فصل: فصل: في تعليق الإقرار، وفيمن أقر بغير لغته:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: في تعليق الإقرار، وفيمن أقر بغير لغته:

4448- إذا علق الإقرار على شرط، لم يصح، فإذا قال: إذا جاء رأس الشهر، فلك علي ألف، لم يلزمه اتفاقاً؛ لأن هذا اللفظ، وإن تردد بين التعليق والوصية والتأجيل، فلا يجب شيء بالاحتمال، وإن فسر بأجل، أو وصية، أمر بدفعها عند رأس الشهر، قيل: وإن قال له: علي ألف إذا جاء رأس الشهر، فإن فسره بالتعليق، فعلى قولي تبعيض الإقرار، وإن فسره بالتأجيل، فعلى طريقي الوصف بالتأجيل.
وإن أقر عربي بالعجمية، أو عجمي بالعربية، صح. فإن قال: لقنت كلمة لا أفهمها، قُبل قوله إلا أن يكذبه، وكذلك حكم العقود والحلول والطلاق وأشباهها.
فصل:
في الشهادة بالإقرار من غير تعرّض لشروطه
قال الشافعي رضي الله عنه بعد ذكر ضمان الدّرَك: "ولو شهدوا على إقراره، ولم يقولوا صحيح العقل.. إلى آخره".
4449- ذكر الشافعي ضمان العهدة والدّرك وقد مضى مفصّلاً في كتاب الضمان، ولستُ أرى لإعادته وجهاً، وذكر أيضاً أن العربي إذا أقر بلغة العجم، صحَّ، وكذلك عكس هذا، ولو أقر بغير لغته، ثم قال: لُقِّنتُ، ولم أفهم ما تلفظتُ به، فإن كانت الحالةُ تكذّبه، لم يقبل ذلك منه، وإن لم يبعد صدقه فيما ادعاه، قُبل ذلك منه، ولا اختصاص لهذا بالأقارير، بل هو جارٍ في العقود، والحلول، والطلاق. وما في معناها.
ومما يتعلق بالألفاظ وغرضِ الفصل التعرضُ لصيغة الشهادة على الأقارير.
فإذا شهد عدلان: أن فلاناً أقر لفلانٍ بألف، فظاهر النص أن الإقرار يثبت ملزماَّ، وإن لم يتعرض الشاهدان لذكر الشرائط المرعية في صفات المقر: من البلوغ، والعقل، والصحّه-إن كان الإقرار لوارث على أحد القولين- وكذلك الحريّة، والرشد، والطواعية وعدم الإكراه.
ومطلق الإقرار من شهادة الشهود محمول على الإقرار الصحيح.
وذكر صاحب التقريب قولين في أن المقر لو كان مجهول الحريّة والرق، فهل يشترط تعرض الشهود لذكر حريته أمْ لا؟ قال: اختلف الأئمة في سائر الصفات المرعيّة: فمنهم من خرّجها على قولي الحريّة. ومنهم من لم يعتبرها، من جهة أنها لا تخفى ولا يُشكل على العامّة اشتراطُها.
والقياسُ التسوية.
فإن جرينا على ما ذكره الأصحاب، ففيه تفصيل لابُدّ من المعرض له: وهو أن الشاهد لو أطلق الشهادة على الإقرار، فللقاضي أن يسأله عن الصفات المعتبرة، فإن فصَّل، فذاك، وإن امتنع، فقال: لا يلزمني التعرض لذكر هذا، ولو كان لازماً، لبينتُ. قال القاضي: إن كان امتناعُه لا يورث القاضي رَيْباً، أمضى القضاءَ بشهادته، وإن ارتاب، توقف في شهادته. فيخرج من ذلك أنه لا ينحسم على القاضي مسلك الاستفصال.
وهذا يبينه شيءٌ: وهو أنّ الشاهد لو شهد مطلقاً؛ ومات، أو غاب، وتعذر الاستفصال، امتنع تنفيذُ القضاء بالشهادة المطلقة.
