فصل: كتاب الشفعة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب الشفعة:

4692- الأصل في الشفعة السنة والإجماع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقت الحدود، فلا شفعة» وقال عليه السلام: «الشفعة في كل شركٍ من رَبعْ أو حائط» وأجمعوا على أصل الشفعة، وأَخْذُها من قولك شفعت شيئاً بشيء إذ جعلته شفعاً به.
ثم المبيعات في الشفعة على أقسام: قسمٌ يثبت فيه الشفعة سواء انفرد معقوداً عليه، أو اشتمل العقد عليه، وعلى غيره، مما لا شفعة فيه. وهو العقار. على ما سنفصل القول فيه.
وقسم لا تثبت الشفعةُ فيه، لا مفرداً، ولا مضموماً إلى غيره، وهو المنقولات.
وقسم تثبت الشفعة فيه تابعاً، ولا تثبت الشفعة متبوعاً مقصوداً، كالأشجار والأبنية. فإذا بيعت مع العرصاتِ، ثبتت الشفعة فيها ثبوتَها في الأراضي، وإذا أُفردت الأشجار بالبيع دون مغارسها، أو أفردت الأبنية بالبيع دون أساسها، فظاهر المذهب أنّه لا شفعة فيها.
وخرّجها بعض الأصحاب على تفصيل القول في القسمة. وقال: إن قلنا: لا تثبت الشفعة فيما لا ينقسم، فالأشجار والأبنية الشاخصة، والسقوفُ لا تقبل القسمة في معظم الأحوال، فلا شفعة فيها، إلا إذا كانت تنقسم.
وإن قلنا: تثبت الشفعة فيما لا ينقسم من العقار، ففيها الشفعة كما سنذكره الآن بهذا الفصل، إن شاء الله.
فلو فرض جدار عريض قابل للقسمة، أو صُوِّر سقف قابل لها، ففي المسألة قولان:
أحدهما: لا تثبت الشفعة فيها مفردة؛ فإنها محدثات ليس لها حقيقة التأبّد، وهي إلى الزوال؛ فإن الأشجار ستُرقل وتصير قَحاماً، والأبنية تنهدم على طول الدهر؛ ولقد كانت منقولةً، فأُثبتت في الأرض، ومصيرها إلى ما كانت عليه قبل التثبيت.
والقولُ الثاني- أنه تثبت الشفعة فيها؛ فإنها لا تعدّ من المنقولاتِ، وتثبت فيها الشفعة مع الأراضي؛ فلتثبت الشفعة فيها وحدها. هذه طريقة لبعض الأصحاب.
وكان شيخي أبو محمد رحمه الله يرددها في الدروس.
والطريقة المرضية التي قطع بها أئمة المذهب أنه لا تثبت الشفعة فيها مفردة متبوعة وإنما تتعلق الشفعة بها إذا كانت تابعة للأرض.
4693- ثم مذهب الشافعي أن الشفعة لا تثبت إلا للشريك في العقار، ولا شفعة بالجوار، ولا بالاشتراك في المسيل والممر وغيرهما من حقوق الأملاك، ومذهبه الظاهر أن الشفعة تختص بالشقص الشائع من العقار القابل نلقسمة. فإن كان ممّا لا يقبل القسمة، كالطواحين، والحمامات، والقَنَى، وما في معناها مما لا ينقسم، فلا شفعة فيها للشريك.
وذكر الأئمة عن ابن سريج قولاً مخرجاً أن الشفعة تثبت فيما لا ينقسم من العقار.
وذكر بعض الأصحاب وجهين على الإطلاق في أن الشفعة هل تثبت فيما لا ينقسم.
4694- فمن خصص الشفعة بما يقبل القسمة-وهو ظاهر المذهب- علل ثبوتها بما يتعرض الشريك له من مؤنة القسمة عند فرض الاستقسام وما تمس الحاجة إليه عند وقوع القسمة من إفراد الحصة المميزة بمرافق كانت ثابتة على الاشتراك قبلُ كالبئر، والمَبْرز والممر في بعض الأحوالِ، وغيرها من مرافق الدار.
فإن قيل: كان الاستقسام من الشريك متوقعاً قبل البيع، ثم كان يترتب عَليْهِ ما ذكرتموه من مسيس الحاجة إلى إفراد الحصة المتميزة بالمرافق، فلم يتجدد بالشراء شيء. قلنا: نعم كان الأمرُ كذلك قبل البيع، ولكن الشريكين مستويان، ليس أحدهما أولى بطلب الاستخلاص، وطلب الخلاص من الشركة من الثاني، فلم يكن قبل وقوع البيع لذلك مدفع، فإذا أراد أحد الشريكين أن يزيل الملك عن نصيبه وتمكن من إزالته إلى شريكه وتخليصه ممّا كان بصدده، فالذي يقتضيه حُسن العشرة أن يبيع منه، فيصل إلى مطلوبه من عوض ملكه ويخلُصُ شريكُه عن الضرار. فإذا لم يفعل ذلك، وباعه من أجنبي، سلّط الشرعُ الشريكَ على صرف ذلك الملك إلى نفسه. هذه طريقة.
ومن أثبت الشفعة فيما لا يقبل القسمة من العقارات المشتركة، فالشفعة عنده معلّلة بالضرار الذي يتعرض الشريك له من تضييق المداخل، ولم يكن إلى دفع ذلك سبيل عند استمرار الشركة؛ فإذا أراد أحد الشريكين بيعَ نصيبه، فينبغي أن يخلِّص شريكه مما كان بصدده من تضييق المداخلة، فإذا لم يفعل ذلك، فباع من آخر، أثبت الشرعُ للشريك صرفَ ذلك إلى نفسه، ليتوفر على البائع حظُّه، ويندفعَ الضرار.
4695- فإن قيل: هلا قلتم: لا يعلل ثبوت الشفعة، والمتبع فيه الخبر؟ قلنا: اتفق القياسون على تعليلها، ثم الأصول المعللة لو تتبعت، لأُلفيت كذلك، ولو طُرّق إليها منعُ التعليل، لانحسمت مسالك النظر. و بالجملة لسنا ندّعي أن ما يعلل من الأحكام تشهد العقول لعللها، ولكن يفهم الناظر عن علم تارة وبظن أخرى أن الشارع أثبت الحكم المعلوم بسبب، ثم إذا غلب ذلك على الظن، فلا يكون المعنى المظنون إلا مخصوصاً. وهذا يطرد في كل معنى اتفق القياسون عليه، فالشفعة معتمدها درءُ ضررٍ مخصوص.
ثم ما رآهُ الشافعي صحيح على السبر، وما اعتمده أبو حنيفة في إثبات شفعة الجار معلوم في نفسه، لا يبعد في مأخذ الشرع تعليق الحكم بمثله. ولكنه باطل على السبر في نفسه، كما يذكره الخلافيون.
فقد عاد عقد المذهب إلى مسلكين في تعليل الشفعة، وانتظم منه أن العلة ما أشرنا إليه، ومحلها البيع الجديد.
وحكى صاحب التقريب عن ابن سُريج أنه مال إلى القول بإثبات الشفعة بالجوار.
وهذا غريب، لم يحكه عن ابن سريج غير صاحب التقريب.
وذكر الشيخ أبو علي عن ابن سريج لفظاً، وحمله على محملٍ نذكره، فقال: إذا قضى حنفي بشفعة الجار، لشافعي، فلا معترض على الشافعي في ظاهر الحكم، ولكن هل يحل له المقضيُّ به باطناً لاتصال الحكم بقضاء القاضي؟ فعلى وجهين.
وهذا يطّرد في نظائرِ ذلك. كالحكم بالتوريث بالرحم ونحوه. وسنذكر هذا الأصل وسرَّه في كتاب الدعاوى، إن شاء الله، فحمل الشيخ أبو علي ما نقل عن ابن سريج من لفظه المبهم في شفعة الجوار على ما ذكرناه من اتصال الأمر بقضاء القاضي.
ولفظُ ابن سريج أنه قال: "لو قضى قاضٍ بشفعة الجوار نفذتُ قضاءه"، ثم قال: "وقضيت بشفعة الجوار". وظاهر كلامه يشعر بما ذكره الشيخ، كأنه قال: قضاء القاضي بالشفعة نافذ، وأنا أقضي بتنفيذ قضائه.
4696- فإن قلنا: تثبت الشفعة فيما لا ينقسم، فلا كلام، وإن خصصنا ثبوت الشفعة بما يقبل القسمة-وهو ظاهر المذهب- فالقول فيما ينقسم وما لا ينقسم يأتي مستقصىً في كتابٍ متعلق بالدعاوى والبينات، ولكنا نذكر هاهنا ما يقع الاستقلال به فنقول:
المذهب الصحيح أن المعتبر فيما يقبل القسمة، وفيما لا يقبلها أن يبقى جنس المنفعة الثابتة حالة الاشتراك لكل حصةٍ، بعد المفاصلة، والإفراز. فإن كان الملك المشترك ينتفع به مسكناً، فلتكن كل حصة بحيث يتصور اتخاذها مسكناً. ثم هذا القائل لا يشترط بقاء ذلك الجنس على ذلك الوجه؛ فإن كل حصة، أضيق من جملة المسكن، فالنظر إلى أصل المنفعة لا إلى قدره. والحمّام على هذا غير منقسم، فإنه لو فصل وقسم قسمة الدور، لم يكن كل قسم منتفعاً به الانتفاع الذي كان، فكذلك القول في الأَرْحية، وما في معانيها.
هذا هو الذي إليه الرجوع فيما يقبل القسمة وفيما لا يقبل.
وذكر الأصحاب وجهين بعيدين، لا معول عليهما سوى ما ذكرناه:
أحدهما: أن شرط ما ينقسم ألا تؤدي القسمةُ إلى حطيطةٍ بيّنة في الحصصِ المفرزة، حتى إذا كانت الدار تساوي مائةً، ولو قسمت، لكانت كل حصةٍ-وقد قسمت نصفين- تساوي ثلاثين، فهذا عند هذا القائل مما لا ينقسم، لما في القسمة من البخس العظيم، والحطيطة البيّنة. وهذا الوجه ذكره العراقيون وزيفوه.
والوجه الآخر- أنه لا نظر إلى القيمة، ولا إلى الجنس الذي كان من المنفعة، ولكن إذا كان يبقى لكل حصّةٍ نوع من الانتفاع، فهو قابل للقسمة، فالحمام على هذا منقسم، إذ يمكن فرض الانتفاع بكل حصة منه سكوناً. وإذا كان يسقط أصل الانتفاع، أو عسر تصوير القسمة عِياناً كما في أسراب القَنَى وآبارها. هذا هو الذي لا ينقسم.
والوجهان مردودان، لا اعتداد بهما، ولا عَوْدَ إليهما، والتفريع على المسلك المشهور.
4697- وها نحن نذكر صورة تمس الحاجة إليها في حكم الشفعة، وهي أنه إذا كان بين رجلين حجرة مشتركة ضيقة الخِطة وكان تسعة أعشارها لأحدهما والعشر للآخر، ولو قدر إفراز العشر، لم يكن مسكناً، فصاحب العشر لا ينتفع بالقسمة الانتفاعَ المرعي، وصاحب التسعة الأعشار ينتفع بحصّته ويتأتى منه اتخاذها مسكناً، فقال الأئمة: إن طلب صاحب العشر القسمة، لم يجب إليها قهراً؛ فإنّه لا يستفيد بالقسمة فائدة. وإن دعا صاحب التسعة الأعشار إلى القسمة، فهل يجبر صاحب العشر على إجابته؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه لا يجبر؛ لما عليه من الضرار.
والثاني: يجبر، فإنَّ طالب القسمة منتفع وإنما يلحق الضرر صاحب العشر لنقصان ملكه.
ثم بنى الأصحاب على هذا حكم الشفعة، فقالوا: إذا باع صاحب العشر نصيبه، فلا شفعة لصاحب التسعة الأعشار؛ لأنه يأمن من مشتري العشر الاستقسامَ والدعاءَ إلى القسمة قهراً. وإذا باع صاحب التسعة الأعشار نصيبه، فلصاحب العشر طلب الشفعة إن قلنا: يجبر صاحب التسعة الأعشار على القسمة. وإن قلنا: لا يجاب صاحب التسعة الأعشار إلى القسمة، فلا شفعة لصاحب العشر؛ فإن معتمد الشفعة إمكان الإجبار على القسمة، فإذا ارتفع ذلك من الجانبين، ارتفعت الشفعة، على المسلك المشهور.
هذا بيان قاعدة المذهب، فيما تثبت الشفعة فيه وفيما لا تثبت.
فصل:
قال: "وللشفيع الشفعة بالثمن الذي وقع البيع به... إلى آخره".
4698- قد قدَّمنا ما يؤخذ بالشفعة. ومضمون هذا الفصل الكلام فيما يبذله الشفيع في مقابلة ما يأخذه بالشفعة، فنقول:
إن كان الثمن من ذوات الأمثال، أخذ الشفيع الشقص بمثل المسمى في العقد، قدراً، ووصفاً. وإن كان الثمن من ذوات القيم، كعبدٍ، أو ثوبٍ، وغيرهما، أخذ الشفيع الشقص بقيمة ذلك المتقوَّم.
ثم قال الأئمة: الاعتبار بيوم العقد في القيمة، وهذا ظاهرٌ لا حاجة إلى توجيههِ؛ فإن يوم العقد يومُ إثبات العوض، فيثبت تقدير العوض في حق الشفيع في الوقت الذي يثبت فيه العوضُ على المشتري.
4699- ثم فرض الأئمة صورةً، وفي ذكرها الاطلاعُ على حقيقة الفصل، وذلك أنهم قالوا: لو اشترى رجل شقصاً بمائة مَنٍّ حنطةً، فإذا أراد الشفيع أن يأخذ بالشفعة، فماذا عليه؟ قال القفال: لا يبذلُ الشفيع مائةَ مَنٍّ؛ فإن الحنطة مكيلة، ولا يجوز أن تتقابل حنطتان وزناً بوزن؛ فإن المعتبر عندنا معيار الشريعة، ومعيارها في البر الكيل، ولكن الوجه أن نكيل المائة المن التي كانت ثمناً، ونضبط مبلغها بالكيل، ثم الشفيع يبذل للمشتري من صنف الحنطة التي بذلها: جودةً، وصلابةً، أو استرخاءً.
وحاصل ذلك أنا نقدّرُ كأن الشفيع أتلف على المشتري الحنطةَ التي بذلها؛ من حيث إنه فوّت عليه مقصودَ بذلها، ومن أتلف حنطةً، غرِم مثلَها كيلاً.
هذا كلام القفال. وهو الذي أطلقه أئمة المذهب.
ثم قالوا في سياق هذا: الحنطتان وإن لم يكونا عوضين متقابلين في بيعٍ، فهما متقابلتان في حكم بيعٍ، فيجب أن يرعى فيهما معيار الشرع، وحنطةُ المشتري قابلت شقصاً، فلم يؤاخذ بمعيار الشرع، وحنطة الشفيع تقع في مقابلة حنطة المشتري، فلابد من رعاية المعيار.
ثم قطعوا بأن من أقرض حنطة وزناً، لم يصح؛ فإن القرض، وإن لم يكن على حقائق المعاوضات، ففيه معنى التقابل؛ فإن من يقرض شيئاًً يطلب مثله، فلزم اعتبار المعيار الشرعي.
وقال القاضي يبذل الشفيع مائةَ مَن، ولا نظر إلى المعيار؛ فإنه ليس يبذل الحنطة في مقابلة الحنطة، وإنما يبذلها في مقابلة الشقص؛ فإنه على القطع يأخذ الشقص بعوض، وعوضه ما يبذله، وهو في التحقيق بمثابة المشتري من المشتري، ولكن أثبت الشرع هذا قهراً.
وهذا الذي ذكره بالغٌ حسن. والذي قدمناه في توجيه ما ذكره القفالُ وغيرُه تكلّفٌ.
ثم تكلم القاضي على القرض وقال: يجوز عندي إقراض الحنطة وزناً، فإن القرض مستخرج عن قياس المعاوضات، ولو راعينا فيه أحكام الربا، لم يصح إقراض الربويات؛ من جهة أَنَّ التقابض فيه غيرُ مرعي، وإذا لم يكن التقابض مرعياً، فاتباع معيار الشرع تفصيل نرعاه في تعبدات الربويات.
