فصل: باب: ما يفسد الماء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: ما يفسد الماء:

قال الشافعي: "وإذا وقع في الماء نقطة خمر أو بولٍ... الفصل إلى آخره".
300- مضمون هذا الباب: الكلامُ فيما يُفسد الماءَ القليل الناقص عن حد الكثرة، وسيأتي القول في الماء البالغ حدّ الكثرة، في الباب الذي يلي هذا.
فمذهب الشافعي أن الماء القليل إذا ورد عليه نجاسةٌ، تنجس بها، تغيّر أوْ لم يتغيّر، ومعتمد المذهب خبران:
أحدهما: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل نجساً» فأشعر الحديث بمفهومه أن القاصر عن هذا المبلغ ينجس.
والثاني: ما روي أنه عليه السلام قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء، حتى يغسلها ثلاثاًً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده» فندب إلى غسل اليدين، عند توقّع النجاسة، فكان ذلك نصّاً في أن النجاسة لو تحققت، لنجّست الماءَ، وإن لم تغيّره.
ثم مفهوم ما نقله المزني أن النجاسة إذا كانت بحيث لا يُدركها الطرفُ، لا ينجس الماء، ونصّه في الأمّ أن النجاسة إذا كانت بحيث يتيسر الاحتراز من جنسها-بخلاف دم البراغيث والبثرات- فإذا أصابت الثوبَ وققت بحيث لا يدركها الطرف لقلّتها، فلا يعفى عنها إذا كانت مستيقنةً.
والطريقة المرضية ما ذكره الصيدلاني، فذكر وجهين في الثياب:
أحدهما: أنه لا يعفى عن النجاسة، وهو القياس.
والثاني: يعفى عنها تمسكاً بسيرة السلف؛ فإنهم كانوا يبرزون لقضاء الحاجة، والذباب يقع على النجاسة، ثم يقع منها على ثيابهم، وكانوا لا يبالون بما يجري من ذلك.
301- ثم قال: إذا وقعت نجاسةٌ لا يدركها الطرف لقلّتها في ماءٍ قليل، فإنه ينجس وجهاً واحداً، والفرق بين الماء والثوب، والبدن شيئان:
أحدهما: أنَّا نتوقع جفاف أرجل الذباب من وقت ارتفاعها من النجاسة إلى وقوعها على الثياب، ولا يتحقق ذلك في الماء؛ فإنه يرطب النجاسة اليابسة ويسيّلها.
والثاني: أن المياه القليلة يمكن صونها بالتخمير عما يرد عليها، وذلك غير ممكن في الثياب.
302- وذكر العراقيون طرقاً مضطربة: منها طردُ الوجهين في الماء القليل، إذا كانت النجاسة غيرَ مُدركةٍ لقلّتها.
ومنها أن الماء لا ينجس بها، والثوب ينجس؛ لأن في الماء قوةً دافعةً.
وهذا من ركيك الكلام؛ فإن القوة الدافعة ليست أمراً محسوساً، وهي متلقاة من حكم الشارع بالقلتين.
فهذا ما يحوي ما ذكره الأصحاب في طرقهم. والصحيح ما حكيناه عن الصيدلاني.
فصل:
303- الماء المستعمل في طهارة الحدث طاهرٌ غيرُ طهورٍ في ظاهر مذهب الشافعي.
ومعتمد المذهب أن سلف الأمة في الأسفار وإعواز الماء كانوا لا يجمعون المياه التي يستعملونها في ظروفٍ؛ حتى يستعملوها ثانيةً، بل كانوا يبددّونها، ولا يرد على ذلك أنهم كانوا لا يشربونها مع طهارتها؛ فإن ذلك يُحمل على العيافة التي جُبلت النفوس عليها، ولا يجوز تركُ الاحتياط للطهارة الشرعية بمثل ذلك.
ومذهب مالك أن المستعمل طهور يجوز استعماله، وحكى عيسى بن أبان قولاً للشافعي مثل مذهب مالك.
وقد غلّطه بعضُ أصحابنا في نقله، وقالوا: لعل الشافعي، كان يذبّ عن مالك، ويرُدّ على من يحاول الرد عليه، وظن عيسى أن مذهبه ما ينصره. ثم إن صحّ هذا مذهباً له، فيجوز استعمال المستعمل ما لم يتغيّر، فهذا مذهب مالكٍ.
ثم كان شيخي يقول: أدنى تغيّر يخرجُه عن كونه طهوراً، وهذا جارٍ على قياسه في أن أدنى تغير بالزعفران وغيره يسلب طهوريّةَ الماءِ، ونحن إذا شرطنا تفاحشَ التغيّر وظهورَه، حتى يستجدّ الماءُ اسماً جديداً، فنقول: الماء لا يتغير بملاقاة البشرة النقيَّة، وإنما يتغيّر بوسخ أو غيره على محل الطهارة، فليعتبر المعتبر ورودَ شيءٍ طاهرٍ على المَحلِّ وتغيره به، كما سبق في الباب الأول. والتفريع على أن المستعمل ليس بطهورٍ وإن لم يتغيّر.
304- ثم ذكر أئمتنُا لفظين في ضبط المذهب خرّجوا عليهما المتفق في النفي، والإثبات، والمختلف.
فقال بعضهم: إنما لا يُستعمل؛ لأنه أُديَ به الفرض مرةً. وهذا ما ذكره المزني.
وقال بعضهم: إنما لا يستعمل؛ لأنه أُدِّيت به العبادة مرةً.
والمسلكان جميعاًً لا يصلحان لإثبات أصل المذهب لو نُوزعنا فيه، وإنما معتمد المذهب ما قدمناه من التمسك بسيرة الماضين. ولكن ما كان فرضاً و عبادة، فلا استرابة في أنه المستعمل الذي استَدْلَلْنا فيه بعادة الماضين، وما وُجد فيه أحد هذين المعنيين تردّد الأصحاب في أنه معتبرٌ أم لا.
وليس منع استعمال المستعمل مما يربط بمعنى صحيح على السَّبْر، والأظهر عندنا أن المستعمل في عبادة ليست فرضاً يمتنع استعماله، فتخرَّج المسائل على المسلكين.