وإن شهد، واستفصل القاضي، فأبى الشاهد؛ صائراً إلى أنه لا تفصيل عليه، وعلم القاضي أنه لا يشهد إلا على بصيرةٍ، فظاهر كلام الأصحاب أن الشاهد لا يلزمه أن يفصّل، كما لا يلزمه أن يذكر مكانَ الإقرار، وزمانَه. ومن القضاة من يرى البحثَ عن المكان والزمان، وغرضُه أن يستبين تثبتَ الشاهد وثقتَه بما يقول. فإن كان الشاهد خبيراً، لم يجب القاضي إلى ذكر المكان والزمان.
4450- ولابد من قولٍ ضابطٍ في هذه الفصول، فنبدأ بإطلاق الإقرار مع السّكوت عن الصّفات المشروطة المرعية. فالمذهبُ الظّاهر أن الشهادة على الإقرار المطلق مقبولة. وقد ذكرنا قولاً على طريقة صاحب التقريب أنه لابد من التعرض لذكر الشرائط. فإن فرعنا على ظاهر المذهب، فللقاضي أن يستفصل، وله أن يترك الاسْتفصَال؛ إذ لو كان الاستفصال حقاً عليه، لأفضى إلى تكليف الشاهد ذكرَ الشرائط، وهذا هو القول البعيد الذي ذكره صاحب التقريب وليس ما ذكرناه من جواز الاستفصال من القاضي مردوداً إلى خِيَرته، ولكنَّه ينظر إلى حال الشاهد، فإن رآه على عدالته خبيراً بشرائط الشهادة، فطناً، مستقلاً، فله ترك الاستفصال حتماً. وإن تمارى في أمره، فلابد من الاستفصال.
وقد يقع حالة لا تجب المباحثة فيها حتماً، والاحتياطُ يقتضيها، وهذا من خفايا أحكام القضاء. وستأتي مستقضاة في موضعها.
ثم إذا استفصل القاضي، فهل يتعين على الشاهد التفصيلُ في أن المسؤول عنه شرائط الإقرار؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يتعين عليه ذلك.
والثاني: لا يتعين عليه.
ولا خلاف أنه لا يجب على الشاهد تفصيلُ المكان والزمان، وإن استفصل القاضي، والفرق أن الجهل بالمكان والزمان لا يقدح في الشهادة، والجهلُ بالشرائط يقدح. وإنما قبلنا الإقرار المطلقَ للعلم الظاهر باستقلال الشاهد بالإحاطة بالشرائط، والثقةِ بأن الإقرار لو كان عديم الشرط، لما استجاز الشاهدُ-مع العلم والعدالةِ- ذكرَ الإقرار المطلق.
4451- ومما يتعلق بتمام البيان في هذا، أن الشاهد لو قيد الإقرار المشهودَ به بصحة العقل، فقال المشهود عليه: كنتُ مجنوناً، إذْ لفظت بالإقرار، فلا يقبلُ مجرّدُ قول المشهود عليه.
فإن أطلق الشاهد الشهادةَ على الإقرار، ولم يتعرض للعقل، وعسر الاستفصال، لبعض الأسباب، فقال المشهودُ عليه: كنت مجنوناً لما لفظت بالإقرار، نُظر: فإن عُرف له حالة جنون فيما سبق، فالقول قوله مع يمينه، وإن كان ظاهرُ الشهادة مشتملٌ على تقدير اجتماع الشرائط، ومنها العقل. ولكن إذا لم يقع له تعرض، وادّعاه المشهود عليه، وعُهد له جنون، فهذا أعرف بحال نفسه. ولو لم يعرف له جنون، والغالب أنه لو كان يُعرف، فهو مدّعٍ، والظّاهر مع المشهود له، فيحلف ويثبتُ غرضُه.
فلو قال المشهود عليه والشهادة مُطلقة، وقد عسر الاستفصال بموت الشاهد، أو غيبته: كنت مكرهاً على الإقرار، نُظر: فإن تبينت أماراتُ الإكراه، فإن كان في قهر المقَرِّ له وحَبْسه، فالقول قوله مع يمينه؛ لظهور الأمارة. وهو كما لو ادّعى الجنون، وكان عُهد منه ذلك في الزمان السابق. وإن لم تثبت أمارةٌ على الإكراه، فهو مُدّعٍ، فالقول قول المدّعَى عليه مع يمينه.
