القَسْم، وعد منها ما نقله، ولم يُرد منعَ التبادل إذا صدر عن تراضٍ منهما، ثم أنَّى هذا من مراد المزني في بيع حق البناء، والمسألة التي نقلها في بيع العلو بالسفل، والعلو مبني كالسفل.
4228- ومما نقله المزني مسألة معادة في شراء الزرع، ونحن نطردها بمزيد فائدة فيها، فنقولُ: إذا ادّعى رجل على رجل زرعاً في أرضٍ، فاعترف المدعى عليه، وصالح عن الزرع على شيء، فلابد من شرط القطع؛ فإن الصلح مع الإقرار بيعٌ. وإن لم يجر شرطُ القطعِ، والأرضُ لغيرِ المقر، لم يجز.
وإن كانت الأرض للمقر، ففي المسألة وجهان، تقدّم ذكرهما، في باب بيع الثمار، إذ ذكرنا أن من اشترى النخلة والثمرة جميعاً، فليس عليه شرط القطع، وإن اشترى الثمرة وحدها قبل بدوّ الصَّلاح، فلابد من شرط القطع. وإن كانت الشجرة له والثمرة لغيره، فاشترى الثمرة، وضم ملكها إلى ملك الشجرة، ففي اشتراط القطع الخلاف الذي ذكرناه الآن في الزرع.
4229- فلو أقر المدعَى عليه بنصف الزرع، ثم أراد بيعَه، وهو أخضر، أو المصالحةَ عنه حيث يشترط القطع، فالبيع فاسد؛ فإنّ قطعَ النصف غيرُ ممكن، ولا يتوصل إليه إلا بقطع الجميع.
قال الأصحاب: لا يتصور شراء نصف الزرع بشرط القطع، إلا في صورة واحدةٍ، وهي إذا كانت الأرض والزرع مشتركين بين شخصين، فاصطلحا على أن يصير الزرع خالصاً لواحد، والأرض خالصة لآخر، بشرط القطع. قيل: يصح، ويلزم قطع النصف، بحكم شرط القطع فيه، وقطع النصف بحكم تفريغ المبيع، وهي الأرض، وهذا فيه نظر.
وقد منع طائفة من المحققين البيعَ في هذه الصورة أيضاً؛ فإن تفريغ الأرض من الزرع لا يجب بقطعه، وإذا شُرط، لم يجب الوفاء، فيبقى تعذّر استحقاق القطع. ثم الذين قالوا بالصحّة، بناءً على شرط تفريغ الأرض، فلست أدري ما قولهم في أن شرط التفريغ هل يجب الوفاء به؟ أم هو على الجواز؟ هذا محتمل؛ من جهة أن هذا ليس في المعقود عليه من الزرع، وإنما هو في بيع حصّةٍ من الأرض.
ولو باع رجلٌ أرضاً مزروعة، واستثنى الزرع لنفسه، وشرط قلع الزرع، وتفريغ
الأرض منه، ففي وجوب الوفاء تردد للأصحابِ، قدمت رمزاً إليه في بيع الثمار.
وهذا منزَّلٌ على ذلك.
فرع:
4230- إذا كان للرجل حقُّ مسيل ماءٍ في أرض الغير، فليس له أن يدخل الأرض من غير سبب وحاجةٍ. ولكن إن مسَّت الحاجة إلى تنقيته من الحَمْأة، وسدِّ البثق، وغيره، فله طروق الأرض، لهذا السَّبب. هكذا قال الأصحاب.

.كتاب الحوالة:

4231- الأصل في الحوالة ما روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَطل الغني ظلم وإذا أُتبع أحدُكم على مليءٍ فليَتْبع». وفي رواية «ليُّ الواجد ظلم، فإذا أحيل أحدكم على مليءٍ، فليَحْتل».
والحوالة مجمعٌ عليها، ونسُمِّيها من طريق المعنى الارتفاقَ الظاهر، وهي في مخالفتها قياسَ البياعات، لما فيها من الحاجة الحاقّة- تشبهُ القرضَ، والسلمَ، والإجارةَ، وكلَّ عقدٍ أثبته الشرعُ مُرفِقاً خارجاً عن قياس النظائر.
4232- وأصل الحوالة في اللغة من الإحالة والتحويل، وصورتها في محل الوفاق بيّنة، ومدارها على ثلاثة أشخاص: المحيل- وهو من عليه الحق، والمحتال- وهو صاحب الحق، والمحال عليه- وهو الذي يحال بالحق عليه، وعليه للمحيل مثلُ ما كان للمحتال على المحيل، ولا يخفى أن الحوالة متضمنها مقابلةُ دين في ذمةٍ بدين في ذمةٍ أخرى.
4233- وقد اختلفت عبارة الأئمة عن حقيقتها وماهيتها، فقال قائلون: الحوالة معاوضة؛ لأن المحتال يعتاض ما للمحيل في ذمة المحال عليه عمَّا له في ذمة المحيل، والمحيل يعوّضه ماله في ذمة المحال عليه عما عليه للمحتال.
4234- وقال قائلون من أئمتنا: الحوالةُ استيفاءٌ، ومن كان له دين، فاستوفاهُ، فما قبضه ليس نفسَ الدين؛ فإن الدين لم يكن متعيناً، وليس ما عُيّن عوضاً عن الدين هو الدين أيضاً، بل هو الحق الموفَّى، كذلك الحوالة أقيمت استيفاءَ حقٍّ، حتى كأن المحتالَ استوفى ما في ذمته عما كان له في ذمّته، وصار استحقاقه على المحال عليه، وحلوله محل المحيل نازلاً منزلة استيفاء عينٍ عن دين.
4235- وقال قائلون: تسمية الحوالة معاوضة محضة غير سديد، وتسميتها استيفاء محضاً غير سديد، والصحيح أنها متركبة من المعاوضة والاستيفاء، فهي معاوضةٌ ضمِّنت استيفاءً، واستيفاءٌ بطريق المعاوضة. وأقرب شيء شبهاً بها ما لو أخذ مستحق الدين عوضاً عمّا له في ذمة المديون، فهذه معاوضة تضمنت استيفاء الحق.
4236- وذكر شيخي بعد تزييف محض المعاوضة والاستيفاء قولين عن ابن سريج في حقيقة الحوالة:
أحدهما: أنها معاوضة باستيفاء، والثاني: أنها ضمان بإبراء، فكان هو عن حق المحيل.
