فصل: فصل: يحوي قواعد من الشفعة، نحيل عليها تفريعات مسائل الكتابِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: يحوي قواعد من الشفعة، نحيل عليها تفريعات مسائل الكتابِ:

4753- فنقول: إذا ثبت حق الشفعة لرجلٍ واحد، فعفا عن بعض حقه، ففي المسألة أوجه مشهورة مذكورة في الطرق: أحدها: أنه يسقط جميعُ حقّه؛ فإن الشفعة لا تتبعض، فإذا وجب القضاء بسقوط بعضها، تداعى ذلك إلى أصلها، وهي شبيهة عند اتحاد المستحق بحق القصاص، إذا ثبت لواحد؛ فإنه لو عفا عن بعضه، كان كما لو عفا عن جميعه.
والوجه الثاني- أنه لا يلغو العفو عن البعض، ولا أثر له، والشفعة ثابتة بكمالها؛ فإن التبعيض إذا تعذر-وليست الشفعة مما يُدرأ بالشبهة- فالوجه تغليب ثبوتها.
وهذه الأوجه إنما يتسق جريانها إذا لم نقل بأن الشفعة على الفور. وسنذكر ترتيب الأصحاب فيها على قول الفور، إن شاء الله تعالى.
والوجه الثالث: أنه إذا أسقط بعضَ حقه، سقط ما أسقطه، وبقي ما أبقاه؛ فإنه حق مالي ولا يبعد تطريق الانقسام إليه.
قال الشيخ أبو بكر: هذا الوجه إنما يخرّج-على ضعفه- إذا رضي المشتري بأن تبعّض عليه الصفقة، فأمّا إذا أبى ذلك، وقال للشفيع: إما أن تترك الجميع، أو تأخذ الجميع، فله ذلك. وهذا الذي قاله حسن، لا يسوغ في القياس غيرُه، فإن تبعيض الصفقة على المشتري إضرار بيّن، وتعييب لما يبقى في يده.
وإن فرّعنا على قول الفور، فقد اختلف أصحابنا على طريقين: منهم من أجرى الأوجه الثلاثة على قول الفور، وصور العفوَ عن البعض مع البدار إلى طلب الباقي.
ومنهم من قطع بأنا إذا فرعنا على قول الفور، فالعفو عن البعض يُسقط الجميع؛ فإن ابتناءه على الفور على هذا القول، يشعر بتسرع السقوط إليه، وكان حَريّاً بمشابهة القصاص، وقد ذكرنا أن العفو عن بعض القصاص يُسقط الجميع.
4754- ومن الأصول التي نذكرها في هذا الفصل: أنه إذا ثبت في شقص واحدٍ شفيعان، فلو عفا أحدهما عن حقه، فكيف السبيل فيه؟ ذكر الشيخ أبو علي في شرح الفروع أربعةَ أوجه: أحدها: وهو الأصح المشهور أن حق العافي يبطل من الشفعة، ويثبت الحق بكماله للثاني. فلو أراد أن يأخذ بعضَ الشقص، وهو القدر الذي كان يخصه مع شريكه لو لم يعف، فليس له الاقتصار عليه، وللمشتري أن يقول: إما أن تأخذ الكل، وإما أن تدع. وهذا هو الذي قطع به شيخنا أبو محمد، والصيدلاني، وكل معتبر من أثبات النقلة. وتعليل هذا الوجه أنه إذا عفا أحدهما، جُعلَ كأنه لم يكن، وأُخرج من البَيْن، وقدر الثاني منفرداً باستحقاق الشفعة. وهذا هو الأصل، والمذهب.
وقد ذكر الشيخ أبو علي سواه ثلاثةَ أوجه: أحدها: أَنَّ الذي عفا قد سقط بعفوه نصف الشفعة، وثبت ذلك القدر للمشتري، ولو أراد الشفيع الثاني أن يأخذ جميع الشقص، لم يكن له ذلك، ولو أراد المشتري أن يُلزمه أخذ الجميع، لم يكن له ذلك. وهذا الوجه يوجّه بأن الحق ثبت لهما، وسقط سهمهُ بإسقاطه، وحقوق الأموال تقبل الانقسام.
والوجه الآخر أن أحد الشفيعين إذا عفا، سقط نصيبهما جميعاً بعفوه، وانقطعت الشفعة أصلاً، كما إذا ثبت القصاص الواحد لرجلين، فعفا أحدهما.
وهذا ضعيف جداً.
والوجه الثالث: أنه لا يسقط حق من لم يعف، ولا يسقط حق من عفا أيضاًً؛ فإن الشفعة لا تقبل الانقسام، فإذا كان حق من لم يعف ثابتاً؛ من جهة تشميره في طلبه، فحق صاحبه بمثابة حقه، فينبغي أن يغلّب جانب الثبوت على إخالة القول بالتبعيض، ويخرج من مجموع ذلك إلغاء عفو العافي.
فهذا الذي ذكره ثلاثة أوجه، وإذا ضممناها إلى ما هو المذهب، كان المجموع أربعة أوجه.
4755- وليقع التفريع بعد هذا على الوجه الأول، الذي هو المذهب.
قال الشيخ: هذا الذي ذكرناه فيه إذا ثبتت الشفعة لرجلين ابتداء، فأما إذا ثبتت الشفعة لرجل واحد، فمات، وخلّف وارثَيْن، فعفا أحدهما، قال: اختلف أئمتنا على طريقين: منهم من قال: هذه المسألة تجري مجرى المسألة الأولى، وهي إذا ثبتت الشفعة ابتداءً لرجلين، فعفا أحدهما.
ومن أصحابنا من قال: هذه المسألة تنزل منزلة ما لو ثبتت الشفعة لرجلٍ واحد، فعفا عن بعضها.
وحقيقة هذا الخلاف ترجع إلى ما قدمناه من أن الوارث يأخذ الشفعة لنفسه أو
يأخذها للمورث. فإن قلنا: يأخذها لنفسه، فالورثة بمثابة الشفعاء على الابتداء.
وإن قلنا: إنه يأخذها للمورث، فهو واحد، والتفصيل فيه كالتفصيل في تصرف الشفيع الواحد.
4756- ومما يتعلق بهذا الأصل أنه لو كانت الدار مشتركة بين ثلاثة، فباع أحد الشركاء نصيبه من أحد الشريكين، فللشريك الذي لم يشتر حقُّ الشفعة، ولكن هذا المشتري يقول: كما ثبتت الشفعة لك لشركتك، فكذلك ثبتت لي، فإني شريكٌ مثلك، فالذي اشتريته، فهو بيننا لحق الشفعة. قال الأصحاب: للمشتري ذلك.