وهذا الذي ذكره حسن، وإن خالف معظمَ الأصحاب فيه. وما نحن فيه من الشفعة ليس شبيهاً بالقرض، فإن ما يأخذه المستقرض يقابله ما يرده، فإن روعي فيه مكيال الشرع، لم يبعد، وقد ذكرنا أن ما يبذله الشفيع ليس عوضاًً عن ثمن العقد، وإنما هو عوض عن الشقص المبيع، فليس القرض فيما نحن فيه بسبيل. وسنقرر هذا الفصل عند الكلام في أن الممهور مأخوذ بالشفعة، وسنوضح ثَمَّ تنزيل ما يبذله الشفيع، تقديراً، وتحقيقاً.
4700- ومما وصله الأصحاب بهذا أن قالوا: إن كان الثمن معلوماً، فالشفعة ثابتة، والتعويل فيما يبذله الشفيع على مبلغ الثمنِ، ثم القول ينقسم إلى الكلام في المثلي والمتقوم، كما قدمناه.
وإن اشترى المشتري الشقص بثمن مجهول المقدار، مشارٍ إليه، مثل أن يقول: اشتريت هذا الشقصَ بهذا الكف من الدنانير، أو بما في هذا الجُوَالق من الحنطة، فالبيع يصح، تعويلاً على الإشارة. فإذا استمكن الشفيع من إعلام ما أُثبت ثمناً، فيأخذ الشقص بما يعلمه. وإن أخرج البائع الثمن، أو أتلفه، أو تلف في يده، وعسر الاطلاع على مبلغه، فالمنصوص عليه للشافعي أن الشريك لا يستحق الشفعة؛ لأنه لا يدري بما يأخذ الشقص، ولا سبيل إلى أخذ الشقص من غير عوض. وهذا من الحيل في دفع الشفعة، وليست حيلة مستعملة؛ فإن المشتري والبائع يبعد أن يرضيا بالثمن المجهول، فلا يدري واحد منهما أنه مغبون، أو مغبوط، والحيلة هي التي تستعمل مع رعاية غرض العقد، وتندفع الشفعة بها.
وسنجمع طرفاً منها في آخر الكتاب، إن شاء الله عز وجل.
هذا نص الشافعي.
وحكى الأئمة عن ابن سُريْج أنه قال: الشفعة لا تبطل بهذا، ولكن يقال لطالب الشفعة: خمن في نفسك قدراً، وادَّع الشفعةَ به، فإذا تبيّنه، فقال المشتري: كان أكثرَ مما تقول، فالقول قول المشتري مع يمينه: يحلف بالله أنه اشترى بأكثر ممَّا سماه. ثم يقال للشفيع: زِدْ في مقدار الثمن، وأعد الدعوى، ونعرض اليمينَ على المشتري، فإن حلف، زاد الشفيع، فلا يزال كذلك، والمشتري يحلف، فإن نكل المشتري، حلف الشفيع على المقدار الذي استقرت عليه الدعوى آخراً، واستحق الشقص به.
4701- ولو قال المشتري لما توجهت عليه الدعوى: لست أدري بكم اشتريتُ، وأصرّ على ذلك، كان هذا منه إنكاراً أولاً، مقتضاه عرض اليمين عليه، فإن أعاد قولَه، كان ما جاء به نُكولاً، واليمين تردُّ على المدّعي، فيحلف على المقدار الذي ذكره ويستحق.
وهذا الكلام حكاه من يوثق به عن القاضي، وهو كلامٌ مختلٌّ.
والوجه عندنا أن نقول: إن اعترف صاحب الشفعة والمشتري بأن الثمن كان جزافاً، غيرَ مقدّر، فلا حاجة لذكر مقدارٍ معين في الدعوى، ولو فرض ذلك، وعُدّ ما يبديه المشتري من التردد إنكاراً ونكولاً، فكيف يستجيز الشفيع أن يحلف يميناً باتةً على المقدار الذي قدّره في دعواه؟ وتكليفه أن يربط دعواه بمقدارٍ، مع اعترافه بأنْ لا مقدارَ، كلامٌ خارج عن الضبط، وحاصلُه تسويغ الكذب له أوّلاً، مع تجويز الحلف عليه على بتٍّ آخراً، ويبعد جريان مثل ذلك في مقتضى التكاليف.
فالوجه إذن القطعُ بتعذر طلب الشفعة، إذا اعترفا بكون الثمن مجهولاً، وتعذّر البحثُ عن ابتاعه، والاطلاعِ على مقداره.
4702- ولكن لو لم يقرّ الشفيعُ بوقوعِ العقد على مقدار مجهول، وادّعى أن العقد وقع على معلوم، وزعم المشتري أنه وقع على مجهول أوّلاً، أو كان معلوماً ولكنه نسيه في أثناء المعاملات، فليقع التصوير هاهنا أولاً.
ثم هذه الصورة تنقسم قسمين:
أحدهما: أن يزعم الشفيع أنه عالم بالمقدار الذي وقع العقد به، وينسب المشتري إلى العلم به، ثم إلى المناكرة بادعاء الجهل. والآخر- أن يزعم الشفيع أن العقد وقع على معلوم، ولم يوُرَد.. على كف، ولا على صُبْرة من حنطةٍ، ولكن كان غيرَ عالم بالمقدار الذي وقع العقد عليه.
ونحن نتكلم في القسمين: فأمّا إذا زعم الشفيع أن الثمن كان ألفاً، فهذا موقع النظر. فإذا قال المشتري: لست أدري، فقوله هذا يمكن أن يكون صدقاً، وليس الجهل والنسيان بدعاً، فنقول: من ادعى مالاً مقدّراً على إنسان عن إتلافٍ، أو اقتراضٍ، أو عن جهةٍ أخرى من الجهات الملزمة، فقال المدعى عليه: لست أدري، فهذا لا ينفعه، ولا يكتفى منه بالحلف على نفي العلم، ولكن إذا جزم المدعي الدعوى، وربطها بمقدارٍ، ولم يذكر المدعى عليه إلا ما وصفناه، فهو كالإنكار المضاد للدعوى، فنقول له: تحلف بالله لا يلزمك ما يدعيه خصمك، فإن لم يزدنا على قوله: "لا أدري" لمّا عرضنا اليمين عليه، جعلناه ناكلاً، ورددنا اليمين على المدَّعي، وإن كنا نجوّز أن يكون صادقاً في دعوى الجهل، ولكن مبنى الدعاوى في الشرع على هذا. فمن ادعى حقاً مقدَّراً على إنسانٍ، وجزم دعواه فيه، لم يقنع من المدعى عليه بذكر الجهل، ولم يُجَب إلى الاكتفاء بتحليفه على نفي العلم.
4703- ولو ادّعى الشفيع استحقاق الشفعة بمقدارٍ عيّنه، فقال المشتري: لست أدري مقدار الثمن، فهذا موضع النظر، من قِبَل أن المدعي ليس يدعي استحقاق ذلك المقدار عليه، وإنما يدعي استحقاق الشقص مترتباً على بيعٍ جرى، ومقدار الثمن فيه ما ذكر، فادعاء المشتري الجهلَ بذلك المقدار ليس يصادم ما يدعي الشفيعُ استحقاقَه، وإنما يتعلق بما التزمه المشتري لغير المدعي وذلك الملتزَم وإن كان يتعلق بالمشتري، فله تعلق بغيره أيضاً، وهو البائع؛ فإن لزوم الثمن يترتب على إيجاب البائع، وقبول المشتري، فإذا كان الأمر كذلك، فالذي يقتضيه النص أن يُكتفَى من المشتري باليمين على نفي العلم، وإذا حلف توقفت الشفعةُ إلى أن تقوم بينة، أو يعترف المشتري.
وابنُ سُريج يقول: لا نقنع من المشتري بقوله: "لا أدري"، ونعرض عليه اليمين الثانية، كما لو ادعى مدّعٍ على رجلٍ ألفاً.
وهذا الذي قاله ابن سُريج في هذا المقام حسنٌ متجه. ووجهُ النص ظاهر، فينتظم قولٌ منصوصٌ عليهِ، وآخرُ مخرّج. وفيما قدمناه تنبيه على توجيههما.
فإن جرينا على النص، حلّفنا المشتري على نفي العلم. فإن حلف، وقفت الشفعةُ، وتوقفنا على بيانٍ، ولم نقطع ببطلانها. وإن نكل عن يمين العلم، رددنا اليمين الباتّة على الشفيع بالمقدار الذي عينه، فإن حلف، استحق الشفعة.
وإن فرعنا على ما خرجه ابن سريج، لم نقنع من المشتري بيمين العلم، وإذا امتنع عن اليمين الجازمة، جعلناه ناكلاً، ورددنا اليمين.
هذا في قسم من القسمين.
4754- والقسم الثاني- أن يقول الشفيع: قد جرى البيع بمقدَّرٍ، ولكني لست أدريه، فالمنصوص عليه في هذه الصورة أن دعواه لا تقبل، ولا يقال له: قدّر، وادّعِ وهو يقول: لست أدري.
وحكى النقلة عن ابن سريج في هذه الصورة أنه قال: يَنُصّ المدعي على مقدارٍ، ويطالب المشتري بجزم اليمين، ولا يكتفى منه بيمين العلم، فإن نكل، استظهر الشفيع بنكوله، وكان له أن يستجيز الحلف بالمقدارِ الذي اتفق منه تعيينه، واليمين قد تستند إلى اليقين، وقد تستند إلى الظن، ونحن نقولُ: إذا رأى الوارث خط أبيه الموثوق به مشتملاً على مالٍ له، على زيد، فللوارث أن يعتمده، ويحلفَ به.
وإن حلف المشتري اليمينَ الباتة، قيل للشفيع: إن أردت الشفعة، فزد في الثمن، وأعد الدعوى، ثم يُعرض على المشتري اليمين الجازمة، وحكم حلفه ونكوله على ما ذكرناه في الدعوى الأولى. فإن حلف المشتري، زاد الشفيع، ولا يزال كذلك حتى يسأم المشتري وينكل، فيحلف المدعي مستظهراً بنكوله.
هذا على هذا الوجه منقولٌ عن ابن سريج. وهو مزيف عند الأصحاب في هذه الصورة. والقسمان جميعاً:-الأول، وهذا- خارجان عما ذكرناه في أول الكلام، وهو إذا اعترفا بأن العقد أورد على مجهولٍ، فإنهما إذا اعترفا بذلك، يجب القطع بوقوف الشفعة، وإن فرض اليأس من الإحاطة بالثمن المعيّن، بطلت الشفعة. هذا بيان الفصل.
4705- ولا خلاف أنه لو أقرض إنساناً كفاً من الدراهم، فالقرض فاسد؛ فإن المقْرَضَ لا يدري ماذا يرد. وهذا واضح، إذا وقع البناء على أن يستقرض كفاً، ويخرجَه على الجهالة، ولو أقرضه كفاً على أن يرى مقدارَه ويردّ مثلَه، فهذا مختلف فيه؛ من جهة ورود القرض ابتداء على مجهول، والأصح الصحةُ إذا كان بناء الأمر على أن يضبط ما اقترضه، ثم يخرجَه. والصورة الأولى تفرض فيه إذا أقرضه تمرات، فأكلها، أو كان تسليمه لها بأن يُوجرها المقترض.
ومما يتعلق بما نحن فيه، أَنَّ من اشترى شقصاً بمائة مَنّ حنطةٍ، وفرعنا على طريقة القفال، فالسبيل أن نكيل تلك المائة المنّ، ثم نقول للشفيع: ائت بهذا النوع، وكِل مثل ما كِلنا المائة، ولا نتعرض للوزن. ولو تلفت تلك المائةُ المن المجعُولةُ ثمناً، قال القفال: يكيل مائة من مثلها، ثم يكلّف الشفيع ما قدمناه، وإن جهلنا نوع تلك الحنطة، وقعنا في جهالة الثمن. وقد مضى التفصيل فيه.
فصل:
قال: "فإن علم وطلب مكانه، فهل له... إلى آخره".
4706- مضمون الفصل القول في أن الشفعة تثبت على الفور أم على التراخي؟ والفصل من أقطاب الكتاب. و القول في التفريعات في أطرافه ينتشر، ونحن- بعون الله- نأتي به مضبوطاً، إن شاء الله تعالى.
4707- فنبدأ بنقل النصوص.
ظاهر المذهب وما نص عليه في منقول المزني أنّ الشفعة على الفور، ونص في رواية حرملة على أن طلبها يتقدّر بثلاثة أيام، ونص في القديم على قولين:
أحدهما: أَنَّ طلبها متابد، ولا يبطل إلا بصريح الإبطال، والثاني: أنه يتأبد، ويبطل بصريح الإبطالِ أو دلالة الإبطال، على ما سنفصل.
وسبيل الترتيب أن نقول: الشفعة على الفور أو على التراخي؟ فيه قولان: فإن قلنا: هي على التراخي، فهل تتابّد أو تتقدّر بأمدٍ؟ فيه قولان: فإن قلنا: تتأبد، فهل تبطل بدلالة الإبطال، أو لا تبطل إلا بصريح الإبطال؟ فيه قولان آخران. وإن قلنا: لا تتأبّد، وليست على الفور، فالصحيح أنه تتقدّر بثلاثة أيام، كنظائر في ذلك نَصِفُها في الفصل.
وذكر صاحب التقريب في هذا المنتهى قولاً آخر: أنا لا نقدّر بالثلاث، ولكن نبهم الأمرَ، ونرجع إلى مدّة التدبّر، وذلك يختلف باختلاف المطلوب، ومقدار ثمنه، فكل مدة يُعَدّ الشفيع فيها متدبراً لا يقضى ببطلان شفعته بالتأخير فيها، وكل مدة نقضي على المؤخر فيها بالإعراض، فنحكم ببطلان شفعته بالتأخير فيها، وهذا لم يحكه إلا صاحب التقريب.
ولستُ أعتد بهِ، فالوجْه التعلق بالأيام الثلاثة على هذا القول، لنظائرَ سنذكرها في الشرع، إن شاء الله تعالى، والتعلق بها أولى من الإحالةِ على الاستبهام. ولا خلاف أن حق الرد بالعيب على الفور، فاختلفت الأقوال في حق التي تَعتِق تحت عبدٍ في فسخ النكاح، فاجتمع فيها أقوال: أحدُها- الفورُ، والثاني: التقدير بثلاثة أيامٍ، والثالث: التأبيد، على ما ستأتي الأقوال في موضعها من النكاح، إن شاء الله تعالى.
وجرى قولان في الفور والتأقيت بثلاثة أيام، مع حذف قول التأبُّد في مسائلَ: منها استتابة المرتد، ففيها قولان:
أحدهما: الفور بعد وضوح الحجة، والثاني: الإمهال ثلاثة أيام.
ومنها تارك الصلاة، ففيه قولان:
أحدهما: أنا نتأنّى به ثلاثاً.
والثاني: نقتله على الفور إذا امتنع من القضاء.
ومنها نفيُ الولد باللعانِ، وفيه قولان:
أحدهما: الفور، والثاني: التأقيت بثلاثة أيام.
وألحق بعضُ الأئمة بذلك فسخَ النكاح بالإعسار براتب النفقة، فقال: فيه قولان بعد ثبوت الإعسار:
أحدهما: الفور، والثاني: الإمهال ثلاثة أيامٍ.
وإذا انقضت مدّةُ الإيلاء، فهل يطلّق على المولي في الحال أم لا، حتى تمضي ثلاثةُ أيام؟ فعلى القولين.
وخيار الخُلف ملحق بخيار الرد بالعيب، وإنما قطعنا بالفور في الرد بالعيبِ، والخُلفُ في معناه؛ لأن الاطلاع على العيب معلوم قطعاً، فلا مجال للتدبّر بعد الاطلاع، والعقد متسرع إلى اللزوم في وضع الشرع إذا لم يفسخ.
4708- ونحن الآن نوجه أقوال الشفعة ونميزُها عن الرد بالعيب والخُلف، ونذكر الضبطَ في مسائل القولين، وسببَ انحذاف قول التأبد فيها: فوجه قولنا: تثبت الشفعة على الفور قوله عليه السلام «الشفعة كحل العقال»، ومعنى الحديث أنها على الفور، وإن لم تُبتدر، فاتت، كالبعير يحل عنه العقالُ، ولأنها حق ثبت في المبيع لدفع الضرر، فأشبه حق الرد بالعيب والخُلف.
ووجه قولنا: يتقدر بثلاثة أيام هو أنه لابد فيه من تفكرٍ وتروٍّ، ليعرف صاحب الحق غبطتَه في الأخذ أو في الترك، والثلاث غايةُ القلة، وبداية الكثرة.