أمّا القول الأوّل- فهو الصحيح. وحاصل الخلاف أن الغالب على الحوالة معنى المعاوضة ومعنى الاستيفاء، فأما تضمنها المعنيين، فلا خلاف فيه.
وأمّا القول الثاني- وهو أنّها ضمان بإبراء، فليس له معنىً في أصل الحوالة؛ فإن المحتال يملك ما في ذمة المحال عليه في مقابلة ما كان له على المحيل، وإنّما تحسن هذه العبارة إذا لم يكن على المحال عليه دين، كما سنصف ذلك بعد هذا، إن شاء الله تعالى.
4237- ثم الأصل في الحوالة الأشخاص الثلاثة الذين ذكرناهم. ورضا المحيل والمحتال معتبرٌ، أمّا رضا المحيل؛ فإنما اعتبر؛ لأنه مالك الدين على المحال عليه، فلا يُسْتَحَقُّ عليه ماله على المحال عليه دون رضاه، وأمّا المحتال، فحقه ثابت على المحيل، فلا يتحول حقُّه دون رضاه. والعبارة الجامعة لهما أنهما على مرتبة المعاوضِيْن، فلابد من رضاهما.
وأمّا المحال عليه، فالمذهب أنه لا يشترط رضاه؛ لأنه متصرَّفٌ فيه؛ ورضا محل التصرف لا يشترط في المعاملات، والمحيل والمحتال متصرفان. وقال أبو حنيفة يعتبر رضا المحال عليه، وهو اختيار الاصطخري من أصحابنا. وهذا ضعيف لا اتجاه له.
4238- وممَّا نذكره في تأسيس الكتاب التفصيلُ فيما تجري الحوالة فيه. قال
الأئمة: يشترط فيما تجري الحوالة فيه أمران:
أحدهما: التجانس بين الدَّيْنين.
والثاني: استقرار الدين، ولزومُه، على ما نصفه.
4239- فأمَّا القول في التجانس، فلا تصح إحالة الدراهم على الدنانير، وإحالة الدنانير على الدراهم، وكذلك لا يصح إحالة الصحاح على المكسر، وإحالة المكسرة على الصحاح؛ فإن الحوالة إذا اشتملت على ما ذكرناه، لم تخل عن عوضٍ للمحيل أو المحتال، يستفاد مثله في المعاوضات المحضة، وليس في الحوالة معاوضة محضة.
وكشْفُ ذلك أن الدين على المحيل إن كان صحاحاً، فيستحيل أن يزول الاستحقاق عن صفة الصحة من غير قبضٍ حسِّي؛ فإنه لو قال: أبرأتك عن الصحة، لم يصح، وكذلك عكس هذا. فوعد المحتال لا يتحقق قبل القبض الحسي.
4240- ولو كان ما على المحيل حالاً، فالإحالة على مؤجل لم تجز؛ لما ذكرناه من الغرض المشعر بحقيقة المعاوضة، ولو حكمنا بالصحة، لكان معنى الكلام أن يلتزم المحتال تأخيراً لم يكن. ولو أحال مؤجّلاً على حالّ، المذهب أنه لا يصح؛ لغرض المحتال. ومن أصحابنا من قال: يجوز ذلك، إذا غلّبنا معنى الاستيفاء على الحوالة؛ فإن الدين المؤجَّلَ لا يمتنع تعجيل توفيته، فلتكن الإحالة على حالّ بمثابة تعجيل دين مؤجَّل. وهذا إن كان يخرّج، فعلى تغليب معنى الاستيفاء، ولكن يلزم منه تصحيحُ إحالة الصحاح على المكسرة، والمكسرة على الصحاح؛ فإن ذلك يجري في الاستيفاء أيضاًً مع الرضا، من غير احتياج إلى اعتياض.
وكان شيخي ربما يذكر وجهاًً، ويقول: كلّ ما لا يؤخذ في مقابلة الدين إلا معاوضة، فلا تجوز الحوالة عليه، وكل ما يؤخذ استيفاء من غير حاجةٍ إلى الرضا، فيجوز إحالةُ الدين عليه إذا كان ديناً، وكل ما يجوز استيفاؤه، ولكن يشترط فيه الرضا، ففي جواز الإحالة الخلافُ الذي ذكرناه. والظّاهر المنع.
وقال العراقيون: كل ما هو من ذواتِ الأمثالِ يجوز أن يحال الدين فيه على مثله، وما ليس من ذواتِ الأمثالِ إذا فرض دينان مع اتحاد الجنس والنوع، فهل تصح الإحالة فيه؟ فعلى وجهين. ويمكن تصوير ثبوت العروض والحيوانات في الذمة، في القرضِ على وجهٍ ظاهرٍ لا يحتاج إلى ردّ الأمر إلى الحوالة في السلَم.
هذا قولنا في أحد الوصفين المعتبرين، وهو التجانس.
4241- فأما الوصف الآخر وهو الاستقرار، قال الأئمة: لا تصح الحوالة على نجم الكتابة، ولا بنجم الكتابة، كما لا يصح ضمانه.
وحكى العراقيون وجهاً غريباً عن ابن سريج: أنه صحح ضمانَ النجم، والحوالةَ به، وعليه. وهذا يأتي مشروحاً في أول كتاب الضَّمان، إن شاء الله.
وقال العراقيون: الحوالة على نجم الكتابة فاسدةٌ على ظاهر المذهب، فأمَّا إذا أحال المكاتَبُ بالنجم على دينٍ ثابت، فهو صحيح؛ لأنَّ الجائز لا يضر أن يكتسب نادراً. والذي ذكره القاضي منعُ الحوالة بالنجم وعلى النجم؛ فإن وضع النجوم على الجواز.
وتحصيل القول في هذا عندنا أن المكاتب يُحيل بالنجم الأخير الذي يحصل العتق به، وكذلك يحيل بجميع النجوم دفعة واحدة. فأما الإحالة على المكاتب بالنجم الأخير لا يجوز؛ إذ لو قدر جوازُها، لما عَتَقَ المكاتَب؛ إذ عتقه يوجب براءَته، وإذا برىء، فما الذي يؤديه إلى المحتال؟ بخلافِ الحوالة بالنجم؛ فإن الدين يبقى في ذمة المحال عليه، ويعتِق.
4242- هذا ولم يذكر في شرط الحوالة ما لا خفاء به، وهو أن تتعلق بدينين، ولا يجوز فرضُ عَيْنٍ في أحد الشقين.
4243- ومما يتعلق بأصول الكتاب الحوالة على من لا دين عليه، وقد ذكر ابن سريج فيها وجهين:
أحدهما: أنها لا تصح.