وقال ابن سريج: لا شفعة للمشتري؛ فإن الشفعة في الشرع أثبتت جلباً للملك، ولو أثبتنا المشتري شفيعاً، لكان مستبقياً للملك بالشفعة، وهذا يخالف موضوعَ الشرعِ في قاعدة الشفعة، فعلى المشتري أن يسلم على رأي ابن سريج تمامَ الشقص الذي اشتراه للشريك الذي لم يشتر.
ولو باع بعضُ الشركاء بعض حصته، ثم لما طلب سائر الشركاء الشفعة قال البائع: قد بقي لي شِرْكٌ في الدار، فأنا أساهمهم فيما بعت لحق الشفعة، فليس له المساهمة عند الكافة. والفرقُ بين الشراء والبيع أن المشتري جالبٌ، والشفعة جلبٌ، فالمسلكان متوافقان والبيع إزالة، فلم يستقم أن يُقْدمَ على الإزالة، ويُلزمَها بطريق إلزامها، ثم يبغي الاسترجاع من عين ما أزال. وباع.
فإذا فرعنا في مسألة الشراء على الأصح، وقلنا: إن المشتري له حق الشفعة، فلو قال الشفيع: خذ جميع الشقص، فقد تركت حق الشفعة. فإما أن تأخذ أنت الشقص المشترَى بكماله، أو تدع، فظاهر المذهب أنه ليس للمشتري ذلك بخلاف ما لو ثبت في الصفقة شفيعان، وليس أحدهما مشترياً؛ فإنا على المذهب المعتبر نجوّز لأحدهما أن يترك الشفعة إلى صاحبه، ثم الحكم على المتروكِ عليه أن يأخذ الكل، أو يدع الكل.
والفرق بين الشفيع الذي ليس مشترياً وبين الشفيع في مسألتنا أن الشفيع الذي ليس مشترياً جالب على الحقيقة، فلا يتحتم عليه الطلب، والمشتري إنما جلب الملك بطريق الشراء، فليس له أن يكلف صاحبه استخراج الملك عن حكمه، وهو لو ترك، كان تاركاً ملكاًً لزم له بالشراء، فلذلك لم يجز، وكان شفيعه على أخذِ محض حقه.
وذكر الشيخ أبو علي وجهاًً عن بعض الأصحاب أن المشتري إذا ترك حقه من الشفعة في استبقاء ما اشترى، فيجوز ذلك، ثم يتوجه في ظاهر المذهب على الشفيع الذي ليس مشترياً أن يأخذ جميع الشقص أو يدع قياساً على الشفيعين اللذين ليس أحدهما مشترياً. وهذا بعيد. والوجه ما ذهب إليه عامة الأصحاب. هذا مقصود الفصل.
فرع:
4757- إذا وجد الشريك في الدار نصيب شريكه في يد أجنبي، وألفاه متصرفاً فيه، وزعم أنه اشتراه من شريكه، وكان ذلك الشريك غائباً، فهل يجوز للشريك الحاضر أن يأخذ ما صادَفه في يده بحكم الشفعة، بناء على تصديقه فيما ادعاه من الشراء؟ فعلى وجهين:
أحدهما: ليس له ذلك ما لم يتحقق عنده الشراء من جهةٍ أخرى.
والوجه الثاني- وهو الأظهر أن له أن يعوّل على قوله؛ فإن أحكام البياعات يعتمد معظمُها قولَ من يُتلقى الملك منه، فإذا قال هذا المتصرف: قد ملكت بالشراء، فبناء الشفعة على قوله بمثابة بناء الشراء على قوله. ولا خلاف أنه يجوز الشراء منه تعويلاً على قوله: اشتريت. ثم إذا رجع الغائب، فإن صدّق صاحبُ الملك ما ادّعاه صاحبُ اليد من الشراء، نفذت الشفعة. وإن كذبه، فالقول قوله حينئذٍ في تكذيبه مع يمينه، فإذا انتهت الخصومة معه، رددنا الشفعة عوداً إلى قول الشريك الراجع المكذب.
فصل:
قال الشافعي: "فإن حضر أحد الشفعاء أخذ الكل بجميع الثمن... إلى آخره".
4758- نصور المسألة فيه إذا كانت الدار بين أربعةٍ، فباع واحد منهم، فالثلاثة الباقون شفعاء، ثم لا يخلو إما أن يكونوا حضوراً، أو غُيَّباً، فإن كانوا حضوراً، أخذوا بالشفعة، ويقسم الربعُ المبيع بينهم بالسوية، والمسألة مفروضة في استوائهم في الحصص.
وإن تركوا الشفعة، جاز، وسلم للمشتري ما اشتراه.
وإن طلب بعضهم الشفعة وعفا البعض، فقد ذكرنا كلامَ الأصحاب في هذا الطرف، وأوضحنا أن المذهب الظاهر أن الذي لم يعفُ يأخذ الكل إن شاء، أو يدع.
فإن قال: آخذ ما يخصني عند المزاحمة، لم يكن له ذلك. هذا ظاهر المذهب.
4759- ولو كان الشفعاء غُيّباً لمّا جرت الصفقةُ، فلو حضر واحد منهم، وطلب الشفعةَ، فله ذلك، وليقع البناء على ظاهر المذهب فيه إذا حضر، كما أعدنا المذهب فيه الآن، فنقول في هذا الآيب الراجع: خذ الشقص بتمامه، وابذل جميعَ الثمن للمشتري، ليس لك إلا هذا إن أردت الشفعة. فلو قال: آخذ ما يخصني عند المزاحمة وأترك نصيب صاحبيَّ الغائبين، لم يكن له ذلك. وللمشتري أن يقول: لا آمن ألا يحضر صاحباك أو يحضرا ولا يرغبا في الشفعة، فتتبعض الصفقة عليَّ.
هذا حكمنا في الأول إذا حضر. فلو أخذ تمام الشقص بتمام الثمن، ثم رجع الثاني، فله أن يقول للأول: "أنا وأنت بمثابة واحدةٍ في استحقاق الشفعة، وعودُ الثالث مغيّبٌ، قد يكون وقد لا يكون، فينبغي أن نستوي"، فهذا الكلام الذي أبداه حق، ولابد من إجابته إلى ملتمسه، فعلى الأول إذن أن يشاطره، ثم الثاني يبذل نصف الثمن، ويسترد نصف الشقص.
فإذا عاد الثالث وهو على الطّلب، فإنَّه يأخذ من كل واحد من الأول والثاني ثلثَ ما في أيديهما، ويبذل مقدار ما يأخذ من الثمن.
هذا هو الترتيب في قاعدة المذهب.