305- فأما المنحدر عن الأعضاء في المرة الأولى، يمتنع استعماله؛ لاجتماع الفرضيّة والعبادة، وإن استعمل الماء مرةً رابعةً من غير سببٍ يقتضيها، فقد عُدم المعنيان جميعاً، فليس الماء مستعملاً وهو طهور.
وما ينحدر عن الغسلة الثانية يخرج على وجهين: أصحهما أنه مستعمل غير طهور، وكذلك الوجهان في الماء المستعمل في تجديد الوضوء.
وقد ذكرنا وجهين من كلام الشيخ أبي عليّ في أن تجديد الغسل هل يستحب؟ فإن قلنا: إنه غير مستحبٍ، فالماء المستعمل فيه طهورٌ، وإن قلنا: إنه مستحبٌ، فالقول فيه كالقول في تجديد الوضوء.
306- وإذا اغتسلت الذميّة عن الحيض تحت مسلم، وكانت طاهرة البدن، فغسلُها واجب، وفي الماء المنحدر عنها وجهان.
ووجه تخريجهما أنا إن قلنا: لو أسلمت لا تُعيد الغسل، فقد تم الغسل في الكفر كما تتم الكفارة من الكافر. فعلى هذا يكون الماء مستعملاً.
وإن قلنا: يجب عليها أن تُعيد الغسل إذا أسلمت، ففي الماء المستعمل في الكفر وجهان خارجان عن المعنيين، فمن اعتبر العبادة، فما أتت به ليس بعبادة، ومن اعتبر أداءَ مفروضِ، فقد أدت مفروضاً.
307- ومما يتعيّن الاعتناء به في الفصل أن الماء المصبوب على البدن لا يثبت له حكم الاستعمال ما دام متصلاً متردداً على البدن، وإنما يثبت له حكم الاستعمال عند الانفصال.
308- ولو انغمس جنب أو متوضىء في ماءٍ، غيرِ بالغٍ حدَّ الكثرة، فإذا انفصل عن الماء، فالماء مستعمل، لا شك فيه، ولا نقول: لو توضّأ، لكفاه مقدارٌ يسير، ولو صُبّ مثله على هذا الماء، لما صار مستعملاً، فإنه إذا انغمس في الماء، فقد اتصل به جميع الماء، ولم يختصّ الاتصال اسماً وإطلاقاً بما يلاقي بشرته.
309- ثم إذا انغمس وانفصل، فهل يرتفع الحدثُ؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يرتفع؛ لأن الماء صار مستعملاً بملاقاة أول جزء إياه، فيحصل الانغماس في ماءٍ مستعمل.
وهذا وإن كان مشهوراً، فهو غلط عندي؛ فإن الماء إنما يثبت له حكم الاستعمال، إذا انفصل المنغمس فيه عنه، كما أن الماء المصبوب على البدن لا يثبت له حكم الاستعمال، ما لم ينفصل عن البدن.
310- ولو غمس المتوضىء يده في الماء بعد غسل الوجه، فقد دخل وقتُ أداء فرض اليد، فإن قصد غسلَ يده، فيصير الماءُ القليلُ مستعملاً، وهل يرتفع الحدث عن اليد المغموسة؟ فعلى ما ذكرنا من الوجهين، وإن قصد بوضع اليد في الإناء رفعَ الماء، لم يصر مستعملاً.
وإن وضع اليدَ، ولم يخطر له أداءُ الفرض، ولا رفعُ الماء وتنحيتهُ، فهذا يعسر تصويره عندي؛ فإن من ينقل الماء من الإناء. فقصدُه التنحيةُ لا غسلُ اليد في الماء الذي في الإناء. فإن تُصور سقوط القصدين جميعاًً، فهو كما لو قصد غسلَ اليد؛ فإن من نوى وعَزَبت نيتُه، ثم غسل بقية أعضائه من غير قصدٍ، فيرتفع الحدث عن أعضائه. كذلك هذا.
311- ومن تمام البيان في هذا: أن من صب الماء على رأسه في الغُسل، فتقاذف من الرأس إلى البطن، وخرق الهواءَ إليه، فقد ذكر بعضُ المصنفين أن الماء يصير مستعملاً؛ فإنه انفصل واتصل بالهواء، وخرج في ذلك الوقت عن التردّد على البدن.
وهذا فيه فضل نظر؛ فالماء إذا كان يتردّد على البدن، ففي الأعضاء تفاوتٌ في الخِلْقة، وليس البدن سطحاً بسيطاً. وإذا كان كذلك، فيقع في جريان الماء بعضُ التقاذف من عضوٍ إلى عضوٍ، لا محالة. ولا يتأتى التحرز من هذا. كيف؟ ولم يَرد الشرعُ بالاعتناء بهذا أصلاً. فما كان من هذا الجنس، فهو محطوط، لا اعتبار به قطعاًً.
وأما التقاذفُ الذي لا يقع إلا على ندور، فإن كان ذلك عن قصدٍ، فهو مُستعمل، كما قال هذا المصنف. وإن اتفق ذلك عن غير قصدٍ إليه، فلا يمتنع أن يُعذر صاحبُ الواقعة؛ فإن الغالب على الظن أنه كان يقع أمثال ذلك في الزمن الماضي، وما وقع عنه بحث من سائلٍ، ولا تنبية من مرشدٍ والله أعلم.
فصل:
312- إذا جمع من الماء المستعمل في مقرٍّ ماءٌ بلغ قلتين، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: وهو الأصح أنه يعود طهوراً؛ فإن الماء القليل النجس إذا جُمع إليه ماءٌ نجسٌ، فبلغ قلتين، وليس الماء متغيراً، فالكل طهورٌ، فليكن المستعمل كذلك.
313- ولو انغمس جنبٌ في ماءٍ كثيرٍ، لم يصر مستعملاً، كما لا يصير نجساً إذا وقعت فيه نجاسة. فإذا استويا في ذلك، فليستويا في بلوغ الماء حدَّ الكثرة إجزاءً.