والثاني: أنها تصح، وخرَّج هذا على تغليب المعاوضة أو الاستيفاء، وقال: إن قلنا: إنها معاوضة، لم يصح؛ إذ لا عوض في أحد الشقين، وإن قلنا: استيفاءٌ، صح. وكأنَّ من لا دين عليه وفّى الدين على مستحقه، وذلك غير ممتنع.
وهذا كلام مختلط. والصحيح عندنا أن يخرّجَ هذا على أصلٍ سيأتي في الضمان، وهو أن الأجنبي الذي لا دين عليه لو ضمن ديناً على إنسان، على شرط براءة المضمون عنه، ففي صحة ذلك وجهان سيأتي ذكرهما، والذي نحن فيه بهذه المثابة؛ فإن المحال عليه لا دين عليه، وإنما التزم على شرط أن يبرأ من أحال عليه، وليس ما نحن فيه مأخوذاً من ذلك، بل هو عينه.
4244- ثم إن قلنا: الحوالة على من لا دين عليه باطلةٌ، فلا كلام.
وإن قلنا: صحيحة، فقد ذكر العراقيون وجهين في أنها جائزة، أو لازمة:
أحدهما- أنها لازمة، ولا يكاد يخفى معناها.
والثاني: أنها جائزة، وللمحال عليه الفسخ، ولا يتوجه عليه المطالبةُ، ولا يتم الأمر ما لم يُسلَّم الدينُ إلى المحال، فإذا سلِّم، لم يملك الاستردادَ.
ووجه الجواز عندي باطل ملغىً، لا أصل له؛ إذ لا أثر لقول القائل: الحوالة صحيحة، ولا مطالبةَ، وقولُ هذا القائل: إن الغرض يتم بالتوفية لا حاصل له، مع العلم بأن أجنبياً لو وفَّى دينَ إنسان، وقع الموقع.
4245- ومما يتفرع على ذلك أن المحالَ عليه إذا لم يكن عليه دين، وصححنا الحوالة، وألزمناها، فقد قطع العراقيون بأنه يملك مطالبة المُحيل بتحصيله، قبل أن يغرَم للمحتال.
قال الشيخ أبو علي: لم يذكر الأصحاب غيرَ ذلك، وقطعوا أقوالهم به إلا القفالَ؛ فإنه ذكر لذلك وجهين:
أحدهما: ما ذكرناه.
والثاني: ليس له مطالبةُ المحيل بتحصيله، ولكن إذا غرِم المحال عليه للمحتال، فنقول: إن تقبّلَ الحوالةَ على شرط الرجوع على المحيل، فإذا غرم، رجع عليه. وإذا لم يشترط الرجوعَ، فإذا غرِم، فهل يرجع؟ فعلى وجهين: سيأتي نظيرهما في كتاب الضمان، إن شاء الله تعالى.
4246- وممّا ذكره العراقيون في تفريع ذلك أن المحال عليه الذي لا دين عليه، إذا أبرأه المحتال عمّا التزمه. قالوا: لا يرجع على المحيل؛ لأنه لم يغرَم شيئاًً.
ولو غرِم للمحتال ما التزمه بطريق الحوالة، ثم إن المحتالَ وهب عين ما قبضه من المحال عليه، فهل يملك المحالُ عليه الرجوع على المحيل؟ فعلى قولين مأخوذين من أصلٍ في كتاب الصداق.
وهو أن المرأة لو وهبت صداقها من زوجها، ثم طلقها قبل المسيس، فهل يرجع عليها بنصف قيمةِ الصّداق، أو لا رجوع عليها؟ فعلى قولين مشهورين: قال شيخي: إذا أصدق امرأته دَيْناً، ثم إنها أبرأته، فطلقها قبل المسيس، وقلنا: لو وهبت الصداق قبل الطلاق، لم يملك الزوج الرجوع عند الطلاق بشَطر الصداق، فإبراؤها بذلك أولى. وإن قلنا: لو وهبت الصداق قبل الطلاق، ملك الزوج الرجوعَ، ففي الإبراء قولان. ثم قال: إبراء المحال عليه، الذي لا دين عليه كبراء المرأة زوجَها، ورجوعُ المحال عليه على المحيل كرجوع الزوج بنصفِ الصَّداق عند الطلاق.
4247- ومما يتعلق بأصولِ الحوالة أنها إذا تمت على شرطها، ثم طرأ على المحال عليه إفلاسٌ، أو جَحْدٌ للحق، ولم يصادف المحتال بيّنةً يُقيمها، فلا يرجع على المحيل أصلاً، وليس إفلاسُ المحال عليه كإفلاس المشتري بالثمن، وقد ذكرنا معتمدَ المذهب في القاعدتين في (الأساليب).
4248- ولو أحيل على من ظنه غنياً، ثم تبين أنه كان عند الحوالة مفلساً، فهل يثبت له حق الفسخ والإفلاسُ مقترنٌ بالحوالة؟ فعلى أوجهٍ؛ جمعتها من الطرق: أحدها: أنه لا خيار؛ فإن الحوالة في وضعها إذا صحت، لم تحتمل الفسخ؛ إذ هي قاطعةٌ للعلائق بالكلية. والوجه الثاني- أنه يَفسخ تداركاً لما لحقه وما كان مطلعاً عليه، وليس كالإفلاس الطَّارىء؛ فإنا قد نجعل الحوالة في نفسها بمثابة قبض الحق، والطريانُ بعد القبض لا يُثبت الفسخ.
فأما إذا اطّلع القابض على عيب قديم، فالذي تمهد في الشرع ثبوت الفسخ. ومن أصحابنا من قال: إذا كانت الحوالة مُطلقة، فلا خيار، وإن جرى فيها شرطُ مَلاءة المحال عليه، ثم اختلف الشرط، فيثبت الفسخ إذ ذاك؛ فإن الحوالة أُنشئت على اقتضاء الدين، فيجب الوفاءُ بموجبها، فإن قيل: هل صار إلى نفي الخيار مع الشرط وإخلافه أحدٌ من الأصحاب؟ قلنا: نعم. ذهب إليه ذاهبون، فصاروا إلى حسم الفسخ، وإلغاء الشرط. حكاه العراقيون.