فلو حضر الأول، وقال: أنا آخذ نصيبي، وأتوقف في نصيب صاحبيّ؛ فإني لو أخذتُ الجميع، لكان الظاهر أن ينقضا عليَّ. فإذا فرعنا على قول الفور، وجرينا على ظاهر المذهب الذي جعلناه قاعدة الفصل، فالمشتري لا يجيبه إلى ما يبغيه من قبض البعض؛ فإن هذا يفرّق الصفقة عليه في الحال. وهل يُجعل توقف هذا الراجع في أخذ الكل تقصيراً منه مبطلاً لحق شفعته رأساً؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون:
أحدهما: أنا نجعل هذا التوقف-على قول الفور- مبطلاً لحقه من الشفعة؛ فإنه يتمكن في الحال من أخذ الجميع، فتركه ما هو متمكن منه لتوقع أمرٍ- مبطلٌ لحقه.
هذا اختيار ابن أبي هريرة.
والوجه الثاني- لا يبطل حقه، وينتصب ما أبداه من توقع استرداد ما يأخذ منه عذراً
في التأخير. ثم محل عذره في حق صاحبيه ثلثا الشقص، والثلث منه يمتنع عليه أخذه بسبب امتناع المشتري من تبعيض الصفقة عليه، فانتظم في الجميع عذرٌ في التأخير.
هذا مذهب أبي إسحاق المروزي.
فإن قلنا: بطلت شفعته بهذا التأخير، فهذا جريانٌ على ظاهر المذهب، فنجعل تقصيره بمثابة تصريحه بالعفو، وقد ذكرنا في تصريح بعض الشفعاء بالعفو عن نصيبه الأربعةَ الأوجه. ونحن وإن كنا نجري مقصود كلّ فصلٍ على ظاهر المذهب، فنشير في الأثناء إلى ما سواه، حتى لا تنسل الوجوه البعيدة عن ذكر الناظر في الفصل وفكرِه. ونعود بعد التنبيه إلى الفصل فنقول: إن قلنا: بطلت شفعته بهذا التأخير، فإذا حضر صاحباه أخذا جميع الشقص، واقتسماه نصفين، على المذهب، ويخرج الأول من البين.
وإن قلنا: لم يبطل حق الأول، فإذا حضر صاحباه، فإن طلبا الشفعة، فإنهم يقتسمون الشقص بينهم بالسويّة، وإن عفا في الحضور بعضُهم، فقد مضى فيه الأوجه الأربعة.
4760- ومما يتعلق بهذا الفصل أنه لو حضر الأول، وأخذ تمام الشقص، كما رسمناه، ثم حضر الثاني، وكان حقه أن يشاطر الأول، فلو قال: أنا أقنع بمقدار حقي، وهو ثلث الشقص، وأترك نصيب الغائب على الذي رجع أولاً؛ فإني لو أخذتُ النصف، لنقض عليَّ الثالثُ إذا عاد ثلث ما في يدي، فلست أرغبُ أن آخذ ما سيؤخذ مني، فإذا بقي على هذا التقدير الثلثان في يد الأول، وقبض الثلثَ، وبذل مقداره من الثمن، فإذا رجع الثالث، فقد قال ابن سريج: للثالث أن يقول للثاني: تركت ما تركت عافياً مُخلاً بحق نفسك، وجرى ذلك على الشيوع ولي مما في يدك الثلث، فيأخذ منه ثلث ما في يده، ثم يأتي إلى الأوّل ويقول: أضمُّ ما أخذتُه من الثاني إلى ما بقي في يدك، ونشترك فيه، ونقتسمه نصفين بيننا. هذا هو الذي رآه ابن سريج.
وإذا أردنا تصحيحَ هذا الحساب طلبنا عدداً له ثلث ولثلثه ثلث، ثم أقله تسعة، فنصرف ستة منها إلى الأول، وثلاثة إلى الثاني ثم ينتزع الثالث من يد الثاني واحداً فيضمه إلى الستة في يد الأوّل، فتصير سبعة، ثم السبعة لا تنقسم على اثنين، فتضرب اثنين في أصل المسألة، وهو تسعة فتصير ثمانية عشر، وقد كان للثاني من التسعة اثنان، فنضربهما في المضروب في المسألة فيرد علينا أربعة، وهي حصة الثاني، فتبقى أربعة عشر، تقسمه بين الأول والثالث، فلكل واحد منهما سبعة. وإذا كان ربع الدار ثمانية عشر، فجملتها اثنان وسبعون، فهذا وجه القسمة عند ابن سريج.
قال القاضي: لما ترك الثاني على الأول سدساً، كان ذلك عفواً منه في بعض الحق، والشفيع إذا عفا عن بعض حقه، فإنا في ظاهر المذهب نُبطل جميع حقه، فيخرج منه أنه يسقط حق الثاني بالكلية. ويقسم الشقص نصفين بين الأوّل والثالث.
وهذا الذي قاله متجه في قياس الشيوع.
وابن سريج بنى مذهبه الذي قدّمناه على تقدير العفو، وعليه قال: للثالث أن يقول للثاني: إن أسقطت حقك، لم يسقط حقي ممَّا في يدك.
وحقيقة هذه المسألة عندنا تبتني على الوجهين المقدّمين في أن الأول لو رجع وقال: لا آخذ إلا نصيبي، وأتوقف في نصيب صاحبي، فقوله هذا هل يكون تقصيراً منه مبطلاً لحقه؟ فإن جعلنا هذا تقصيراً، اتجه ما قاله القاضي من سقوط حق الثاني.
وإن قلنا: نعذر الأول في توقفه، ولا نجعل ذلك عفواً منه، فإذا قال الثاني: تركت عليك نصيب الثالث، فيكون معذوراً، ولا يكون ما صدر منه عفواً. فعلى هذا لا يملك الثالث أن يحط نصيب الثاني من الثلث، ويرجع القول إلى اقتسامهم في آخر الأمر الشقص أثلاثاً بينهم. وهذا متجه حسن.
فانتظم إذاً في المسألة ثلاثة أوجه في حق الثاني: أحدها: مذهب ابن سريج.
والثاني: مذهب القاضي، والثالث: اقتسام الثلاثة آخراً بالسوية أثلاثاً.
4761- ومما فرعه العراقيون في أطراف المسألة أن الأول لو أخذ الكل كما رسمناه، ثم شاطره الثاني، ثم عاد الثالث، ولم يظفر إلا بأحدهما، فلو قال له:
لست أظفر إلا بك، ولا فرق بيني وبينك، فأشاطرك فيما في يدك ثم ننظر ما يكون، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين ذكروهما:
أحدهما: له ذلك، وهو قياس أرشد إليه ما حكيناه من صيغة قول الثالث، فإن مبنى هذه المسألة على استواء الشفعاء آخراً، وبناء الأمر على ترك التبعيض على المشتري.
