فصل: باب: الماء الذي ينجس والذي لا ينجس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الماء الذي ينجس والذي لا ينجس:

345- قد ذكرنا أن الماء القليل إذا وردت عليه نجاسة نجّسته، تغيّر الماء أو لم يتغيّر، والماء إذا بلغ حدَّ الكثرة لم يتنجس ما لم يتغير.
والمعتمد والمرجوع إليه في حد الكثرة عند الشافعي ما روى عن النبي عليه السلام أنه قال: «إذا بلغ الماء قلتين، لم يحمل نجساً» وروى عن ابن جريج في طريقه «إذا بلغ الماء قلتين بقلال هجر، لم يحمل نجساً».
والناس على ثلاثة مذاهب: أحدها: أن النظر إلى تغيّر الماء قلّ أو كثر، وهذا مذهب مالك رضي الله عنه. ولا يشك منصف أن السلف الصالحين لو رأوْا رطلاً، وقد قطرت فيه قطرات من بول أو خمر، كانوا لا يَروْن استعمالَه وإن لم يتغيّر، وحديث القلتين بمفهومه يردّ هذا المذهب.
ولم يستقرّ مذهب أبي حنيفة على حدّ. والذي تقرر عليه أنه إذا وقعت نجاسة في ماء، فمن اغتّرف الماء من موضعٍ يستيقين أن النجاسة لم تنتشر إليه، فهو طاهر، وهذا عماية لا يُهتدى إليها.
والشافعي لما لم يصح عنده مذهب مالك، ورأى مذهب أبي حنيفة خارجاً عما يحويه الضبط، استمسك بتوقيفٍ وجده مرويّاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثُمْ رأى الشافعيُّ أن القلة هي الجرّة الكبيرة.
ثم روى عن ابن جُريج أنه قال: "لقد رأيت قلال هجر، فرأيت القُلة تَسَع قربتين، أو قربتين وشيئاًً"، ثم رأى الشافعي أن يحمل الشيء الذي ذكره ابنُ جريج على نصف قربة، وقال: هو الأقصى، لوجهين:
أحدهما: أنه لو كان أكثر من نصف قربة، لما كان يتشكك فيه، ويقول: أو قربتين وشيئاً.
والثاني: أنه لو كان أكثر من النصف، لكان يقول: ثلاث قرب إلاّ شيء.
ثم ظاهر كلام الشافعي أن القربة الحجازيّة تَسَعُ مائة رطلٍ، والرطل نصف مَن، فالمجموع خمسمائة رطل، وبالمن مائتان وخمسون مناً.
وذكر بعض أصحابنا أن القربة تَسَع مائة منّ، فالمجموع ألف رطل.
وهذا بعيد؛ فإن القربة لا تَسَع مائةَ مَنٍّ.
وذكر الزبيريّ، صاحب الكافي طريقةً ارتضاها القفال، فحمل القلّة على ما يُقلّه حمارٌ أو بعير ضعيف، والوِقرُ مائِة وستون مَناً، يُحط للظرف، والحبال عشرةُ أمناء، فتبقى مائةٌ وخمسون مَنّاً، فالقلتان ثلثمائة منٍّ، ولا يمتنع ما ذكره من التأويل في قلال هجر؛ فإن بها رَوايا لنقل الماء، والذي قاله أقرب من الحمل على الجرّات، ولا يتحقق في هذا ضبط على ما نحاول.
346- ومما ذكره الأصحاب الاختلاف في أن ما ذكره تقريبٌ أو تحديد، وقالوا: الأصح أنه تحديد.
قال الشيخ أبو بكر في إيضاح التحديد: لو نقص إستارٌ واحدٌ، كان الماء في حدّ القلة.
وهذا عندي إفراط؛ فإن هذا المقدار لا يبين، ولا يُحَسّ في القلتين، فالوجه في التفريع على التحديد أنه إذا نقص ما يظهر، ولا يحمل على تفاوت في كُرات الوزن، فهو الذي ينقُص الحدَّ.
347- فأما من قال: إنه تقريبٌ، فقد تخبطت فيه نقلة ألفاظ أئمة المذهب:
فأما الصيدلاني، فإنه قال: لو نقص شيء قليل، لم يؤثر، على وجه التقريب، ولم يذكر إلا هذا.
وقال بعضُ المصنفين في بيان التقريب: لا يضر نقصان الرطل والمَنّ، ولست أرى لهذا أصلاً.
وسمعت شيخي يقول: لو نقص رطلان لا يضر، وكان لا يسمح بثلاثة أرطال.
وذكر الشيخ أبو علي في الشرح: أنه لو نقص ثلاثة أرطال لا يضر على وجه التقريب، ولا يزيد على ذلك.
ورأيت لصاحب التقريب إشارةً في معنى التقريب إلى حطّ نصف قربة من كل قُلةٍ؛ مصيراً منه إلى إسقاط ما تردّد فيه ابن جريج؛ إذ قال: أو قربتين وشيئاً.
وهذا بعيدٌ جداًً، وليس بياناً للتقريب، وكأنه يردّ القلّتين إلى أربعمائة رطل، وأسقط محل التشكك، ثم يقع في الأربعمائة تقدير التقريب.
348- وبالجملة، فليس فيما نقلته شفاءٌ، ولست أعدّ كلام صاحب التقريب من المذهب، وإنما هو خطأ ظاهر.
والذي أراه في تفسير ما ذكره الأئمة من أن القليل لا يضر نقصانه، أنا لو فرضنا مقداراً من الزعفران في القلتين، وكان يظهر عليه ظُهوراً مقَدَّراً في الفكر، فلو نقص مقدارٌ من الماء، وكان لو ألقي فيه المقدار الذي ذكرناه، لازداد ظهوره ازدياداً محسوساً، فهذا نقصان يَنقُص الحدّ، وإن كان النقصان بحيث لا يظهر بسببه في الحس تفاوت في ظهور ما يقع فيه، فهو القليل الذي لا يؤثر، ولو فرض هذا التقدير في النجاسة وتفاوت ظهورها، لكان سديداً.
والتحديد أسلم وأضبط.
والسبب فيه أن الماء القليل ينجس، وهذا الحكم مستندٌ إلى ثبتٍ شرعي، فإن القياس لا يجول في ذلك.
فإن قيل: لم تذكروا في تفسير التقريب أمراً معلوماً؟ قلنا: هذا تعسف؛ فإن التقريب لا يقتضي الإعلامَ والتقديرَ، فمن طلب في بيانه تقديراً، فقد ذَهِل عن مأخذ الكلام، وأقرب مسلكٍ فيه ما ذكرناه.
فإن قيل: لو نقَصَ على وجه التقريب مقدارٌ تردَّدَ المرءُ في أنه يظهر أثره حسّاً أم لا، في دفع أثر ما يقع فيه. فهذا فيه احتمال عندي؛ فإنه من وجهٍ يلتفت على أن الأصل هو القلّة. وهذا هو الظاهر؛ ولأجله اخترنا التحديد. ومن وجهٍ يلتفت على أنَّ الأصل ألا يحسّ أثره في تفاوت الدّفع. فهذا أقصى الإمكان في ذلك.
فإذاً المعتمد على وجه التحديد النقصانُ المحسوسُ، وعلى وجه التقريب، المعتبرُ تفاوتٌ في تأثير الدفع محسوس.
349- ثم الماء الكثير إذا تغيّر بالنجاسة، صار نجساً، وقد ذكرنا في الزعفران الواقع في الماء أن الأظهر اعتبار تفاحش التغير، حتى يزول إطلاق اسم الماء، ولا يراعى في التغيّر بالنجاسة ظهور التغيّر، حتى يسقط اسمُ الماء، بل المرعي ألا تكون النجاسة مغمورة بالماء، ومهما ظهر في الماء صفة من صفات النجاسة، فقد تبين أنها ليست مغمورةً.
ولو وقعت نجاسةٌ جامدة في الماء، فتروّح الماء بها، ولم تخالط الماء، فالذي يدل عليه كلام الأئمة أن الماء الكثير ينجس بالتروّح بمجاورة ما وقع فيه.
وكان شيخي يحكي في المجاورة كلاماً، ويختار أن الماء لا ينجس بهذا؛ فإنه لو كان بالقرب من الماء جيفةٌ، فتروّح الماء بريحها، لم ينجس، فوقوع عين النجاسة في الماء الكثير غير مؤثّر.
والظاهر عندي ما نقلتُه من كلام الأصحاب؛ فإن هذا يعدُّ ظهورٌ لأثر النجاسة؛ فتعاف النفس الماء بسببه.
فهذا بيان حدّ الكثرة ومعنى التغيّر بالنجاسة، وهما قاعدتان إليهما استناد فصول الباب.