والوجه الثاني- أنه لا يعود طهوراً؛ فإن حكم الاستعمال ثبت لكل جزء من الماء حكماً، فكأنه انقلب عن كونه ماء، وصار كمائعٍ من المائعات.
وهذا لا يتحقق مع ما ذكرناه من أن الكثير لا يصير مسلوبَ الطّهوريّة بانغماس جُنب أو محدِث.
فرع:
314- إذا تقاطرت قطرات من المنحدر عن أعضاء المُحدِث إلى ماء الإناء، فالمعتبر فيه أن يقال: إن بلغت في المقدار مبلغاً، لو كان لونُه مخالفاً للون الماء، لغيّره، فهذا يُفسد الماء. وعندي أني ذكرت ذلك في الباب الأول بما فيه إقناع.
فصل:
315- مضمون هذا الفصل شيئان:
أحدهما: في كيفيّة إزالة ما عدا نجاسة الكلب من النجاسات، مع ذكر ما يتعلق بطهارة الغُسالة ونجاستها.
والثاني: في نجاسة الكلب.
316- فأما ما سوى الكلب، فإن كانت النجاسة مُعايَنةً، وكانت عينُها ظاهرة، فإزالتها برفع عينها، وقطع أثرها بالماء الطهور، وليس فيها تعبّدٌ برعاية عددٍ. وإنما التعبد بالعدد في الاستنجاء بالأحجار عند الاقتصار عليها.
ثم إن كان يبقى للنجاسة طعمٌ، فالنجاسة باقية، وحكمها باقٍ. وإن بقي لونٌ يتيسّر إزالته، فالجواب كذلك. وإن كان اللون عسير الإزالة كلون الحناء، وما في معناه، فلا يضّر بقاؤه.
والشاهد فيه ما روي أن نسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم سألنه عن دم الحيض يصيبُ الثوبَ، وذكرن له أن لون الدم يبقى، فقال عليه السلام «الْطَخْنه بزعفران»، ولم يكن ذلك تعبداً جازماً، ولكن أبان لهن أن اللون الباقي لا أثر له، أي فإن كرهتنّ رؤيته، فالطخنه بزعفران.
وأما الرائحة، فإن لم يكن للنجاسة رائحة قوية، وكانت سهلة الإزالة، فلابد من إزالتها.
317- وإن كانت لها رائحة نافذة قويّة، كالخمر العتيقة، وبول المبَرْسَم، وما في معناهما، فبقيت مع الإمعان في الغَسل، ففيه قولان:
أحدهما: أن حكم النجاسة باقٍ؛ فإن الرائحة في الغالب تزول، والحكم للغالب، والألوان منقسمة إلى ما يعسر زواله، وإلى ما يتيسّر.
والثاني: أن الروائح تنزل منزلة الألوان، وهذا هو الأصح؛ فإنا نراها في عسر الزوال، وتيسّره كالألوان.
واستقصاء القول في هذا الفن يأتي في كتاب الصلاة، إن شاء الله تعالى.
ولكننا نذكر هاهُنا ما نرى الحاجة ماسّة إليه.
318- وإن كانت النجاسة حُكميّة، وهي التي لا نعاينها لخفائها، وإن كنا نعلم قطعاً أنها عين، قال الأصحاب: يكفي فيها إمرار الماء مرّة واحدةً على موردها، ويُستحبّ غسله ثلاثاً.
319- ولو انقلعت النجاسةُ العينية بمرة واحدة، استحببنا الغَسل ثانيةً وثالثةً؛ فإن العينية لا تقصر عن الحكميّة، بل تزيد عليها.
320- وإذا صُبّ الماء على مورد النجاسة، وانقطعت آثارها، فهل يتوقفُ الحكم بطهارة المحلّ على عصر الثوب مما فيه من البلل؟ فعلى وجهين مشهورين:
أحدهما: أنه لابد من العصر، وهو مذهب أبي حنيفة.
والثاني: لا يُشترط.
قال الشيخ أبو علي: الاختلاف في العصر مأخوذ من الاختلاف في طهارة الغُسالة ونجاستها، فإن حكمنا بطهارة الغسالة المنفصلة، فلا نوجب فصلَها؛ فإنها لو فُصلت، ثم رُدّت إلى الثوب، لم يضرّ؛ فلا معنى في العصر.
وإن حكمنا بنجاسة الغسالة لو انفصلت، فالغسالة نجسة ما دامت على المحلّ، فإن عصرت، فالبلل الباقي بعد العصر المعتاد طاهر.
وإن تُركت الغسالة حتى جفت، ففي المسألة وجهان: أصحّهما- أن الثوب طاهرٌ؛ فإن زوال البلل بالجفاف كزواله بالعصر، بل هو أبلغ.
والثاني: أن الثوب لا يحكم بطهارته؛ فإن العصر المأمُورَ به قد تُرك أوّلاً، فبقيت النجاسة حكماً. وهذا ليس بشيء.
فهذا بيان حكم العصر.
321- وأما تفصيل حكم الغُسالة، فكل ما ينفصل متغيراً، لم يُسْترَب في نجاسته.
وأما ما ينفصل غير متغيرٍ، فإنه ينقسم قسمين:
أحدهما: أن ينفصل ويُعقب طهارةَ المحل.
والثاني: ألا يستعقبَ انفصالُه طهارةَ المحل.
فإن انفصل غيرَ متغيّرٍ، وطهُر المحل، فالمنصوص عليه للشافعيّ أن الغُسالةَ طاهرةٌ. وقال أبو القاسم الأنماطي: إنها نجسة.
وخرَّج ذلك قولاً للشافعي، وهو مذهب أبي حنيفة.
وإن انفصل الماء غيرَ متغيرٍ، والمحل بعدُ نجسٌ، ففي المنفصل طريقان: الأصح القطع بنجاسة المنفصل؛ فإنا إنما حكمنا بطهارة الغسالة في الصورة الأولى؛ لأن البلل الباقي على المحل طاهر، والمتصل جزءٌ من المنفصل. وإلا، فالقياس الجليّ الحكم بنجاسة ما انفصل؛ فإن النجاسة التي انفصلت عن المحل كائنةٌ في الماء لا محالة. فأمّا إذا كان المحل نجساً بَعدُ، فإن نظرنا إلى ظاهر الاتصال، فذلك يقتضي الحكمَ بنجاسة المنفصل، وإن نظرنا إلى المحل، فهو نجسٌ بعدُ.