والوجه الثاني- أنه ليس له أن يأخذ ممّا ظفر به إلا الثلث؛ فإن باقي حقه في يد الآخر، فليس له مؤاخذة هذا الحاضر بما هو في يد غيره.
4762- ومما يتعلق بتمام البيان في الفصل أن الأول لما أخذ جميع الشقص، فلو انتفع بما أخذه، وأخذ من ثمرة الأشجار، وغَلة الأرض ما أخذ، فإذا رجع الثاني وشاطره، فإنه يشاركه في المنفعة من وقت المشاطرة، ولا يسترد منه شيئاًً مما أخذه؛ إذ كان منفرداً. والسبب أن الأوَّل لما أخذ الكل ملكه ملكاً محققاً، ولم نقل ملكه موقوف على ما يبدو من عفو صاحبيه. وكيف يستأخر وقد بذل جملة الثمن، وزال ملك المشتري عن الشقص. ويستحيل أن يملك لصاحبيه من غير توكيلهما. فإذا تحقق زوال ملك المشتري، ولم يكن الأول وكيلاً لصاحبيه، فلا طريق إلا الحكمُ بثبوت الملك للأول، ثم هو عرضة النقض ابتداءً وافتتاحاً في نصيب صاحبيه، وهذا يقتضي صرفَ المنفعة إليه في زمان الانفراد؛ إذ هو في حقهما بمثابة المشتري في حق الشفيع.
ثم لو انتفع المشتري قبل أن يتفق أخذُ الشفيع، فذاك الذي يأخذه غيرُ مسترد منه، ثم إذا جاء الثاني وشاطر، فإنه يشارك في شطر المنفعة من وقت المشاطرة، ثم الثالث يشارك في ثلث المنفعة من وقت المثالثة.
هذا ترتيبٌ مجمع عليه، وهو يرشد إلى ثبوت الملك للأوّل في الجملة تحقيقاً، وكذلك القولُ في الثاني، ثم القرار على الأثلاث في آخر الأمر.
4763- وممّا يتعلق بما نحن فيه أن الأول بذل الثمن للمشتري فعهدته عليه، والثاني يبذل شطر الثمن للأول، فعهدته على الأول، والثالث يبذل الثمن للأول، والثاني، فعهدته عليهما، وسنعيد هذا الفصل بعينه في فصل العهد إن شاء الله تعالى.
فصل:
قال: "وكذلك لو أصابها هدم من السَّماء... إلى آخره".
4764- نقل المزني عن الشافعي أن الدار إذا انهدمت بعد ثبوت حق الشفعة، فالشفيع يأخذ الكل بكل الثمن، ونقل الربيع أنه يأخذ الباقي بحصته من الثمن.
وقد اضطربت طرق الأصحاب، وأتى بها الباقون على خبطٍ لا يُجدي فائدة، ولا يوضح مقصوداً، والفصل يعترض فيه أمران:
أحدهما: أن الدار إذا انهدمت، التحق النقض بالمنقولات، وأَخْذُ المنقول بالشفعة بعيد، ولكن جرى هذا بعد استحقاق الشفعة، فأثار تردّداً ويعترض في المسألة أيضاًً أن النقض إذا تلف، ولم نر أخْذَه، فالشفيع يأخذ العرصة، وما بقي من البناء بكل الثمن أو بقسطه؟ وهذا يُفضي إلى تردُّدٍ أيضاًً.
4765- والوجه الاقتصار على طريقةٍ تحوي الغرض، وتشتمل على وجه البيان في الأطراف، فنقول: إن ارتجت الدار وتزلزلت، ولم تنهدم ولكن ظهر فيها فطور، وتكسّر، فهذا تعيّبٌ في الشقص المشفوع، ولا نقض، فالشفيع بالخيارِ إذا جرى ذلك في يد المشتري بين التَّرْك والأخذ بكل الثمن. وهذا بمثابة ما لو تعيب المبيع في يد البائع، فالمشتري بالخيار بين إجازة العقد بجميع الثمن، وبين رد المبيع واسترداد جميع الثمن.
وإن سقط السقف أو بعض الجدران على الأرض فلا يخلو النقض إمّا أن يكون قائماً أو تالفاً، فإن تلف النقضُ، فهذا يبتني على أصلٍ، وهو أن أجزاء البناء تجري من الدار مجرى الصفات، أو تجرى مجرى الأعيان؟ وفيه جوابان ظاهران ذكرهما القاضي والأئمة:
أحدهما: أنها تجري من الدار مجرى الصّفات، وهي منها بمثابة الأطراف من العبد، ولو سقطت أطرافُ العبد في يد البائع، لم يُسقط من الثمن شيئاً، ولم يثبت للمشتري إلا الخِيَرةُ في الإجازة بالكل والفسخ، واسترداد الثمن. هذا أحد الوجهين. وهذا القائل يقول: إذا انهدمت الدار المبيعة، وتلف نقضها، أو بعضُ نقضها في يد البائع، فالمشتري بالخيار بين الرد والإجازة بجميع الثمن، كما ذكرناه في أطراف العبد، فعلى هذا نقول في مسألتنا: يأخذ الشفيع بكل الثمن إن شاء، فإن أحب أعرض.
والوجه الثاني- أن أجزاء البناء تجري مجرى الأعيان المقصودة حتى، إذا انهدمت الدار في يد البائع، وفات النقض، جعلنا فوات النقض بمثابة تلف أحد العبدين قبل القبض، إذا كان المشتري اشترى عبدين، فتلف أحدهما؛ فإنه يأخذ العرصة بحصتها من المسمى في ظاهر المذهب، كما فصلنا ذلك في تفريع تفريق الصفقة، والغرض إلحاق أجزاء البناء بأحد العبدَيْن، والثوبين، كما ذكرناه. فعلى هذا يأخذ الشفيع العرصةَ بحصتها من الثمن، كما لو اشتملت الصَّفقةُ على شقص وسيف، فالشفيع يأخذ الشقص بقسط من الثمن.
هذا كله إذا كان النقض فائتاً.
4766- فأما إذا كان النقض قائماً، فهل للشفيع أخذ النقض؟ فعلى وجهين، أو قولين؛ أخذاً للتردد من النَّصيْن:
أحدهما: لا يأخذ النقض؛ لأنه منقولٌ ولا يُستحق المنقول بالشفعة.
والثاني: أنه يأخذه؛ فإن ذلك جرى بعد تعلّق الشفعة، وتأكدها، فصار كما لو أخذ الشقص بالشفعة، ثم فرض الانهدام، وليس هذا كالشقص والسيف إذا اشتمل العقد عليهما؛ فإن الشفعة لم تتعلق إلا بالشقص وحده.