فصل:
350- إذا وقع في الماء الكثير نجاسةٌ مائعة، ولم تغيّره، فالماء طهور، ولا أثر لتلك النجاسة أصلاً. وإن كانت النجاسة ماسكةً جامدة، فوقعت في ماء كثيرٍ، فالذي نصّ عليه الشافعي في الجديد أنه يجب التباعد عن موضع النجاسة، بقدر قلّتين، ثم يكون الاغتراف وراءهما، والمنصوص عليه في القديم أنه لا يجب ذلك، وهو الأصح.
وفيما بلغنا من المسائل ثلاث مسائل في كل واحدة قولان، القديم فيها أصح من الجديد: إحداها- هذه، وستاتي الأخريان- إن شاء الله تعالى.
351- توجيه القولين: من قال يجب التباعد، استدلّ بأن أثرَ كثرة الماء دَفْعُ النجاسةِ ومغالبتُها، وإذا وقع الاغتراف من قرب النجاسة، فالماء الذي وراء المغترف لا أثر له في الدفع، وإذا كان بين المغترف وبين النجاسة قلتان، امتنع نفوذ النجاسة إلى موضع الاغتراف.
ومن قال بالقول القديم، قال: النجاسة في الماء الكثير الراكد لا أثر لها، ووجودها كعدمها، وهى مدفوعة الحكم، ولو حكمنا بنجاسة قلتين من كل جانب منها، فيكون الاغتراف متصلاً بماء محكوم بنجاسته، والماء يشيع في الماء، فإذا جاز الاغتراف من ماءٍ متصلٍ بماء نجس، فلأن يجوز من ماء قريب من نجاسةٍ جامدةٍ أولى.
352- ثم مما يتفرّع على القولين: أنا إذا أوجبنا التباعد بقدر قلّتين، فلابد من رعاية التناسب في الأبعاد في صوب التباعد، فإذا كانت النجاسة على وجه ماء البحر، فتباعد المرء ذراعاً، فلا يحسب الماء إلى منتهى العمق، بل يحسب ذراعاً في ذراع طولاً وعرضاً وعمقاً، فلا يزال يتباعد على هذه النسبة حتى يبلغ ما يخلِّفه قلتين.
وإنما راعينا هذا؛ لأن العمقَ الخارج عن هذه النسبة لا يصلح أن يكون حاملاً، ولو كان الماء الكثير منبسطاً وعمقه شبراً، فإذا تباعدنا مقدار أذرع، اعتبرنا مثلها في العرض ولم نصادف عمقاً يناسب الطول والعرض، فنحسب ما وجدنا، فنقول: خمسة أذرع في مثلها في عمق شبرٍ لا يكون قلتين، فلا نزال نزيد حتى يبلغ ما نخلِّفه قلتين، وعلى هذا ما يصوَّر من الصور.
353- ثم إذا كان الماء قلتين بلا مزيد، فوقعت فيه نجاسة قائمة، فالماء محكوم بنجاسته على قول وجوب التباعد، ولا يكون نجساً على القول الآخر.
ولو نُحّيت النجاسة ورميت، والماء غير متغير، فهو طهور على القولين، ويتأتى استعمال جميعه.
وإن تركت النجاسة على الماء، واغترف منه، فقد فصله الشيخ أبو علي في الشرح أفضل تفصيل، وأنا أسوق كلامه على وجهه، بلا مزيد: فإذا كان في بئرٍ قلتان من الماء، وفيه نجاسةٌ قائمة، فألقى النازح دَلوه، واغيّرف، فنُفرّع التفاصيل على قول وجوب التباعد، ثم نفزعها على القول الثاني.
فإذا أوجبنا التباعد، وقد ألقى دلوه، لم يَخْل إما أن يُلقي الدَّلو على وجه الماء، ثم يختطفها من غير أن يغمرها الماء، ثم يُخرجها. فإن ألقاها على وجه الماء، وكان أسفل الدَّلو ثقيلاً يطلب الرسوبَ، بحيث ينحدر الماء من العَراقي إلى الدلو، فلا يخلو إما أن تقع النجاسة في الدَّلو، أوَّلاً، ثم يتبعها دُفَع الماء، أو على العكس من هذا، فإن ابتدرت النجاسة، ثم تبعها الماء، فالماء عادَ طهوراً؛ لما فَارقته النجاسة، ثم نقص الماء وهو طهور، فإذا اختطف الدَّلوَ، فالماء الذي في البئر طاهر؛ فإن النجاسة زايلته، وهو كاملٌ، والماء الذي في الدَّلو نجس؛ لأنه قليل وفيه نجاسة، وظاهر الدَّلو طاهر؛ لأنه لقي ماء البئر وهو محكوم بطهارته، فإن انفصل الدَّلو، ثم قطرت قطرةٌ مما في الدلو إلى البئر، صار الماء الذي في البئر نجساً؛ لأنه ناقصٌ عن القلتين وقعت فيه نجاسة.
354- وإن سبقت دُفَعٌ من الماء إلى الدَّلو، ثم تبعها النجاسة، واختطف الدَّلوَ، فالماء الذي في الدلو نجس؛ لأنه قليل وفيه نجاسة، والذي في البئر نجس أيضاً؛ لأنه نقص عن حدّ الكثرة بالدُّفع التي سبقت إلى الدَّلو، والنجاسة بعدُ في الماء، ثم فارقت، والماءُ القليل إذا فارقته النجاسة، لم يطهر، وظاهر الدلو نجس؛ لنجاسة ماء البئر. فهذا إذا اختطف الدَّلوَ على الصورة التي ذكرناها من الماء.
فأما إذا انغمرت في الماء، وعلاها الماءُ، ثم أخرجها، والتفريع على قول وجوب التباعد، سواء وقعت النجاسة في الدَّلو، أو بقيت في البئر، فالماءان جميعاًً نجسان: أما الذي فيه النجاسة، فقليلٌ فيه عين نجسة، والآخر انفصل عن نجس، فكان الكل نجساً على قول وجوب التباعد.
فأما إذا فرّعنا على القول القديم، ولم نوجب التباعدَ، فالماء قبل اغتراف شيءٍ منه طاهر، فإذا اغترف منه، نُظر. فإن كان الاغتراف خطفاً، فالجواب فيه كما مضى في القول الأوّل، ولا يفترقان في ذلك، ولم نعدْه لوضوحه بأدنى تأمل.
فأما إذا انغمرت الدَّلو في الماء، ثم انتزحت، والتفريع على القديم، فإن وقعت النجاسة في الدلو، فلا شكّ في نجاسة الماء الذي فيه، وفي الماء الباقي في البئر وجهان.
ولو بقيت في البئر، فماء البئر نجس، وفي الذي في الدَّلو وجهان؛ لأن الماء قبل التفريق طاهرٌ، ثم يكون أحد الماءين نجساً وانفصاله عن ناقصٍ عن القلتين. ولكن كان قبل الانفصال طاهراً، وكما نقص كان النقصان مقترناً بزوال النجاسة، فأشعر هذا بطهارة ما لا نجاسة فيه، ومن حيث إن المنفصل الذي فيه النجاسة نجس، وكان الكل على حكم واحدٍ، فإذا حكم بنجاسة البعض، أشعر ذلك بنجاسة الباقي.
فهذا منتهى البيان في ذلك.
فرع:
355- إذا كان في إناء قلةٌ نجسة نجاسة حكميّة، وفي إناء آخر قلة أخرى نجسة كذلك، ولا تغيّر، فضمت إحداهما إلى الأخرى، فالماء بجملته الآن طاهرٌ؛ لبلوغه حدّ الكثرة من غير تغيّر، فلو فُرِّق بعد ذلك لم يؤثّر؛ فإن النجاسة بالاجتماع اندفعت، وارتفع حكمها.
فرع:
356- إذا صب في ماء بالغٍ قلتين رطل بول، ولم يغيره، فالماء طهور، ويجوز استعمال كله، إلا رطلاً، وهو مقدار البول. ثم في ذلك الرطل وجهان: أصحهما- جواز الاستعمال؛ فإن البول صار مستهلكاً ساقط الحكم.
والثاني: لا يجوز استعماله؛ فإنه لو استعمل، لكان استعمل البول يقيناً. وليس بشيء؛ فإنه إذا لم يبق إلا مقدار رطل، فنحن على اضطرارٍ نعلم أنّا استعملنا معظم البول فيما استعملنا قبل، وليس في هذا الباقي إلا مقدار يسير من البول، إن كان.
ولو كان معه ماء ينقص عن قلتين برطل مثلاً، فكمّله برطلٍ من بول، فالماء نجس؛ فإنه لم يبلغ الماءُ قلتين، وفيه نجاسة، ولو كمله برطلٍ من ما ورد، ثم وقعت فيه نقطة بول، فينجس الكل؛ فإن الماء قليل، وقد وقعت فيه نجاسة.