ومن أصحابنا من طرد القولين فيما انفصل والمحلّ بعدُ نجس، إذا لم يكن متغيراً.
وهذا عندي في حكم الخطأ الذي لا يعدّ من المذهب.
322- ولو غسل ثوباً من النجاسة مراراً، وكان يجمع الغسالات في إناء واحد، وكانت الغُسالة الأولى نجسة، إما لتغيّرها، وإما لانفصالها قبل الحكم بطهارة المحلّ، ثم كانت الغسالات المجتمعة غيرَ متغيرةٍ، فقد ذكر العراقيون وجهين بناءً على أن الغسالة طاهرة: أحدهما- أن هذه الغُسالات نجسة؛ فإن بعضها انفصل عن البعض، وثبت لبعضها حكمُ النجاسة، فإذا اجتمعت وهي في حدّ القلّة، فهي نجسة.
والوجه الثاني- أنها طاهرة؛ فإنها في حكم غُسالةٍ واحدةٍ. وهذا ضعيفٌ جدّاً.
323- ولو طرح الرجل ثوباً نجساً في إجّانة فيها ماء، وغسله فيها، فانقطعت آثار النجاسة، ففي المسألة وجهان:
أحدهما:وهو الذي قطع به الصيدلاني- أن الثوب لا يطهر أصلاً، والماء ينجس، ولو رُد كذلك إلى الأجّانة وجدّد الماء مراراً، لم يطهر الثوب، ما لم يصب الماء على الثوب، أو يغمس في ماء كثير.
والوجه الثاني- وهو اختيار ابن سُريج أن الثوب يطهر، فلا فرق بين ورود الماء القليل على النجاسة، وبين ورود الثوب النجس على الماء القليل. والغرض انقطاع آثار النجاسة، كيف فرض الأمر.
324- ثم نقل بعض النقلة عن ابن سُريج أنه يشترط النية في إزالة النجاسة، وهذا غلط صريح.
ونحن نوضح مذهب ابن سُريج في ذلك، فنقول: مِن أصله أن الريح لو ألقت ثوباً نجساً في إجّانة فيها ماء، تنجس الماءُ، ولم يطهر الثوب، ولو طرحه الغاسل فيها على قصد الإزالة، حصلت الإزالة، ولم ينجس الماء، إن لم يتغيّر.
وظاهر المنقول عنه أن الماء لو انصبّ من غير قصدٍ على ثوبٍ نجسٍ، وكان ينحدر منه، ودُفَعُ الماء تتوالى، حتى زالت النجاسة، طهر الثوب من غير قصدِ قاصدٍ.
وما ذكره من القصد في الصورة الأولى، لم نعدم فيها مخالفاً من الأصحاب؛ فإن منهم من يقول: الغرض زوالُ النجاسة بالماء، فلا أثر للقصد، ولا يمتنع أن يراعى القصدُ في انصباب الماء القليل على الثوب. فهذا تمام ما أردناه: نقلاً واحتمالاً.
325- وحكى الشيخ أبو علي في الشرح من تفريع ابن سُريج أن الماء القليل لو وردت عليه نجاسة وغيّرته، فلو صبّ عليه ماءٌ على قصد تطهيره بالغمر والمكاثرة، فإن زال التغيّر، وبلغ الماء حدّ الكثرة، فلا شك في طهارة الماء، وإن انغمرت النجاسة، ولم يبلغ الماء حدَّ الكثرة، قال ابنُ سُريج يطهر الماءان، إذا قصد به الغَسْل.
ثم قال الشيخ: هذا تفريع منه على أن العصر لا يجب، ولا تُشترط إزالة الغُسالة، فأما إذا شرطنا ذلك-وهو غير ممكن- فإن الوارد لا يتميز عن المورود عليه، فالكل نجسٌ.
وهذا عندي-إن صح النقل- من هفوات ابن سُريج، فلا معنى لغسل الماء من غير جهةِ تبليغه قلتين.
فإن كان الغرض زوالَ التغيّر، فالماء القليل ينجس عندنا بورود النجاسة عليه، وإن لم يتغير، فليس مما يُتمارى في فساده.
ثم قال الشيخ: ينبغي أن يكون الوارد أكثر من المورود عليه، حتى يحصل الغسل بهذه الجهة. والتفريع على الفاسد فاسد.
326- ومما يتعلق بغُسالة النجاسة: أنا إذا حكمنا بطهارتها، جرياً على النص، فلا يجوز استعمالها ثانيةً، وهي كالماء المستعمل في طهارة الحدث. ثم المستعمل في الحدث لا يستعمل في الحدث مرة أخرى، وهل يستعمل في إزالة النجاسة؟ فعلى وجهين مشهورين: أصحهما- أنه لا يستعمل فيها، وهو كسائر المائعات.
والوجه الثاني- أنه يجوز إزالة النجاسة به؛ فإن الماء فيه قوتان: إحداهما إزالة الحدث، والثانية إزالة الخبث، وقد زالت إحداهما، فبقيت الأخرى.
ولولا اشتهار هذا الكلام وإلاّ ما كنت أضمّن هذا الكتابَ مثلَه؛ فظهور فساده يُغني عن شرحه.
والخلاف في غُسالة النجاسة وأنها هل تستعمل في رفع الحدث على ما ذكرناه.
والوجهُ القطع بامتناع استعمال المستعمل عموماً.
فرع:
327- قال العراقيون: الماء الذي استُعمل في المرة الأولى في النجاسة لا يستعمل، كما لا يستعمل الماء المنحدر عن الوجه في الغسلة الأولى، والماء الذي يستعمل في الثوب بعد زوال النجاسات ثانية وثالثة هل يستعمل؛ فعلى وجهين كالوجهين فيما ينحدر عن غسل الوجه ثانيةً وثالثةً؛ فإن الثانية والثالثة مندوبٌ إليهما في غسل الثوب، فشابهتا الغسلةَ الثانيةَ والثالثة في الوجه.