4249- وتردُّدُ الأصحابِ في قبول الحوالة الفسخَ عند الاطلاع على فلس المحال عليه يقرب من ترددهم في أن الحوالة هل يلحقها خيار المجلس والشرط؟ وفيه خلافٌ قدمته في أول البيع. مبنيٌّ على أن حكم المعاوضة أغلبُ على الحوالة؟ أم حكم الاستيفاء، وفيه الخلاف الذي مهدناه الآن.
فرع:
4250- إذا كان الدين على المحيل مؤجَّلاً، وكذلك على المحال عليه، واستوى الأجلان في مقدارهما، صحت الحوالة. فلو مات المحيل، فلا يَحِل الدين بموته؛ فإنه قد تحول الدَّين عن ذمته، ولو مات المحال عليه، فيحل الدين حينئذ؛ س فإنه المديون الآن. ذكره العراقيُّون وغيرُهم. ولا خفاء به. ولكني أحببتُ نقله منصوصاً.

.باب: في مَسائِلَ:

قال المزني: تحريتُ فيها معنى قول الشافعي رضي الله عنه، "فمن ذلك: لو اشترى عبداً بألف درهم... إلى آخره".
4251- صورة المسألة أنه إذا باع عبداً من رجل بألفِ درهم، وأحال المشتري البائعَ على رجلٍ بالثمن، ثم اطلع على عيبٍ قديم بالعبد، فرده، فالذي نص عليه المزني هاهنا: أن الحوالة ترتد، وتبطل، ونص في المختصر الكبير أنها لا تبطل. ومنصوصات المزني في مجال التحرِّي معدودةٌ من مَتْن المذهب، وهي عند المصنفين كنصوص الشافعي، فالذي ذهب إليه الجمهور تخريجُ المسألة على قولين مخرّجين مبنيين على أن الغلبةَ للمعاوضة أو للاستيفاء؟ فإن جعلناها معاوضة، لم نبطلها، كما لو اعتاض البائع عن الثمن ثوباًً اعتياضاً صحيحاً، ثم وجد المشتري بالعبد المشترَى عيباً، فردّه، فلا يرتد ما جرى من الاعتياض عن الثمن، فلتكن الحوالة كذلك، بل الحَوالة أولى، بألا تنفسِخ؛ فإنها بعيدةٌ عن قبولِ الفسخ.
وإن جعلنا الحوالة استيفاءً، بطلت؛ لأنها نوعُ رِفقٍ في الاستيفاء، فإذا بطل الأصلُ، بطل الرِّفْق الذي كان تبعاً له، كما لو باع بألفٍ مكسرٍ، فقضاه المشتري صِحاحاً، ثم رد المبيعَ بالعيب، فإنه يسترد الصحاح. وليس للبائع أن يقول: أغرَم المكسرَ، ليسلم لي ما سمحتَ به من الصحة؛ لما ذكرناه في التبعية. ولو اشترى بالصحاح أولاً، ثم رضي البائع بالمكسر، فإذا ردّ المشتري بالعيبِ، فلا يرجع إلا بالمكسر.
4252- ومن أصحابنا من قال: إن جرى فسخُ البيع قبل قبض المبيع، ارتفعت الحوالة. فإن جرى الفسخ بعد القبض، لم ترتفع. وهذا القائل يفصل بين الحالتين بتعرض البيع لقبول الفسخ قبل القبض. وهذا مزيفٌ. والأصل إطلاق القولين قبل القبض وبعده.
4253- وكان شيخي يقول في التفريع على هذه القاعدة: ولو أحال المشتري البائعَ بالثمن على إنسانٍ في زمن الخيار الثابت في البيع، فالأصح صحةُ الحوالة، وإن كان العقد جائزاً، بخلاف الحوالة في تجويز الكتابة؛ فإن عقد البيع، وما فيه من عوضٍ، لا يلتحق بالأعواض الجائزة التي لا ثبات لها. والخيار طارىء فيه، فإذا أفضى في العاقبة إلى اللزوم، كان الحكم على موجب اللزوم.
4254- ومن أصحابنا من منع الحوالة في زمان الخيار، مَنْعَ ضمان النجوم، ثم قال: إذا صححنا الحوالة في زمان الخيار، ففُسخ البيعُ بالخيار، ارتدّت الحوالة بلا خلاف؛ فإنها إنما صحت على تقدير إفضاء البيع إلى اللزوم، فإذا لم يُفضِ إليه، فلا سبيل إلى التزام الحوالة في الثمن، وقطع الخيار في المبيع.
التفريع على القولين في صورة الرد بالعيب:
4255- فإن قلنا: لا تبطل الحوالة، فالمشتري هل يرجع على البائع بما أحاله؟ نُظر: إن كان البائع قبضه، فلا شك أنه يرجع عليه، ولا يتعين عينُ ما قبضه، فإن أحبّ أتى ببدلٍ عنه، وتعليله بيّن.
وان لم يكن قبض البائع من المحال عليه، فهل يرجع المشتري على البائع؟ فعلى وجهين: أقيسهما- أنه يرجع؛ لأن الحوالة أقيمت مقام الإقباض في وضعها، بل هي أقوى من الإقباض؛ فإن القبض قد يُنقض، والحوالةُ بعيدةٌ عن قبول النقض.
والثاني: لا يرجع عليه؛ لأن الاسترداد على حسب الإقباض، وهو لم يقبضه حساً، فكيف يسترد منه حساً، بل سبيل الاسترداد أن يقع إذا حصل القبض الحقيقي.
4256- ثم إن قلنا: الحوالة باقية، فلا شك أن البائع يطالب المحال عليه بتوفية مال الحوالة، فلو أبرأه على هذا، فيضمن حينئذ للمشتري الثمنَ؛ فإنَّ إبراءه بمثابة استيفائه.
وممّا ينشأ من ذلك: أنا إذا قلنا: لا يرجع المشتري على البائع قبل قبض مال الحوالة، فهل يملك مُطالبتَه بمُطالبة المحال عليه أم لا؟ من أصحابنا من قال: يملك مُطالبتَه على النحو الذي ذكره؛ لأن البائع مالكٌ لمطالبة المحال عليه، فيبعد أن يمتلك البائع ذلك من جهة المشتري، ولا يثبت للمشتري أصلُ توجيهِ المطالبةِ. ومن أصحابنا من قال: لا يملك المشتري الرجوعَ بالثمن، ولا المطالبةَ بتحصيله. وهذا بعيدٌ جداً.