ولو كان في قيد زيدٍ وحَبْسه، والإقرار لعمرو، فهو مُدّعٍ، والقول قول عمرٍو، مع يمينه.
والجملة في ذلك أن الشهادة المطلقة، محمولةٌ على الصحّة، إلا أن يدعي المشهودُ عليه أمراً ظاهراً، فإذ ذاك يحلف. وإن ادّعى أمراً ممكناً، من غير ظهورٍ، فالقول قول المشهود له مع يمينه.
4452- ولو تعرض الشاهدُ لاستجماع الإقرار الشرائطَ المعتبرةَ، فلا يقبل قولُ المشهودِ عليه، وإن ظهرت أمارة على صدقه؛ فإنَّ الشهادة لا تعارضها الأمارات، وهي أبداً مقامةٌ على ضد الأمارات الظاهرة، وذلك يقع في جَنْبة المدّعي، والظاهر مع المدعَى عليه.
وإن لم تكن أمارةٌ على الإكراه، فأقام المشهود عليه مُطلقاً بينةً أنه كان مُكرهاً حالة الإقرار، والشهادة على الإجبار على تاريخ واحدٍ، قال الأئمة: لا تقبل الشهادة على الإكراه مُطلقاً، حتى يفسر الشاهدان الإكراه، وذلك لاختلاف العلماء في قدرِه ومحله، فلابد من التعرض للبيان. وهذا بمثابة الشهادة القائمة على جروحِ الشهود الذين ظاهرهم العدالة، فإنا لا نقبلها مُطلقة؛ لمكان اختلاف العلماء فيما يُوجب الجرح، وينفي العدالة؛ فقد يرى الشاهد الجرحَ بما لا يراه القاضي. وكذلك المذاهبُ تختلف فيما يقع الإكراه به، وهو على الجملة مُشكل الضّبط في محل الوفاق، لا يستقل بتقريب القول منه إلا الغواصون.
4453- فإن قيل: قبلتم الإقرار المطلق من الشاهد، ولم تقبلوا الشهادة المطلقة على الإكراه، فإذا شرطتم تفصيل الإكراه، فاشترطوا تفصيل الإقرار. قلنا: لنا متمسكٌ لا بأس به لمن يشترط تفصيل الإقرارِ، ثم الفرق أن الإقرار لا يذكره الشاهد إلا لتقوم به الحجة، والإكراه لفظٌ ملتبس، والفرقُ ليس باليسير.
وقد قال كثير من أصحابِ أبي حنيفة: الشهادة على الإكراهِ المطلق مقبولة.
وهكذا مذهبهم في الجرح أيضاً.
ولو لم يُقِم المشهودُ عليه بينةً على الإكراهِ، ولكن أقام بينة على أمارتهِ، استفاد بثبوتها ظهورَ صدقه، حتى يكتفى بيمينه.
ولو قال المشهود عليه: كنت صبياً إذ لفظتُ بالإقرارِ، والشهادة على الإقرار مُطلقة. وما قال محتملٌ، فقوله مقبول مع يمينه، كما لو ادعى الجنون، وقد عهد منه، كما سبق.
ولو أقام المشهودُ عليه بينة على الإكراه المفصَّلِ الموجبِ لرد الشهادة، وقد تقيدت الشهادة على الإقرار بكونه طائعاً، فقد ذهب أصحاب أبي حنيفة إلى تقديم البينة في الإكراه.
وكان شيخنا أبو محمد يحكي في ذلك خلافاًً على وجهٍ سنصفه، فنقول: الظاهر تقديمُ البينة في الإكراه؛ لأنها تستند إلى علمٍ في الخفايا، ورب مهدَّدٍ متوعد في السر يبدي الطوعَ في تصرفه، وتستند شهادة الشاهد على الطواعية إلى ظاهر حاله، والمطلِعُ على سر الأخبار يعلم ما لم يُحط به الشاهد على الاختيار. وهذا ظاهر.
ومن أصحابنا من قال: تُعارض بينةُ الإكراه بينةَ الطواعية، و تخرِم شهادةُ الإكراه شهادةَ الطواعية، فيبقى الطوعُ مشكلاً. وإذا ارتبنا في اختلال شرطٍ، لم نقض بالشهادة. ولو جهل راجعان إلى حاصلٍ واحد.