التفريع:
4767- إن حكمنا بأن الشفيع يستحق النقضَ، رجع الكلام إلى التعيب بالانهدام، وقد فصلناه، فنقول للشفيع: إن أردتَ الأخذَ، فخذ العرصة والنقضَ بتمام الثمن، وإلا، فأعرض.
وإن قلنا: يخرج النقض عن الاستحقاق، فإن جعلنا أجزاء البناء بمثابة أحد العبديْن، أخذ الشفيع العرصة، وما بقي ثابتاً من البناء بقسطه من الثمن، وإن لم نجعل أجزاء البناء بمثابة أحد العبدين، بل جعلناها أوصافاً، فإذا قطعنا استحقاق الشفيع عن النقض، وبقَّيناه على ملك المشتري، فهل يأخذ الشفيع ما بقي بقسطه، أو يأخذ بالتمام؟ فعلى وجهين:
أحدهما:وهو ظاهر القياس- أنه يأخذ بالتمام؛ فإنا نفرع على أن أجزاء البناء صفةٌ.
والثاني: أنه يأخذ بالقسط.
وإن فرعنا على أن البناء صفاتٌ، والسَّبب فيه أنا نُبقي النقضَ-وقد كان من الدار- ملكاًً للمشتري، فيبعد أن يبقى في يده ما هو مملوك، ويغرم الشفيع تمامَ الثمن.
ورب قولٍ يعسر طردُ قياسه لأمر يعترض. وهذا من ذاك، فليفهم الناظر، وليفرق بين بقاء النقض للمشتري وبين تلفه بآفة سماوية.
والقائل الأول يُلحق النقضَ وقد بقي للمشتري بالثمار، والزوائد التي يستفيدها المشتري قبل قبض الشفيع.
ولو تلف النقض بإتلاف أجنبي، فإن قلنا: النقضُ حق الشفيع غرِم المتلف قيمةَ النقض، وأخذ الشقصَ بتمام الثمن. وإن قلنا: للمشتري النقضُ، فقيمة النقض على المتلف للمشتري. وهل يأخذ الشفيع ما بقي بتمام الثمن، أو يأخذه بقسطه؟ فعلى التردد الذي ذكرناه في بقاء النقض، مع البناء على أصلين:
أحدهما: أن الشفيع لا يستحق النقضَ، والثاني: أن الأجزاء صفاتٌ، وليست أعياناً في تقدير العقد.
ومن قال مع هذين الأصلين بالرجوع إلى التفصيل، فهذا يُناظر أصلاً ذكرناه لابن سريج، وذلك أنه قال: إذا رأينا مقابلةَ أطراف العبد بالمقدَّرات نضطر إلى نقض هذا الأصل فيه، إذا قطع المشتري يدي العبد؛ فإنا لو جعلناه قابضاً لجميع العبد، والعبد بعدُ في يد البائع، لكان ذلك محالاً، فيرجع في هذا التفريع إلى قول اعتبار النقصان. كذلك يبعد أن يبقى النقضُ ملكاً للمشتري، ويغرَم له الشفيع تمام الثمن، فيرجع هذا القائل لهذه الاستحالة من قول الصفة إلى قول الجزء في هذه الصورة المخصوصة.
وهذا نجاز الفصل بجميع ما فيه.
فصل:
قال: "ولو قاسم، وبنى، قيل للشفيع: إن شئت، فخذ بالثمن وقيمة البناء... إلى آخره".
4768- المشتري إذا بنى بعد جريان القسمة، أو غرس، ثم جاء الشفيع، وطلب الشفعة، فإنه لا ننقض غِراسه وبناءه مجاناً، خلافاً لأبي حنيفة.
ومعتمد المذهب أن المشتري بنى وله البناء، وصادف تصرفُه ملكَه، فكان بناؤه محترماً، والبناء المحترم لا يُحبط على الباني. ثم تفصيل المذهب في البناء والغراس، كتفصيل المذهب فيهما إذا صدرا من المستعير في الأرض المستعارة، ثم للمعير أن يرجع في العاريّة.
وقد تقصَّينا هذا على أحسن مساقٍ في كتاب العواري، وأوضحنا أن مالك الأرض يتخير بين ثلاث خلال: إحداها- أن يقوّم عليه البناء والغراس. والثانية- أن يبقيها ويُلزمَ المستعيرَ أجر المثل في مستقبل الزمان. والثالثة- أن ينقضها ويغرَم ما ينقُصه النقضُ، فالشفيع مع المشتري في تفصيل هذه الخلال، بمثابة المعير مع المستعير.
وقد ذكرنا أن المستعير لو زرع الأرض المستعارة بإذنٍ، لم يقلع زرعُه في أصْل المذهب، وأشرنا إلى تردُّدٍ في أنه إذا رجع عن العاريّة هل يغرَم المستعير أجر المثل في بقية المدة؟ والذي قطع به أئمتنا أن المشتري إذا زرع الأرض، ثم أخذ الشفيعُ الشقصَ، فلا شك أن زرعه لا يقلع، ولا يلزمه الأجرة؛ فإنه كان تصرف في ملكه، وليس كالمستعير مع المعير؛ فإن انتفاع المستعير كان يعتمد إباحةَ المعير، وقد انقطعت بالرجوع. وألحق الأئمةُ سقوطَ الأجر في الزرع عن المشتري بما لو باع الرجل أرضاً مزروعة، فإذا صححنا البيع، فليس على بائع الأرض أجرُ الأرض من وقت البيع إلى الحصد. وفي كلام صاحب التقريب ما يدل على إلحاق المشتري بالمستعير في أجرة الأرض المزروعة. وهذا غير بعيد في القياس، وإن كان بعيداً في النقل؛ وذلك أن المشتري زرع الأرضَ، والشفعةُ متعلقة بها، بخلاف من زرع أرضه الخالصة، ثم باعها؛ فإنه لم يكن على بائع الأرض في وقت الزرع استحقاق. وهذا بيّن من هذا الوجه.
4769- ثم إن المزني لما نقل من نص الشافعي البناء والغراس، أخذ يعترض ويقول: هذه المسألة لا تتصور على مذهب الشافعي؛ لأن المشتري لو بنى قبل القسمة، فهو متعدٍّ غاصب، لأنه بنى في ملك الغير، فيقلع عليه مجاناً، وإن فرض البناء بعد القسمة، فالقسمة والمفاصلة تُبطل الشفعة، فكيف ينتظم بقاء الشفعة مع جريان البناء والغراس بعد القسمة.