4257- وإن حكمنا بأن الحوالة تنتقض برد المبيع، فإنْ كان قبض المال قبل الرد، فهل نحكم بأنتقاض الحوالة الآن؟ وفائدةُ ذلك أن يتعين على البائع ردُّ عين ما قبضه؟ أم نحكم بأن الحوالة لا تقبل النقضَ بعد قبض المال من المحال عليه؟ فعلى وجهين، وفائدة قولنا: لا تنتقض، أن البائع لو أراد أن يأتي ببدَلٍ عما قبضه، ولا يردّ عينَه، كان له ذلك. ولو لم يقبض البائع المالَ من المحال عليه حتى حكمنا بارتفاع الحوالة، فلا شك أن المطالبة تنقطع عن البائع، وينقلب الدّينُ في ذمة المحال عليه، بعد الحكم بانفساخ الحوالة، فلا شك أنه لا يقع قبضُه لنفسه. ولكن هل يقع عن المشتري؟
فعلى وجهين ذكرهما شيخي:
أحدهما: وهو الذي لا يتجه غيرُه- أنه لا يصح قبضُه للمشتري؛ فإن الحوالة لم تقع للمشتري، وإنما وقعت للبائع، فإذا انفسخت وزالت، لم يبق لها أثر، ويستحيل أن تنعكس الحوالة وكالةً بالاستيفاء.
والوجه الثاني- أن قبضه يصح عن المشتري؛ فإنه جرى الأمر بالقبض على جهةٍ، فإن بطلت تلك الجهة، بقي الأمر المطلق. وهذا بعيد.
وكان شيخي أبو محمد يقرّب هذا الاختلاف من أصلٍ بعيد عن وضع المعاملاتِ، وهو أن من تحرّم بصلاة الظهر، قبل الزوال، وحكمنا بأن صلاته لم تنعقد فرضاً، فهل يُقضى بأنعقادها نفلاً؟ فعلى قولين، أجريناهما في هذه المسألة وفي نظائرَ لها.
4258- ولو أصدق الرجل امرأته ديناً، ثم أحالها زوجها بصداقها على إنسان، وطلقها قبل المسيس، فهذا في نصف الصداق يناظر ما لو أحال المشتري البائعَ بالثمن، فهل يُحكم ببُطلان الحوالة في نصف الصَّداق؟ اختلف أصحابنا على طريقين: منهم من أجراه على القولين المذكورين في البيع، ومنهم من قطع القول بأنّ الحوالة لا تبطل؛ وذاك لأن الطلاق ليس بفسخٍ في الحقيقة، بل هو تصرف في الملك، وليس كذلك الرد بالعيب، والصداق في الجملة أثبت من غيره. ولهذا قلنا: إن الصداق إذا زاد في يد الزوجة زيادةً متصلة، منعت تلك الزيادةُ ارتدادَ النصف عند الطلاق قبل المسيس، ولا تمنع الزيادةُ نفوذَ شيء من الفسوخ. ولو كان الصّداق يرتد إلى الزوج بسبب فسخ من الفسوخ، فالقول في الحوالة كالقول في العقد الذي يطرأ عليه الرد بالعيب، ولا فرق، وإنما التردد في الطلاق.
4259- ولو باع الرجل عبداً بألفٍ، ثم أحال البائع رجلاً له عليه مثلُ الثمن، فأحاله على المشتري، ثم وجد المشتري بالعبد عيباً، فرده، فالأظهر في هذه الصورة أن الحوالة لا تنفسخ؛ لأنها تعلقت بثالثٍ؛ إذْ تحقق تعلقُها بغير المتعاقدَيْن.
ومن أصحابنا من أعاد ذكرَ الخلاف في هذه الصورة، وجعل الحوالة على المشتري كإحالة المشتري البائع على إنسان، وعلل بأن الحوالة وإن تعلقت باستحقاق ثالثِ؛ فإنها تبعٌ للبيع والتبعية لا تزول. وهذا وإن كان منقاساً، فهو غريب، حكاه العراقيون، والقاضي، وغيرُهم.
وإذا وقع التفريع على الأصح، وهو أن الحوالة تبقى ولا تنفخس، فإذا فسخ المشتري العقدَ بالرد، وكان غرِم للمحتال، فلا شك أنه يرجع على البائع وإن لم يكن غرِم فعلى وجهين:
أحدهما: أنه لا يرجع عليه؛ فإنه لم يغرَم بعدُ شيئاًً.
والثاني: أنه يرجع عليه، فإنَّ الاستحقاق قد تأكد عليه، وحسابه مع المحتال لا يتعلق به حكم العقد؛ إذ لو كان تتعلق الحوالة بالعقد، لارتفعت بارتفاع العقد.
فصل:
قال المزني: "ولو أحال رجل على رجلٍ بألفِ درهم، وضمنها، ثم اختلفَا... إلى آخره".
4260- إذا كان لرجل على رجلٍ دينٌ، وكان للمديون دينٌ على آخر يماثل الدينَ الأول، فأمر المديونُ مستحقَّ الدين بقبض ذلك الدين. ثم اختلفا، فادّعى أحدهما أن الذي جرى حوالة وادّعى الآخر أنه لم يجر إلا وَكالة، نُظر: فإن قال الآمر: قد قلت لك: وكلتُك بقبض ما لي على فُلان، أو قلت: اقبض ما لي عليه، ونويتُ الوَكالة. وقال المأمور: لا بل قلتَ لي: أحلتك، أو قلت: اقبض ما عليه، ونويتَ الحوالة، فالقول قَولُ الآمر؛ لأن الأصلَ أنْ لا حوالة، وأنّ ملكَه باقٍ في ذمّة ذلك الثالث.
وإنما يثور هذا الخلاف إذا كان المحال عليه موسراً، وكان استيفاءُ الدين منه أيسر.
4261- فإن جرى النزاعُ كما ذكرناه، فالقولُ قول الآمر كما وصفناه، ثم إن صدقنا الآمر، فلا يخلو: إمّا إنْ قبض المأمور، أو لم يقبض. فإن لم يكن قبض قبَّضه الآمر، وإن كان قبض، نُظر: فإن كان قائماً، استردّه من المأمور إن كان حقُّه مُؤجَّلاً، وإن كان حقُّ المأمور حالاً، فقد ظفر بجنس حقه، وإن عسر عليه استيفاء جنس حقه منَ الآمر، فازَ بما قبضه. وإن لم يعسر ردّ عليه ما قبضه، وطالبه بحقه.