ووجه قولنا: إنه يتأبد أن الأخذ بالشفعة يملّك المبيع بالثمن، فكان كالشراء يبتدئه المختار، غير أنه ثابت على القهر.
فهذا رمزٌ إلى توجيه الأقوأل، وقد ميزنا العيبَ والخُلف عن الشفعة.
فأمّا الصُّور التي يجري فيها قولان فحسب، فالذي نحتاج إلى ذكره فيها سببُ انحذاف قول التأبد، والسبب فيه لائح؛ فإنَّ التأبد يجرّ استحالةً فيها؛ إذ إمهال المرتد أبداً محالٌ، وكذلك إمهال المولي بعد انقضاء المدة أبداً لا وجه له، وفيه إدامةُ الضّرر على المرأة، وهو في التحقيق إبطال حقها، ورفع حكم الإيلاء.
وكذلك ترك تارك الصلاة أبداً لا وجه له، وقد ثبت أن ما جاء به من موجبات القتل.
والذي فيه أدنى ترددٍ الفسخُ بالإعسار، وكان لا يبعد فيه أن يقال: سبيله كسبيل التي عتَقَت تحت عبد، وغالب ظني أنّه قال به قائلون، وليس الإعسار عيباً، وهو مجتهد فيه أيضاً، فإذا جرى في الفسخ بالعتق تحت العبد قول التأبد، فهو أحرى بالجريان في الفسخ بالإعسار. وإن رُدّ الأمر إلى استمهال الزوج، وقوله: سأتطلب راتب النفقة، فلا ينقدح إلا قولان، وينحذف قولُ التأبّد، كما ذكرنا.
4709- فإذا تمهدت القواعدُ فرقاً وجمعاً، وتفصّلت في قضاياها، عُدْنا بعدها إلى التفريع على أقوال الشفعة.
فإن قلنا: إنها على التأبد، فأول ما نفرعه على ذلك أَنَّ الأصحاب قالوا: للمشتري على قول التأبد- أن يرفع الأمر إلى الحاكم ليكلّف الشفيع الأخذَ بالشفعة، أو الإبطالَ، والسَّبب أنه لا يثق بتصرفاته، وبنائه، وغراسه، وقد بذل في الشراء مالَه، ومبنى الشفعة على دفع الضرار، فيبعد أن يتضمن هذا الإضرارَ العظيمَ بالمشتري.
وذكر صاحب التقريب قولين في المسألة:
أحدهما: ما ذكرناه.
والثاني: أنه لا يُطالب الشفيع بإبطال حقّه، أو البدارِ إلى طلبها، بل الأمرُ إليه، وهذا حقيقة تأبيد الحق، والشفيع ينزل في حقه منزلة مستحِق القصاص في طلب حق القصاص. وهذا قولٌ حكاهُ ومال إلى اختياره في التفريعات.
4710- ومما يتفرع على قول التأبد أنا إن قلنا: لا يبطل حق الشفيع إلا بصريح الإبطال، فلا كلام، ولا أثر للعلامات الدالة على الرضا بترك الشفعة. وإن قلنا: إنها تبطل بالعلامات، فلا خلاف أن التأخيرَ والإضرابَ، وعدمَ المبالاة في أخذ الشقص ليس من العلامات المبطلة، بل هذا حقُّ التأخير، والوفاءُ بموجبه، وكذلك لو رأى المشتري يتصرّف بالبناء والغراس والبيع، فسكت، لم يبطل حقه بشيء من ذلك.
ولم يذكر الأئمة علامةً عليها تعويل، إلا المساومة، فإذا قال الشفيع للمشتري: بع مني هذا الشقصَ بكذا، أو قال: هب مني، فالذي ذهبَ إليه الأكثرون أن الشفعة تبطل على هذا القول بالمساومة، وطلب الهبةِ، إذا جرت مع العلم بثبوتِ حق الشفعة.
وحكى صاحب التقريب وجهين:
أحدهما: ما ذكرناهُ.
والثاني: أن المساومة ليست مبطلة؛ فإنّ الشفيع قد يبغي بالشراء استرخاصاً، ووجهاً في الصلاح، حتى إن انتظم له مرادُه، أغناه ذلك عن الشفعة، وإن لم ينتظم، فهو على أصل حقه، وهذا قد يبين في طلبِ الهبة، وفي طلب الشراء بأقلَّ من الثمن الأول. فأما إذَا طلبَ الشراء بمثل ذلك الثمن، أو بأكثر منه، فلا يتجه ما ذكره صاحب التقريب من الاسترخاص.
ويتجه شيء آخر، وهو أنه رُبما يبغي استرضَاءهُ ويقدر أن يبيع راضياً، حتى يستغني عن طريق القهر، فإن أبى، عاد إلى حقه القهري. وإذا ردَّدنا القول في المساومة، وطلب الهبة، فقد يعوز تصويرُ علامةٍ تبطل الشفعة، من غير تصريح بالإبطالِ.
وينبغي أن يقال: إذا قال الشفيع للمشتري: تبرع بهذا الشقص على من شئت، وهبه ممن بدا لك، فهذا عَلَم يبطل الشفعة من غير خلافٍ؛ فإنا إن حملنا المساومة على غرضٍ للشفيع، كما قدمناهُ، فلا غرض لهُ في أن يهب المشتري الشقصَ من غيره، فكذلك إذا قال: بعه ممن شئت، فهو إبْطالٌ للشفعة الثابتة في هذا العقد، ثم يتجدد الحق في الشراء، ويبعد مع القناعة بالعلامة أن يُحمل قولُه: بعه وهبه، على أنك إن وهبت أو بعت، نقضتُ تصرفَك. فإن تمسك متمسك بهذا بوجهٍ آخر سوى ما أشعرت به العلامة، كانَ طالباً للتصريح بالإبطال.
ولا خلاف أنا إذا حكمنا بتأبيد حق المعتقة تحت العبد، فلو مكنت زوجَها من الوطء، بطل حقُّها.
4711- وإن فرعنا على تأقت الشفعة بثلاثة أيام، فالأشبه عندنا أنها تسقط بالعلامات في الأيام الثلاثة. ولا يبعد أن يخرّج قولُ اشتراط التصريح بالإبطال في الأيام الثلاثة.
4712- فأمّا التفريع على قول الفور، فهو ظاهرُ المذهب وعليه تتفرع المسائل.
فنقول: أولاً الشفعة تبطل على قول الفور بالتقصير والتأخير، وكل ما ينافي الفورَ، والبدارَ. هذا أصل المذهب؛ فلا حاجة إلى علامةٍ ظاهرةٍ دالةٍ على إبطال الشفعة.
ثم إذا أردنا أن نحصّل القول في معنى الفور، أوضحنا أولاً ميلَ نص الشافعي إلى المبالغة في الفور والبدارِ، ومن ألفاظه في ذلك أنه قال: "إن عَلِم، فطلبَ مكانَه، فهي لهُ".
فأول ما نذكره بعد ذكر النص أن معظم أئمتنا صاروا إلى أن الرّجوع في تحقيق الفور إلى العرف، واكتفوا بأن لا يصدر من الشفيع ما يدل على التواني في الطلب، وبنَوْا عليه أنه لو كان ملابساً شغلاً، فبلغه ثبوت الشفعة له ولم يكن في استكماله ما هو فيه من الشغل القريب ما يدل على التواني والتأخير، فلا يبطل حقه باستكمال ما هو فيه، وذلك مثل أن يكون في أثناء أكل الطعام، أو يكون في الحمام، أو متحرماً بصلاة نافلةٍ، فهذه الأشغال القريبة إذا أتمها، ثم استفتح، لم يكن مقصراً، وأبعد بعضُ أصحابنا، فقال: تحقيق الفور قطعُ ما هو فيه من هذه الأشغال، وقد أشار القاضي إلى هذا، وعضده بنص الشافعي في وجهٍ من الاحتمال، فإن الشافعي قال: "فطلبه على مكانه، فهي له". ونص في خيار المعتقة-تفريعاً على قول الفور- أنها لو تركت الفسخ ساعة من نهارٍ، بطل حقها، وقال: "لو أخرت أقل زمان بطل حقها". فقد حصلنا على اختلافٍ محقق في هذا.
ولا تبين حقيقة المراد إلا بأمرٍ، وهو أن علة الفور عندنا لا تتضح بما قدمناه، وحاصله أنا لو أثبتنا حق الشفعة-وهو لدفع الضّرار- من غير ربط بالفور، لَتوانَى الشفيعُ، وبقي المشتري غيرَ واثق بشيء من تصرفاته. ثم إن قيل: يُبطل عليه، فسبيله أن يرفع إلى حاكمٍ، فربما يُغَيِّب وجهه، أو يمتنع. وفي العلماء من قال: إذا لم نقل بالفور، لم نبطل على الشفيع حقه. وهذا يُفضي إلى إلحاق ضررٍ بالمشتري يزيد على ما يدفعه الشفيع عن نفسه.
ثم إذا بطل التأبيد، فلا سبيل إلى التحكم بتأقيتٍ من غير توقيف، فلا يبقى إلا المصيرُ إلى الفور، فإن كان الذال على الفور ما ذكرناه، فالذي ذهب إليه الجمهور متجه حسن، وحاصله ألا يبدُوَ منه توانٍ. ومساق هذا لا ينافي استكمالَ الأشغال القريبة.
وذهب آخرون إلى أن الشرط أن يُبدي من نفسه البدار، ومساق هذا يقتضي قطعَ الأشغال.
وهذا ضعيف؛ فإنا إذا أوضحنا أن المقصود من إثبات الفور ألا يتضرر المشتري بانتظار ما يكون، فلا ينتهي الأمر بتضرره باستكمال الأشغال التي ذكرناها.
ثم من لم ير قطعها، يمنع وصلَ الشغل بالشغل، مثل أن يستتم الأكل، ويبغي أن يستحم، فهذا لا يُرخِّص العرفُ فيه فيما يطلب فيه الفور، إلا أن يفرض إرهاق؛ فإذ ذاك يعذر.
هذا عقد الفصل.
4713- وممّا يتصل بذلك أنه إن أراد أن يوكِّل من يَطلب الحق له، جاز هذا؛ فإن الغرض حصول التسرع إلى الطلب، وهذا يحصل بالوكيل، ولو امتنع على الشفيع أن يطلب بنفسه لعارضٍ، ولم يتمكن من التوكيل أيضاً، عُذِر، ولم يسقط حقه على الجملة.
ولو عجز عن الطلب بنفسه، واستمكن من التوكيل بالطلب، فهل عليه الابتدارُ إلى التوكيل، فعلى وجهين، ذكرهما صاحب التقريب:
أحدهما: أنه يلزمه ذلك إن أراد الشفعة؛ فإن هذا طريقٌ في الطلب، وهو متيسر عليه، والدليل عليه أنه إذا تمكن من الطّلب بنفسه، فله أن يقيم طلب الوكيل مقام طلب نفسه، فإذا قام طلبُ الوكيل مقام طلبه، فكأنه بمثابة طلبه، فإذا قدر عليه، وتوانى فيه، كان مقصراً.
ومن أصحابنا من قال: لا يجب ذلك؛ فإنه قد يحتاج إلى بذل أجرة الوكيل، وليس في طلب الشفعة إلزامُ الشفيع بذلَ مالٍ، وإن تبرع، احتاج إلى تقلّد المِنة، أما بذل الأجر، فيضاهي الاحتياجَ إلى بذل المال في سبيل الحج، وهو ينافي الاستطاعة، وتبرع الوكيل يضاهي تبرعَ أجنبي بالحج.
والصحيح عندنا في هذا أنه إن احتاج إلى بذل مال، لم يلزمه، وإن وجد متطوعاً، لم تثقل المنةُ بهذا الشغل القريب.
وممّا يتصل بما نحن فيه ما إذا كان الشفيع محبوساً، فقد فصّل بعض الفقهاء ذلك تفصيلاً ظاهراً، قد يشذ عنه فكر الفقيه، وذلك أنهم قالوا: إن كان محبوساً بباطلٍ من جهةِ ظالمٍ، فهو معذور، وإن كان محبوساً بحق كالمحبوس بالديْن، وهو قادرٌ على أداء ما عليه، غير أنه يماطل ويسوّف، فهذا الاحتباسُ لا يعذرُه.
4714- وما ذكرناه تفصيل القول في الحاضر، فلو كان الشفيع غائباً، فبلغه الخبر، فعليه أن يسير نحو الجهة التي فيها طلب الحق، وبها المشتري الذي منه الطلب، ثم لا نكلفه ركوب غرر، ولكنَّه يترصد رُفقةً وثيقة.
ولو وكل وكيلاً، فابتدر وكيله، جاز ذلك، وكفى؛ فإن الوكيل يحل محل الموكّل، وإذا أحللناه محله في الشهود والحضور، مع القدرة على أن يبرز بنفسه ويطلب، فهذا في حق المسافر أولى بالجواز.
وممّا يتصل بمساق هذا الفن: أن الغائب قبل أن يبرح لو وجد المشتري، وكان قد خرج وفاقاً إلى تلك الجهة، فليطلب حقَّه على الفور، وليس له أن يؤخر بناء على أن يعود مع المشتري إلى الناحية التي بها هذا الشقص المبيع؛ فإن الطلب توجّه على المشتري وهو حاضر، فشهود الشقص وغيبته بمثابةٍ.
وتمام الكلام فيما نحن فيه أن المشتري في الحضور مع الشفيع مطالب من جهة الشفيع، فإن طالبه الشفيع خرج من التواني، وإن تركه، وابتدر إلى مجلس الحاكم، واستعدى على المشتري، فهذا من البدار، وهو فوق مطالبة المشتري؛ إذ المشتري لو طولبَ، ربما يتمادى ويقول قولاً محوجاً إلى الارتفاع إلى مجلس الحكم، فإذا وقعت البداية بالحاكم، كان استيثاقاً من المقصود، وتمسكاً بمصير الأمر ومآله.
4715- فإذا تمهد هذا الأصل، ذكرنا بعده فصلاً اختبط الأصحاب فيه، وهو القول في إشهاد الشفيع على أنه على الطلب، والكلام في ذلك يقع في صور، ونحن نأتي بها على ترتيبٍ نراه أقربَ إلى البيان.
فالمسافر إذا بلغه الخبر، ولم يستمكن من الخروج بنفسه، ولا من إخراج وكيلٍ، فظاهر المذهب أنه لابد من الإشهاد على الطلب في مثل هذا المقام، والتعليل يأتي بعد طرد الصور.
وذكر شيخي في هذه قولاً اختاره، وربما كان لا يذكر غيره: أن الإشهاد مستحب، فلو ترك الإشهاد، لم يُقضَ ببطلان حقه، فلتكن هذه الصورة مقدّمة في المرتبة. ويليها ما لو ابتدر الشفيع التوجهَ إلى صوب المشتري. فلو لم يُشهد، واكتفى بالبدار في نحو المشتري، ففي وجوب الإشهاد قولان نقلهما العراقيون:
أحدهما: أنه يتعين، وتركُه يبطل الحق.
والثاني: لا يتعين، ويكفي البدار في نحو الطلب. وإذا ثبت خلافٌ في الصورة الأولى، فهذه الصورة تترتب عليها والأخيرةُ أولى بألا يستحق الإشهاد فيها، ووجه الترتيب لائح.
ولو كان الشفيع حاضراً مع المشتري، ولكن أقعده مرض، أو منعه عن الظهور للطلبِ خوفٌ واستشعار، فوجوب الإشهاد على الطلب في هذه الصُّورة يضاهي الإشهادَ في السفر، إذا استأخر الخروجَ لاستئخار الرفاق.
ولو كان حاضراً مع المشتري، وكان لا يمنعه من الطّلب مانع، وجرينا على أنه لا يقطع الأشغال القريبة التي هو ملابسها إذا بلغه خبر الشفعة، فهل يجب الإشهاد والحالة هذه؟ ظاهر كلام الأئمة أنه لا يجب، وأن وجوب الإشهاد عند من يراه يختص بالمعذور الذي يتعذر عليه مبادرة الطلب.
وذكر القاضي في هذا المقام وجهين في تعيين الإشهاد، واستنبطهما من نصّ الشافعي، حيث قال في الحاضر إذا بلغه موجب الشفعة: "إن طلب على مكانه، فهي له" ومعلوم أن الطلب في ذلك المكان من غير خروج إلى المشتري أو إلى مجلس الحاكم لا معنى له، ولا يكلف الإنسان أن يناطق نفسه بالطلب، فلا معنى للطلب الذي ذكره الشافعي مختصاً بمكان بلوغ الخبر، إلا أن يُشهد إذا قدَر على الإشهاد. وهذا استنباط حسن لائق باللفظ. والخلاف الذي أبداه يترتب على الإشهاد في السفر لا محالة.