ولو قُيد الرَّجلُ، وحبس، وضيق عليه، وحمل في ظاهر الحال على الإقرار، وقال من حسبناه مُكرهاً: لقد أقررتُ كاذباً، ولكن كنتُ أعلم لو لم أقر، لكانُوا يُطلقونني على القرب، فقد قال صاحب التقريب في هذه الصورة: لا يثبت الإقرار؛ فإن الإجبار قائم ظاهر، واعتقاد المقيَّد المحبوس أَنَّ الحبس والتضييق كان يزول، ولا يدوم ظنٌّ منه وحِسبانٌ، لا تعويل عليه. هذا كلامه. وقد قطع الجواب به.
وفيه احتمال ظاهر؛ فإنه أقر بأنه لم يكن مكرهاً، وقوله مقبول عليه، وهو مؤاخذ فيه.
فروع:
4454- إذا ادّعى الإنسان البلوغ، نظر: فإن ادعى أنه بلغ بالسن، لم يُقبل قوله؛ لأنا يمكننا أن نعرفَ بلوغَه بالسن من جهة غيره. وإن ادعى البلوغَ بالاحتلام في سن احتمال البلوغ، بأن كان ابنَ عشرٍ، أو ادعت الصبيةُ البلوغَ بالحيض، وهي ابنة تسع، فقولهما مقبول؛ فإنه لا يمكن معرفة ذلك إلا من جهتهما.
ثم قال الأصحاب: إن جرت الدعوى في خصومة، وحكمنا بقبول القول، فلا تحليف في زمان الإمكان، فإنا إن صدقنا من يدّعي هذا، فلا معنى للتحليف، مع التصديق. فإن قدّرنا تكذيباً، فمعناه اعتقاد الصبا، ولا سبيل إلى تحليف من يعتقد الصبا فيه. وهذه المسألة تكادُ تلتحق بالدوائر الفقهية، فإن في تحليفه تقديرُ الصبا.
وهذا التقديرُ يُحيل التحليفَ.
وفي هذا للنظر بقية من وجهين اثنين: أحدهما: أنه لو كان الشخص الذي فيه الكلام غريباً فينا، خاملَ الذكر، ولم نعرف لولادته تاريخاً حتى يتعرف منه أمرُ السّن، وادّعى البلوغَ بالسّن، ففي هذه الصورة احتمالٌ؛ من جهة أنا لا نتمكن من معرفة ذلك إلا من جهته، فيجوز أن يلتحق بادعاء الاحتلام، ويجوز أن يقال: لا يقبل؛ فإن هذا على الجملة ممَّا يمكن فرضُ الاطلاع عليه من غير جهته. وإذا تمهد هذا في أصلٍ، لم تُعتبر الصّورةُ النادرة، ولا يتبع الإنباتُ في مثل هذه الصّورَة؛ فإن سبب التعلق به في أولاد الكفار عُسرُ الرجوع إلى تواريخ ولادتهم، ولا يُتعلق بالإنبات في دعوى الاحتلام أصلاً.
ومما يتعلق النظر به أنا إذا قبلنا قولَه، وأمضيناه، ولم نر تحليفه لما ذكرناه، فلو ارتفع بالسن، وبلغ مبلغاً نستيقن بلوغَه فيه، فهل يجوز أن نحلفه الآن: أنه كان بالغاً حين ادعائه؟ الظّاهرُ أنا لا نحلّفه؛ فإنا أمضينا حكمَ قوله، ونُطنا به موجَبَه من غير توقف، وهذا يتضمن انفصالَ الخصومة، وانتهاءها نهايتَها. ويستحيل أن نعطف يميناً بعد تطاول الزمن على خصومةٍ منفصلة. هذا ما نراه. والعلم عند الله.