فرع:
357- إذا وقف ماءٌ بالغٌ حدّ الكثرة على مستوٍ من الأرض، وانبسط عليها على عمق شبر أو فِتْرٍ مثلاً، فليس للماء في مثل هذا المقر ترادٌّ وتدافع، ولا يتقوَّى البعض بالبعض، كما يتقوّى إذا كان للماء عمقٌ مناسبٌ للطول والعرض. فذا وقفت نجاسة على طرفٍ من مثل الماء الذي وصفناه-والتفريع على القديم، وهو أنه لا يجب التباعد عن موضع النجاسة- فهل يجب التباعد في هذه الصورة؟ فعلى وجهين، ذكرهما المحاملي في (الوجهين والقولين):
أحدهما: لا يجبُ؛ طرداً للقياس.
والثاني: يجب؛ فإن أجزاء الماء، وإن كانت متواصلة، فهى ضعيفة، فإذا قرب المغترف من محل النجاسة، كان كالاغتراف من ماء قليل.
وهذا الذي ذكره يقتضي مساقه أن يقال: لو كان الماء ناقصاً عن القلتين بمقدارٍ يسيرٍ، وهو منبسطٌ، كما سبق، فلو وقع في طرف منه نجاسة، وجب ألا ينجس الطرف الأقصى على الفور؛ لأن النجاسة لا تَنْبثُّ بسرعةٍ مع انبساط الماء، وضعف ترادّه. وهذا لم يصر إليه أحد من الأئمة.
فصل:
358- إذا وقعت نجاسة في ماء بئر، والماء قليل، ينجس. ثم ليس من الصواب نزحُ الماء، وإتعابُ النفس فيه، وقد يتنجس جوانب البئر والدَّلو والرِّشا، بل الوجه أن يكاثَر ماءُ البئر، ويبلغ حدَّ الكثرة، وإذا بلغه ولم يكن متغيراً، فهو طهور، وإن كان متغيراً، زِيد في الماء، حتى يزول التغيّر. ولو كان بالغاً قلتين وقد تغيّر، فالوجه الأيسر المكاثرة إلى زوال التغير.
فإن طُرح في الماء المسك أو غيره، مما له رائحة غلاّبة، فزال تغيّر الماء ظاهراً، لم يعد طهوراً؛ فإن هذا غمرٌ وليس بزالة.
ولو زال التغيّر على مرّ الزمان، أو بهبوب الرياح، والماء كثير، فهو طهور، وإن طرح في الماء تراب، فأزال أثر النجاسة، فللشافعي قولان:
أحدهما: أنه لا يعود طهوراً، كالمسك إذا طرح، والثاني: أنه يعود طهوراً؛ فإن التراب ليست له رائحة فائحة تعم، ولكن له أثرٌ في الإزالة حقيقةً.
ومن أغمض ما يرفع في الفتاوى، ويبتلى الناس به النجاسة إذا وقعت في ماء بئر، وتهرأت وتفتتت، ولا يُنزح دلوٌ إلا وفيه جزء منه وإن لطف، فيتعذر استعمال الماء، وإن كان كثيراً غير متغير.
وكان شيخي يُسال عن ذلك، فلا يجد جواباً، ويقول: الخلاص منه بطمّ البئر واحتفار أخرى.
وقد رأيت لمحمد بن الحسن فيه شيئاً ليس بعيداً عن قياسنا.
فأقول: إن أمكن نزف جَمّة البئر، واقتلاع شيء من الطين الذي فيه مقرٌّ للماء، فهو الوجه، والماء الذي ينبع جديداً طهور.
وإن كانت العيون فوّارةً غزيرة، وكان لا يتأتى نزفُها، فالوجه الإمعان في نزف الدّلاء وِلاءً وتباعاً، بحيث لا تسكن الجمّة عن تحرّكها بالدلو الأولى حتى تلحقَها الثانية، ثم هكذا، حتى ينزح مثل جمّة البئر. هذا ما ذكره.
والاستظهار عندي في هذا المسلك أن يُنزحَ بهذا الطريق مثلُ ماء البئر مراراً، فيصير النزح المتدارك، مع حركة الماء ودفعه أجزاء النجاسة، كالماء الجاري، فالعيون تفور بمياه جديدة، فتدفع النجاسات وهي تنزح، فتطهر. وهذا مسلك بين في دفع النجاسة.
359- فإن أراد الإنسان أن يقف منه على حقيقةٍ، اتخذ طاساً مثقوباً وسدّ ثُقبته، وصبّ فيه مقداراً من الماء، ووضعه على ماء في مِركن وفتت فيه شيئاً، وفتح الثُّقبة، وهي مثال العين الفوارة، ثم يتخذ آلةً في نزح الماء عن الطاس على مثال الدَّلو، بالإضافة إلى ماء البئر، فلا يزال ينزح، والماء يفور، وهو يقدّر ما يخرجه، وقد تقدر عنده ماء الطست أولاً، فهو دائب كذلك، حتى لا يبقى مما فتته شيء، وقد صفا الماء، فيتخذ ذلك دستوره في ماء البئر. ويقيس فوران العيون وجَمّةَ البئر، وما ينزحه، بما ضربته مثلاً.
ولا يكاد يخفى على الفطن إتعابُنَا أنفسنا في تقريب مدارك الحق على طالبيه.
360- ثم يتم مقصود الفصل بشيء مأخذه الفقه، وهو أن الماء الذي فيه الكلام كثير، زائد مثلاً على قلل، وهو غير متغير في جوهره، فكل دَلْو يخرجه ولا نجاسة فيه، فهو طاهر، ولو غلب على ظنّه أنه لا يخلو دَلو عن شيء من النجاسة المتشَتِّتة، ولم يقطَعْ به، فعندي يخرج الماء على القولين المقدمين فيما يغلب على الظن نجاسته، فإذا أكثر النزحَ، زال غلبةُ الظن في النجاسة، فإذا كان لا يرى أثر النجاسة في المنتزح، فهذا ما لم يستيقن نجاستَه، ولم يغلب على الظن أيضاً نجاسته، فيجوز استعماله. فهذا منتهى الإمكان في البيان، والله المستعان.
وكل ما ذكرناه في الماء الراكد. وقد بانت قواعد المذهب فيه، ونحن نذكر الآن تفصيل الماء الجاري، إذا وقعت فيه نجاسة، إن شاء الله تعالى.
فصل:
361- حقيقة هذا الفصل يستدعي التنبيهَ على أمر يتعلّق بطباع الماء الراكد والجاري: فالماء الراكد المجتمع في مقرٍّ أجزاؤه مترادة متعاضدة، وإذا نال طرفاً من الماء ما يغير ذلك الطرف، انبثَّ في الماء، فإن كان بحيث لا يقوى على تغيير جميع الماء، صار مستهلكاً في الماء، كما لم ترد عليه النجاسة، كأنه يدرأ النجاسة عن موردها، وموردُ النجاسة يُشيع النجاسة بسبب ركود النجاسة في الماء.
والماء الجاري لا ترادّ فيه، والجريان يمنع شيوعَ النجاسة وانبثاثَها؛ فإن جريان مورد النجاسة يمنع من الانبثاث، والجِرية التي تداني مورد النجاسة لا تدفع النجاسة عن موردها بجريانها؛ فلا النجاسة تشيع، ولا غير مورد النجاسة يؤثر في درء النجاسة عن موردها. فلما اختلف الأمر في وضع الماءين، فقد تختلف التفاصيل في أمر النجاسة.
362- فنبتدىء الآن القولَ في الماء الجاري.
ونقول: الماء الجاري ينقسم أولاً: إلى ما قد تغيره النجاسة المعتادة، وإلى ماء الأودية العظيمة التي لا تؤثر النجاسات المعتادة فيها: فأما الأنهار التي تغيّرها النجاسات في العادات إذا كثرت، فإذا وقعت فيها نجاسة، لم تخل: إما أن تكون قائمة، وإما أن تكون مائعة، فإن كانت قائمة، لم تخلُ: إما أن كانت تجري جَرْيَ الماء، وإما أن تقف والماء يجري عليها.
فإن كانت جاريةً مع جريان الماء، ولم يكن جريانها أثقل، فأول القول يأتي مع ضربٍ من الإجمال، ثم يتفصل شيئاً شيئاً، حتى يبين الغرض.
قال الأئمة: ما فوق النجاسة، وهو ما لم يتصل بالنجاسة طهور وِفاقاً، وأما ما هو أمام النجاسة من ماء النهر-وهو ما لم تصل إليه النجاسة- طاهر؛ فإنه لم يصل إلى النجاسة، كما لم تصل النجاسة إليه.
ثم قالوا: محل النجاسة من الماء نجس، وكذلك ما يقرب منه، مما ينسب إلى النجاسة.
هكذا ذكره الصيدلاني، وهو فحوى كلام شيخي.