4716- فإذ ذكرنا الصور في الإشهاد مرتبة، فنذكر بعدها معنىً كلياً يستند الإشهاد إليه، ثم لا يخفى على الفقيه استعماله في تفاصيل الصور، فمن بلغه الخبر، واستمكن من الإشهاد، ولم يشهد، أشعر سكوته بالتواني، فهذا المعنى هو الذي أوجب هذا الخبطَ والخلافَ، ومن لم يوجب الإشهاد كأنه يميل إلى الطريقة التي ذكرناها من أنا لا نشترط إظهارَ قصد البدار، ولكن نشترط عدم التواني، ومن يشترط الإشهادَ كأنه يميل إلى إظهار أصل البدارِ.
ثم هذا المعنى مفضوضٌ على الصور، فإذا استأخر الإنسان عن الاشتغال بالطلب، فالإشهاد به أليق، وإن كان معذوراً.
وإذا أقبل على ما يصلح أن يكون اشتغالاً بالطلب، كان اشتراط الإشهاد أبعدَ، ووجه اشتراطه عند من يشترطه أن إقباله على أفعاله يمكن أن يُحمل على مقصودٍ آخر.
وأبعد الصور عن استحقاق الإشهاد صورةُ الحضور مع انتفاء العذر؛ فإن اتصال الاشتغال بالطلب مخيلةٌ ظاهرةٌ في حق الحاضر في طلب الشفعة، وهذا في حق المسافر أبعد.
فهذا منتهى القول في الإشهاد.
ولا شك أنه إذا عسر الإشهاد، فلا يكلف صاحب الحق أن يقول: أنا على الحق وطلبِه.
وإذا اطلع المشتري على عيب بما اشتراه، فهل يشترط أن يقول: فسخت العقدَ ورددتُ المبيع؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنا نشترط ذلك؛ فإن الفسخ يحصل بالقول، ولا حاجة إلى حضور المردود عليه. ومن أصحابنا من لم يشترط ذلك وسوّغ له التأخيرَ إلى أن يلتقي بالمردود عليه، مع بذل الجد في طلبه.
4717- ومما يتعلق بمضمون هذا الفصل القولُ في أحوالٍ تتعلق بالعلم بالبيع وصفته، والعفو عن الشفعة أو التواني فيها على ظن، ثم بدوّ خلاف ذلك المظنون، فنقول: إذا أخر الشفيع الطلب، ثم افتتح يطلب، سألناه عن سبب التأخير، فإن قال: لم أخبر بالبيع، فالقول قوله مع يمينه. وإن قال: لم أصدِّق الخبرَ، نظر: فإن أخبره جمعٌ يقع العلم بقولهم، لم يقبل قوله. وإن قال: أخبرني عدلان، لم يعذر في قوله: "لم أصدقهما". وإن كان أخبره صبي، أو كافر، أو فاسق، عُذر في ترك تصديق هؤلاء. وإن كان أخبره عدلٌ واحد، ففي المسألة وجهان، لا يخفى مُدرَك توجيههما.
وألحق بعض أصحابنا إخبارالعبد بإخبار الفاسق؛ من حيث إنه ليس من أهل الشهادة، ولست أرى الأمر كذلك، فإن أخذ هذا من الرواية أقرب، إذا لم يُشترط العدد، ولست أرى لاشتراط العدد معنى.
4718- ومما ينتظم في هذا الفصل أنه إذا قيل للشفيع: اشترى فلان الشقصَ بألف، فترك الشفعة، بأن توانى فيها، أو عفا عنها، ثم بان أنه اشتراه بخمسمائةٍ، فهو على حق الشفعة؛ فإنه وإن أطلق العفو، كان ذلك على تقدير وقوع البيع بالألف، وليس ذلك مما يكون المجهول فيه كالمعلوم، والهزل كالجدّ؛ فإنه مدار الغرض.
وهذا بيّن.
وكذلك لو قيل له: اشتراه بألفٍ صحيح، فتوانى، أو عفا، ثم بان أنه اشتراه بألفٍ مكسر، فله الشفعة، ولا حكم لما جرى.
ولو قيل: اشتراه زيدٌ بألفٍ، فعفا، أو توانى، ثم بان أنه كان اشتراه عمرو، فله الفسخ؛ لأن الغرض يختلف في ذلك، فربما يرضى بمداخلة زيد وشركته، ولا يرضى بشركة غيره.
وإذا قيل له: اشترى النصف بخمسمائةٍ، فعفا، ثم بان أنه قد اشترى الكل بها، فهوعلى شفعته.
وكذلك لو قيل: اشترى النصف بخمسين، فبان أنه اشترى الكل بمائةٍ.
وكذلك لو أُخبر أنه اشترى الكل بمائة، ثم بان أنه كان اشترى النصف بخمسين، فله حق الشفعة؛ لأنه قد يكون له غرض في القليل دون الكثير، وفي الكثير دون القليل، وبمثله لو قيل: اشتراه بمائةٍ، فعفا، ثم بان أنه اشتراه بمائتين، فلا شفعة له؛ فإنه لم يطلب الشفعة بالمائة، فأي غرض لهُ في طلبها بالمائتين.
وكذلك لو أخبر أنه اشتراه بمائةِ دينارٍ مكسرة، فعفا، ثم بان أنه كان اشترى بالصحاح، فلا شفعة.
4719- ومما ذكره القاضي: أنه لو قيل له: اشتراه بمائة دينارٍ، فعفا ثم بان أنه كان اشتراه بألف درهم، فقد حُكي عن القاضي أنه على شفعته؛ لأن الغرض يختلف باختلاف الجنس، وقال: وكذلك لو كان الأمرُ على العكس.
فأما الصورة الأولى، فلا شكّ فيها، فإنه عفا إذا أخبر بالثمن الكثير، والغالب أن الألف أقلُّ من مائة دينار. فأما إذا أخبر بألف درهم، ثم بان أن الثمن مائةُ دينار، وقد عفا أولاً، فإثبات الشفعة في هذه الصورة محالٌ؛ فإن عفا وقد بلغه أقلُّ الثمنين المذكورين، فطلب الشفعة بالأكثر لا يليق بالأغراض المرعيَّة. والتعويل في هذَا الباب على المالية؛ فإن الشفيع ليس يأخذ بعين الثمن، وإنما يأخذ ببدلٍ مشبهٍ بالثمن المذكور في العقد.
فإذا كانت مائةُ دينارٍ تساوي ألفين فصاعداً، فلا يتحقق غرضٌ في ذلك.
وليس هذا كما لو قال لوكيله: بع عبدي هذا بألف درهم، فباعه بمائة دينار؛ فإن البيع يبطل؛ من جهة أن مبنى تصرف الوكيل على اتباع لفظ الآمر، وقد يغمض على الفقيه تعليل صحة البيع فيه إذا وكله بالبيع بألف درهم، فباعه بألفي درهم. ثم سبيل حل الإشكال ما قدمناه. فأمَّا إذا اختلف الجنس، فيظهر وقوع عقد الوكيل مخالفاً لقول الموكل.
نعم. لو أُخبر الشفيع بأن الثمن ألفا درهم فعفا، ثم بان أنه مائتا دينار، وكانت قيمة المائتين ألفين، فهذه المسألة فيها احتمال؛ من جهة أنه قد يعسر عليه تحصيل الدراهم، وقد يتجه فيه أن هذا ليس بعذر؛ فإن صرف الدنانير إلى الدراهم سهل؛ فإن الدنانير ليست سلعة من السلع، حتى يفرض في بيعها ترصد وانتظار.
ولو قيل له: اشتراه بألف مؤجلٍ، فعفا، ثم بان أنه قد اشتراه بألفٍ حال، فلا شفعة له؛ إذ لا غرض في ترك الشفعة بالمؤجل والأخذ بالحال. ولو كان على العكس من هذا، فله الشفعة، لظهور الغرض في الترك بالحال، والأخذ بالمؤجل.
والجملة المعتبرة في هذه المسائل أنه إذا لم يظهر غرض بعد العفو، فالشفعة ساقطة. وإن ظهر غرض على خلاف ما أخبر الشفيع به، فهو على شفعته.
وهذه المسائل نختمها بسرٍّ، وهو أن العفو عن الشفعة ليس عفواً عن حق متقرر، بل الأمر فيه أولاً وآخراً على التوقف، كما سنبينه من بعدُ. والعفو المطلق فيما هذا وصفه.، لا يقع مبتوتاً، بل يقع مقدراً على وجه، فإذا بان غيره، لم يتناوله العفو.
4720- ومما يتعلق بهذا الفن أن الشفيع قد يتلفظ بألفاظٍ لا تتعلق بطلب الشفعة عند الانتهاء إلى المشتري، وللأصحاب فيها كلام، فلو انتهى إلى المشتري وقال: السلام عليكم، ثم ابتدأ طلبَ الشفعة بعد ذلك، فقد قال العراقيون: لا تبطل شفعته بافتتاح الكلام بالسلام. وهذا الذي ذكروه ظاهرٌ، خارجٌ على ما ذهب إليه الجمهور، من أنا لا نشترط قطعَ الأشغال التي يكون الشفيع ملابساً لها عند بلوغ الخبر.
ومن غلا من أصحابنا وشرط قطعها، فلا يبعد أن يشترط الابتداءَ بطلب الشفعة.
ومما ذكروه أنه لو قال للمشتري: بارك الله لك في صفقة يمينك، وعَنَى ابتياعه الشقصَ، ثم قال بعد ذلك: أنا طالب الشفعة. قال العراقيون: له طلبها، وإن كان التفريع على قول الفور، وقياس طريق المراوزة يخالف هذا؛ فإن قوله: بارك الله لك يشعر بتقرير الشقص في يده. وتعقيب هذا الكلام بما يوجب إزالة يده يُلحق نظمَ الكلام بالاستهزاء.
وقال العراقيون: لو انتهى إلى المشتري، وقال: بكم اشتريت الشقص؟ قالوا: هذا يبطل حقّه، على نقيض ما ذكروه في اللفظ السابق. وقياس المراوزة في هذا أنه لا يبطل حقه؛ فإنه معذورٌ في البحث؛ من جهة أنه ربما يطلب الشفعة إذا كان الثمن مقداراً عنده، ولا يطلبها إذا كان أكثر منه، ولا شك أن هذا يُفرض فيه إذا لم يكن عالماً بمقدار الثمن من جهةٍ أخرى.
ولا يمتنع أن يقال: لو كان عالماً فيعذر في البحث، ويحمل الأمر فيه على أخذ إقرار المشتري.
وإذا قلنا: الشفعة على التراخي؛ فالبحث والسلام، وما في معناهما لا يؤثر، نعم. لو قال: بارك الله لك في صفقة يمينك، فقياس المراوزة أن هذا من علامات الرضا بإسقاط الشفعة، إذا لم نشترط التصريح. والعراقيون، لم يسقطوا به الشفعة على قول الفور.
ولو أخر الشفيع، ثم طلب، قلنا له: أخرت وقصرت، فلو قال: نعم أخرتُ ولكن لم أدرِ أن التأخير يُبطل حق الشفعة، فإن كان يليق بحاله أن يجهل هذا، فالقولُ قوله مع يمينه، والشفعة باقيةٌ إذا حلف؛ فإن صورة التأخير لا تُبطل الشفعة، وإنما تبطل الشفعة بما يدل التأخير عليه من توان، مع العلم بأن الحق على البدار، فكأن التأخيرَ من وجهٍ يلتحق بالعلامات، مع العلم بأن الأمر ينبني على البدار.
فليفهم الناظر ما ينتهي إليه من أمثال ذلك.
4721- ومما يتعلق بهذه الفصول القول في أن الشفيع متى يملك الشقص المشفوع؟ وما الذي يموجب تمليكه؟
أولاً- لا خلاف أنه لا حاجة في ثبوت الملك إلى عقد مجدد يُفرض إنشاؤه بين الشفيع وبين المشتري، والشفيع إذا ملك، يملك بالعقد الذي عقده المشتري، على سبيل البناء.
ثم اعترض فيما يطلبه أمور متعارضة: أحدها: أنّ الملك مستحق على المشتري، ويُفرض انتقاله منه إلى الشفيع قهراً، من غير رضا يصدر منه، ولا تمليكٍ من جهته. هذا لا شك فيه. والملك لا يحصل للشفيع قهراً، بل الأمر مربوط بخِيرته. ثم إذا اختار الشفيع حصولَ الملك في المشفوع، فلو قلنا: إنّه يملك الشقص، وينقلب الثمن إلى ذمته قبل توفيره على المشتري، لكان في ذلك إجحاف بيّن، ومبنى الباب على دفع الضرر، فلا ينبغي أن يتضمن إلحاقَ ضررٍ بالغير.
4722- فإذا حصل التنبيه على هذه الوجوه، فنحن نذكر ما يقتضي ثبوتَ الملك للشفيع وفاقاً، ثم نذكر صور التردد بعد وضوح محل الوفاق، فنقول: إذا سلم الشفيع العوضَ إلى المشتري، ملك الشقصَ قطعاً؛ فإن الذي كنّا نحاذره فيما شببنا به تخلفُ الثمن عن المشتري، مع الحكم بالملك للشفيع.
هذا متفق عليه.
وكذلك لو سلم المشتري الشفيعَ حقه، ورضي بأن يتخلف تأديةُ العوض عن جريان الملك في الشقص، فيحصل الملك على هذا الوجه أيضاً.
وليس هذا تمليكاً يفتقر إلى مملِّك، ولا إيجاباً يفتقر إلى قبول، وإنما هو رضاً من المشتري بأن يتأخر حقُّه، ويتعجل حق الشفيع في الشقص.
وإذا كان يحصُل الملك بهذه الجهة، فقد اختلف أصحابنا في أنَّه هل يتوقف حصول ملك الشفيع على قبضه، وتسلّمه للشقص، أو يكفي ما صورناه من الرضا على الوجه الذي أوضحناهُ؟ فالذي ذهب إليه الأكثرون أن جريان الملك لا يتوقف على الإقباض والتسليم؛ فإن هذا ملك حاصل بحكم البيع، والأملاك التي تحصل بجهة المعاوضة لا يتوقف حصولها على صور القبوض.
ومن أصحابنا من قال: لا يتم ما قاله المشتري- إذا لم يقبض الثمن- إلا بقبض الشفيع المثمّن. وقول المشتري في حكم وعدٍ، وإتمام موجَب الملك التسليمُ.
وهذا بعيد لا تعويل عليه، والاعتداد بما ذكرناه، من أن القبض ليس بشرط.
ولو ارتفع إلى مجلس القاضي، وأثبت حقُّه في الشفعة، وحَقّق طلبَه، فقضى له القاضي بحق الشفعة، ولم يوجد بعدُ تسليمُ الثمن، ولا رضا من المشتري، كما صوَّرناه، ففي حصول الملك للشفيع في الشقص وجهان:
أحدهما: وهو ما نقله صاحب التقريب أن الملك يحصل للشفيع في الشقص بثبوت حق الشفعة، وتأكُّد الطلب، وجريان القضاء. وحقيقة هذا الوجه أن الشرع نزّل الشفيع منزلة المشتري، حتى كأنّ العقد عُقد له، إذا تأكَّد حقُّه، وهذا يحصل بجريان القضاء به. وإذا كنا لا نشترط تمليكاً جديداً، وعقداً مبتدءاً، ويستحيل وقوف الملك على بذل العوض؛ اعتباراً بجملة عقود المعاوضات، ولكن الشفيع متخير بين الأخذ والترك، فإذا جرد قصدَه وأكُد بالقضاء، وجب الحكم بالملك له.
ومن أصحابنا من قال: لا يحصل الملك دون بذل الثمن، أو رضا المشتري، كما قدمنا؛ فإن الشراء أوجب الملك للمشتري، وحق الشفيع ثابت إلى أن نتبيَّن طلبه أو إسقاطه، فلو كان الملك يحصل له، لحصل بنفس العقد على حكم تخير، ثم كان يسقط إن لم يُرِدْه، ويستقر إن أراده. ولا خلاف أن الأمر لا يكون كذلك.
هذا ذكر كلام الأصحاب على الإجمال، والبيان منتظر في سياق الكلام بعدُ.