فروع:
4455- الإقرار بأعيان الأملاك مقبول. وإنَّما يقبل ممّن كان على ظاهر الملك، وكان متمكناً باليد، والمخايل المعتبرة الدالة على الملك. ويستحيل في وضع الإقرار تقديرُ امتدادِ ملك المقر إلى وقت الإقرار؛ فإنه لو كان كذلك، لكان كاذباً في إقراره لغيرهِ بالملك؛ من جهة أن الإقرار في نفسه لا يتضمن إزالة الملك، وإنما هو إخبار عن ثبوت الملك للمقَرّ له، وذلك يتضمن تقدم المخبَر على وقوع المخبِر لا محالة، فلو شهدت بينةٌ على أن فُلاناً أقر بأن الدّار التي في يده لفلانٍ، وكانت ملكَه إلى أن أقر بها، فهذه الشهادة باطلةٌ؛ فإنها متناقضةٌ. ولو صدر الإقرارُ على هذه الصيغة من المقر، نُظر: فإن قال: هذه الدارُ لفلانٍ، وكانت لي إلى إنشاء الإقرار، فإقراره بالملك نافذ، وقوله كانت لي إلى إنشاء الإقرار أمرٌ مُطّرحٌ. وهذا يلتحق بما لو قال: هذه الدار لفلان، وليست له.
ولو قال أولاً: هذه الدار لي، وهي في ملكي، وقد صارت الآن لفلان، فالإقرارُ في نفسِه باطِل، فإنه أنشأه على صيغة البُطلان.
وكذلك لو قال: داري هذه لفلان، أو ثوبي هذا المملوك لفلان، فهذا متناقض. وما ذكرناه في الإقرار بالأعيان.
فأما إذا ثبتت ديونٌ لإنسان، وشهد بذلك ظاهرُ تصرف ومقتضى معاملة، فقال هذه الديون لفلان، نُظر: فإن أمكن وقوع ذلك الدين للمقَر له بتقدير المقر وكيلاً في المعاملة الملزمة، فالإقرار مقبول. وإن ثبت الدين في جهةٍ لا يتصور فيها تقدير النيابة، كالصّداق في حق المرأة، وبدل الخلع في حق الزوج، فلا يتصور الإقرار بثبوت أصل الحق، ليخبر به من ثبت له.
ولو فرض الإقرار في انتقال هذا النوع من الدين، أو في انتقال سائر الدّيون إلى إنسان، فلا محمل لذلك إلا تقدير بيع الدين، وفي صحته قولان، فالإقرارُ إذاً مخرّج عليهما.
فرع:
4456- إذا ادّعى رجل على رجلٍ درهماً، فقال المدّعى عليه: زِنْ. فهذا ليس بإقرار؛ من جهة أنه غيرُ مصرِّحٍ بالالتزام، ولا يمنع حمله على الاستهزاء في مطرد العرف. ولو قال: زِنْه، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنه بمثابة قوله: زِنْ.
وقال صاحب التلخيص: قولُه: "زِنْه" إقرارٌ، بخلاف قوله: زِنْ. وهذا الذي تخيله من الفرق بين قوله: زنه. وقوله: "زِنْ"، لا حاصل له؛ فالوجه القطع بأنه لا يكون مقراً باللفظين؛ فإنَّه ليس في واحد منهما ما يشعر بالالتزام.
وكذلك لو قال: خُذْ، أو خذه.
وممَّا أعُدُّه من الغلطات ما ذكره الشيخ أبو علي عنه في شرح كتابه: فيه: إذا قال المقر: لفلانٍ عليّ درهم أو دينار، قال: فيه وجهان:
أحدهما: أنه يلزمه أحدُهما، ويطالب بالتفسير على نحو ما قدمنا سبيل المطالبة في الأقارير المبهمة، في أول الكتاب. والوجه الثاني- أنه لا يلزمه شيء؛ فإن قوله مُردَّدٌ، ليس فيه إقرار جازمٌ بشيء. وهذا ساقطٌ من الكلام، لا أصل له، ولا يعدّ مثلُه من المذهب. وإنما ذكرته لعُلو قدر الحاكي.
فرع:
4457- إذا قال: "لفلان علي درهم درهم"، لم يلزمه بلفظه إلا درهم، على مذهب التأكيد بتكرير اللفظ، من غير عطفٍ. ولو قال: "لفلان علي درهم، بل درهمٌ"، لم يلزمه إلا درهم. ولو قال: "علي درهم، بل درهمان"، يلزمه درهمان، بتقدير زيادة درهم آخر على الدرهم الأوّلِ، وضمها في صيغة التثنية.