وما عن يمين النجاسة وشمالها، إلى حافتي النهر، مما تردّد فيه أئمة المذهب، فذهب ذاهبون إلى أن في رعاية التباعد في جهة الاغتراف من اليمين والشمال بقدر قلتين- قولين، كالقولين في الماء الراكد.
وذكر الأكثرون: أنه إذا حصل التباعد عن مورد النجاسة، وما ينسب إليها، جاز الاغتراف قولاً واحداً، ولا يعتبر التباعد بقدر القلتين؛ والسبب فيه أن جريان الماء يمنع من انبثاث النجاسة وتفشيها، فلا حاجة إلى الاستظهار بالتباعد، فإن لم نعتبر القلتين في التباعد، فلا كلام، وإن اعتبرنا القلتين، فقد سبق قياسه وطريقه، فإن لم يكن بين مورد النجاسة وبين شطّ النهر قلّتان، فالماء المقابل للنجاسة إلى ضفة النهر نجس كله.
363- والذي ذكرناه لا يبين إلا بتقريبٍ وضبطٍ فيما ذكره الأئمة من مورد النجاسة.
فنقول: إذا لم نوجب التباعد عن مورد النجاسة في الماء الراكد بقدر قلتين، فلو اغترف الماء بقرب النجاسة، والنجاسةُ قائمة، جاز، والمغترَف منه ماء كثير؛ والسبب فيه أن ترادّ الماء يوجب تساوي أجزاء الماء في النجاسة، فالقريب والبعيد على وَتِيرَةٍ. وأما إذا كانت النجاسة على الماء الجاري، فإن الماء يحرك النجاسة، والنجاسة تصادمه، فيوجب ذلك تعدّي النجاسة في الماء عن محلٍّ واحد؛ فمن هذه الجهة قال الأئمة: لا نغترف مما ينسب إلى النجاسة. فإذاً جريان الماء يوجب إشاعة النجاسة إلى ما حوالي النجاسة، ويمنع من الإشاعة إلى غير ذلك، والركود يوجب تساوي أجزاء الماء. فليفهم الفطن ما نقول.
فإن قيل: فاذكروا عبارة مقربة فيما قيل في محل النجاسة على الماء الجاري.
قلنا: ما يحرك النجاسة من الماء، وينعطف عليها من اليمين واليسار، فهو المعني بالذي ذكره الأئمة، فقدْرُ حجم النجاسة من الماء لا شك فيه، ويصدم النجاسة من يمينها ويسارها الماء، ثم يلتف الماء التفافاً، وكل ما يقرب من النجاسة، وما يلاقي النجاسة، أو يلتف عليها، فهو مضاف إلى النجاسة، وهو الذي قيل فيه: إنه لا يغترف منه. وما يبعد قليلاً لا يلقَى النجاسةَ، ولا يلتفُّ عليها، ولا يؤثر في إجرائها، إلا أن يزورَّ المجرى، ويختلف شكلُه، وذلك لا معتبر به.
ويمكن أن يقال: إن محل النجاسة ما يغيَّر شكله بجرم النجاسة، ثم يدخل تحت ما ينسب إلى النجاسة مقدارٌ ممّا فوق النجاسة، ومقدارٌ مما تحته، على التقريب الذي ذكرناه.
فهذا أقصى الإمكان في ذلك.
364- ثم نذكر بعد ذلك وجهين بعيدين في شيئين، أحدهما-ما ذكره صاحب التقريب في الماء المنحدر عن النجاسة أمامها. قال: من أصحابنا من أجرى في التباعد عن النجاسة بقدر قلتين فيما انحدر- التردّدَ المذكور في يمين النجاسة ويسارها، وقطع بطهارة ما فوق محلها المنسوب إليها، وفرق بأن صوب النجاسة إلى أمامها وقدامها، ولا اتصال لها بما وراءها، وهذا ليس بشيءٍ؛ فإن انحدار الماء الذي فوق النجاسة إلى النجاسة كانحدار النجاسة إلى أمامها، فلا فرق.
والوجه الثاني- ذكره شيخي، كان يحكي: إن من أصحابنا من لم يرع للنجاسة على الماء الجاري حريماً، وجوَّز الاغتراف من قربها، كما يُجوِّز ذلك في الماء الراكد، وجعل جريان الماء في دَفْع حكم النجاسة القائمة، ككثرة الماء الراكد، وهذا غريب ضعيف لا نعدّه من المذهب.
وهذا كله في النجاسة القائمة إذا كانت تجري جَرْيَ الماء.
365- وأمّا إذا كانت النجاسة واقفة، والماء يجري عليها، فالقول فيما وراء النجاسة وفوقها كما مضى، والقول فيما عن يمين النجاسة ويسارها، كما ذكرناه.
وإنما يختلف التفريع فيما ينحدر عن النجاسة، فقال العلماء: قدر القلتين مما ينحدر نجس، وأما ما وراء القلتين مما ينحدر، ففيه اختلاف مشهور:
ذهب صاحب التلخيص إلى أنه طاهر؛ فإن النجاسة يتلاشى أثرها، ويزول في مقدار القلتين، فما وراء ذلك طاهر.
وقال ابن سريج: كل ما ينحدر عن النجاسة نجسّ، وإن امتدّ الجدول فراسخ، إلا أن يُجمع في حوض مقدارُ قلتين، ويثبت له حكم الركود، فيطهر، ثم ما يخرج من الحوض طاهر، ووجه ذلك ظاهر. وهو الذي أفتى به المفتون.
والذي يجب الاعتناء به أنّا ذكرنا أن ما عن اليمين واليسار إذا كان بعيداً لا يصدم النجاسة، فهو طاهر. والظاهر أنه لا يجب اعتبار القلّتين فيما عن اليمين واليسار، فإذا انحدر الماء، فكيف يحكم ابن سريج بنجاسة جميع الماء المنحدر؟ قلنا: إذا امتدّ الماء، كثر اضطراب الماء، والتقت الحواشي على الأوساط، وانعكست الأوساط على الشطين، فيصير الكل كالشيء الواحد.
ولا يبين هذا ما لم يكقل الفصل. وإذا انتهيت إلى ما أراه تتمةً لهذا الفصل، نبهت عليه، إن شاء الله عز وجل.
وهذا قانون المذهب في أصله.
قال صاحب التقريب في النجاسة الواقفة: من أئمتنا من قال: يُراعى فيما فوق النجاسة من التباعد بقدر قلتين، ما يُراعى في اليمين واليسار، إذا كانت النجاسة واقفةً.
وهذا فيه احتمال، وهو أقرب مما ذكره في الفصل الأول من اعتبار القلتين فيما ينحدر والنجاسة جارية جَرْي الماء.
وهذا كله في النجاسة القائمة.
366- فأما إذا وقعت نجاسة مائعة في الماء الجاري، فإن لم تغيّر الماء، وامّحقت في الماء، فلا حكم لها، والماء طاهر كله؛ فإن جميع الماء في النهر يزيد على قلل، وقد درست آثار النجاسة. وما زال الماضون يستنجون من شطوط الأنهار، ولا يرون ذلك منجساً للماء.
وكل ما ذكرناه في الأنهار التي لا يبعد تغيّرها بالنجاسات المعتادة، فأما الأنهار العظيمة التي لا يتوقع تغيُّرها بالنجاسات، إذا وقعت فيها نجاسة، والنجاسة جارية، فالذي ذكره معظم الأصحاب القطعُ بألا تباعد بقدر قلتين. وإنما يجتنب محل النجاسة. كما مضى مفصّلاً. ويستوي في ذلك الوراء والأمام، واليمين واليسار.
وذكر صاحب التقريب هذا ووجهاً آخر: أنه يجري في اليمين واليسار والأمام من الخلاف في التباعد بقدر القلتين ما ذكرناه.
367- فأما إِذا كانت النجاسة واقفةً راسيةً في أسفل الوادي العظيم، فلا خلاف أنا لا نحكم بنجاسة ما ينحدر، وهذا محالٌ تخيله، وليكن ما ينحدر عن النجاسة كما عن اليمين واليسار في أمر التباعد.
قلتُ: لو وقعت بعرة صغيرة في وادٍ من أوديتنا، وكان لا يتوقّع تغير ذلك الوادي بمثل تلك النجاسة، وإِن كان يتغير بأكثر منها، فإذا تناهى صغر النجاسة، فهي بالإضافة إلى هذا الوادي كالجيفة الواقعة في أسفل الوادي العظيم، فيجب القطع بطهارة ما ينحدر في هذه الصورة.
368- والذي كنت وعدتُ التنبيه عليه فيما تقدّم، فهذا أوانه.
ثم أقول: المبلغُ التوقيفي في حد الكثرة قلتان، فالذي أراه أن النجاسة الواقفة في النهر، إِذا كانت بحيث يتأتىّ التباعد عن يمينها بقدر قلتين، وكذلك عن يسارها، فلا ينبغي أن يشك في طهارة ما ينحدر، ويلتف البعض على البعض، ولا يتغيّر.