وفي هذا فضل نظر عندي للفقيه؛ فإن الغسلة الثانية والثالثة في الوضوء معدودتان من العبادة. ثم قالوا: لو غسل الثوبَ بعد الطهارة غسلةً رابعة، فيجوز استعمال ذلك الماء وجهاً واحداً، كنظير ذلك في غسلات الوضوء.
فهذا منتهى ما أردنا أن نذكره في غسل النجاسة، وبيان حكم الغُسالة.
وفيه بقايا أخّرناها إلى كتاب الصلاة.
328- فأما تفصيلُ إزالة نجاسة الكلب، فإذا ولغ الكلب في إناءٍ فيه ماء قليل، أو مائع، ينجسُ الماء والإناء، ثم لا يطهر حتى يُغسل سبعاً، إحداهنّ بالتراب. ومعتمدُ المذهب الحديثُ: روى أبو هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال: «إذا ولغ الكلبُ في إناء أحدكم، فليغسله سبعاً: إحداهنّ بالتراب».
ثم لا يخفى على ذي بصيرة أن المعنى لا يتطرق إلى العدد، والحدّ بها، ولا إيجاب استعمال التراب، وإذا لم يكن المنصوص عليه معقولَ المعنى، فالوجه الاعتماد على مورد النص، ثم نُلحق به ما في معناه، مما لا يُحتاج فيه إلى استنباط معنىً جامع، وقد يَبْعُد الشيءُ بعضَ البعد عن المنصوص عليه، فيتردد المذهب فيه أولاً.
وبول الكلب، ورجيعه، ودمه، وعرقه في معنى لعابه قطعاً؛ فإن اللعاب رشحٌ مما هو في حكم الطاهر فيما يتعلق بالطهارة والنجاسة، فلا فرق بينه وبين العرق، فإذا لاح هذا في العرق، فالبول والرجيع بهذا أولى.
ثم مذهب الشافعي أن الكلب إذا كرع في ماء قليل، فهو كما لو ولغ فيه؛ فإنه إذا تقرر أنَّ داخل الفم كالظاهر، فالظواهر بجملتها على قضية واحدة.
329- واختلف قول الشافعي في الخنزير، فقطع بنجاسته، وردّد القولَ في إلحاقه بالكلب، حتى تزال نجاسته، بما تزال به نجاسة الكلب.
فالأصح عند العراقيين أنه كالكلب؛ فإنه منصوصٌ عليه في كتاب الله عز وجل تحريماً، وذلك مجمع عليه فيه، وليس منتفعاً به بوجهٍ، بخلاف الكلب، فإذا ثبت في الكلب التعبّد برعاية العدد والتعفير، فالخنزير أولى.
والقول الثاني- أن المنصوص عليه لا يتعدَّى، وقد ينقدح للناظر أن للشارع غرضاً في تخصيص الكلب بما ذكر من التغليظ، زجراً عن مخالطته؛ فإن زواجر الشرع تختصّ بما تألفه النفوس؛ ولذلك اختص الحد بشرب الخمر، دون غيره من المحرّمات. فهذا بيان القاعدة.
330- ثم نبتدىء-بعد هذا- القولَ في التعفير. أما الغسل سبعاً، فمحتوم، وغير التراب هل يقوم مقام التراب مما يستعان به في إزالة النجاسات، كالأُشنان والصابون وغيرهما؟
محصول ما جمعه الأصحاب من النصوص، والتردد في تنزيلها أقوال:
أحدها: أن غير التراب لا يقوم مقام التراب أصلاً؛ فإنه المنصوص عليه، فلا معدل عنه، كما لا يعدل عن التراب في التيمم.
والثاني: أن غيره مما يُستعان به يقوم مقامه في الوجود والعدم؛ فإن الغرض بذكره إيجابُ استعمال مُعينٍ على القلع.
والثالث: أن غيره لا يقوم مقامه مع وجوده؛ فإن عدم التراب ولم يوجد، قام في عدمه غيرُه مقامه.
ثم ذكر الأئمة في الطرق كلِّها وجهين في أن غسلة ثامنة هل تقوم مقام التعفير بالتراب أم لا؟ وهذا في نهاية الضعف؛ فإن الغسلة الثامنة لو كانت كافيةً، لما كان لذكر التراب معنى أصلاً، ولقال الرسول صلى الله عليه وسلم: فليغسله ثامنةً. فإن تخيّل متخيّل إقامة الأُشنان مقام التراب، فلا وجه لتخيّل ذلك في الغسلة الثامنة.
وممّا يجب الاعتناء به أن الوجه البالغ في الضعف إذا كان مشهوراً، فيتعيّن ذكر متعلق له على حسب الإمكان.
فأقول: أما إقامة الغسلة الثامنة مقام التراب، مع وجود التراب، فلا ينقدح له وجهٌ أصلاً، أما إذا عدم التراب، ففي إقامة الغسلة الثامنة مقامه احتمالٌ على بُعدٍ، فيتعين تخصيص الوجهين في الغسلة الثامنة بحالة عدم التراب.
وأما إقامة الأُشنان مقام التراب مع وجوده، فليس ببعيد: من حيث إنه معينٌ للماء كالتراب.
331- وذكر بعض المصنّفين خلافاً في أن استعمال التراب النجس هل يُسقط واجبَ التعفير؟ وهذا إن صح النقل فيه يلتفت إلى ما مضى، وهو أن غير التراب هل يقوم مقامه؟ فإن قلنا: لا يقوم غيره مقامه، فقد غلّبنا فيه معنى التعبد، ونزلنا التراب في ذلك منزلته في التيمم؛ فإن التراب النجس لا يصح التيممُ به، وإن أقمنا غير التراب مقامه، فكأنّا راعينا معنى إعانة الماء على قلع النجاسة، فلا يبعد الاكتفاء بالتراب النجس.
ومما ذكره هذا الرجل أن الكلب لو ولغ في حفرة محتفرة في التراب، فهل يجب استعمال التراب في محاولة تطهير الحفرة؟ فعلى وجهين.