ولو أشار إلى دراهم مُعينة، وقال: "لفلان هذه الدراهم بل هذان الدّرْهمان"، فأشار أولاً إلى درهم فرد، ثم إلى درهمين مجموعين، كان مقراً بالدراهم الثلاثة، لا شكّ فيه.
فرع:
4458- ولو أشار إلى العبد الذي في يده، وقال: إنّه لأحد هذين الرجلين، فهو مطالب بالبيان والتعيين، فإذا عين أحدَهما، تعيّن. وهل للثاني أن يُحلّفه؟ هذا يبتني على أنه لو أقر للثاني بعدما أقر للأوّل، فهل يغرَمُ له قيمةَ العبد؟ وفيه قولان تقدم ذكرهما، فإن قلنا: إنه يغرَم للثاني قيمة العبد، فله أن يحلّفه رجاء أن ينكل عن اليمين، فتردَّ اليمين على المدعي، وتنزل يمين الرد منزلة الإقرار.
وإن قلنا: إنّه لا يغرَمُ للثاني قيمة العبد، فالمذهبُ القطعُ بأنّه لا يحلف.
وأبعد بعضُ أصحابنا، فقال: إذا قلنا: يمين الرّد بمثابة البينة، فإنا نحلّفه، ولو نكل رددنا اليمين على الثاني، فإذا حلف، قضينا له بالعبد؛ لأن اليمين نازلة منزلة البينة القائمة.
وهذا زلل وغلط، قد ردده طوائف من الأصحاب في أمثال هذه المواضع.
ووجه الغلط أن يمين الردّ، وإن كانت بمثابة البينة، فإنها كذلك في حق النّاكل.
ويستحيل أن تكون البينة في حق ثالثٍ، لم يتعلق به خصومةُ الحالف.
ثم فرعّ الأصحاب على هذا الوجه الضعيف فرعاً بعيداً، فقالوا: إذَا استرددنا العبدَ
من المعيّن الأوّل، وسلّمناه إلى من حلف يمين الرد، فهل يغرَم الناكل للأوّل، من جهة تسببه بنكوله عن اليمين إلى إيقاع الحيلولة بين الأوّل وبين ملكه؟ فعلى طريقين: من أصحابنا من قطع بأنه لا يغرم؛ إذ لم يوجد منه إلا النّكول، فلم يتعلق بمجرّده حُكم، وإنّما تعلّق باليمين المردودة، وهي المقامة في هذه الطريقة مقام البينة، ومن أصحابنا من قال: في ضمان النَّاكل للأول قولان خارجان على ما لو أقر بعينٍ لفلان، ثم أقر بها لآخر.
وهذا خبطٌ عظيم، وتخليط مجاوز للحدّ. وقد يقتضي قُصاراه إلى إستحالةٍ، وخلطِ قول بقول. وسبب هذا أنّه تفريعٌ على وجهٍ باطل قطعاً، وهو إحلال يمين الرد محلَّ البينة في حق ثالثٍ، لا تعلق للخصومة به. فإن قيل: أليس وقعَ ذلك الوجهُ الضعيفُ مفرعاً على أن الناكل لا يغرَم القيمة لخصمه، الذي رُدت اليمين عليه، فلا يتفرع على هذا تردّدٌ في الغرامة للأوَّل؟ قلنا: ذاك الوجه الضعيف يجريه صاحبه على قول التغريم أيضاً في استرداد العين. وبالجملة لا خير فيه. فالوجه قطع الكلام فيه.
ولو قال المقِر المبهِمُ، لما طولب بالتعيين: "لا أعلم المالك منهما". إن صدقاه، فذاك؛ والعبد موقوف لهما. وإن كذباه، وادّعى كل واحد منهما أنه يعلم أن العبد له، فالقول قولُه مع يمينه: يحلف لكل واحدٍ منهما: "لا يعلمه له".
ولو قال: أحد هذين العبدين لك، طولب بالتعيين، ثم لا يخفى قُصَارَى المُطالبةِ والخصومةِ، فلا معنى للتطويل بذكره.
ولو مات قبل التعيين، قام الوارث مقامه في التعيين، والتهدُّفِ في الخصومة.