فإن قيل: ألستم ذكرتم أن الأصح أنه لا يجب التباعد، وقد قلتم: إن النجاسة المائعة إذا وقعت في الماء الجاري ولم تغيّره، والتف الماء، فالكل طاهر، فهلا قلتم: ما ينحدر في حكم نجاسةٍ مائعة تصير مستهلكةً؟ قلنا: لو صب في ماء متغير بطول المكث مقدارٌ كثير من البول، فلم يتغير به، فالحدّ المعتبر عندنا أن يقال: يقدّر للبول صفةٌ تخالف صفةَ الماء، ويُنظر هل يتغير؟ فإن كان يتغير، فينجُس الماء.
وقد ذكرنا نظير ذلك في الطاهر من المائعات إذا اختلط بالماء، واستقصينا القول فيه؛ فالذي تقدم من النجاسة المائعة يُعتبر فيه ما ذكرناه. فإن كانت مخالفة لصورة الماء، اعتبر التغير، وإن كانت موافقة لصفة الماء، قدّرت مخالفةً، وبني الأمر على ما مضى. فالمقدار الذي هو محل النجاسة على ما فصّلناه، يعتبر في كونه مخالفاً للماء وينظر أيتغير أم لا. فهذا منتهى القول في ذلك.
وكان شيخي يقول: إذا كانت النجاسة طافية على الماء الجاري، فأَخْذُ الماء في جهة العمق موازياً للنجاسة يخرّج على أَخْذ الماء عن اليمين واليسار في حكم التباعد.
ولو كانت النجاسة في أسفل النهر، فأخذ الماء من وجه النهر موازياً للنجاسة، مُخرّجٌ على ما ذكرنا.
فهذا منتهى القول. ومن لم يتفطن للغرض بهذه التنبيهات لا يزيده الإكثار إلا دهشةً وعماية.
فرع:
369: إذا كان الماء يجري منحدراً في صبب، فهو الجاري حقّاً، وكذلك إذا كان يجري في مستوٍ من الأرض، وإن كان ما هو أمام الماء فيه ارتفاع، فالماء يترادّ لا محالة، ولكنه قد يجري مع هذا جرياً متباطئاً، فإن ظاهر المذهب أنَّ حكمَه-إذا كان كذلك- حكمُ الماء الراكد، ومن أصحابنا من أجراه مجرى الماء الجاري، وهو ضعيف؛ لا أعده من المذهب.
فرع:
370- إذا جرينا على مذهب ابن سُريج في الحكم بنجاسة ما ينحدر من النجاسة الواقفة، وإن امتدّ الجدول، فلا يقع الحكم على مذهبه بالنجاسة حالة وقوع النجاسة، ولكن تنجس الجِرْيةُ الأولى التي تلقى النجاسة، فإذا جرت، فينجس ما بين الجرية الأولى إلى موقف النجاسة، وإذا كانت النجاسة تتحرك حركة متباطئة، وكان جري الماء أسرع، فالقول فيما ينحدر كالقول فيه إذا كانت النجاسة واقفةً.
ولكن نجاسة الجرية الأولى والنجاسة تتلوها لا تبعد بُعدها والنجاسة واقفة لا تتحرك، فليعتبر ذلك بكف تِبْنٍ على الجرية الأولى، ويعترض في ذلك أيضاً أن النجاسة إذا تحركت، فالماء الآتي من ورائها يُطَهّر موقفها، ولا يتغيّر. فيقع هذا في تفصيل غسالة لا تتغيّر. ثم يأتي بعده ماءٌ طهور لا يصادف نجاسة، ثم ينظر في الذي قدرناه غسالة مع ما يلت عليه، ويقدّر مخالفاً له في صفته.
وقد تمهد جميع ذلك على الاستقصاء
فرع:
371- قد يجتمع في موضعٍ ماءٌ لبعضه حُكمُ الجريان، ولبعضه حكم الركود، كالحوض الذي يدخل إليه ماءٌ ضعيف ويخرج، فالمقدار الجاري هو الذي يدخل ويخرج، وما عن جانبيه وما هو تحت المجرى إلى العمق حكمه حكم الراكد، فلو كان على المقدار الجاري نجاسةٌ تجري جَرْي الماء-والتفريع على أنه لا يجب التباعد لو كان الماء كله جارياً- فلا ينجس الراكد؛ فإنّا نجوز في هذه الصورة الاغتراف من حاشيتي القدر الجاري، فكيف يتعدّى حكم النجاسة إلى ما وراء الجاري، وطرفا الجاري طاهران.
وليقع التفريع إذا كانت النجاسة طافيةً وللماء الجاري عمقٌ أيضاً.
فلو وقعت نجاسةٌ على ما له حكم الركود، والمقدار الراكد أقلّ من قلتين، حكمنا بنجاسة الراكد، ثم حاشية الجاري تلقى في جريانها نجاسةً واقفةً، وهي الماء الراكد، فقد يقتضي ذلك نجاسةَ الماء الجاري الضعيف في منحدره.
فاقتضى قياس ما تمهد أن النجاسة على المقدار الجاري لا تتعدى إلى الراكد إذا استدّت، على استنان الجريان، والنجاسة على الراكد إذا كان أقل من قلّتين يتعدى حكمها إلى الجاري.
372- ولو كان في وسط النهر حفرة لها عمق، وكان يجري الماء عليها، فقد حكى صاحب التقريب نصاً للشافعي، في أن الماء في الحفرة له حكم الركود؛ فإنه قارٌ لا يبرح.
ونحن نفصَّل هذا، وينشأ منه مسائل:
فإن كان الماء الجاري يقلّب ما في الحفرة ويبدلها، ويخلُفها، فهو جارٍ، وإن كان يلبث الماء قليلاً، ثم يزايل الحفرة، فله في زمان اللبث حكم الركود. وإن كان لا يلبث، بل تثقل حركتُه، ثم يستدّ في المجرى، فله في زمان التثاقل حكم الماء الذي بين يديه ارتفاع، وهو متحرك على بطء. وقد مضى جميع ذلك.
وإن كان ماء الحفرة لابثاً وفيه نجاسة، والماء يجري عليها، فماء الحفرة نجس، والجاري عليه في حكم جار على نجاسة واقفة لا تبرح، وقد تفصّل جميع ذلك. ولو كان يتلَوْلَب الماءُ في طرفٍ من النهر، ويستدير، فهو في حكم الراكد عندي؛ فإن الاستدارة في معنى الترادّ، والتدافع يزيد على الركود.
فهذه جمل لا يشذ عنها مقصود، لم نؤثر بسطَها أكثر من ذلك.
فرع:
373- ماءٌ نجسٌ في كوزٍ غُمس في ماءٍ كثير، فإن كان ضيق الرأس، فاتصال الماء الكثير برأس ذلك الكوز لا يؤثر فيما في الكوز.
هكذا ذكره الأئمة؛ فإن مجرد الاتّصال لا يُعنى لعينه، وإنما الغرض انبثاث الماء النجس في الماء الكثير، حتى تصير النجاسة مستهلكةً مندرسة الأثر، وهذا لا يتحقق في الصورة التي ذكرناها.
ولو كان الكوز واسع الرأس، فعندي أن الغمسة الواحدة لا تُزيل حكمَ النجاسة منها.
ومن أراد في ذلك معتبراً، فيقال له: لو كان ماء الكوز متغيراً بزعفران، وقُلب في الماء الكثير، فيزول أثر التغير بالكلية، ولو غُمس الكوز الذي فيه الماء المتغير في ماء كثير لم يزل التغير منه على الفور. نعم، قد يزول التغير إذا تمادى الزمان، فنلتزم بحسب ما ذكرناه أن نحكم بطهارة ماء الكوز، إذا مضى من الزمان ما يزول في مثله تغيّر الماء الذي فرضنا.
374- وكان شيخي يقول: إذا كان الكوز واسع الرأس، وفيه ماء نجس غير متغير، فغمس في ماء كثير، نحكم بأن الماء الذي فيه يطهر.
وهذا لا أعدّه مذهباً.
375- ولو فرضنا قُلَّتين، في حفرتين، وبينهما نهر صغير غير عميق، وفيه ماءٌ يتّصل أحد طرفيه بإحدى الحفرتين والثاني بالأخرى، فإذا وقعت نجاسة في إحدى الحفرتين، فلست أرى الماء في الحفرة الأخرى دافعاً تلك النجاسة، بحكم الكثرة؛ فإنه ليس بينهما ترادّ وتدافع، وتخلل ذلك النهر الصغير لا يوصل قوة أحد الماءين إلى الأخرى. وليعتبر ذلك بما قدرناه من التغيّر بالزعفران وغيره.