4723- فإن قلنا: لا يحصل ملك الشفيع بجريان القضاء بثبوت حق شفعته، فلا كلام. وإن قلنا: يثبت ملك الشفيع في الشقص بنفوذ القضاء له، فلو أشهد الشفيع عدلين على طلبه، فهل يثبت له الملك بنفس الإشهاد؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه لا يثبت؛ فإن الإشهاد دون القضاء، لا يستقل بالإفادة؛ إذ لا حكم أولاً لصورة الشهادة، ما لم تتصل بمجلس الحكم. وإنما الذي يجري من الشفيع تحميل الشهود الشهادة حتى يندفع عنه الانتسابُ إلى التقصير، وإن ادعي عليه تقصير، أغنته شهادة الشهود عن الحلف.
والوجه الثاني- أنه يثبت الملك بالإشهاد، ذكره صاحب التقريب، وحكى عن الأصحاب أن الشفيع إذا أشهد، لم ينفذ بعد ذلك تصرّفُ المشتري في الشقص. ثم قال بانياً على هذا: إذا امتنع نفوذ تصرف المشتري، كان السبب فيه جريان ملك الشفيع في الشقص المشترى.
هذا تأسيس الكلام فيما يقتضي ثبوتَ الملك للشفيع في الشقص على الجملة.
4724- وها نحن الآن نتطلع إلى حقيقة الفصل، ونذكر ما عندنا فيه إن شاء الله عز وجل.
فنقول: إن وفر الثمن على المشتري، فلا خلافَ في ثبوت الملك، ثم لا يثبت للمشتري خيار المجلس في ذلك المكان الذي جرى التسليم فيه؛ فإنه مقهور فيما يجري، والجمع بين الاقتهار وإثبات الخيار محال.
وهل يثبت للشفيع خيار المجلس، حتى يثبت له ردُّ الشقص، واسترداد الثمن؟ فعلى وجهين مشهورين:
أحدهما: أنه لا خيار له؛ فإنَّ حكم خيار المجلس أن يتعلق بشخصين، فإذا انتفى الخيار عن المشتري، فيبعد أن يثبت للشفيع.
والثاني: أنه يثبت؛ فإن هذا جريان ملك جديد، بحكم عقد بيعٍ، فلا يخلو عن خيار المجلس.
وهذا الخلاف يصدر عن قاعدة يتفرع منها مسائل في خيار المجلس، وهي أن خيار المجلس هل يتصور أن يثبت في أحد الشقين؟ أو هل يتصور أن يبقى في أحد الشقين، مع بطلانه في الشق الآخر؟ فيه تردّدٌ واختلافٌ بين الأصحاب، مضى استقصاؤه في أول كتاب البيع.
فإن قلنا: لا يثبت الخيار للشفيع، فلا كلام.
وإن قلنا: يثبت الخيار له، فالأمر موقوفٌ على مفارقته ذلك المكان. فلو فارقه المشتري، ففي انقطاع الخيار بمفارقته وجهان:
أحدهما: أنه ينقطع بمفارقته؛ فإنه الذي ملك عليه، وإن لم يكن له خيار، فهو بمثابة ما لو ثبت خيار المجلس من المتبايعين، فأسقط أحدهما خيار نفسه، وبقي الخيار للثاني، ثم فارق الذي أبطل خيار نفسه المجلسَ.
ومن أصحابنا من قال: لا يبطل خيار المجلس بمفارقة المشتري؛ فإنه لم يثبت له حظٌ في الخيار أصلاً، فلا معنى لاعتبار فراقه. هذا إذا بذل المشتري الثمن.
ثم إذا قلنا: لا ملك في زمان الخيار، فيتفرع على هذا أن الملك لا يحصل ببذل الثمن، ما لم ينقطع خيار المجلس، وهذا لا يخفى دركه على من فهم مأخذَ الفقه، وإن حصل الملك في الشقص للشفيع برضا المشتري، فالأمر على ما وصفناه في خيار المجلس.
فأمّا إذا نفذ القضاء بثبوت حق الشفعة، وقلنا: إنه يتضمن الملك، أو حكمنا بأنّ الإشهاد يتضمنه، فلو أخر الشفيع تأديةَ الثمن، مقصراً من غير عجز، فهل نحكم ببطلان ملكه بعد جريانه أم لا؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: يبطل ملكه؛ فإنا لو لم نبطله، لوقع بالمشتري الضّرار الذي بنينا الفصل على محاذرته، وهو أن يملك عليه ما ملك قبل استمكانه من الثمن.
والوجه الثاني- أنه لا يبطل ملك الشفيع، ما لم يرفع الأمر إلى القاضي، ثم إذا رفع إليه، طالب الشفيعَ؛ فإن أبى، أبطل عليه حقه، وهذا هو الذي اختاره القاضي؛ فإن الامتناع عن التأدية أمر مظنونٌ، لا يتبين إلا بالرفع إلى مجلس القضاء.
وهذا يلتفت من صور الوفاق على اشتراط تعلق إثبات العُنة بمجلس الحكم، ومن صور الخلاف على القول بالإعسار بالنفقة.
4725- فخرج من مجموع ما ذكرناه أن حق الشفيع إذا ثبت من غير تأدية الثمن، ولا رضا المشتري، فهو عرضةُ البطلان بلا خلافٍ، وإنما التردد في أنه يبطل من غير قضاء، أو يتوقف على القضاء.
وهذا أوان التنبيه لطرفٍ من الحقيقة، فنقول:
قد تقدم في كتاب البيع أن البائع هل يملك حبس المبيع حتى يتوفر عليه الثمن؟ وفيه أقوال سبقت، والمشتري يملك حبسَ الشقص حتى يتوفر عليه الثمن بلا خلافٍ.
وإنما الخلاف في أثر منعه، فمن الأصحاب من يقول: أثر منعه امتناعُ الملك للشفيع. ومنهم من قال: لا يمتنع ملكُ الشفيع بمنعه، بل يجري بالقضاء أو الإشهاد، ولكن يثبت عُرضةً للبطلان إن مَطَل وسوّف. وهذا يناظر من البيع حكماً، وهو أنا إذا قلنا: على البائع البدايةُ بالتسليم، فلو سلم المبيعَ، ثم ظهر من المشتري الامتناعُ عن تسليم الثمن، فقد قال الشافعي: "أحجر على المشتري، وأنقض عليه الملك في المبيع". فإذا كان ثبت ذلك في البيع المملِّكٍ، فما الظن بملك الشفيع!! والفرق بين البابين أن نقض ملك المشتري فيه تردد، وخبطٌ في المذهب. ولا خلاف فيما نحن فيه.
ومن لطيف ما يجب التنبيه له أنا إذا لم نثبت للشفيع الملك بالقضاء والإشهاد، فإذا جرى القضاء والإشهاد، ثم أقبل الشفيع على تأدية الثمن، فالأصح أنه لا يُرعى من الفور في تأدية الثمن ما يرعى في أصل الطلب؛ فإنا قد نبطل الشفعة على قول الفور بتأخيرٍ في لحظة على ما تفصّل القولُ فيه. فأما إذا تأكد الطلب، فيشتغل الشفيع بتأدية الثمن اشتغال ما لا يعد منتسباً إلى التقصير فيه، مع الاتصال بالتمكن، فينبغي أن يرعى إقبال قادر على أداء الثمن.
ومن أسرار الفقه في ذلك أنّ خبر الشفعة قد يفجأ الشفيعَ، وليس الثمن عتيداً عنده، فلو قلنا بالتضييق عليه في التأدية، كان ذلك سعياً في إبطال معظم حقوق الشفعاء؛ فقلنا: عَجّل الطلبَ؛ فإنك متمكن من إبداء الطلب، ثم أَقْبل، وعبر الأصحاب عن الفسحة التي أشرنا إليها في التأدية بأن قالوا: كل اشتغالٍ لا يوجب حبسَ من عليه الحق في الديون، فهو محتمل فيما نحن فيه، وكل اشتغالٍ يجر تطويلاً، يسوغ لصاحب الحق استدعاءَ حبسٍ معه، فهو غير محتمل فيما نحن فيه.
ووراء ذلك ما ذكرناه من خلاف الأصحاب في أن الحق يبطل، أو يُبطله القاضي.
4726- وقد انتهى الكلام الآن إلى بيانِ أصل من الأصول، وهو أن الشريك لو كان معسراً، لا وفاء معه بالثمن، والتفريع على قول الفور، فمن أصحابنا من قال: إذا اطّرد الإعسار، تبيّنا أنه لم تثبت له الشفعة أصلاً. ومنهم من قال: تثبت، ثم تسقط، وإنما أثبتناه؛ لأنه لو جرى العقد فرزق الشفيع معه مقدار الثمن، فلا خلاف أنه يأخذ الشقص إن أراد، فكأن الأمر عند بعض الأصحاب موقوف، والشفعة عند بعضهم ثابتة، ثم يطرأ سقوطها باطِّراد العسر.
ولو قال الشفيع: أحصّل الثمنَ ببيع عقارٍ لي، وأظهره للعرض، فإن كان عقاراً لا يطلب مثله، فلا تعلّق به. وإن كان يطلب مثله، ولكن تباطأ انتظام بيعه، فهذا ممّا لو فرض في الديون، لاستحق صاحب الدين طلب الحبس إلى اتفاق البيع.
وهل يبطل حق الشفيع في مثل هذا المقام، والضِّياع المعروض مرغوب فيه؟ فيه احتمالٌ عندنا، ولا يخفى على الفقيه أن كل ما نفرعه على قول الفور.
4727- وممَّا يتصل بأطراف الكلام أن الشفيع إذا ملك الشقص برضا المشتري، لا بتسليم الثمن، فلو قال المشتري: قد ملكتَ، ولكن لا أسلم الشقصَ إليك، حتى تسلم الثمن، فهذا يخرّج على تفصيل الأقوال في أن البداية بالتسليم في البيع بمَن؟ والمشتري في رتبة البائع، والشفيع في رتبة المشتري منه.
ولو سلم الثمن، وملك بهذه الجهة، لا برضا المشتري، ثم خرج ما سلمه مستَحَقاً، فقد تبينا أن المشتري لم يملك، ونحن نقول: لو بان أنّ ما أداه المكاتب مستحَقٌ في النجم الأخير، فالعتق الذي حكمنا به مردود تبيُّناً. وكذلك القول فيما نحن فيه.
ولو وجد المشتري بما قبضه عيباً، فردَّه، ففي المسألة احتمالٌ، يجوز أن يقال: تبيّن أنه لم يملك، كنظيره في الكتابة إذا رد السيد النجم بالعيب، والجامع أن المقصود حاصل في الموضعين بأداءِ موصوفٍ، وإذا لم يحصل أداء الموصوف، تبيّنا أن الغرض لم يحصل.
ويجوز أن يقال: يحصل الملك للشفيع، ثم يرتد؛ فإن الملك في المعاملات يقبل الارتداد، والعتقُ لو حكمنا به، لم يقبل الانتقاض والارتداد، فكان الأمرُ في العتق مبنيّاًَ على التبين.
4728- ومن تمام البيان في هذا أنا إذا حكمنا بالملك للشفيع من غير تأدية الثمن، ولا رضا من المشتري، ولكنَّا حصَّلنا الملك بالقضاء أو الإشهاد، فهذا الملك عرضةُ النقض في حق المشتري لو استأخر حقُّه، كما قدمناه.
والشفيع بنفسه إن أراد أن ينقضه، فقد حكى شيخي أنه لا ينقضه، وذكره صاحب التقريب أيضاً.
والذي يدل عليه كلام الأصحاب أن الشفيع في نفسه بالخيار في الإعراض وترك الحق بعد الطلب، وإنما يتأكد حقُّه تأكداً لا يملك النقض، إذا أدى الثمن، أو رضي المشتري، فحصل منه القبول، ولسنا نعني القبولَ الذي يعارض الإيجاب؛ فإنا لا نشترط إيجاباً من المشتري، حتى يقابل بالقبول، ولكن يقابل الرضا بالرضا.
ولو بدت منه مخيلةُ الرضا في مقابلة رضا المشتري، كفى ذلك، فإذا لم يوجد هذا، ولا بذل الثمن، فالشفيع بالخيار بين الإضراب وبين التمادي على الحق.
وممَّا ذكره صاحب التقريب أن قال: إذا أشهد الشفيع على الطلب، لم ينفذ بعد ذلك بيعُ المشتري وتصرفُه، وادعى الوفاق فيه. وهذا فيه نظر، فالوجه أن نقول: إن حكمنا بحصول الملك للشفيع، لم ينفذ تصرف المشتري، وإن لم نحكم بحصول الملك، ففي نفوذ تصرف المشتري تردد، لمكان تأكد الشفعة بالطلب، فقد يبعد أن نأمر الشفيع بالإقبال على تحصيل الثمن، ونُسلِّط المشتري على البيع. والأظهر نفوذ تصرف المشتري إذا لم يحصل الملك للشفيع، ثم للشفيع نقض تصرف المشتري.
وسيأتي بيان شافٍ في تصرف المشتري وتفصيل القول في نقضه.
وقد انتهى الكلام في ملك الشفيع، وما يوجبه على أبلغ وجه في البيان.
4729- وقد حان الآن أن نتكلم في حكم ملكه الحاصل، فنقول: إن قبض الشقص، وجرى ملكه فيه، فتصرفاته نافذة فيما قبضه.
وإن وفر الثمن، ولم يقبض الشقصَ من المشتري، ففي نفوذ تصرفه فيه قبل القبض وجهان، ذكرهما صاحب التقريب، وغيره من أئمة المذهب:
أحدهما: أنه لا ينفذ فيه تصرفه. وهو مع المشتري كالمشتري مع البائع، فيما ينفذ ويُرد من التصرفات؛ والسبب فيه أن ملك الشفيع ترتب على ملك المشتري، كما ترتب ملك المشتري على ملك البائع.
والوجه الثاني- أنه ينفذ تصرف الشفيع؛ فإنا نثبت له الملك بناء قهراً، حتى كأن المشترَى ملكٌ له، ومساق هذا يقتضي تنفيذَ تصرفه، وهذا الخلاف فيه إذا حصل الملك بأداء الثمن.
فأمّا إذا قلنا: يحصل الملك بالقضاء أو الإشهاد، فلا يملك التصرفَ بلا خلافٍ فيه.
ولو حصل الملك برضا المشتري، فالظاهر عندي في ذلك امتناعُ تصرف الشفيع، إلى أن يتوفر عليه الثمن. وهذا إذا أثبتنا له حق الحبس.
وقد تبقّى علينا من الفصل بقية تتعلق بالعهدة الدائرة بين الشفيع والمشتري، وسيأتي الشرح عليه بعد ذلك، إن شاء الله عز وجل.
وهذا نجاز غرضنا من الفصل بما نحن فيه.
فصل:
قال: "فإن اختلفا في الثمن، فالقول قول المشتري مع يمينه... إلى آخره".
4730- نذكر وجوهاً من الاختلاف بين من يطلب الشفعة وبين المشتري، فنقول: إذا جاء طالباً للشفعة، فقال المشتري: لا ملك لك في الدار، ولا شِرْكَ، فإذا أنكر أصل الملك، فالقول قول المشتري، وعلى الشفيع البينة، ثم إن لم يجد الشفيع البينةَ، فكيف يحلف المشتري؟ قال الأصحاب: يحلف بالله لا يعلم له ملكاً، وقضَوْا بأنه لا يقع الاكتفاء بهذا، ونفيُ ملك الغير باليمين في هذا المقام ينزل منزلةَ نفي فعل الغير؛ من جهة أن المشتري ليس يدعي لنفسه ملكاًً في محل النزاع، وإنما يجزم المرءُ نفيَ ملك الغير إذا كان يدعيه لنفسه، مثل أن يدعي رجل أن الدار التي في يدك لي، فيحلفُ المدعى عليه على نفي ملك المدعي ويُسند يمينه إلى ثبوت الملك لنفسه. هذا وجهٌ من الاختلاف.
ولو أقر له بالملك، ولكنه أنكر الشراء، فقال: ما اشتريتُ الشقص الذي تبغيه، فالقول قوله مع يمينه الجازمة في نفي الشراء، وعلى الشفيع إقامة البينة إن وجدها على الشراء.
وإن أقر بالشرك، وأقر بالشراء، وادعى جهالة الثمن؛ فقد فصلنا القول في ذلك فيما سبق.
وإن اعترف بكل ما يدعيه الشفيع، وادعى عليه ما يُسقط الشفعة من تقصير في الطلب وغيره، فالقول قول الشفيع.