ولو كان قبض، وتلف في يده، فالآمر لا يُطالبُه بالضّمان؛ من قِبَل أنه اعترف بكونه وكيلاً قابضاً له على حكم الوكالة، ولم ينسبه إلى تفريطٍ مضمِّن. والتجاحُد جرى بعد التلف، فلا يتضمن عكس الضّمان على ما تقدم، والمأمور لا يطالب الآمرَ بحقه؛ فإنه اعترف بسقوط حقه بالحوالة، فتنقطع الطَّلبة من الجانبين بسببين.
4262- ولو اختلفا، وما كان قبض، فالقول قول الآمر في نفي الحوالة؛ كما ذكرناه، والمأمور لما ادّعى الحوالة، فقوله يتضمن الانعزالَ عن الوَكالة، والوكيل إذا ذكر ما يوجب عزلَه، لم يكن له أن يقبض.
فإذا تعذر على المأمور استيفاءُ حقه من المحال عليه لما ذكرناه، فهل له مُطالبة المحيل الآمر؟ فعلى وجهين في طريقة العراقيين:
أحدهما: ليس له ذلك؛ فإن المأمور يُقرّ بأن ذمة الآمِر قد برئت، وتحوّل دينُه. والوجه الثاني- له المطالبة؛ فإنه تعذّر على المأمور حقُّه من جهة المحيل الآمِر؛ فهو الذي عسَّر عليه الحوالة، وهو معترفٌ.
ولو كان الاختلاف على العكس، فقال الآمر: أحلتك، وقال المأمور: بل وكلتني، فالقول في نفي الحوالة قولُ المأمورِ؛ فإنّ الآمرَ يبغي بما ذكره سُقوطَ حقِّ المأمور عن ذمته، والأصل بقاءُ حقه. وهذا في الغَالب يتفق حيث يكون المحال عليه معسراً، والآمر يطلب نفيَ الطَّلِبة عن نفسه.
4263- ثم إذا جعلنا القولَ قولَ المأمور، فلا يخلو: إمّا إن كان قبض، أو لم يكن قبض، فإن لم يكن قبض المأمورُ، فلا يقبضه؛ لأن قول الموكل: ما وكلتُك يتضمن عزْلَه لو كان وكيلاً. أو كان قبض، فإن كان قائماً في يده، فالآمرُ يزعم أن المقبوضَ حقُّ المأمور وملكه، ولا حق له عليه. والمأمور يزعم أن المقبوضَ ملكُ الآمر، وحقُّه باقٍ في ذمته. وقد ذكرنا أن القول قولُ المأمور في بقاء حقِّه في ذمة الآمر. فإن عسر عليه استيفاءُ حقه، فالوجه أن يتملك المقبوضَ؛ لأنه جنس حقه. وإن تيسر استيفاء حقِّه منه، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: يطالِبُ الآمرَ بحقه، وما قبضه موقوفٌ، ومنهم من قال: ما قبضَه يكتفي به، ولا يطالِبُ.
والخلاف مخصوص به إذا لم يكن قبض، فإذا كان قبض، فاعترافُ الآمر بأنه حقُّه كافٍ نازلٌ منزلة تمليكه إيَّاه الآن.
ولا خلافَ أن الآمرَ لو قال للمأمور: لمْ تصدقني وزعمتَ أن ما قبضتَه حقي، فقد وَفَّيْتُكَ إياه، فيجتمع لك من قولي الأخير، وقولي الأول الملكُ في المقبوض، فقد تمس الحاجة إلى تصوير القبض كما قدمناه في كتاب البيع والرهن في إقباض الإنسان شيئاً لحقه، وهو في يده.
فهذا كله فيه إذا قبض، والعين قائمةٌ في يده.
4264- فأمّا إذا قبض، وتلف، فهل يكون التالف مضموناًً عليه؟ فعلى وجهين، ذكرهما الإمام وصاحب التقريب:
أحدهما: أنه يكون مضموناً على المأمور.
والثاني: لا يكون مضموناًً عليه.
توجيه الوجهين:
من قال: إنه لا يضمنه، قال: لأنا جعلنا القول قولَهُ في نفي الحوالة، فإذا انتفت الحوالة، ثبتت الوكالة، والمالك ليس يدعي إلا جهةَ الحوالة، فإذا انتفت، لم يبق على زعمه ما يقتضي الضّمان.
ومن قال: إنه يكون مضموناًً عليه، قال: إنا إنما نجعل القولَ قولَ المأمور؛ لأن الأصل بقاءُ طَلِبته على الآمر، وهو يدّعي انتفاءَه، فإذا آل الأمرُ إلى الغرامة، فالأصل أن ماله لا يكون أمانةً، إلا أن يُقرّ بها، ومن تلف في يده ملكُ غيره، فالأصل أن يكون مضموناًً عليه.
ولهذا نظائر، منها: أن المشتري والبائع إذا اختلفا في عيبٍ، فزعم المشتري أنه قديم، وزعم البائعُ أنه حادث، فالقول قول البائع، كما ذكرناه في البيع. فإذا صدقناه، وحلفناه، وجرى القضاء به، ثم اختلف هو والمشتري في قدر الثمن، وتحالفا، وأوجب ذلك ترادّاً، فلو قال البائع: غرمُوا المشتري أرشَ العيب؛ فإنه ثبت بيميني أن العيب حادثٌ في يده، فلا يلزمه أرشُ العيب. وقد مهدنا ذلك في مواضِع.
وقد يتطرق إلى وجه إثباتِ الضّمان سؤالٌ: وهو أن الآمر معترف بأن ما قبضه المأمور ليس ملكاً للآمر، فلا يجري ما ذكرنا في هذا الوجه، من أن الأصل أن ملك الغير مضمونٌ، ولكن يتجه أن نقول: قولُ الآمر يتضمن قبضاً على حُكم الضّمان، ولكنه ضمانُ مقابلةٍ، والتعويل على نفيه الأمانة، والأصل عدمُها.
4265- وكل ما ذكرناه فيه إذا لم يجر بين الآمر والمأمور لفظُ الحوالة، فأمّا إذا جرى بينهما لفظُ الحوالة، فقال الآمر: أحلتك بكذا على فلانٍ، ثم يُفرض الخلاف مع جريان لفظ الحوالة، من وجهين:
أحدهما: أن يقول الآمر: ذكرتُ لفظَ الحوالة، ولكن أردتُ به الوكالة، وقال المأمور بل أردتَ الحوالة. فالذي يدل عليه ظاهر لفظ المزني في المسائل التي يُجريها أن القول قولُ الآمر؛ فإنه ذكر الإحالةَ والحوالةَ، ثم فرض الخلاف، ثم قضى بأن القولَ قولُ الآمر، ولو كان يختلف الأمر باللفظ، لتعرض له؛ فإن التصوير لا يتم إلا باللّفظ إذا كان الحكم متعلقاً به؛ فإذاً ظاهرُ قوله إن القول قولُ الآمر.