فقال الأصحاب: يمكن تصوير القسمةِ من وجوه، مع بقاء الشفعة، فمنها: إذا قيل للشفيع: اشترى فلانٌ الشقص بألف، فرغب الشريك عن طلب الشفعة، ورأى الثمنَ فوق المقدار الذي هو ثمن المثل، فلو قاسم المشتري، ثم بان أنه كان اشترى الشقصَ بخمسمائة، فللشفيع حقُّ الشفعة، وتلك القسمةُ لا تُبطل الشفعةَ؛ لأنه أقدم عليها على تقدير زيادةٍ في الثمن، وقد بان الأمر بخلاف ما قدّر.
ومما ذكره الأصحاب في وجوه القسمة، أن الشريك إذا رأى الشقصَ في يد إنسان، فقال: اتَّهبتُه، وصدَّقه، وقاسمه، ثم بان أنه اشتراه، فالشفعة ثابتة، والقسمة صحيحةٌ.
ومن الوجوه ما لو غاب عن البلد، ووكّل من يقاسم شريكَه، ومن يشتري من شريكه، فقاسم وكيلُه، صحت القسمةُ، وله الشفعة إذا رجع، والإذن في المقاسمة لو وقع بعد ثبوت الشفعة والعلم بها، لكان مبطلاً للشفعة، ولكن إذا تقدم التوكيل بالمقاسمة على جريان البيع، كان لتصحيح الوكالة وجه على رأي من يرى تعليقها.
والشفعة لا تسقط؛ فإن الإذن تقدَّم على ثبوتها.
ولو علق الشريك العفوَ عن الشفعة بوجود الشراء قبل وجوده، لم ينفذ العفو عند وجوده.
ومن الوجوه أن يرفع المشتري العقدَ إلى مجلس الحاكم، ولا تبين حقيقة الحال، ويقول: هذه الدار مشتركة بيني وبين غائب، وأنا أريد القسمة، فعلى الحاكم أن ينصب قيّماً عن الغائب، ليقاسمه، وليس على القاضي طلبُ الشفعة له، لأنه استحداث تملك، فلا يليه على غائب.
ومما ذكره الأصحاب أن المشتري لو وكل البائع بالمقاسمة، ولم يشعر الشريك بحق الشفعة، فقاسمه البائع على تقدير أنه باقٍ على حقيقة ملكه، ثم بان له حقيقة الحال ثبتت الشفعة.
فهذه وجوه صوّرها الأصحاب في القسمة، وقضَوْا بأن الشفعة تبقى معها.
وبحقٍّ تمارى المزني في تصوير المسألة.
والذي نراه أن كلَّ قسمة تولاها الشريك، أو وكيلٌ من جهته، وبناها على عدم العلم بالشفعة، فتلك القسمة صحيحة، وعدم علم المالك بثبوت حقٍّ له لا يتضمن ردَّ تصرفٍ أنشأه على اختيارٍ، وهو نافذ التصرف، والإشكالُ في ثبوت الشفعة مع صحة المقاسمة، فإن المقاسمة قاطعةٌ لعلة الشفعة، وكل ما قطع مقتضى الشفعة قبل التملك بها يقطعها، ولهذا كانت الشفعة عرضةَ السقوط على قول الفور بتأخير لحظة.
ومعتمد الأصحاب في الشفعة مختلَفٌ فيه، فمنهم من اعتبر مؤنةَ المقاسمة وإفرازَ المرافق، وقد انفصل الأمر بوقوع القسمة، ومنهم من اعتبر المداخلة والتضييق، وقد زال هذا المعنى بصحة القسمة.
وإذا كانت الشفعة تسقط بالرضا بالضرر، فتسقط بانقطاع الضرر.
4770- والذي نحققه أن الشفيع يأخذ ملكاً مجاوراً أو شائعاً، فإن كان يأخذ ملكاًً مجاوراً، فهذا بعيد عن مذهب الشافعي، وإن كان يأخذ ملكاً مشاعاً، فلا قسمة إذاً، والبناء تبين وقوعُه في مشاع، فيجب منه سقوطُ حرمته، وليس كالمستعير؛ فإنه يغرس بإذن المالك على بصيرةٍ، وهاهنا لم يجر إذنٌ في البناء، وإنما جرت مقاسمة، فإن صحت، فلاَ شفعةَ بعدهَا، وإن بطلت، لم تقتض جوازَ البناء.
وأقصى الإمكان في ذلك أن نجعل جريان القسمة مع الحكم بالصحة، بمثابة زوال ملك الشفيع عن الشرك القديم، وهو غير عالم بثبوت الشفعة، وقد ذكرنا قولين في ذلك، ولعلنا نعود إليهما من بعدُ، والجملة في ذلك أن الشفعة عمادُها ملكُ الشفيع، والشيوعُ، ثم في بقاء الشفعة مع زوال الملك قولان، فيجب إجراء القولين في زوال الشركة.
وهذا بمثابة اختلاف القول في أن الأمَة إذا عتقت تحت زوجها العبد، ثم لم تشعر حتى عَتَق الزوجُ، ففي بقاء خيارها قولان.
ويلتحق بهذا الفن زوال العيب القديم في يد المشتري، قبل بطلان حقه من الرد.
ولو قلنا: القياس في هذه الأصول تغير الأحكام بهذه الطوارىء، لم يكن قولنا هذا بعيداً؛ فإن ما ينافي في أصل وضعه ثبوتَ شيءٍ ودوامَه على علمٍ، فوقوعه على الجهل كوقوعه على العلم.
هذا منتهى النظر في ذلك.
4771- وفي النفس بعدُ بقيةٌ، فلعل الشافعي يرى دوام الشفعة إذا انتهى الشيوع إلى الجوار على صفة الغرور، وقطعُه بهذا مع قطع الأصحاب بعد المزني يُشعر به، فإن كان هذا مذهباً، اعتقدناه، واتبعناه، وانتظم من أصلنا أن الشفعة تبقى مع زوال الشيوع، إذا كان زوالها على الوجوه التي ذكرناها، ويبقى معه أن الضابطين وأصحاب الاستثناء، لم يصرحوا بهذا وأبهموه، والرأي وراء ذلك مشترك؛ فإن سنح لأحد بعدنا أمرٌ، فليلحقه بالكتاب.
وما ذكره الأصحاب من قسمة القاضي، ففيها نظر عندنا، ولسنا نؤثر الخوض فيها الآن؛ فإنها من أحكام القضاة. ونحن نستوفق الله تعالى، وننتهي من أحكامهم إلى مبالغ لم نسبق إليها. وغرضُ الفصل يتم بما سلّفناه من القسم في الأمثلة السابقة.