فهذا غاية ما عقدنا في ذلك.
فرع:
376- قال العراقيون: إذا رأى ظبيةً من البعد تبول في ماء كثير، فدنا من الماء وصادفهُ متغيراً، وجوّز أن يكون تغيّره من البول، وجوز أن يكون من طول الاستنقاع، فقد نص الشافعي على أن الماء نجس، والتغير محال على السبب الذي عاينه من بول الظبية، دون ما يظنه من الاستنقاع.
هكذا نقلوه، ووجهه بيِّن. وفيه احتمال لا يخفى على المتأمل.
فصل:
377- قال: "ولو كان مع الرجل إناءان يستيقن أن أحدهما طاهر... الفصل".
إذا كان مع الرجل إناءان في أحدهما ماء طاهر بيقين، وفي الثاني ماء نجس، والتبس الطاهر بالنجس، فمذهب الشافعي أنه يجتهد، ويتحرّى، فما أدى اجتهاده إلى طهارته، توضأ به، واستعمله فيما أراد.
وكذلك ثلاثة من الأواني: اثنان طاهران وواحد نجس، أو اثنان نجسان وواحد طاهر؛ فالاجتهاد سائغ في جميع هذه الصور.
وحكى الصيدلاني عن المزني: أنه لا يجوز الاجتهاد في الأواني. ومذهب أبي حنيفة معروف، مذكور في الخلاف.
378- ثم الكلام في هذه القاعدة يتعلق بأمور: منها- أنه إذا كان إناءان مثلاً، فظاهر المذهب أنه لابد من الاجتهاد، والاجتهاد يعتمد الأمارات والعلامات، فإذا رأى من البعد كلباً يلغ في أحد الإناءين، ثم التبس، فإذا رأى الماء ناقصاً في أحدهما، أو رأى الماءَ مضطرباً فيه، ورأى قطرات من الماء بالقرب من أحد الإناءين، فهذه العلامات وغيرها متعلق الاجتهاد، فإن لم ير شيئاًً منها، لم يستعمل واحداً من الماءين. وسيأتي ذكرُ ما نأمره به إذا تعذّر الاجتهاد.
فهذا هو المذهب.
ومن أصحابنا من قال: إذا التبس الأمر، فاستعمل أحد الماءين من غير اجتهاد، جازَ؛ بناءً على أن الأصل في الذي استعمله الطهارة، فلا تزول إلا بيقين النجاسة.
وهذا وإن كان لا يعسر توجيهه، فهو بعيدٌ عن المذهب جدّاً. ولكن حكاه الصيدلاني على هذا الوجه.
وذكر شيخي وبعض المصنفين مسلكاً آخر ثالثاً، وهو أنه لو ظن الرجل طهارة أحد الماءين من غير تعلّق بأمارة، فله التعويل على الظن من غير أن يكون له مستند، فأمّا استعمال أحدهما من غير اجتهاد، ولا ظن، فلا.
وهذا أشبه مما حكاه الصيدلاني، ولكنّه أضعف في التوجيه منه؛ فإن الظن لا يغلَّب من غير سبب يقتضي تغليبَه. والأمور الشرعية لا تبنى على الإلهامات والخواطر.
فإذاً حصلت ثلاثُ طرق، والمذهب منها الطريقة الأولى.
379- فإذا فرعنا على أنه لابد من الاجتهاد، فلو انصبّ أحد الماءين، فهل يجوز استعمال الثاني من غير اجتهاد، وقد انفرد الماء؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما يجوز؛ فإنه مشكوك فيه، والأصل طهارته. والثاني لابد من الاجتهاد؛ لأن الاجتهاد وجب متعلقاً بهذا الإناء وبآخر معه، فتبقى فرضيتُه في حق الإناء الثاني. فهذا أجدر الأمور في القاعدة.
380- ومن القواعد في ذلك أنه إذا كان مع الرجل إناءان: أحدهما طاهر والثاني نجس، والتبس الطاهر منهما، ومعه ماء مستيقن الطهارة. أو كان على شط بحرٍ أو نهرٍ، فهل يجوز استعمال أحد الإناءين بالاجتهاد وترك الماء المستيقن؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يجوز؛ فإن الاجتهاد إنما يسوغ عند فقدان اليقين، وهو عند زوال اليقين كالضرورة، فلا مساغ مع التمكن من اليقين. ولا يخفى نظائر ذلك.
والوجه الثاني- أنه يجوز استعمال أحد الإناءين بالاجتهاد؛ فإن أكثر ما فيه أنه يستعمل ماءً لا يستيقن طهارتَه، مع القدرة على ماء مستيقن الطهارة، وليس ذلك بدعا؛ فإنه لو كان معه ماء مشكوك فيه، وكان على شط بحر، فله استعمال الماء المشكوك فيه مع القدرة على الماء المستيقن الطهارة. والسبب فيه أن الماء الذي لم يستيقن نجاسته في الشرع كالماء الذي يستيقن طهارته.
381- وهذه القاعدة تنشأ منها مسائل مختلف فيها: منها إذا كان معه إناءان في أحدهما ماء طهور، وفي الثاني ماء مستعمل، أو ماء ورد، فمن منع الاجتهاد مع القدرة على اليقين، أوجب أن يتوضأ مرتين بالماءين ليستيقن ارتفاع الحدث، ومن جوز الاجتهاد، سوغّ التوضؤ بأحدهما بالاجتهاد.
ومنها إذا كان معه ثوبان أحدهما نجس، والآخر ملتبس، ومعه ماء طاهر، يمكنه غسل الثوبين به، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه يجب ذلك.
والثاني: يسوغ الاجتهاد.
ومنها: إذا كان معه إناءان أحدهما نجس، وفي كل واحدٍ منهما قلة، ولو جمعهما، لكان الكل طاهراً بالكثرة، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: يجب طلب اليقين الذي ذكرناه.
والثاني: يجوز التعويل على الاجتهاد.
وأصل هذه المسائل ما سبق تمهيده.
382- ومن الأصول في الفصل أنه إذا كان معه إناءان في أحدهما ماء. وفي الثاني بول، والتبس، فمن يرى استعمالَ أحد الماءين من غير اجتهاد إما تعويلاً على الظن، أو من غير ظن، فلا يجوِّز استعمال ما في أحد الإناءين وجهاً واحداً؛ إذ لا اجتهاد، ولا يتأتى البناء على أصل الطهارة، وكذلك لو انصبّ ما في أحد الإناءين، فأراد استعمال الثاني من غير اجتهاد، لم يجز وجهاً واحداً هاهنا، وإن ذكرنا وجهين في الماءين، فالفرق لائحٌ.
فأما إذا أراد الاجتهاد في الماء والبول، فلاحت له علامة، ففي جواز الاجتهاد وجهان: أشهرهما- المنع؛ لأن الاجتهاد في الأواني ضعيف، ما لم يعتضد برد الأمر إلى استصحاب الطهارة. وهذا المعنى لا يتحقق في ماءٍ وبول.
والوجه الثاني- أنه يجتهد تعلّقاً بالعلامات، وهذا يتجه في القياس، والأول أشهر.
383- ولو التبست ميتةٌ ومذكاة، فلست أرى علامة تميز إحداهما عن الأخرى.
وكذلك لو التبست أختٌ محرمةٌ برضاعٍ، أو نسبٍ بأجنبتّة، فلا علامة تميّز، والتعويل على الظن محالٌ؛ فالوجه القطع بالتحريم. فهذا بيان قواعد الفصل.
ونحن نرسم الآن فروعاً يتم بها الغرض.
فرع:
384- إذا كان معه إناءان في أحدهما ماء طاهر، وفي الثاني ماء نجس، فأدى اجتهادُه إلى طهارة أحدهما، فتوضأ به، وصلى الصبحَ، ولم يُفضل شيئاً، فلما دخل وقتُ الظهر أدّى اجتهادُه إلى طهارة الثاني، فإن استعمل الثاني ولم يأت الماءُ على ما أتى عليه الأول، فلا تصح صلاتُه؛ فإنه يكون مستصحباً للنجاسة يقيناً.
وإن كان يأتي الماءُ الثاني على ما أصابه الماء الأول، فما نُقل عن نص الشافعي في رواية حرملة أنه لا يجب استعمال الماء الثاني؛ فإنا إن جوزنا ألا يستوعب بالماء الثاني ما أتى عليه الماء الأول، فيكون ذلك حملاً للنجاسة قطعاًً.
وإن أوجبنا أن يأتي بالماء الثاني على جميع ما أتى عليه الأول، فيتضمن ذلك نقضَ الاجتهاد الأول، والاجتهاد لا يُنقض بالاجتهاد.
فهذا هو النص وتوجيهه.