قال صاحب التقريب: قد ذكر ابنُ سريج في المسألة قولاً آخر: إن القول قول المأمور الذي يدّعي حقيقةَ الحوالة؛ فإن لفظ الحوالة موضوعٌ لمقصودٍ وضعاً صريحاً، فمن أراد حملها على خلاف معناها، لم يقبل منه، كما إذا ذكر لفظاً من صرائح الطلاق، ثم حمله على خلاف ظاهره، فلا يقبل ذلك منه.
وحاصل القولين راجعٌ إلى أنَّا على قول المزني لا ننظر إلى لفظِ الحوالة، ولكن ننظر إلى قياس الاختلاف، وقياسه يقتضي أن المأمورَ إذا ادعى حوالةً، والآمر ينفيها، فالقول قول الآمر. وعلى القول الثاني يُعتبر صريحُ الحوالةِ، ولا يقبل قول من يحيدُ عن ظاهر معناها، مع الاتفاق على صدور لفظها من الآمر.
4266- وذكر بعض المحققين وجهاًً ثالثاً، فقال: إن قال: أحلتُك بالألف الذي لي على فلان، ولم يقل بالألف الذي لك عليَّ على الألف الذي لي على فلانٍ، فيجوزُ أن يقال: القول قولُ من يدعي الوَكالة؛ لأنه لم يقل بالألف الذي لك عليّ.
ولو قال: أحلتك بالألف الذي لك عليّ على الألف الذي لي على فلان، ثم ادّعى الآمرُ الوكالة، فلا يقبل ذلك منه.
وهذا التفصيل لا ينتهض عندي وجهاًً ثالثاً؛ إذ لا يجوز أن يقدّر خلافٌ فيه، إذا قال أحلتك بالألف الذي لك عليّ، على فلانٍ بالألف الذي لي عليه، فادعاء الوكالة بعد هذا الامتناع لا وجه له، فالوجه أن نقول: إن صرح كما صورناه آخراً، فلا وجه إلا القطعُ بتصديق المأمور. وإن أطلق الحوالةَ، ولم يقيدها بهذه القيود الصريحة، فإذْ ذاك ينقدح ذكر القولين.
التفريع:
4267- إن قلنا: القول قولُ المأمور في ثبوت الحوالة، فلا كلام. وإن قلنا: القولُ قول الآمر في نفي الحوالة، فإذا نفاها، فقد اختلف أصحابنا فيما رتبه صاحب التقريب: فمنهم من قال: إذا نفى الحوالةَ، انقطعت علائقها بالكلية. وهذا هو القياس على هذا القول. والوجه الثاني- أنه يكون بمثابة حوالة فاسدةٍ، فلا يُرفع حكم الحوالة من كل وجه؛ للفظ الحوالة. وهذا كما يثبتُ الضّمان في البيع الفاسدِ، ويثبت في الكتابة الفاسدة بعضُ أحكام الكتابة الصحيحة.
فإن قلنا: إن سبيله سبيلُ الحوالة الفاسدة، فإذا كان المحال عليه سلَّم المال إلى المحتال، فهل يبرأ بالتسليم إليه ممّا عليه؟ فعلى وجهين ذكرهما:
أحدهما: أنه يبرأ بالدفع إليه، والآمر يُطالب المحتالَ.
والثاني: لا يبرأ بالدفع إلى المحتال؛ فإنه لم يكن سبيلُه سبيلَ الوكالة المحضة، ولم تصح الحوالةُ أيضاًً؛ فعلى هذا يطالِبُ الآمرُ المحَالَ عليه بحقه، ثم المحالُ عليه يسترد من المحتال ما سلمه إليه.
وهذا عندي بُعدٌ بحقه. والوجه أن نقول: إذا نفينا الحوالةَ ثبتت قضية الوَكالةِ؛ فإن الأمر بقبض المال من المحال عليه متفق عليه، والنزاع في وجهه. وقد ذكر المتداعيان وجهين، فإذا انتفت الحوالة، وصدقنا الآمر، فالوَجْه ثبوتُ الوَكالةِ، وعلى هذا يبرأ المحالُ عليه بما دفعه إلى المأمور.
وما ذكرناه صورةٌ واحدةٌ في الاختلافِ، مع جريان لفظ الحَوالة.
4268- فلو كان النزاع على العكس، فقال الآمر: أردتُ لفظَ الحوالة، وقال المأمور: ما قبلتُ الحوالة، وإنما قبلت الوَكالة، قال الأصحاب: قياسُ المزني أن القول قولُ المأمور، فإنّ الأصل بقاءُ طَلِبته على الآمر. وعلى قياس ابن سريج القول قولُ من يُثبت الحوالةَ كما ذكرناه، تمسكاً باللفظ. فإن قيل: قَصْدُ الآمر فيما زعم مُطابقٌ للفظه الصريح، فهلاَّ قطعتم بتصديقه؟ قلنا: الأمرُ كذلك. ولا تتم الحوالة إلا بقبول المحتال، وقد زعم أنه نوى قبولَ الوكالة، فعاد التردُّدُ في أن الاعتبارَ بالقصد، أوْ بظاهر اللفظ.
فصل:
4269- ذكر المزني صوراً ظاهرةً في الحوالة، نذكرها على وجهها. قاك: لو أحال زيدٌ عمراً على بكرٍ، بما له عليه من الحق، ثم أحال بكرٌ عمراً على خالدٍ، ثم أحاله خالدٌ على جعفرَ، فذلك جائز. ولو أحال زيدٌ عمراً على بكرٍ، ثم عمرو أحال خالداً على بكرٍ، ثم خالدٌ أحال عبدَ الله على بكرٍ، فهذا جائز. وقد تعدد المحتال في هذه الصورة والمحال عليه واحد، وفي الصورة الأولى تعدد المحال عليه، والمحتال واحد.
فرع:
4270- إذا جنى على إنسانٍ؛ والتزم الأرشَ، وجُني عليه، فاستحقَّ الأرشَ، فإن كان الأرشان دراهم أو دنانير، جازت الحوالة. وإن كان الأرشُ إبلاً من الجانبين، فهذا ينبني على ما قدمناه من أن الحوالة هل تجري في غير ذواتِ الأمثالِ؟ فإن قلنا: إنها تختص بذواتِ الأمثال، فالحوالة فاسدة في مسألتنا هذه. وإن قلنا:
إنها تجري في كل موصوفٍ مستقرٍّ في الذمة، فهل تجري في إبل الدية؟ فعلى وجهين مَبْنِيَّيْنِ على أن الاعتياض عن إبل الدية هل يجوز؟ وفيه قولان سبق ذكرهما.