4731- وإن اختلف الشفيع والمشتري في مقدار الثمن، فادعى الشفيع أنه اشتراه بألفٍ، وقال المشتري: اشتريته بألفين، فإن كان لأحدهما بينة دون الثاني، حكم ببينته. وإن أقام كل واحد منهما بينةً على وفق قوله، فحكم البينتين إذا تعارضتا سيأتي في كتاب الشهادات. ولكن الوجه هاهنا التفريعُ على التَّهاترِ؛ فنجعل كأن البينتين لم تقوما، وسنذكر حكم ذلك في سياق الفصل، إن شاء الله تعالى.
وإن شهد البائع لأحدهما، فلا خلاف أنه لو شهد للمشتري، لم تقبل شهادته، سواء كان قبض الثمن، أو لم يقبضه؛ لأنه لو شهد، كانت شهادته متضمنة أمراً باشره، وصدر منه، مع من باشر ذلك الأمرَ معه. وهذا يناقض وضع الشهادة، ولا فرق بين أن يشهد قبل قبض الثمن أو بعده؛ فإن صيغة الشهادة خارجة عن القاعدة.
ولو شهد البائع للشفيع، فمن أصحابنا من قال: لا تسمع شهادته؛ لأنه شهد على فعل نفسه. ومنهم من قال: إن شهد قبل قبض الثمن، تسمع؛ لأنه يقابل ما يطالِب به المشتري، ولا ينسب إلى التهمة. وإن شهد بعد قبض الثمن، لم تسمع؛ لأنه يقابل العهدةَ، وما يثبت للمشتري الرجوع به في تفاصيل العهدة، فتمكنت التهمة فيه.
وإن لم يُقم بينةً، فالقول قول المشتري مع يمينه. وليس الشفيع مع المشتري بمثابة المتبايعين يختلفان في مقدار الثمن، ويتحالفانِ، والفرق أن المتبايعين اعترفا بثبوت الملك للمشتري، ثم تداعيا، فاشتمل كلام كل واحدٍ منهما على شيئين، هو في أحدهما مدعٍ، وفي الثاني مُدّعىً عليه، وليس أحدهما أولى من الآخر، وكل واحد منهم تولى أحد طرفي العقد، واستوى القولان في الاحتمال، فكان التحالف لذلك.
وفي مسألتنا لم يقع الوفاق على حصول الملك للشفيع، ولم يتول الشفيع أحد شقي العقد، وإنما تولاه المشتري، فجعلنا القول قوله؛ لأنه أعلم بما تولاّه، والشفيع يدّعي لنفسه حق تملكٍ بدون ما ذكره المشتري وأبداه، فكان القول قولَ المشتري، بخلاف ما ذكرناه في المتبايعين.
فصل:
قال: "وإن اشتراها بسلعة... إلى آخره".
4732- إذا كان الثمن سلعة، أخذ الشفيع الشقص بقيمة السلعة، فالاعتبار بيوم العقد، كما تقدم.
وذهب ابن أبي ليلى إلى أن الشفيع يأخذ بقيمة الشقص، ووافق أن الثمن إذا كان مثلياً يؤخذ الشقصُ بالمثل.
وعماد المذهب أن الشفيع أحَلَّه الشرعُ محل المشتري إن أراد التملك فيما يتصور أن يحل فيه محله، فإن كان الثمن من النقود، أو من ذوات الأمثال، أخذ الشفيع الشقص بمثل الثمن المسمَّى، ولا يتصوّر منه أخذُه بعين المسمَّى؛ فإن الثمن المسمى في العقد خرج من ملك المشتري إلى البائع، فقدر الشرع في تملك الشفيع ثمناً يضاهي ثمنَ الشراء، وقَرَّبَ القول في التقدير والتمثيل على أقصى الإمكان. وهذا ينافي الأخذَ بقيمة الشقص؛ إذْ لو فرض الأخذ بها، لكان ذلك إضراباً عن إيقاع الملك بالشراء للشفيع. ولهذا قلنا: إذا وهب الشريك الشقص من إنسانٍ، فلا شفعة؛ إذ لا عوض، ولا سبيل إلى الأخذ بقيمة الشقص؛ فإنه لو اشترى المشتري بمتقوم، أخذ الشفيع بقيمة ذلك، لا بقيمة الشقص.
ثم الفقه الواقع فيه أن الشريك لا غرض له في البيع من أجنبي، ولو باعه من شريكه، لحصل مقصودُه من الثمن، ولانْدفع عن الشريك الضرار، كما تقدم.
فإذا باعه من غيره-وقد ندبه الشرع إلى عَرْضه على شريكه- راغم الشرعُ مقصوده، وصرف البيع إلى الشريك.
وإذا وهب من إنسانٍ وقصد التقرب إليه والامتنان عليه، فربما لا يبغي أن يسلك هذا المسلك مع غيره؛ فإن الأغراض تختلف في المنح والهبات باختلاف الأشخاص، فأعظم داعيةٍ إلى الهبة صفةُ المتهب، وليس كذلك الشراء؛ فإن الداعية إليه تحصيل العوض، والغرض في هذا لا يتفاوت.
وقد بان أنّ الشقص لا يؤخذ بقيمته، ولا سبيل إلى مخالفة الواهب بصرف هبته إلى غير قصده وجهته، واقتضى مجموع ذلك سقوط الشفعة في الموهوب.
فصل:
قال: "أو تزوّج بها، فهي للشفيع بقيمة المهر... إلى آخره".
4733- إذا أصدق امرأته شقصاً في مثله الشفعة، استحقه الشفيع عندنا بقيمة مقابله، وهو البضع، وقيمته مهرُ المثل، خلافاً لأبي حنيفة، ولو اختلعت المرأة نفسها بشقصٍ، أخذه الشفيع بقيمة البُضع. ولو وقعت مصالحة عن قصاصٍ بشقصٍ، أخذه الشفيع بالدِّية، والبدل المالي لذلك الدَّم، ولو أثبت الشقص أجرةً في الإجارة، أخذه الشفيع بقيمة المنافع، وهي أجرة المثل.
وأبو حنيفة لم يثبت الشفعة في هذه المسائل أصلاً، وتخيل في الصداق، وبدلِ الخلع، والصلح عن الدم أن الشقص لم يثبت في معاوضاتٍ حقيقية، وما ذكره في الإجارة بعيدٌ جداً عن قياس مذهبه؛ فإن الأجرة في الإجارة عِوضٌ على التحقيق، وامتنع عنده ثبوت العبد الموصوف، والوصيف المطلق أجرة، كما يمتنع ذلك في البياعات، بخلاف المسائل الثلاث، ووافق أنه لو أصدق امرأته دراهم، ثمَّ اعتاضت عنها شقصاً، فالشفيع يستحق الشقص بمثل الصداق إن كان مثلياً.
ثم إذا ثبت الشقصُ صداقاً، وتعلق حقُّ الشفيع به، فلو طلقها زوجها قبل المسيس، فالطلاق يتضمن تشطُّرَ الصّداق، فقال الأصحاب: لو طلق الزوج، وارتد إليه شطر الصّداق، ولم يكن إذ ذاك شفيع حاضر يطلب، فأخذ الزوج النصف، ثم جاء الشفيع طالباً؛ فإنه لا يتبع ما أخذه الزوج، وإنما يتعلق بما بقي في يد المرأة، فيأخذ بنصف مهر المثل.
ولو جاء الشفيع طالباً، وفُرض طلاق الزوج مع قيام طلب الشفيع، فهذا موضع تردد الأئمة. قال أبو إسحاق المروزي: الزوج أولى بنصف الصَّداق. وقال ابن الحداد في مسألة تناظر هذه، وهي إذا أفلس المشتري، فأراد البائع الرجوع في الشقص بعذر الفلس في الشقص وأراد الشفيع الأخذ بالشفعة، قال: الشفيع أولى؛ فمساق ما قاله ابن الحداد في مسألة الإفلاس أن الشفيع في مسألة الصداق أولى من الزوج، ومساق ما قاله المروزي أن البائع في مسألة الإفلاس أولى، فنقل الأصحابُ كل جواب من الإمامين إلى جوابِ الآخر، وخرّجوهما على وجهين:
أحدهما: الشفيع أولى في مسألة الصداق والإفلاس؛ لأن حق الشفيع أسبق؛ فإنه ثبت قبل التطليق المشطِّر، وكذلك ثبت قبل طريان الفلس واطراد الحجر، هذا أحد الجوابين. والجوابُ الثاني- أن الزوج أولى بالشطر، والبائع أولى بالرجوع إلى عين المبيع؛ لأنهما يرجعان بسبب ملكٍ لهما سابق متقدمٍ، على حق الشفيع؛ فإن قلنا في مسألة الإفلاس: الشفيع أولى، فيأخذ الشقص، ويبذل الثمن.
ثم اختلف أصحابنا في ذلك الثمن: فمنهم من قال: هو مصروف إلى البائع يختص به من بين سائر الغرماء؛ فإنه ثمن المبيع الذي له فيه حق الرجوع لولا الشفيع.
ومن أصحابنا من قال: الثمن مصروف إلى الغرماء، والبائع أُسوتهم؛ فإنه إن لم يرجع في عين المبيع، فتخصيصه بالثمن محالٌ. وهذا اختيار ابن الحداد.
4734- ومما يتعلق بالقبيل الذي نحن فيه أن من اشترى شقصاً مشفوعاً، واطلع على عيبٍ به، فأراد رده، فقال الشفيع: لا ترده فإني رضيتُ به معيباً، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أن الشفيع أولى؛ فإن حق شفعته متأكّد متقدّم على اطّلاع المشتري على العيب، وهو أيضاً يُحصِّل غرضَ المشتري، فيرد عليه مثلَ ثمنه، أو قيمتَه، إن كان من ذوات القيم؛ فلا معنى لإبطال حق الشفيع.
والقول الثاني- أن الرد ينفذ، والمشتري أولى به من الشفيع بالأخذ؛ والسَّبب فيه أن حق الشفعة إنما يثبت لو سلِم العقدُ عن الرد، فإذا لم يستقر العقدُ، عاد الأمر إلى ما كان عليه قبل العقد، وجُعل كأنّ العقدَ لم يجرِ، وأيضاً ربّما يكون للمشتري غرض في استرداد عين ماله الذي جعله عوضاًً، وإذا منعناهُ من الرد؛ فاته هذا الغرض.
4735- ومما يتفرع في ذلك أن المشتري لو رد بالعيب في غيبة الشفيع، نفذنا الردّ في الحال، وإذا جاء الشفيع بعد جريان الرد، فهذا يتفرع على أنه لو اجتمع طلبُه، مع همّ المشتري، فمن المقدم منهما؟ فإن قلنا: المشتري مقدم، لحق الرد، فإذا نفذ الردّ، فلا مستدرك. وإن قلنا: حق الشفيع مقدم، فإذا جرى الرد، ثم جاء الشفيع، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: لا شفعة؛ فإنها فاتت بجريان الردّ وتقدمه. والوجه الثاني- له حق الشفعة. وهذا القائل يقول: الرد مردود، والشفعة تترتب على الملك السّابق، ويُجعل كأن الرد لم يجر.
وهذا فيه ضعف؛ من جهة أن الفسخ لا يفسخ.
وكان شيخي يقول: إذا أثبتنا حق الشفعة في هذه الحالة، تبيّنا بطلانَ الردّ؛ لأنه صادف حقاً مقدّماً عليه. ولا نقول: ينفذ الرَّد، ثم يُرد.
فرجع حاصل القول إلى وجهين في الأصل:
أحدهما: أن الشفعة بطلت بالرّد، والثاني: أنها لم تبطل.
فإذا قلنا: إنها بطلت، فلا كلام. وإن حكمنا بأنها لم تبطل، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن الرد يُرد.
والثاني: أنا نتبين فساد الرد من أصله، ويجعل كأنه لم يجر. وقد قدمنا أن الزوج إذا طلق زوجته قبل المسيس، وكان الصداق شقصاً، وجرى ذلك قبل طلب الشفيع الشفعة، وحكمنا بتشطير الصَّداق، فإذا جاء الشفيع يطلب، فقد قدَّمنا أن ما ارتد إلى الزوج لا ينتزع من يده.
وكان يقول رضي الله عنه: إذا رددنا الرّد على بعد القول بفسخ الفسخ، فاسترجاع ما ارتد إلى الزوج أولى.
وبالجملة اختلف أئمتنا، فذهب ذاهبون منهم إلى تنزيل ما ارتد إلى الزوج من الصَّداق بالطلاق قبل المسيس، منزلة ما لو جرى الرد قبل طلب الشفيع؛ فيخرّج على وجهين:
أحدهما: أن الشطر منتزع من يد الزوج، ورجوعُه إلى قيمة الصداق.
والثاني: أنه لا ينتزع من يده، ويأخذ الشفيع ما بقي في يد المرأة من الشقص، بحصته من مهر المثل. هذه طريقة.
ومن أئمتنا من قطع في الطلاق بأن ما رجع إلى الزوج لا يسترد منه، وجهاًً واحداً؛ لأن الطلاق هو الموجب للتشطر، والطلاق لا مردّ له، وشطر الصداق يرتد من غير اختيار، فبعد نقض حكم التشطير فيه.
والأصح عندنا التسويةُ بين طلب الشفعة بعد الطلاق، وبين طلبها بعد جريان الرد؛ فإن القول كما اختلف في اجتماع طلب الشفيع والقصد بالردّ كذلك اختلف القول فيه إذا انضم طلب الشفعة إلى تطليق الزوج قبل المسيس، فإذا اتفقا في الابتداء، فإن لم يكن للطلاق مرد، وجب أن يتفقا في طريان طلب الشفعة.
4736- وممَّا يتصل بذلك تفصيل الإقالة، فإذا اشترى شقصاً، ثم فرض جريان الإقالة، نظر: فإن لم يكن عفا الشفيع عن الشفعة، وجرت الإقالة، نُفرّع ما نقوله على القولين في أن الإقالة فسخٌ أو بيع؟ فإن جعلنا الإقالة بيعاً، فالشفعة لا تبطل، والشفيع بالخيار إن شاء نقض الإقالة؛ حتى يرتد الشقص إلى ملك المشتري، فيأخذه بالشفعة منه.
وإن قلنا: الإقالةُ فسخ، فهذا طلب شفعة ترتب على جريان فسخ، فيلتحق هذا بما ذكرناه في طلب الشفعة بعد جريان الردّ بالعيب. وما ذكرناه فيه إذا كان الشفيع على طلب شفعته، وما كان عفا.
فأما إذا عفا الشفيع عن الشفعة، ثم جرت الإقالة من بعدُ، فإن قلنا: الإقالة بيعٌ، فللشفيع أخذ الشفعة من البائع الأول؛ فإنه بالاستقالة صار مشترياً. فإن قلنا: الإقالة فسخ، لم يتجدد حق الشفيع؛ فإن الفسخ لا يُثبت حقَّ الشفعة. وإن كان يشتمل على تراد في العوضين. وهذا مما اتفق عليه الأصحاب.
فصل:
قال: "وإن اشتراها بثمنٍ إلى أجل... إلى آخره".
4737- إذا اشترى الرجل شقصاً بثمن مؤجلٍ، فالذي نص عليه الشافعي في الجديد، وهو ظاهر المذهب، ولم يحك الصيدلاني وشيخي غيرَه أنّا نقول للشفيع:
إن شئت عجل الثمنَ للمشتري، وتعجل حقك من الشفعة. وإن شئت، فاضرب عن الطلب حتى يحل الأجل.
ونص الشافعي فيما رواه حرملةُ على أن للشفيع أن يأخذ الشقص بالثمن المؤجل، وحكم ذلك أن يأخذ المبيع من المشتري في الحال، ويكون الثمن للمشتري في ذمة الشفيع، كما أن الثمن للبائع في ذمة المشتري.
وحكى أبو العباس بن سُريج عن كتاب (الشروط) أن الشفيعَ يأخذ الشقص بعَرْضٍ يساوي مقدارَ الثمن مؤجلاً بأجله.
وهذا في ظاهر الأمر فيه إنصاف؛ فإنا لو كلفناه ألفاً حالاً، كان ذلك تفاوتاً في المالية بيّناً. ولو قلنا: عجل بعضَ الثمن ونكتفي به، مصيراً منا إلى أن البعض الحال يقوم مقام الألف المؤجّل، كان ذلك مقابلةَ ألفٍ مؤجلٍ بستمائة حال، وهذا صورة الربا. فإذا قدرنا عرضاً قيمته الألف المؤجل، لم يؤد هذا التقدير إلى الربا، وكان رعايةَ الانتصاف في الحقوق المالية.