وسنذكر تحقيقَ هذا الفنّ على غَاية الإمكان في البيان، من كتاب النكاح، إذا زوج المرأةَ وليّانِ من رجلين، والتبس الحال، إن شاء الله تعالى.
فرع:
4459- إذا أشار إلى عبد لرجلٍ، وقال: لهذا العبد عليَّ ألفُ درهم. قد جعل الأصحاب هذا إقراراً للسيد، وحملوا إضافة المقرِّ به إلى العبد على تأويل معاملته؛ فإنّه من أهل المعاملة.
ولو قال: لحمار فلان عليَّ ألفٌ، كان ذلك لغواً من الكلام مُطَّرحاً، لا يُلزم أمراً.
ولو قال: عليَّ بسبب هذا الحمارِ ألفٌ، كان إقراراً لمالكه، ويحمل على أنه استأجره، فلزمه بما ذكره أجرُه.
وفي هذا للنّظر مجالٌ؛ من جهة أنه لم يعيّن المقرَّ له بالألف، وربَّما كان هذا الحمار ملكاً لغير مالكه الآن، وكان تقدير الاستئجار من ذلك الغير. وهذا ظاهرٌ، وإن حمله الأصحاب على الالتزام لمن هو مالكٌ في الحال.
فرع:
4460- لو قال: "لفلان علي مائة درهم عدداً"، كان ذلك إقراراً بمائةٍ من الصحاح وازنةً، ولا يحمل ذكر العدد على الاكتفاء به من غير رعاية وزن.
وكذلك لو جرى بيعٌ بهذه الصيغة، ينصرف العقدُ على مائةٍ من الصحاح تزن مائةً. ثم قال المحققون: لا يلزمه مائةٌ، كل درهم منها يزن درهماً، وإنما المأخوذ عليه أن يأتي بدراهمَ صحاح، تزن مائةً، ولا يضر أن يكون عددها ثمانين، أو خمسين.
وذكر الشيخ أبو علي وجهاًً في الشرح أنا نُلزمه مائةً عدداً، تزن مائةً. وهذا بعيد.
وكان شيخي على الوجه الأوّل الصحيح يتردد فيه، إذا أتى بدرهم واحدٍ، يزن مائةً، أو درهمين. فخالفَ الدراهمَ التي تسمى مائةً عدداً.
ولا شكّ أن البيع إذا عقد بهذه الصيغةِ يحمل على الصحاح الجارية في العرف.
وإنما التردد الذي ذكرناه في الإقرار؛ فإنا قد لا نلتزم فيه العرفَ في كل مسلك.
ولو قال: عليّ مائةٌ عدداً من الدراهم، قُبل منه مائةٌ عدداً وإن لم تكن وازنة؛ فإن لفظه مصرِّح بهذا المعنى.
فرع:
4461- ولو قال؛ علي درهمٌ في عشرة: إن أراد الضرب الحسابي، لزمه عشرة، وإن أراد درهماً مع عشرة، لزمه أحدَ عشرَ درهماً. فإن أراد درهماً في عشرةٍ لي، لزمه درهمٌ واحد. وإن أطلق، فلفظه محمول على الواحد؛ فإنه الأقل، والخصومة جارية وراءه.
فرع:
4462- قال القاضي: لو قال رجل: لك عليَّ شيء، فقال المخاطب:
ليس لي عليك شيء، وإنّما لي عليك ألفُ درهم، فدعواه الألف مردودة؛ لأنّه نفى أولاً أن يكون ألف درهم، فدعواه الألف مردودة، لأنه نفى أولاً أن يكون له عليه شيء، واسم الشيء يعم القليل، والكثير.
وبمثله لو قال المقِر: لك عليَّ درهمٌ، فقال المقَرّ له: ليس لي عليك درهم، ولا دانق، وإنما عليك ألفُ درهم، فتُقبل الدعوى. وإن كان قد نفى الواحدَ والألفُ آحاد مجموعة. ولكن جرت العادة بمثل هذا، فإن الإنسان ينفي الأقلَّ، وهو يبغي إثبات الأكثر، فكأنه يقول: ليس حقي على قدر درهم ودانقٍ، وإنّما حقي ألف درهم.