وسيأتي استقصاؤهما في الديات، إن شاء الله تعالى.
فرع:
4271- إذا ضمن مالاً بإذن المضمون عنه، وأحال المضمونَ له بذلك المال الذي ضمنه على واحد، رجع على المضمون عنه، كما لو أدّاه. ولو ضمن رجلان ألفاً عن واحدٍ، كل واحد منهما ضمن نصفَه، ثم ضمن كل واحد من الضّامنين عن صاحبه، فلو أحال أحدهما المضمونَ له بالألفِ على واحدٍ، فإنه يرجع بخمسمائةٍ على المضمون عنه، وبخمسمائةٍ على صاحبه الضامن. وهذا لا إشكالَ فيه.
فرع:
4272- قال المزني: وإذا باع رجل عبداً من رجل بألف درهم، فأحال البائع رَجُلاً له عليه ألف على المشتري، ثم تصادق البائع والمشتري على أن المبيع كان حُرّاً، ينقطع العقد بينهما، ولا يُحكم ببطلان الحوالةِ في حق ذلك الثالث، إلا أن يصدِّقَهما، فإن لم يصدقْهما، فلا يُقبل قولُهما عليه. وليس كما لو رد المشتري العبدَ بعيبٍ قديم؛ فإنا قد نقول في وجهٍ غريب: إن الحوالةَ ترتفع، والفرق أن الرد واقعٌ لا سبيل إلى إنكاره، وهو أمرٌ منشأ، والمتبايعان فيما نحن فيه أخبرا عن حرية المبيع، والخبر يتردَّد بين الصدق والكذبِ، فلو صدقهما المحتال، قطعنا ببطلان الحوالةِ، والمسألة في هذا الطرفِ تنفصل عن الرد بالعيب أيضاًً؛ فإن الأصح بقاء الحوالة وإن جرى الرد؛ فإنا نقدر الحوالة معاوضة برأسها، متعلقة بحق ثالث، فلا يمتنع تقدير بقائها، وإن ارتفع العقد؛ فإنَّا لا نتبين بالرّد أن الثمن لم يكن قبل الرد. وإذا تصادقوا على حرية المبيع، تبينا أن أصل الثمن لم يثبت، فلا نتصور ثبوتَ الحَوالة؛ فإن بقاء الشيء فرْعٌ على ثبوتِ أصله، وهذا واضح.
فرع:
4273- قال صاحب التقريب: إذا أحال الرجل غريمَه على رجلٍ، ثم بان المحال عليه عبداً، فلا يخلو: إما أن يبين أنه عبد لأجنبي، أو يبين أنه عبد للمحيل، فإن بان أنّه عبد لأجنبي، وكان لهذا المحيل على هذا العبد دينٌ في عنقه، يتبعه به إذا عَتَق. قال صاحبُ التقريب: الحوالة صحيحة، وهي بمثابة الحوالة على معسرٍ في ذمته دين، ثم المحتال يطالبُ العبدَ بعد عتقه.
فلو لم يعلم كونَه عبداً، ثم علم، فهذا يترتب على الفصل المقدم، في أن المحتال إذا اطلع على إعسار المحال عليه، وما كان عالماً بإعساره عند الحوالة، فإن قلنا: للمطّلع على إعسار المحال عليه الخيارُ، فلأن يثبت الخيار هاهنا أولى. وإن قلنا: لا خيار للمطلع على الإعسار، ففي هذه الصورة وجهان؛ إذ طريان العتق ليس ممَّا يُعدّ من ميسور الأمور، واليسار والإعسار متعاقبان.
وما ذكرناه فيه إذا كان العبدُ لأجنبي، فأمّا إذا كان العبد للمُحيل، قال صاحب التقريب: إن كان كسوباً، ينبغي أن يتعلق الدين بكسبه، وإن كان غير كسوبٍ، كان متعلِّقاً بذمتهِ.
4274- وهذا كلام مختلط لا أصل له. والوجه أن نقول: لا يتصوّر أن يكون للسيد على عبده دينٌ يتعلق بذمته، أو في كسبه، إلا في صورةٍ واحدةٍ، سنشير إليها آخراً. وإذا كان كذلك، فحوالة السيد على مملوكه باطلة، إلا أن تجوز الحوالة على من لا دين عليه، وقد ذكرنا أن تحقيق ذلك يرجع إلى الضمان، وكأن العبد ضمن عن سيده، وسيأتي شرح ذلك في كتاب الضمان، إن شاء الله.
ثم إذا صحَّ، نُظر: فإن كان الضمان بإذن السَّيد، تعلق بكسب العبد إن كان له كسب، وإن لم يكن، فبذمته، ومن ضرورة كل ما يتعلق بالكسب أن يتعلق بالذمة.
ويتصور للسيد على عبده دينٌ يتعلق بذمته على أحد الوجهين، وذلك أن من ثبت له دين على عبد الغير، ثم ملكه، ففي وجهٍ يقسط الدين عن ذمته بالملك الطَّارىء، وفي وجهٍ يبقى عليهِ يتبعه به إذا عَتَق، فعلى هذا يمكن تقدير حوالة السيد على عبده.
فرع:
4275- إذا أحال رجلاً له عليه ألفُ درهم، على رجلين، على كل واحد منهما خمسمائة درهم، وشرط في الحوالة أن يكون كل واحد منهما كفيلاً ضامناً عن صاحبه.
قال ابن سريج: في صحة هذه الحوالة وجهان مبنيان على أن المعاوضة مغلّبة على الحوالة، أو معنى الاستِيفاء: فإن غلّبنا المعاوضة، لم يمتنع شرطُ الوثيقة فيها، وإن غلبنا الاستيفاء، امتنع ذلك، فإن الضمان إنما يشترط في المعاوضات. وهذا التردّد يلتفت على أنه هل يثبت في الحوالة خيار المجلس والشرط.
وبلائي كله من شيئين:
أحدهما- أن بني الزمان ليس يأخذهم في طلب الغايات، لا بل في طلب حقيقة البدايات ما يأخذني، فلا يهتدون لما أبغيه من مداركها، بل أخاف أن يتبرموا بها...