هذا بيان الأقوال.
وقال مالك رحمه الله: إن كان الشفيع ملياً، ثقةً، سلمنا إليه الشقصَ بالثمن المؤجل، وإن لم يكن ملياً، وأعطانا كفيلاً ملياً، سلمنا إليه الشقص أيضاً بالثمن المؤجل، وإن لم يكن ملياً ولم يجد كفيلاً، لم نسلم إليه الشقص.
4738- ونحن الآن نوجه الأقوال، ثم نفرع عليها،: فأما وجه قوله الجديد، فعماده أن البائع إن رضي بذمة المشتري ووثق بأمانته، فالمشتري لا يلزمه أن يرضى بذمة الشفيع، وإن كلفناه أن يسلم الشقص، ويعوّل على ذمّة المشتري، فقد ألزمناه أمراً مخطراً؛ فنقول: إن رددت الشقص، فعجّل؛ فإن المؤجل يصح تعجيله، وإن لم ترُد الشقصَ، فانتظر حلول الأجل، فاجتمع إذن مراعاة حق المشتري واستدامة حق الشفيع.
ومن قال: نُسلِّم الشقصَ المبيع إلى الشفيع بالثمن المؤجل، احتج بأن الشفيع ينزل منزلة المشتري في تملك الشقص، ومقدارِ الثمن، وكل ما تتصور المساواة فيه تقريباً؛ فينبغي أن يحل محله في الأخذ عاجلاً بالثمن المؤجّل.
ومن نصر القول الثالث، فاحتجاجه ما ذكرناه في بيان القول الأول، من اعتبار الإنصاف، واجتناب صور الربا. وإذا كنَّا نُقيم قيمةَ الثمن إذا كان سلعة مقام السلعة، فلا يبعد أن نقيم سلعة مقام الثمن، مع التقريب في الغرض المالي، إذا كان ينتظم ذلك في المقاصد.
هذا بيان توجيه الأقوال.
التفريع:
4739- من قال بالقول الجديد، وهو ظاهر المذهب، فوّض الأمرَ إلى الشفيع، كما مضى، وجوز له أن يعجل ويتعجل، وأن ينتظر حلول الأجل، ويترك الشقص في يد المشتري.
ويتفرع على هذا القول ثلاثةُ أشياء: أحدها: أنا إذا فرعنا على قول الفور، فقد اختلف أئمتنا في أنا هل نوجب أن يُشعر الشفيعُ بأنه على الطلب، ثم يؤخر إن أراد التأخير؟ فمن أئمتنا من قال: لا يجب ذلك، ولا فائدة فيه، فإذا جوزنا له التأخير إلى حلول الأجل، جوزنا له السكوت عن الطلب إلى ذلك الوقت.
ومن أصحابنا من قال: لابد من الإشعار بالطلب، كما فرعنا على قول الفور.
ثم إذا أكّد الشفعة بالطلب، كان تأخير أداء الثمن إلى منتهى الأجل بمثابة تأخر أداء الثمن الحالّ إلى أوقاتٍ يتيسّر أداؤه فيها عادة، مع العلم بأن تأخير الطلب إلى تلك الأوقات مبطل لحق الشفعة.
فهذا أحد الأشياء الثلاثة.
والثاني: أن المشتري إذا مات، وحل الأجل عليه بموته، فالأمر موسع على الشفيع في تأخير أداء الثمن كما قدمناه في حالة الحياة، والسبب فيه أنه وإن كان يتلقى من جهة المشتري، فهو مُباين له في المرتبة. وقد ذكرنا أن من ضمن ديناً مؤجلاً على صفة التأجيل، ثم مات المضمون عنه، وقُضي بحلول الدين، وانقطاع الأجل، فلا يحل الدين على الضامن بسبب حلوله على المضمون عنه.
والأمر الثالث: أن الشفيع لو مات بنفسه، فوارثه يقوم مقامه في استحقاق الشفعة، ثم لا يقضى أنه يحل عليه الثمن؛ إذ لم يكن عليه أجل حقيقي، ولم يكن الثمن ديناًً في ذمته حتى يفرض حلوله بموته، لكن كان ثبت له حق الشفعة على وجهٍ، فيثبت ذلك الحق على ذلك الوجه لوارثه. ذكره الصيدلاني وغيره من المحققين. وهو ممّا لا يشك فيه.
هذا تمام التفريع على القول الجديد.
4740- فأمّا التفريع على القول الذي رواه حرملة، فإنا نرى هذا قولاً قديماً، فإنه في الأصل يضاهي مذهب مالك، ثم اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: نعتبر ما اعتبره مالك من كون الشفيع ملياً موثوقاً به في ظاهر الحال؛ فإن لم يكن، اشترطنا أن يقيم كفيلاً ملياً وفياً، فإذ ذاك نوجب على المشتري تسليمَ الشقص، وتركَ الثمن في ذمة المشتري. وإن لم يتحقق ذلك في المشتري، ولم يأت بكفيلٍ، لم نسلم إليه الشقص. وهذا هو الذي حكاه الشيخ أبو علي في تفريع هذا القول في مذهبنا. فكأنَّه إذاً مذهبُ مالكٍ.
ومن أصحابنا من لم يشترط ملاءةَ الشفيع، ولا الإتيانَ بكفيل، وأحل الشفيع محل المشتري، وأوجب تسليم الشقص إليه عاجلاً؛ تنزيلاً له منزلة المشتري، من غير نظر إلى صفته، وهذا فيه بُعد وإجحاف بالمشترى. وإن كان يميل إلى طرفٍ من القياس بعض الميل. وقد حكاه موثوقٌ به عن القاضي.
ثم يتفرع على هذا القول أن المشتري لو مات، وحل عليه الأجل، لم يحلّ على الشفيع، كما ذكرناه في الضامن والمضمون عنه. ولكن لو مات الشفيع، وجب القضاء بحلول الثمن عليه؛ فإن الأجل تأصّل في حقه، بدليل استئخار الشقص، وأخذه عاجلاً. وإذا أخذ الشقص وملكه، استقر الثمن في ذمته.
فليتنبه المفرع لذلك، وليفصل بين ثبوت حقيقة الأجل على هذا القول، وبين ثبوت فسخه على القول الجديد. و ليست من حقيقة الأجل في شيء، ولذلك لا يتعجل الشفيع على الجديد أخذَ الشقص، فلا جرم لم يكن للحكم بالحلول على الشفيع معنى إذا مات قبل حلول الأجل.
ولو فرض في ذلك القول أخذُ الشقص، لكان يتعين أن يعجل الثمن في حياته.
ومما نفرعه أنا إذا أحللنا الشفيعَ محل المشتري في الأجل على قول حرملة، وفرعنا على قول الفور، وجب على الشفيع البدار إلى الطلب؛ فإن الشقص معجل له، حتى إذا أخر، كان مقصراً، ويُقضى بسقوط حقه. وليس هذا كالتفريع على الجديد؛ فإن تلك الفسحة تثبت في أخذ الشقص، حتى كأنها أجل في الشقص. فليفهم الناظر ذلك.
4741- فأما إذا فرعنا على القول الثالث، فتعيين العَرْض إلى الشفيع، وتعديل القيمة إلى من يعرفها، فنعتبر مبلغ الثمن مؤجلاً، ثم نقيس به ثمناً حالاً، ونراجع في المقدارين المقومين، ونقول: ما يساوي ألفاً إلى سنةٍ، بكم يُشترى نقداً؟ فيقال: بخمسمائة، فنكلف الشفيع أن يأتي بسلعة تساوي خمسمائة عاجلة، وهذا قد قدمناه في تصوير القول. فلو لم يتفق طلبُ الشفعة حتى حل الأجل، فالمشتري مطالب بالألفِ، والشفيع يجب أن لا يطالَب إلا بالسلعة المعدّلة التي ذكرناها؛ فإنّ لاعتبار في قيمة عوض الشراء، بحالة العقد، فكأن المشتري لما اشترى بألفٍ مؤجّل، اشترى بخمسمائةٍ حالةٍ، فالاعتبار إذاً بحالة العقد. ولهذا قلنا: إن ثمن العقد إذا كان متقوماً، فالاعتبار في مبلغ قيمته بحالة العقد. فإن قيل: إذا فرعتم على القول الجديد، فهل تنفذون تصرفات المشتري في مدة الأجل في الشقص؟ قلنا: نعم. ولا يملك الشفيع نقضَها مادام الأجل، إلا أن يعجل الثمن. ثم إذا تصرم الأجل، يتبع التصرفاتِ بالنقض.
فقد نجز ما أردناه في هذا الفصل.
فصل:
قال: "ولو ورثه رجلان، فمات أحدهما، وله ابنان... إلى آخره".
4742- الذي نراه أن نقدم على هذا الفصل أصلاً مقصوداً في كتاب الشفعة، وهو أنّه إذا ازدحم شفيعان فصاعداً على المبيع المشفوع، وكانا مختلفين في مقدار الملك في الشركة، فالشفعة مقسومة على الرؤوس بالسوية، أم هي مقسومة على مقدار الحصص في أملاك الشفعاء؟ فعلى قولين:
أحدهما: وهو المنصوص عليه في الجديد أن القسمة على أقدارِ الحصص، وبيان ذلك بالتصوير أن الدار إذا كانت مشتركة بين ثلاثة، لواحد نصفها، ولآخر ثلثها، ولآخر سدسها، فإذا باع مالك النصف نصيبه، وهو النصف، فهو مقسوم على الجديد بين صاحب السدس والثلث أثلاثاً على الملكين.
والقول الثاني- وهو المنصوص عليه في القديم أن القسمة تقع على رؤوسهم بالسوية، فيأخذ كل واحد منهما نصفَ الشقص المبيع، وهو ربع الدار، وهذا مذهب أبي حنيفة، واختيار المزني، وتوجيه القولين قد استقصيناه في كتاب الأساليب والغنية، وليس يتعلق بذكرهما ضبطٌ مذهبي، فنعيده.
ولو انفرد الشفيع، واستحق الشفعةَ، ومات من غير تفريطٍ قبل اتفاق أَخْذ الشقص، وخلف ابناً وبنتاً، فحقُّ الشفعة موروث، كما سنذكره بعد ذلك.
ثم اختلف أصحابنا على طريقين، في تخريج القولين في قسمة الشفعة، فصار صائرون إلى أن القولين يخرجان في الابن والابنة، وإن تفاوتا في استحقاق نصيب الشفيع، وشِرْكه القديم. ففي قولٍ نسوي بينهما في الشقص المشفوع. وفي قولٍ يوزع على مقدار ملكيْهما في الشرك القديم.
ومن أصحابنا من قطع القولَ بأن الشفعة في حق الوارثين مقسومةٌ على اختلاف الملكين؛ فإنها موروثة، والإرث يقتضي التفاوت.
وحقيقة هذا الاختلاف للأصحاب ستأتي واضحة، إن شاء الله تعالى، في الفصل الذي نذكر فيه توريث الشفعة.
4743- فإذا وضح هذا الذي ذكرناه، عدنا بعده إلى بيان مضمون الفصل.
فإذا مات الرجل، وله دار، وخلف ابنين، ثم مات أحدهما عن ابنين، وانصرفت حصته من الدار إليهما، ثم باع أحد الحافدين نصيبه من الدار، فأخوه أولى بالشفعة، أو يشاركه العم فيه؟ فعلى قولين:
أحدهما:وهو المنصوص عليه في القديم- أن الأخ أولى؛ لأنهما اختصا بوراثة أبيهما دون العم، وانحازا عنه بحيازة الميراث، فإذا تصرف أحدهما تعلق حكم تصرفه بأخيه، ولم يتعدَّه، كما اختص الإرث بهما دون العم. وهذا لست أرى له وجهاًً أصلاً. ولست أصفه بالضعف، فأكون حاكماً باتجاهه على بعد، ولكن لا أصل له في القياس.
والقول الثاني-وهو المنصوص عليه في الجديد- أن العم يشارك في الشفعة؛ فإنه شريك، والشفعة نيطت بالشركة، وهو مساوٍ للأخ في الشركة الشائعة؛ فوجب أن يساويه في استحقاق الشفعة.
ثم قال الأصحاب: القولان لا يختصان بالوراثة، بل لو اشترى شخصان داراً، ثم باع أحدهما نصيبه من شخصين، أو وهبه منهما، واستقر ملكهما، ثم باع أحدهما نصيبه، فالشفعة تختص بمن كان شريكاً له في الدرجة الأولى، أو يشاركه الشريك الأصلي في الدار، وهو شريك البائع؟ فعلى هذين القولين.
4744- ولو كانت الدار بين ثلاثة، فباع واحد منهم نصيبه من شخصٍ، أو وهبه منه، واستقر ملكه، ثم باع أحد الأصلين الباقيين نصيبه، فالشفعة تثبت للشريك الأصلي القديم أو يشاركه الشريك الحادث فيه، يعني المتهب، فعلى هذين القولين؛ فإن بين القديمين تواصلاً، واختصاصاً قديماً، ليس ذلك للحادث. فكما لا يتعدى تصرفُ المحدثين في الشركة إلى القدماء على القول القديم، فكذلك لا يتعدى تصرف القدماء إلى الحادثين، إذا كان في الجهة القديمة شريكان فصاعداً.
ثم إذا وقع التفريع على القديم، فلا شك أن الحافدين في الصورة الأولى لو باعا جميعاً ما يملكان، فالشفعة تثبت للعم، وإنما يقدم أحد الأخوين على العم إذا باع أحد الحافدين، ووقع الكلام في تقديم الاخ، أو التشريك بينه وبين العم. وهذا واضح.
وكذلك إذا كان الشريك القديم واحداً، فباع ما يملكه، أو كان في المسألة شركاء متقدمون، فباعوا جميعاً حصصهم، فالشفعة تثبت للحادثين. وإنما الكلام فيه إذا باع بعض القدماء، وثبت شفيع قديم، وشريكٌ حادث؛ فإذ ذاك يجري القولان.
والذي يبين هذا الفصل أنا إذا فرضنا ابنين أولاً، ثم قدرنا موت أحدهما وتخليف ابنين. ثم باع أحد الأخوين الحافدين نصيبه، والتفريع على القديم، فالشفعة تثبت للأخ الذي لم يبع دون العم على القول القديم.
هذا حكم الحال.
فلو عفا ذلك الأخ عن الشفعة، فهل للعم أن يأخذ الشفعة؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا شفعة له؛ لأنه لو كان من أهل الشفعة، لما تقدم الأخ عليه؛ لأنه مساوٍ له في الشركة الشائعة، فلما تقدم الأخ عليه، عُلم أنه لا شفعة له؛ فإن التقديم والتأخير لا يثبت في قاعدة الشفعة. ولذلك استدل أصحابنا في إسقاط شفعة الجار بتقدم الشريك عليه، وقالوا: لما تُصوّر سقوط استحقاقه مع الشريك، دلَّ ذلك على أنه لا حق له أصلاً. هذا أحد الوجهين.
والوجه الثاني- أن العم تثبت له الشفعة إذا عفا الأخ؛ لأنه شريك، ولكنا رأينا تقديم الأخ عليه؛ من جهة أنه أقرب، فإذا سقط حق الأقرب، وجب أن يستحق العم لوجود الملك، وأصلِ الشركة.
4745- وهذا يضاهي مذهب أبي حنيفة في تقديم الشريك على الجار، وهو يناظر من صور الوفاق تقديمَ المرتهن على سائر الغرماء بالمرهون، فلو أسقط المرتهن حقه من الرهن، أو أبرأ عن الدين، صُرف المرهون إلى حقوق الغرماء، وكذلك إذا قتل رجل جماعة، وثبت القصاص عليه، فإذا كان قتلهم ترتيباً، فحق الاقتصاص لولي القتيل الأول، ولو عفا، فحق الاقتصاص لولي القتيل الثاني. وهكذا إلى انتهاء الأمر إلى ولي القتيل الأخير.
وحقيقة هذا الخلاف ترجع إلى أنا إذا قدمنا الأخ على العم، فهذا إسقاط للعم عن الاستحقاق أصلاً، أم ثبتت له الشفعة ولكنا نراه مزحوماً بالأخ؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه.