فصل:
قال: "ولو كان الشقص في النخل فزادت... إلى آخره".
4772- الزيادات الحادثة في يد المشتري تنقسم ثلاثة أقسام: أحدها: الزياداتُ المتصلة: ككبر الوديِّ وسوق النخيل، فلا أثر لها، والشفيع يأخذ الأصول معها، ولا يلتزم للمشتري بسببها مزيداً، وإن كانت الزيادات حاصلة بتنمية المشتري وتعهده.
والقسم الثاني- زيادة منفصلة تخلصُ للمشتري، وهي كالثمار تحدث في يد المشتري فيجُدُّها أو يؤبّرها، ثم يبتدىء الشفيع طلبَ الشفعة، فتيك الثمار تبقى للمشتري. وإن كانت موجودة حالة العقد، لم يتعلق بها استحاق الشفيع، إذا كانت بارزة مُؤبرة مُدْخلة في العقد بالتسمية؛ فإنها إذا كانت كذلك، التحقت بالمنقولات، ولو كانت غير مؤبرة حالةَ العقد، وقد دخلت تحت مطلق تسمية المبيع، ثم أبرت، انقطع عنها حقُّ الشفيع، إذا جرى التأبير قبل أخذه.
وفي هذا بقية سنوضحها آخر الفصل، إن شاء الله تعالى.
والقسم الثالث: زيادة اختلف القول فيها، وهي الثمرة قبل التأبير، فإذا ظهرت الثمرةُ في يد المشتري، ولم تؤبر، حتى أخذ الشفيع المشفوعَ، فالمنصوص عليه في الجديد أن الثمار للمشتري، لا حظ للشفيع فيها، كما إذا أبرت. وقال في القديم: هي للشفيع على سبيل التبع.
وهذان القولان يجريان في المشتري إذا أفلس، وقد أطلعت النخيل المشتراة، ولم تؤبر، فالبائع هل يرجع في الثمرة أو تخلصُ للمشتري وغرمائِه؟ فعلى قولين.
ولو أطلعت النخيل الموهوبة، ولم يؤبر الطلع، وقد تلف الإطلاع في يد المتهب، فعلى هذين القولين.
وإذا ردّ المشتري النخيل بعد أن أطلعت في يده، فهل يبقى الطلع للمشتري أو يرده مع الأصل؟ فعلى قولين.
4773- ومما يجب التنبه له أن الثمار لو كانت موجودة على النخيل حالة العقد، وبقيت غير مؤبرة، فأفلس المشتري، فالبائع يرجع في الثمار قولاً واحداً، رجوعَه في النخيل، وكذلك القول فيه إذا كانت الثمار موجودةً حالة الهبة، ودامت إلى وقت الرجوع، وكذلك لو فرضت موجودةً في البيع، ودامت إلى وقت الردّ.
ولو كانت الثمار موجودة حالة البيع، ودامت غيرَ مؤبرة، ففي أخذ الشفيع لها قولان، لا يختلف التفريع بأن تحدث بعد الشراء، أو توجد عند الشراء وحالة الأخذ.
وذلك أن الشفعة تنافي استحقاقَ المنقولات، وهذا لا يختلف بأن يكون موجوداً حالة العقد، أو حدث بعده. فإن التحقت الثمار بالزوائد المتصلة، أخذها الشفيع كيف فرضت، حادثةً أو مقارنةً للعقد، وإن لم نر إلحاقها بزوائد الشجرة المتصلة، فلا يأخذها الشفيع، ولا يختلف الأمر بأن تكون موجودة حالة العقد أو تحدث من بعد. ولهذا قلنا: الثمار إذا كانت موجودة مؤبرة حالة العقد كذلك، وأدرجت في البيع ذِكْراً، فالشفيع لا يأخذها.
4774- وقد يخطر للفقيه أنا إذا رأينا أخذ النقض بالشفعة، فيكون التأبير بعد العقد بمثابة انتقاض البناء، وهذا لا ينبني عليه حقائق الفقه؛ فإن الثمار إلى التابير تصير.
فإن لم يتفق أخْذ المشفوع حتى أُبّرت، فقد تبينا أنها، لم تستحق بالشفعة، وهذه قضية لا تخفى على الفقيه، ولا يضر التنبيه عليها، والثمار لو كانت هي المبيعة في الإفلاس، لثبت الرجوع فيها، فيختلف الترتيب بأن تكون موجودة حالة العقد، أو تحدث بعدها والثمار قبل التأبير تدخل تحت مُطلق تسمية الشجر، إذا ثبتت الأشجار مثمنات أو أعواضاً، فيستتبع الشجرُ الثمرَ قبل التأبير في البيع، والصداق، وإذا أثبتت أجرةً، وكذلك القول في الهبة وإن كانت عريّةً عن العوض.
4775- فإن قيل: قطعتم بالاستتباع في ابتداء هذه العقود، وردّدتم القولَ في الرجوع من البائع في حق المفلس، ومن الواهب، وكذلك في الردود، قلنا: لعل الفرق أن إنشاء التملّك بالتراضي اختيارُ قطع العلائق عن الأحوال، فقوي، واستتبع.
والفسوخ والردود أمورٌ تنشأ قهراً، والرهن لما ضعف عن إفادة الملك، كان في استتباع النخيل الثمارَ التي لم تؤبر اختلافُ قولٍ، كما تقدم، ولا نطنب في هذه التفاصيل، فقد وضحت في مواضعها، وإنما قدرُ غرضنا ذكر ما يتعلق بالشفعة، وقد بان على ما ينبغي.
فصل:
قال: "ولا شفعة في بئرٍ لا بياض لها، لا تحتمل القسمة... إلى آخره".
4776- تفصيل القول في بيع شقص من بئر: أنها إن كانت واسعةَ القعر فسيحة المقر، بحيث يمكن أن يتخذ منها بئران، وكان فيها عيون يتأتى وقوع قدرِ الكفاية في كل قسم، فإذا بيع شقصٌ من مثل هذه البئر، ثبتت الشفعة للشريك؛ من جهة احتمالها للقسمة.
وإن ضاقت البئر عن احتمال ما ذكرناه من القسمة، ولم يتأت اتخاذ بئرين منها، فإذا بيع شقص منها، فظاهر المذهب أن الشفعة لا تثبت للشريك. وفيه تخريج ابن سريج، وقد قدّمنا ذلك في صدر الكتاب.
فإن رأينا إثبات الشفعة فيما لا ينقسم، فلا كلام، وإن لم نر إثبات الشفعة فيما لا ينقسم، فقد قسّم الأصحاب القول في ذلك على وجهين: فقال قائلون: إن لم تكن للبئر حريم، وكانت غيرَ منقسمة، فلا شفعة إذا اشترطنا كونَ المشترك قابلاً للقسمة.