وقال ابن سُريج: يستعمل الماء الثاني الذي أدى إليه اجتهادُه، ويجب أن يأتي على جميع ما أتى عليه الماء الأول. ووجه ما قاله: أنه يتّبع في كل طهارة اجتهاده الناجز، وهو بمثابة إلزامنا من التبس عليه جهةُ القبلة أن يجتهد عند دخول وقت كل صلاة، وقد يصلي صلوات باجتهادات إلى جهات.
وأما إيجاب استيعاب ما أتى عليه الماء الأول فليتوقَّى يقينَ النجاسة في الصلاة الثانية، التي يقيمها بالماء الثاني.
385- فإن فرعنا على النص، فإذا منعناه من استعمال الماء الثاني فيتيمّم، ويصلي ولا يعيد الصلاة الأولى، وهل يعيد الصلاة الثانية؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون:
أحدهما: لا يعيدها؛ فإنه تيمم وهو ممنوع عن الماء الذي معه، وليس معه ماءٌ مستيقن الطهارة.
والوجه الثاني- يعيد الصلاة الثانية، وكلّ صلاة يصليها بعد ذلك بالتيمم، ما دام اجتهاده الثاني مستقراً؛ فإنه تيمم ومعه ماءٌ يظنه باجتهاده طاهراً.
وإن فرعناه على تخريج ابن سُريج، فلا نوجب قضاء شيءٍ من الصلوات؛ فإن كلّ صلاة مستندة إلى اجتهادٍ مستقلٍّ بنفسه.
وهذا عندي بمثابة ما لو صلى أربع صلوات بأربع اجتهادات إلى أربع جهات، فالمذهب أنه لا يجب قضاء شيء منها. وفيها شيء سأذكره في كتاب الصلاة. إن شاء الله تعالى.
وما ذكره ابن سُريج كذلك في الظهور، ويتطرّق إليه من الاحتمال ما يتطرق إلى مسألة القبلة.
386- ولو كانت المسألة بحالها، فأدّى اجتهاده إلى الماء الأوّل، فتوضأ به، وأفضل منه شيئاًً، ثم أدّى اجتهادُه في وقت الصلاة الثانية إلى الماء الثاني، فلا يخلو: إما إن كان ما أفضله من الماء الأول مقدار وضوء، أو كان أقل من ذلك، فإن كان مقدار وضوء، فالقول في أنه هل يستعمل الماء الثاني على الخلاف المقدم، نصاً وتخريجاً، وإنما يختلف بسبب الإفضال أمرُ القضاء.
فإن فرعنا على تخريج ابن سُريج، فيستعمل الماء الثاني، ولا قضاء؛ لما ذكرناه. وإن فرعنا على النص، فقد قطع الأئمة بأنه إذا تغيّر اجتهادُه يتيمّم، ويصلي.
ويُعيد في هذه الصورة كل صلاةٍ صلاها بالتيمم. هكذا ذكره الشافعي. وعلّل بأن معه ماءً مستيقنَ الطهارة.
387- فإن قيل: هلا قلتم: امتناع استعماله يُسقط قضاء الصلاة، كما إذا رأى المتيمم ماءً، ورأى معه مانعاً من استعماله، كسبُع أو غيره؟
قلنا: ليس المجتهد آيساً من دَرْك اليقين، والاستقرارِ على الاجتهاد الأول عوْداً إليه. هذا هو المنقول الذي بلغني، ولست أنكر تطرقَ الاحتمال إليه. ولكن المذهب نقلٌ.
ووجه قضاء الصلاة ليس بالخافي؛ فإنه-لما ذكرناه في جميع حالاته- على تردد، ومعه ماء مستيقن، والذي رأى مع الماء سبعاً على يقين من المانع، فلو أنه أراق الماءين جميعاًً، تخلص عن القضاء في الصلوات التي يصليها بالتيمم.
وقد ذكرنا خلافاًً في أن من صَبَّ ماء وضوئه بعد دخول وقت الصلاة من غير غرضٍ، وتيمم وصلى، فهل يلزمه قضاء الصلاة؟ والذي ذكرناه الآن في صب الماءين ليس كذلك؛ فإنه ثمَّ صبّ ماءً طاهراً هَزْلاً من غير غرض، وهاهنا عذرٌ في صب ماء لا يقدر على استعماله؛ فلا يلزمه قضاء الصلوات.
ولو صبّ أحدَ الماءين في الآخر حتى يصيرَ مستيقن النجاسة، يسقط القضاء أيضاًً.
ولو صبّ الماءَ الثاني، وأبقى الفضلة، وكان يتيمم ويصلي؛ فلا قضاء عليه، لأنه ليس معه ماء مستيقن الطهارة، ولا يغلب على الظن طهارته. وإن صب تلك الفضلة، وبقي الماء الثاني، فهل يقضي الصلوات التي يصليها بتيمّم؟ فعلى وجهين: ذكرهما العراقيون؛ فإنه ماء مظنون الطهارة، وقد سبق ذلك في الصورة الأولى.
388- فهذا إذا كان ما أفضله مقدارَ وضوء، فأما إذا كان أقل منه، فيزيد هاهنا التفريع على أن الماء القاصر عن مقدار الطهارة هل يجب استعماله؟ فإن قلنا: يجب، فتفصيل قضاء الصلاة كما مضى فيه، إذا كانت الفضلة مقدار وضوء.
وإن قلنا: لا يجب استعمال ما ينقص عن مقدار الطهارة، فوجود تلك الفضلة
وعدمها بمثابةٍ واحدةٍ. وهو كما لو صب الفضلة الباقية في الصورة الأولى، وبقي الماء
الثاني الذي مال الاجتهاد إليه. وقد مضى ذلك مفصَّلاً.
فرع:
389- ذكر ابن الحداد حكم الإمامة في التباس أمر الحدث في غير الأواني، ثم ذكر حكم الأواني، فنذكر ما ذكره أولاً مقدّمةً، ثم نبني عليها الأواني.
إذا جلس اثنان فسُمع منهما صوتُ حدث، وكل واحد منهما ينكر صدروه منه، فإذا انفرد كل واحدٍ وصلى وحده، حكم بصحة صلاة كل واحد منهما. ولو اقتدى أحدهما بالثاني، فأما الإمام، فتصح صلاته؛ فإنه لا تعلق لصلاته بصلاة المقتدي به، وحكمه حكم المنفرد، وأما المقتدي فلا تصح صلاته؛ فإن الحدث إن كان منه، فصلاته باطلة، وإن كان من إمامه، فقد اقتدى بمحدث.
ثم كان شيخي يذكر هاهنا اقتداءَ الشافعي بالحنفي، وفيه غموض. ونحن نذكره موضحاً به المذاهب المختلفة. فإذا توضأ الحنفي واقتدى به الشافعي، فالنية شرط الوضوء عند الشافعي. أما الأستاذ أبو إسحاق، فلم يجوِّز الاقتداء بالحنفي، وإن نوى رفعَ الحدث، وصار إلى أنه لا يرى النية واجبةً، فلا نعتدّها، وإن جاء بها.
وذهب القفال إلى صحة الاقتداء وإن لم ينو الحنفي؛ فإن كلَّ واحدٍ مؤاخذٌ بموجب اعتقاده، والاختلاف في الفروع رحمةٌ.
وذهب الشيخ أبو حامد إلى أنه إن نوى، صحَّ اقتداء الشافعي به، ولا يضرّ عدم اعتقاد الوجوب، وإن لم ينو، لم يصح اقتداءُ الشافعي به.
وهذا لا يناظر ما قدمناه من اقتداء أحد الرجلين بالثاني إذا صدر منهما صوتُ حدث؛ فإن اقتداء المقتدي باطلٌ قطعاًً، على كل تقديرٍ، كما سبق تقريرُه، وأما اقتداء الشافعي بالحنفي، فلا يبطل على كل تقدير؛ فإن معتقد أبي حنيفة إن كان حقاً في نفي وجوب النية- فلا يضر الشافعي أن ينوي، ويعتقدَ وجوبَ النية ويقتدي، فلهذا تردد الأئمة في الاقتداء بالحنفي كما صوّرناه.
وهذا الاختلاف له التفات إلى تصويب المجتهدَيْن. ولا وجه للخوض فيه.
390- ولو وجد شافعي وحنفي نبيذ التمر، فتوضأ به الحنفي، وتيمم الشافعي، واقتدى أحدهما بالثاني، فصلاة المتيمم باطلة عند المتوضىء، وصلاة المتوضىء باطلة عند المتيمم، فهذه الصورة تضاهي اقتداء أحد الرجلين بالثاني، وقد سُمع منهما صوتُ حدث؛ فإن المتيمم يقول: إن كنتُ مصيباً، فأنا مقتدٍ بمن استعمل نجساً، وإن كان إمامي مصيباً، فصلاتي باطلة.