وقد يجري مثل ما ذكرناه هاهنا في ازدحام الشفعاء إذا عفا بعضهم عن الشفعة؛ فإن الحق في ظاهر المذهب في جميع الشقص يثبت للباقين، وليس هذا حقاً متجدداً لهم، ولكن لكل واحد من الشفعاء حقُّ استحقاق جميع الشقص لو انفرد، فإذا كان مزحوماً بآخرين، لم يأخذ كل واحد إلا مقداراً، فمن عفا وخرج عن الاستحقاق، عاد الباقون إلى التقدير الذي ذكرناه. حتى لو عفا الجميع إلا واحداً، فهو يأخذ الشقص بأصل الاستحقاق، لا باستفادةٍ من جهة الشركاء. وسيأتي تقرير ذلك في موضعه، إن شاء الله تعالى.
ثم ما ذكرناه في الأخوين والعم، وعفوِ الأخ يخرّج في كل صورة ذكرناها في قوله القديم، فإذا اشترى رجلان داراً، ثم وهب أحدهما نصيبه، من اثنين، ثم باع أحد المتهبين نصيبه، وفرعنا على أن صاحبه أولى بالشفعة من الشريك القديم، فعلى ما ذكرناه من خلاف الأصحاب.
4746- ومما فرعه ابن سريج على هذا الأصل أن من قال: لو مات رجل عن دارٍ وابنتين، وأختين، فللبنتين الثلثان، والباقي للأختين، وهو الثلث، فلو باعت إحدى البنتين نصيبها، والتفريع على القديم فالشفعة تثبت لمن؟ قال ابن سريج: يحتمل أن نقول: تختص بالشفعة البنت التي لم تبِع، ولا شفعة للأختين؛ من جهة أن البنتين كانتا مختصتين بجهة الإرث، ؤالحصة مضافة إليهما، فاقتضى ذلك اختصاصَ إحداهما بالشفعة إذا باعت إحداهما، وعدم تعلق الاستحقاق بالأختين، تفريعاً على القديم.
هذا احتمال أبداه ابن سريج في التفريع على القول القديم، ثم زيَّف هذا الوجهَ، وقال: يجب تشريك الأختين في الشفعة؛ لأن الوراثة تثبت لجميع الورثة دفعةً واحدة، والورثة مستوون، فلا معنى لتقديم بعض الجهات على البعض. وهذا الذي ذكره في بيع إحدى البنتين يجري في بيع إحدى الأختين، حتى يتردد الجواب تفريعاً على القديم في أن الشفعة تختص بالأخت أو تتعدى إلى البنتين. وهذا يجري في جملة أصناف الورثة، حتى إذا كان فيهم زوجاتٌ وبناتٌ، وأخوات، فباعت زوجة حصتها، ففي اختصاص الزوجات الكلامُ الذي ذكرناه.
والوجه تشريك جميع الورثة.
4747- ثم إذا وقع التفريع على القول الجديد، وهو المذهب المبتوت، وإن كنا نحكم بأن القديم مرجوع عنه، فهذا أوانه.
فإذا باع أحد الحافدين نصيبَه، وأثبتنا الشفعة لأخيه وعمّه، فللعم نصف الدار، وللأخ ربعها، والمبيع الربع، ففي كيفية القسمة على الأخ والعم كلامٌ يتعين التأنِّي فيه، في ترتيب المذهب. فإن جرينا على القياس، أرسلنا القولين في أن المبيع يقسم أثلاثاً بين العم والأخ، أو يقسم بالسوية بينهما. هذا طريق التفريع القياسي. وإن راعينا نظم المذهب، قطعنا بالقسمة على التفاوت، نظراً إلى الحصتين والشريكين؛ فإن القسمة على رؤوس الشفعاء في القول القديم. ونحن في القديم لا نثبت للعم الشفعةَ، وفي الجديد لا نرى القسمةَ على الرؤوس، فإذا فرعنا على تشريك العم في الشفعة، وهو الجديد، قطعنا النظر إلى الحصتين، وفاوتنا في المقدار أخذاً بالجديد، وأصحابنا يمنعون من بناء الجديد على القديم، والقديم على الجديد.
وقد تقدم مراراً أن القول القديم لا ينبغي أن يعد من مذهب الشافعي؛ فإنه مرجوع عنه. فإن قيل: قد اختار المزني القولَ القديمَ، ورأى قسمةَ الشفعة على رؤوس الشفعاء، واحتج بقول الشافعي في مسألة العم، والأخ، ونقل فيه لفظَ الشافعي، فقال: قال الشافعي: "العم والأخ سواء في استحقاق الشفعة"، وفهم المزني من نص الشافعي القسمةَ على الرؤوس، وهذا تفريع القديم. وتشريك العم هو القول الجديد، قلنا: لا محمل لهذا في ترتيب المذهب إلا وجهان:
أحدهما: أنه يحمل الاستواء على الاستواء في أصل الاستحقاق، لا على التساوي في المقدار.
والثاني: أن نُقدر للشافعي قولاً في الجديد في أن الشفعة تقسم على الرؤوس لا على الأنصباء.
وهذا فيه نظر؛ فإنه لم يصح في الجديد القسمةُ على الرؤوس. ومهما قطع الشافعي في الجديد فتواه، فالذي أراه موافقةُ المزني في أن ذلك رجوع منه عن ترديد القول.
فصل:
قال: "ولورثة الشفيع أن يأخذوا ما كان يأخذ أبوهم... إلى آخره".
4748- الشفعة موروثة عندنا على الجملة، فإذا مات الشفيع قبل اتفاق أخذ الشقص، ولم يقصّر، انتقلت الشفعةُ إلى الورثة.
وقال أبو حنيفة: الشفعة لا تورث.
فنقول: إذا مات الشفيع وخلّف ابناً وبنتاً، وامرأة، وخلف الشقص الذي كان ملكه من الدار، وبه استحق الشفعة، فالشقص مقسوم بين الورثة، على أربعةٍ وعشرين للزوجة الثُّمن ثلاثة، والباقي بين الابن والبنت للذَّكر مثلُ حظ الأنثيين، فيخص البنتَ ثلث ما بقي، وهو سبعة، ويخص الابن أربعةَ عشرَ. وحق الشفعة ثابت لهم، ثم الشفعة تقسم على رؤوسهم، أو على حصصهم في الشِّرك القديم؟ فعلى القولين والتفصيل المقدم. فمن أصحابنا من قطع بأن الشفعة مفضوضةٌ على نسب الحصص، ولم نر هذا من صور القولين، ومنهم من أجرى القولين. وحقيقةُ هذا الاختلاف تستند إلى حقيقة الفصل.
وقد اختلف الأئمة في أن الورثة يأخذون الشفعة لأنفسهم في الحقيقة، أم يأخذونها للموروث، ثم يخلفونه؟ وفي ذلك وجهان: فإن قلنا: إنهم يأخذونها لأنفسهم، جرى القولان في كيفية التقسيط. وإن قلنا: إنهم يأخذونها للميت تقديراً، ثم ينتقل المأخوذ إليهم إرثاً، فليس إلا القطع باعتبار الحصص.
4749- وممَّا نفرعه في هذا المنتهى أن واحداً من الورثة إذا عفا عن الشفعة، فكيف يجري هذا التفريع؟ وهذا يستدعي رَمْزاً إلى أصلٍ سيأتي استقصاؤه، إن شاء الله. وهو أن من انفرد باستحقاق الشفعة إذا عفا عن بعض الشفعة، ففيه أوجه:
أحدها: أنه يبطل جميع حقه بالعفو عن البعض، كما لو عفا مستحق القصاص عن بعض حقه في القصاص؛ فإنه يسقط جميعُ القصاص، ولا يتصور بقاء شيء منه.
والثاني: لا يسقط بالعفو عن البعض شيء ويلغو العفوُ.
والثالث: أنه يسقط ما أسقط، ويَبقى ما أبقى.
وسيأتي ذلك على الاستقصاء، إن شاء الله تعالى.
فإذا عفا واحد من الورثة، نفرِع ذلك على الوجهين في أن الورثة يأخذون الشفعة لأنفسهم أم يأخذونها للميت؟
فإن قلنا: إنّهم يأخذون للميت، فإذا عفا واحدٌ منهم، سقط حق الباقين، ونزل منزلة ما لو عفا عن بعض حقه في حياته، ولو فعل ذلك، بطل حقه في الجميع، في ظاهر المذهب. وفيه خلاف، سنذكره في الفصل الذي يلي هذا الفصل.
وإن قلنا: إنّ الورثة يأخذون الشفعة، لأنفسهم، فإذا عفا واحد منهم، أخذ الباقون الشقصَ بكماله، وسقط حق العافي على ظاهر المذهب. وسنصف هذا بعد ذلك، إن شاء الله تعالى.
وغرضنا الآن أن نلحق عفوَ بعض الورثةِ في وجهٍ، بعفو الشفيع الواحد عن بعض حقه. ونلحقَ عفوَ بعض الورثة في وجهٍ بعفوِ واحدٍ من الشفعاء الذين استحقوا الشفعة لأنفسهم من غير وراثة. والتفصيل وراء ذلك بين أيدينا.
فصل:
4750- إذا كان بين رجلين دارٌ مشتركة، لكل واحد نصفُها، فباع أحدهما عُشرَ نصيبه من إنسانٍ، ثم باع تسعة الأعشار بعد الصفقة الأولى من رجلٍ آخر، فقد قال أبو حنيفة في هذه المسألة: للشريك الذي لم يبع أن يأخذ العشر الذي اشتملت عليه الصفقة الأولى، ثم الشريك القديم ومن اشترى العشر يشتركان في تسعة الأعشار؛ لأن بيع التسعة الأعشار جرى بعد ثبوت الملك في العشر لمشتريه، فاقتضى ذلك اشتراكهما في التسعة الأعشار. هذا مذهبُ أبي حنيفة.
فأما تفصيل مذهبنا، فحاصل ما ذكره الأئمة طريقان: منهم من قال: إن أراد الشريك القديم أخْذَ مضمون الصفقتين، كان له ذلك: العشر والتسعة الأعشار؛ فإن بيع المبلغين جرى وملك الشريك القديم سابق. وهؤلاء يخالفون مذهب أبي حنيفة، ويحتجون عليه بأن أخذ العشر المتلقى من الصفقة الأولى متفق عليه. وإذا أخذه الشريك القديم، استحال بعد زوال ملك المشتري أن يستحق الشفعة في التسعة الأعشار.
ولو عفا الشريك عن الشفعة في الصفقة الأولى وأراد أخذ التسعة الأعشار، فمشتري العشر قد استقر ملكه فيه، وجرى بيع التسعة بعد ملكه، فهل يزاحم الشريكَ القديم في العقد الثاني؟ فعلى وجهين: أصحهما- أنه يزاحمه؛ لأنّ ملكه في العشر قد تقرر، وكان متقدماً على الصفقة الثانية، وإذا كان صاحب العشر مع الشريك القديم شريكين عند العقد الثاني، وجب أن يشتركا في الشفعة.
والوجه الثاني- أن صاحب العشر لا يشارك الشريك القديم في العقد الثاني؛ لأن ملكه كان عرضة لأخذ الشريك القديم لما جرى البيع الثاني، ومستحق الشفعة الشريك القديم، فإذا كان ملكه عرضة لأخذ الشريك القديم وقت جريان العقد الثاني، استحال أن يزاحم بذلك الملك الشريكَ الثاني. نعم: لو عفا الشريك القديم عن الشفعة في العُشر، ثم جرى البيع الثاني، فلا خلاف أنهما يزدحمان في التسعة الأعشار.
هذه طريقة.
4751- ومن أصحابنا من قال: إن عفا الشريك بعد جريان العقد عن الشفعة في العُشر الذي اشتمل عليه العقد الأول، فصاحب العشر والشريك القديم يزدحمان في التسعة الأعشار وجهاً واحداً.
فإن أخذ الشريك القديمُ العشرَ بالشفعة، فهل للذي اشترى العشرَ أن يزاحم في التسعة الأعشار كما صار إليه أبو حنيفة؟ فعلى وجهين: أظهرهما- أنه لا يزاحم؛ لأن الشريك يأخذ العشر الذي اشتراه وفاقاً، فلا يبقى له مِلكٌ يزاحم به.
والوجه الثاني خرّجه القفال- أنه يزاحم في التسعة الأعشار، وإن أُخذ العشر الذي اشتراه؛ لأن ملكه كان ثابتاً لما جرى العقد الثاني، فاقتضى ثبوتَ حق الشفعة له، فلا يضر زوال ملكه بعد ذلك على قهر.
وكان القفّال يبني هذا التردد على أصلٍ، وهو أن بعض الشركاء في الدار إذا باع حصّته، ولم يُشعر شريكَه بذلك، ولم يعلم ثبوتَ حق الشفعة له، فباع ملك نفسه على جهلٍ منه باستحقاق الشفعة، ثم تبين له ثبوتُ حق الشفعة له، فهل نحكم بأن ما جرى من البيع في ملكه القديم عن جهلٍ وغِرّة يتضمن بطلان الشفعة؟ في المسألة قولان:
أحدهما: أن حق الشفعة يبطل؛ فإن الغرض من الشفعة دفع الضرار عن المالك كما فصلناه، فإذا زال الملك، فلا حاجة إلى الدفع، فأشبه ما لو باع على علمٍ بثبوت الشفعة.
والقول الثاني- أن حق الشفعة ثابتٌ، لا ينقطع بما جرى من البيع على الجهل.
ومما يجب الإحاطة به أن الشفيع إذا باع ملكه بعد الإحاطة بالشفعة، فحقه من الشفعة يبطل، وإن قلنا الشفعة على التأبيد، وشرطنا التصريح بالإسقاط، فبيع الملك على عمدٍ وعلمٍ يتضمن إسقاط الشفعةِ، على اتفاق بين الأصحاب، لم أعثر فيه على خلافٍ.
قال القفال: إذا أخذ العشرَ الذي اشتملت عليه الصفقةُ الأولى، فليس ذلك عن اختيارٍ من المشتري، فشابه ذلك ما لو باع الشريك ملكه على جهلٍ بثبوت الشفعة.
هذا حاصل القول في المسألة.
4752- فإن عفا الشريك القديم عن الشفعة في العشر، وجرينا على الأصح، وأثبتنا له المزاحمة في التسعة الأعشار، فكيف نقسمها بينهما؟ إن حكمنا بأن الشفعة تقسّم على الرؤوس، فتلك الشفعة تقسم بين الشريك القديم، وبين صاحب العشر نصفين، ولا حاجة إلى تصحيح ذلك بطريق الحساب. وإن أردنا التصحيحَ، لم يخف مُدركه.
وإن قلنا: الشفعة تقسم على الأنصباء وأردنا التصحيحَ والضبط، فالوجه أن نتخيل أصلَ المسألة، وهو عشرون لاشتمالها على نصف العشر؛ فإن الشريك الأول باع عُشراً من نصفه، وعشر النصف نصف العشر، فوضعنا المسألة من عشرين. النصف للشريك القديم: عَشَرة، وما سُلِّم لمشتري العشر سهمٌ، فبين الشريك القديم، وبين صاحب العشر أحدَ عشرَ سهماً، فتقسم التسعة على أحد عشر سهماً، فلا تنقسم. وإذا انكسر عدد على عددٍ، فالوجه في التصحيح ضربُ العدد الذي عليه الكسر في أصل المسألة، فنضرب أحدَ عشرَ في عشرين، فتردّ علينا مائتين وعشرين، وهذا المبلغ أجزاء الدار، النصفُ القديم منها مائة وعشرة، والذي سلم في الصفقة الأولى أحدَ عشرَ، بقي تسعة وتسعون. لصاحب نصف العشر تسعة، وللشريك القديم تسعون، فيخلص للشريك القديم ملكاً أصلياً ومأخوذاً بالشفعة مائتان، ويخلص للمشتري نصف العشر من الصفقة الأولى ومن الثانية عشرون.
ثم إذا تبيّنا هذا من طريق البسط، تلقينا منه نسبةً بيّنة، فالدار بين القديم وبين المزاحم على أحدَ عشرَ جزءاً، عشرة منها للشريك القديم، وواحد للمزاحم.
وما ذكرناه من فرض يتعين في العشر والتسعة الأعشار مع رجلين لو فُرِضا مع رجل واحد على الترتيب، فالترتيب في الصفقة الأولى والثانية في العفو، والأخذ، والمزاحمة، كالتفصيل في البيعين من شخصين في جميع ما ذكرناه. وهذا قد نعيده في آخر الكتاب عند جمعنا حيلاً في تعسير الشفعة على الشفيع، إن شاء الله تعالى.