وهذا قريب المأخذ مما ذكرناه؛ فإن الحَفِيرة قد تنجست تربتها، فإن كنا نجوّز التعفير بالتراب النجس، فلا معنى لاستعمال التراب في التراب، وإن منعنا استعمال التراب النجس، فيجب استعمال التراب الطاهر.
ومما يتعلق بذلك أن من غسل الإناء سبعاً، ثم ذرّ عليه تراباً، ثم نفضه، لم يُجْزه؛ وذلك لأنّا إن فهمنا معنى الإعانة، فهو غير موجود هاهنا. وإن تمسكنا بالحديث، فمقتضاه استعمال التراب في غسلةٍ من الغسلات السبع؛ فإنه عليه السلام قال: «إحداهنّ بالتراب»، ثم إذا مزج التراب بالماء في غسلة، فينبغي أن يتكدّر الماء بها ويتغيّر، وإلاّ لم يكن ما يأتي به تعفيراً.
ولو استعمل التراب في غسلة ثامنةٍ، فقد عفر وِفاقاً.
ولو مزج التراب بخلٍّ أو مائع سواه، واستعمله في الإناء، ففي المسألة وجهان- وهذا أيضاًً يلتفت على ما ذكرناه من تغليب التعبّد، أو النظر إلى قلع النجاسة.
هذه القواعدُ في إزالة نجاسة الكلب.
فرع:
332- إذا ولغ الكلب في إناء فيه ماء قليل، ثم صبّ عليه الماء وكوثر، حتى بلغ قلتين، فيطهر الماء، لبلوغه حدّ الكثرة، وهل يطهر الإناء؟ فيه ثلاثة أوجه مشهورة، ووجه رابع زاده الشيخ في الشرح.
أحد الوجوه- أن الإناء يطهر؛ لأنه صار إلى حالة أخرى لو كان عليها أولاً، لما تنجس؛ إذ الكلبُ لو ولغ في ماء بالغٍ قلتين في إناء، لم ينجس الماء والإناءُ.
والثاني: أن الإناء لا يطهر؛ فإنا قد تُعبدنا في إزالة نجاسة الكلب بغسله سبعاً وتعفيره، ولم يتحقّق ذلك، وإذا ورد تعبد غيرُ معقول المعنى، لم يسقط بطريقٍ مأخذُه المعنى.
والأول أصح؛ فإنا بنينا الآخر على الأول كما قررناه، والتعبد لم يتضمّن تنجيس الإناء، وفيه قلتان. فليعُد الأمرُ آخراً إلى ما ذكرناه أولاً.
والوجه الثالث: أن الإناء إن تنجس تبعاًً للماء بأن كان ولغ في الماء، ولم يلق شيءٌ منه جِرْمَ الإناء، فإذا بلغ الماء قلتين، وطهر بالكثرة، طهر الإناء تبعاًً لطهارة الماء، كما ينجس ابتداء تبعاً، وإن كان لاقى شيءٌ من الكلب جِرمَ الإناء، فقد تنجس، وهو أصلٌ في النجاسة، فلا يتبع طهارة الماء في الطهارة. وهذا ضعيفٌ لا أصل له.
والوجه الرابع- الذي ذكره الشيخ: أنه إن مكث الماء الكثيرُ في الإناء لحظاتٍ يتأتى في مثلها تكريرُ الغسلات السبع، حُكم بطهارة الإناء، وإن لم يمض زمانٌ يتأتى فيه ما ذكرناه، لم نحكم بطهارة الإناء.
وهذه الأوجه تجري إذا غُمس الإناء النجس بنجاسة الكلب، أو الثوب النجس في ماءٍ كثير. فالأصح الوجه الأول، ويليه الثاني. والثالث، والرابع لا أصل لهما.
333- وللفرع غائلة أوْضَحها الشيخُ في الشرح، وهي تحتاج إلى مقدمةٍ. فالماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة جامدة، فهل يجب التباعد عن مورد النجاسة بقدر قلّتين؟
فعلى قولين سيأتي ذكرهما في الباب الذي يلي هذا، فإن حكمنا بوجوب التباعد، فلو كان في إناء من جلدٍ نجس قلتان، والتفريع على وجوب التباعد، فالماء كله نجس.
وسنوضح ذلك في موضعه إن شاء الله عزّ وجل.
فإذا ظهر ذلك، عدنا إلى غرضنا: فإذا بلغ الماء بعد ما ولغ الكلب فيه قلّتين، فإن حكمنا بأن الإناء طاهرٌ، فلا كلام.
وإن حكمنا بأن الإناء نجس، فنجاسة الإناء على هذا كنجاسةٍ حكميّة، أو كنجاسةٍ عينية؟ فعلى وجهين. وهذا تردُّدٌ لطيف.
فإن حكمنا بأن نجاسة الإناء كنجاسةٍ عينية، والماء قلتان بلا مزيد، وأوجبنا التباعد، فيخرج من ذلك أن الماء نجس أيضاًً، كما لو كان الإناءُ من جلدٍ نجسٍ.
وإن قلنا: نجاسة الإناء حكميّة، فلا نحكم بنجاسة الماء، ولا نوجب التباعد، وينزل ذلك منزلة ما لو وقع في الماء نقطة بولٍ. وإن نزح من الماء ما نقَصَه عن حدّ الكثرة، فإن جعلنا نجاسة الإناء عينية، فنحكم بنجاسة الماء الآن، سواء أوجبنا التباعد. أو لم نوجبه؛ فإن الماء ناقصٌ الآن، وهو ملاقٍ نجاسةً عينية.
وإن حكمنا بأن نجاسة الإناء حكميّة، فبنُقصان الماء لا يصير الباقي نجساً، وقد تناهى الشيخ وألطف في ذلك، رضي الله عنه.