والأصحاب أطلقوا الاختلاف في اقتداء الشافعي بالحنفي، ورأَوْا أن الاجتهاد المتعلق بالمذاهب في فروع الشريعة يخالف الاجتهادَ في الأواني، والإشكالَ في تعيين المحدِث، فإن الاجتهادَ في مذاهب الفقهاء لا يتوقع إفضاؤه إلى اليقين، والإشكالات في الوقائع التي ذكرناها يتوقع إفضاؤها إلى اليقين، وإذا كان ذلك ممكناً، فقد يجرّ مصادفةُ الإشكال بطلان الصلاة.
391- وإذا تقارب ثلاثةٌ، فسمع منهم صوتُ حدثٍ، وتناكروا، فإن صلَّوْا أفراداً، جاز في ظاهر الحكم، والله يتولى السرائر. ولو اقتدى واحد بواحد، فالذي رآه ابن الحداد أنه يصح في هذه الصورة اقتداؤه بأحد صاحبيه، فإن الحدث واحدٌ، والمقتدي يفرض نفسه وإمامه متطهرين، ويقدّر الآخر محدثاً، وهذا التقدير ممكن.
وقال صاحب التلخيص: لا يصح اقتداؤه بواحدٍ منهما؛ فإن أمرهما مشكل، والحدث متردد بينهما، فكل واحد منهما في حقه بمثابة الخنثى المشكل، ولا يصح اقتداء الرجل بالخنثى، كما لا يصح الاقتداء بالمرأة.
فهذا إذا اقتدى بأحد صاحبيه. فأما إذا اقتدى بأحدهما في صلاة الصبح، واقتدى بالثاني في صلاة الظهر، فصلاة الإمامين محكوم بصحتها، وأما صلاة المقتدي، فصحيحةٌ خلف إمام الصبح، وظهره فاسدٌ خلف الإمام الثاني؛ فإنا وجدنا لتصحيح الصلاة الأولى مَحْملاً، فتتعين الصلاة الثانية للبطلان. هذا مذهب ابن الحداد.
وقال صاحب التلخيص: الصلاتان من المقتدي فاسدتان. وقال أبو إسحاق المروزي: إن اقتصر على الاقتداء بأحدهما، صحت صلاته في هذه الصورة، وإن اقتدى بهما فإحدى صلاتيه باطلة، لا بعينها، فيلزم قضاؤهما.
فإن قيل: فما الفرق بين مذهبه ومذهب صاحب التلخيص؟ قلنا: لو اقتصر على الاقتداء بأحدهما، فصلاته باطلة عند صاحب التلخيص، وهي صحيحة عند المروزي، وافتراق مذهبهما بيّنٌ.
392- صورة أخرى: خمسةُ نفرٍ كان منهم صوت حدث، فإن صلَّوْا أفراداً، حُكم بصحة صلاة الجميع ظاهراً، وإن اقتدى أربعةٌ بإمام واحد من غير تناوب، فصلاة الجميع صحيحة عند ابن الحداد والمروزي، وهي باطلة عند صاحب التلخيص، فلا يصح عنده إلا صلاةُ الإمام.
فلو تناوبوا في الإمامة، فصلّى كل واحد منهم صلاةً إماماً، واقتدى به أصحابه، فأمّا مذهب ابن الحدّاد، فتصحّ لكل واحد منهم أربع صلوات، وتفصيلها أنه تصح من كل واحد الصلاة التي هو إمام فيها، وتصح ثلاثٌ سواها أولاً فأولاً، فإذا مضت أربعةٌ، بطلت الخامسة في حقه.
فأما إمام الصبح، فتصح منه الصبح، والظهر، والعصر، والمغرب.
وإمام الظهر يصح منه الظهر، ثم يبتدىء، فيعد من الأول ثلاثاًً سوى الظهر، وهي الصبح والعصر والمغرب.
وكذلك القول في إمام العصر والمغرب.
أما إمام العشاء، فتصح منه العشاء وثلاثٌ من الأول: الصبح، والظهر، والعصر.
فإذاً يصح من جميعهم الصبح، والظهر، والعصر، والمغرب، ويفسد منهم العشاء، إلا إمام العشاء، فإنه يصح منه العشاء، ويصح الصبح، والظهر، والعصر، ويفسد المغرب. ولا خفاء بقياس مذهبه.
وصاحب التلخيص يصحح لكل واحد الصلاة التي كان إماماً فيها، ويُبطل الباقي.
والمروزي يقول: إذا صلى كل واحدٍ خمسَ صلواب، فالصلاة التي كان إماماً فيها صحيحة له، ويقضي الصلوات الأربع؛ لأن واحدة منها فاسدة لا بعينها.
393- والذي ذكرناه من التباس الأمر في الحدث نفرضه في الأواني. فإذا كان بين خسمةٍ خمسةُ أوانٍ: واحد نجس وأربعة طاهرة، فأدّى اجتهادُ كل واحدٍ إلى إناءٍ، ثم تناوبوا في الإمامة، فالكلام كما مضى حرفاً حرفاً.
وقد يفرض زيادة في الأواني، وهي أن الخمسة إذا اجتهدوا، والنجس من الأواني واحد، فلو اجتهد رجل، فاختار إناء باجتهاده، واجتهد في بقية الأواني، فعيّن في ظنه النجس، فمن استعمل ذلك النجس، لم يقتد به، ويقتدي بالباقين على الصحة، كيف فرض صلاتهم؛ فإن اجتهاده في نفسه، وفي حق إمامه صحيح في حكم قدوته، وهذا لا يتأتى في سبق الحدث؛ إذ ليس ثَم اجتهادٌ، ولا استمساكٌ بدلالةٍ وأمارة عليها تعويل.
فإن تكلّف متكلف، وفرض فيه علامات ظنيّة، فيستوي البابان فيما ذكرناه الآن.
ولو كان ثلاثةٌ من الأواني الخمسة نجسة، واثنان طاهران، وتناوبوا في الإمامة، فتصح لكل واحد صلاتهُ التي هو إمام فيها، وصلاة أخرى. والبدار إلى التصحيح فتبطل ثلاثُ صلواتٍ، فيصح لإمام الصبح صلاةُ الصبح، وصلاةُ الظهر، ويبطل باقي الصلوات، ويصح لإمام الظهر صلاة الظهر، وصلاة الصبح، ويصح لإمام العصر صلاة العصر، وصلاة الصبح، وتبطل صلاة الظهر، والمغرب، والعشاء، ويصح لإمام المغرب صلاة المغرب، وصلاة الصبح فحسب، ويصح لإمام العشاء صلاة العشاء، وصلاةُ الصبح، وهذا مذهب ابن الحداد. ولا يخفى مذهب الباقين.
ولو كان أربعةٌ من الأواني نجسة، فلا يصح على المذاهب كلها اقتداءُ أحد منهم بأحدٍ من أصحابه؛ فإن كل واحد يعتقد أنه استعمل الطاهر، والباقون استعملوا النجس.
وهو كما لو اختلف اجتهاد أربعة في جهات القبلة، واستقبل كلُّ واحدِ جهةً، فلا يصح من بعضهم الاقتداء ببعض لما ذكرناه.
فصل:
394- إذا كان معه إناءان أحدهما نجس، وقد التبس عليه النجس منهما، فأخبره ثقةٌ تُقبل روايته بورود النجاسة على إناء عيّنه، لزمه قبول قوله، والمعتبر فيه الرواية، فمن صحت روايته: حرَّاً كان، أو عبداً، ذكراً كان، أو أنثى، فيقبل إخباره فيما ذكرناه.
ولكن لا يكفي أن يقول: هذا هو النجس؛ فإن العلماء مضطربون في أسباب النجاسة، فقد يرى المُخبر الشيء نجساً، وليس هو بنجس، فلابد من ذكر ما رآه وعاينه مفصَّلاً.
ولو أخبر مخبرٌ بأن هذا الإناء نجس وفصَّل، فأخبره الثاني بأن النجاسة وردت على الإناء الثاني، وكانت النجاسة واحدة، وهي ولغةُ كلبٍ مرةً واحدةً، وما كان تعدد السبب. فإذا تعارض الخبران، وكان أحد المخبرَيْن أصدق وأوثق عنده من الثاني، فيعتمد قولَ الأوثق منهما، كما إذا تعارض خبران، وأحد الروايتين أوثق. فإن استويا، فلا تعلق بخبرهما.
فرع:
395- قال أئمة العراق: الأعمى لا يجتهد في القبلة؛ فإن عماد الاستدلال فيها البصر، ويجتهد في وقت الصلاة؛ فإنه ينضبط بأورادٍ وأشغال كان يقضيها.
وبالجملة ضبط الساعات ليس يعسر على الأعمى بجهاتٍ.
وهل يجتهد في الأواني والمياه؟ ذكروا وجهين؛ لتردد هذا الاجتهاد بين القبلة والوقت. والله أعلم.