فرع:
334- إذا كنا نغسل إناءً، أو ثوباً من نجاسة الكلب، فتقاطرت قطرة من غسلةٍ من الغسلات إلى ثوب، والغُسالة غير متغيرة، فهذا ينبني على القواعد الممهّدة في غُسالة النجاسة، وقد ذكر الأئمة عباراتٍ قريبة تحوي الأصول المقدمة، ونزيد وجوهاً يقتضيها حكم الولوغ. فمن أصحابنا من قال: حكم الغُسالة في كل غسلةٍ كحكم الإناء قبيل تلك الغسلة. ومنهم من قال: حكمها حكم الإناء بعد انفصال تلك الغسالة، ومنهم من قال: هي طاهرة إذا لم تكن متغيرة، ومنهم من قال: لكل غسلة سُبْع حكم الإناء.
فالآن نخرّج على هذه العبارات أحكامَ الغسلات.
فلو تقاطرت من الغسلة الأولى، فإن قلنا: حكمها حكم الإناء قبيلها، فيغسل ما تقاطر إليه سبعاً إحداهن بالتراب، كالإناء قبل اتصال هذه الغسالة بها.
وإن قلنا: حكمها حكم الإناء بعد انفصال الغسالة، فالثوب الذي تقاطر إليه يُغسل ستًّا، وينظر: فإن كان استعمل التراب في الغسلة الأولى، فلا يجب استعماله في الثوب؛ نظراً إلى الإناء بعد الغسلة الأولى، وإن لم يستعمل، فيجب استعمالُه في الثوب نظراً إلى الإناء.
وإن حكمنا بطهارة الغسالة، فلا إشكال، وإن حكمنا بأن لها سُبعْ الحكم فيغسل الثوب مرةً واحدةً.
وإن تقطر من الغسلة الثالثة، ففي وجهٍ يغسل الثوب خمساً، وفي وجه أربعاً، وفي وجهٍ مرةً واحدةً، وفي وجهٍ لا يغسل أصلاً.
وإن تقاطر من الغسلة الأخيرة، فإن قلتَ: الغسالة كالإناء بعدَها، فلا ينجس الثوب. وإن قلت: كالإناء قبيلها فمرة، وينطبق عليه وجه السُّبع، فيعود إلى وجهين.
ولم أر لأحدٍ من الأصحاب يقول: كل غُسالة كولغة كلب، فلا قائل بذلك، وإن كان محتملاً على بُعدٍ.
فرع:
335- إذا ولغ في ماء قليل كلبان، أو أكثر، فقد ذكر العراقيون وجهين:
أحدهما: أنها ككلبٍ واحدٍ.
والثاني: أنه يثبت بسبب ولوغ كل كلب سبعُ غسلات وتعفير.
فرع:
336- حُكي في رواية حرملة عن الشافعي أنه قال إذا ولغ الكلب في ماء قليل، ووردت عليه نجاسة أخرى، فلا يجب غسل الإناء أكثر من سبع مرّات مع التعفير، وهذا ظاهر مقطوع به في الطرق.
فصل:
337- النجس من الحيوان: الكلب والخنزير، والمتولّد منهما، أو من أحدهما، وحيوانٍ آخر طاهر، وما عداهما من الحيوانات كلها طاهرة العيون، واللعاب، والسؤور، والعرق، فلا فرق بين المأكول منها وبين المحرّم. ومعتمد المذهب الحديث: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتوضّأ بما أفضلت الحمر؟ قال: نعم، وبما أفضلت السباع كلُّها».
وتخبّط أبو حنيفة في الأسآر.
فرع:
338- سؤر الهّرة طاهر، فلو أكلت فأرة، أو تعاطت نجاسةً، فإن لم تغب عن أعيننا، وولغت في ماءٍ قليلٍ، تنجّس، للقطع باتصال النجاسة به وإن غابت، وجوّزنا أنها ولغت في ماء كثير، أو ماء جارٍ، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه ينجس؛ لأنّا استيقنّا النجاسة، ولم نستيقن زوالها.
والوجه الثاني- أنه لا ينجس؛ لجواز طهارة فمِها، والأصل طهارة ما ولغت فيه، ويتأكد ذلك بتعذّر الاحتراز، وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قال: «إنها من الطوافين عليكم والطوافات».
فصل:
339- مضمون الفصل بيان نجاسة الميتات، وما ينجس منها وما لا، ينجس منها: فأمّا السمك والجراد فميتتهما طاهر حلال، وإذا ماتت سمكة أو جرادة في ماء قليل، فهو طاهر.
وأما ما سواهما، فالمذهب أن الآدمي لا ينجس بالموت، ولا ينجس الماء الذي يموت فيه، إذا كان طاهر البدن.
وما سواه ينقسم: إلى ما له نفس سائلة، وإلى ما ليس له نفس سائلة فأما ما له نفس سائلة، فإذا مات في ماء قليل، تنجس الماء القليل.
وإن لم تكن له نفسٌ سائلة-يعني الدم؛ إذ لا يخلو حيوانٌ عن بلةٍ ورطوبةٍ، ولسنا نعنيها- فإذا مات شيء منها: كالذباب، والبعوض، والخنافس، والعقارب، وغيرها، في ماء قليل، ففي نجاسة الماء قولان للشافعي:
أحدهما: وهو الجديد، ومذهب أيي حنيفة أن الماء لا ينجس بها.
والثاني: أنه ينجس قياساً على ما له دمٌ سائل.
وذكر صاحب التقريب قولاً ثالثاً مخرجاً من قولٍ منصوص: أنه يفرق بين ما يكثر ويعم، وبين ما لا يكثر، فالذي يعم: كالذباب، والبعوض، وما في معناهما، والذي لا يعم: كالخنافس، والعقارب، والجُعلان. ووُجِّهَ هذا القول بأن المعتمد في توجيه قول الحكم بالطهارة تعذّر الاحتراز، وهذا إنما يتحقق فيما يكثر، فاقتضى ذلك تفصيلاً، ولا فقهَ في النظر إلى عدم الدم.
التفريع على القولين:
340- إن حكمنا بنجاسة الماء، فلا كلام.
وإن حكمنا بأن الماء لا ينجس، فقد قطع العراقيون بأن ذلك الحيوان ينجس بالموت، ولكن لا ينجس الماء، لتعذّر التَّصوّن، والاحتراز.
وقال القفّال: لا ينجس هذا الصنف بالموت على هذا القول، ومأخذ القولين في نجاسة الماء من القولين في نجاسة الميتة.
وهذا التردّد عندي يُتلقى من أن المعتمد على قول طهارة الماء ماذا؟ وفيه مسلكان: أحدهما أن المعتمد تعذُّر الاحتراز فعلى هذا يتجه ما قال صاحب التقريب من الفرق بين ما يعم وبين ما لا يعم.
والثاني: أن الذي ليست له نفسٌ سائلة إذا مات، فكأنه حجر أو جماد؛ فإن البلى والعفن والإنتان يقع من انحصار الدم في تجاويف العروق واستحالتها، ثم يتمادى إلى الجثة، وهذا يقتضي الحكمَ بطهارتها في أنفسها، وسبب كون الموت علّة في جلب النجاسة أنه يقرّب الجثة من التغيّر، والحيوانات التي نتكلم فيها لا تستحيل بالموت، وهي حيّةٌ وميتةٌ على صفة واحدة. ثم إن حكمنا بأنها لا تنجس بالموت، فلا فرق بين أن تكثر في الماء أو تقل، فالماء طاهرٌ.
وإن حكمنا بأنها تنجس بالموت ولكن الماء لا ينجس لتعذر الاحتراز، فلو كثر حتى تغيّر الماء به، فقد ذكر العراقيون وجهين:
أحدهما: أن الماء لا ينجس وإن تغيّر؛ فإن التغيّر غيرُ مرعي في الماء القليل، فلو كان ينجس إذا تغيّر، تنجَّس وإن لم يتغيّر.
والثاني: أنه ينجس؛ لأن الاحتراز إنما يتعذّر عما يقلّ من هذا الجنس؛ فإنه قد يلج شيء من طرف الأغطية، فأما الكثير، فمما يُتصوّن منه في العادة، والفرق بين القليل والكثير في الجنس الواحد، نظراً إلى إمكان الاحتراز وتعذره، يوجب الفرق بين الذباب والعقارب، كما قال صاحب التقريب.
341- فإن قيل: إذا حكمتم بأن هذه الميتات ليست بنجسة، وذكرتم أن كثيرها وإن غيّر الماء، فالماء طاهر، فهل يجوز التوضؤ به؟ قلنا: أقرب معتبر فيه أن نجعل تغير الماء بها كتغيره بأوراق الأشجار؛ فإنها بمثابتها على هذا المسلك.
ثم وإن حكمنا بطهارة هذه الميتات، فهي محرمة؛ فإنها مستقذرةٌ، مندرجة تحت عموم تحريم الميتة، وقد قال عليه السلام: «أُحلت لنا ميتتان».
وأما الدود الذي نشْؤُه في الماء، والطعام، والفواكه، فلا تنجس إذا ماتت؛ فإنّ نَشْأَها فيه، ولو انعصرت فيما يجري من تصرف وعصرٍ، أو اختلطت من غير قصدٍ، فلا مبالاة به.
ولو جمع جامع شيئاً منها، واعتمد أكلَها، ففي جواز ذلك وجهان: أصحهما- التحريم.
والثاني: التحليل؛ فإن دود الخلّ بمثابة جزء من الخل، ودود الجبن كجزء من الجبن طبعاً وطعماً، فإن حرّمنا، فيعود فيها التردّد في النجاسة، لو سئلنا عنها، فإن نجّسناها فلا كلام، وإن لم ننجسها، فإنما لا تنجس لظهور تعذر الاحتراز؛ من حيث إن الرب تعالى يخلقها فيها.
فهذا تمام الكشف تصريحاً وتنبيهاً.
فرع:
342- كل حيوان حكمنا بنجاسة ميتته، فجزؤه نجس، وكل حيوان أبحنا ميتته، ففي جزئه وجهان، كالسمك والجراد.
وإن حكمنا بطهارة الميتة التي لا نفس لها سائلة ولم ننجِّسها، ففي جزئها وجهان مرتبان على القسم الأول، وهذا أولى بالنجاسة.
وفي طهارة بيض الطيور التي ليست مأكولة اللحم خلافٌ، سيأتي في كتاب الصلاة، إن شاء الله تعالى.
وبيع دود القز جائز كبيع النحل؛ فإنه حيوانٌ طاهر منتفع به، بخلاف سائِر الحشرات، وفي بيع بزره خلاف، وهو بمثابة بيض الطير الذي لا يؤكل، وهو منتفع به.
فرع:
343- المسك طاهر وفاقاً، وهو أحبّ الطيب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الفأرة التي تسقطها الظبية في حياتها وجهان:
أحدهما: النجاسة؛ فإنه جزءٌ ذو روحٍ انفصل عن الحيوان.
والثاني: أنها طاهرة؛ فإنها تنفصل بطباعها، فكانت كانفصال الجنين.
فرع:
344- إذا وقعت فأرةٌ في ماء قليل، وخرجت منه حيّة، فإن انغمست، فمنفذ النجاسة منها يكون نجساً، وقد لاقى الماءَ، ولكن اختلف أئمتنا، فمنهم من حكم بالنجاسة طرداً للقياس، ومنهم من عفا عن ذلك نظراً إلى اتباع الأوَّلين؛ فإنهم مع ظهور بصائرهم، واتقاد قرائحهم، لم يجعلوا لما ذكرنا وقعاً.
ولو اقتصر رجل في الاستنجاء على الأحجار، ثم انغمس في ماء قليلٍ، تنجس الماء وفاقاً؛ فإن لهذا الأثر أحكاماً مفصلة عند الفقهاء.
ولو حمل رجل إنساناً، كان اقتصر على استعمال الأحجار، وصلى، ففي صحة صلاة الحامل وجهان: أقيسهما أنه تفسد صلاة الحامل؛ فإنّ جواز الاقتصار رخصة لا تعدو المترخص.
والثاني: تصح صلاة الحامل؛ فإن ذلك الأثر الباقي في حكم معدوم، وهذا ينقضه ما ذكرناه من انغماسه في ماءٍ قليل.