وإن كان للبئر حريم واسع، يقبل القسمة، فهل تثبت الشفعة في البئر تبعاًً للحريم؟ فوجهان:
أحدهما: تثبت تبعاًً، كما تثبت الشفعة في الأشجار؛ تبعاًً للمغارس والأرض.
والثاني: لا تثبت بخلاف الأشجار؛ فإنها متصلة بالشقص في محل الشفعة، بخلاف البئر؛ فإنها مباينة عن الحريم، إذ هي بقعة أخرى، فلم تتبع الحريم.
ولفظ الحريم أطلقه القاضي وغيرُه، وفيه استبهام عندي، فإن أريد به ما يتصل برأس البئر، مما يجب أن يصان لتبقى البئر مصونةً كما سأستقصي القول في حريم الأملاك في إحياء الموات، إن شاء الله عز وجل.
فالحريم لا يكاد يوصف بالملك إلا على تفصيلٍ، واتباع البئر الحريمَ، وإن كان مملوكاً بعيدٌ؛ فإن البئر هي الأصل، والحريم تبع، فليس في الحريم على هذا التفسير ما يقتضي استتباعَ البئر.
وصرح بعض أصحابنا بأمرٍ مفهوم في نفسه، فقالوا: إن كانت البئر تسقي مزراعَ، وكانت تيك المزارع قابلةً للقسمة، فإذا بيع قسطٌ منها مع جزء من البئر، ففي ثبوت الشفعة في البئر-على قولنا الصحيح، وهو اشتراط قبول الانقسام- وجهان:
أحدهما: لا تثبت الشفعة؛ فإن البئر غيرُ منقسمة.
والثاني: أنها تثبت تبعاًً للمزارع المنقسمة، وتوجيه الوجهين ما تقدم.
والذين أطلقوا الحريم أرادوا به ما صرح به هؤلاء، من ذكر المزارع، وإنما وقع كلام الشافعي على الآبار التي تسقي النواضحُ منها المزارعَ، ثم تيك المزارع تنسب إلى البئر، والبئر تنسب إليها، فإذاً ليس المراد بالحريم ما يتصل بحافات البئر، وإنما المراد ما تسقيه البئر.
4777- ثم اختلفت عبارة الأئمة فيما يحتمل القسمة، فقال الشيخ القفال، وطبقة من المحققين: المنقسم هو الذي يمكن الانتفاع بأفراد الحصص المفروزة من الجنس الذي كان ينتفع به قبل الإفراز: فإن كانت مزرعة أمكنت الزراعة في كل حصة، وإن كانت داراً مسكونة أمكنت السكنى، فيخرج مما ذكرناه الحمام الصغير الذي لو قسم، لم يتأت من كل قسم حمّام. وكذلك ما في معناه.
ومن أصحابنا من قال: إذا كانت الحصة المفرزة بحيث يمكن الانتفاع بها بوجهٍ من الوجوه، كفى ذلك في الحُكم بكون الملك المشترك قابلاً للقسمة، وإن لم يمكن الانتفاع بالحصة من جنس الانتفاع بالجملة المشتركة.
ومن أصحابنا من قال: إن كانت القيمة تنتقص بالقسمة انتقاصاً متفاحشاً، فهو غير محتملٍ للقسمة. وإن كان لا ينتقص انتقاصاً متفاحشاً، فهو محتمل للقسمة.
فأما الحمّام، فإن كان كبيراً يمكن أن يُتخذ منه حمامان، فهو محتمِل للقسمة على المذهبين الأولين. فإن كان لا يتفاحش نقصان القيمة، ارتفع الخلاف، وإن كان صغيراً لا يمكن اتخاذ حمامين منه، لكن لو أفرز، لصلح كل نصيب لمنفعة أخرى كالسكنى، واتخاذ المخازن، وغيرها، فهو على طريقة القفال غير قابلٍ للقسمة، وعلى طريقة الآخرين هو قابل للقسمة، ومن يرعى القيمة يتّبعها.
4778- ومما نذكره الطاحونة، فإن كان يمكن أن يتخذ فيه حَجَران دائران تثبت فيها الشفعة، وإلا فعلى الخلاف الذي ذكرناه، ولو لم يكن في الطاحونة الكبيرة إلا حجر واحد وأمكن نصب حجرين، فهو مما ينقسم على المذهب، ثم الكلام في دخول الحجر الأعلى والأسفل تحت مطلق البيع مما سبق في موضعه على الاستقصاء.
وإنما قصدتُ بذلك التنبيهَ على أن المعتبرَ إمكانُ نصب الحجرين، لا ثبوتهما.
والدار إذا قسمت، فقد تمس الحاجة، إلى إفراد كل حصة بمرافق تُستحدث لها، ثم مسيس الحاجة إلى ذلك لا يخرجها عن كونها قابلةً للقسمة.
فرع:
4779- إذا كان بين رجلين دار مشتركة، لكل واحدٍ منهما نصفها، فبنى أحدُهما على السقف حجرةً، بإذن شريكه وإعارته إياه، أو بأن يعقد عقداً يستحق به ذلك. قال الشيخ: تثبت الشفعة لشريكه في نصف الدار إذا بيع، ولا تثبت الشفعة في الحجرة؛ فإنه ليس لشريكه في الحجرة شرك أصلاً، بل البائع ينفرد بالحجرة ولا شفعة، فيها.
وكذلك إذا كان بين رجلين أرض مشتركة، ولأحدهما فيها أشجار انفرد بها، فإذا باع شقصَه من الأرض، وباع معه الأشجارَ، فلا شفعة في الأشجار، كما قدمناه.
قال الشيخ: هذا ما علقته عن القفال. ثم عُرِضت عليه المسألة، فقال: ينبغي أن تثبت الشفعة في الحجرة والنخيل التي انفرد بها البائع، وإن لم يكن للشريك فيها شرك؛ فإن الحجرة متصلة بالدار المشتركة اتصالاً لو بيعت الدار مطلقاً، لتبعها العلو، وكل ما ينسب إلى الدار. فإذا تحقق هذا الضرب من الاتصال، تثبت الشفعة؛ فإنه فوق اتصال الجوار.
وهذا ليس بشيء، والصحيح ما قدمناه أولاً؛ فإن الشفعة عند الشافعي رضي الله عنه لا تثبت إلا في مشترك.
فرع:
4780- أصول الأشجار تتبع الأراضي في الشفعة؛ لأنها ثوابت، فتبعت الأرض، وبمثله لو باع مبقلة وفي الأرض أصول البقل، وكانت تخلّف، وينبت منها ما ينبت، وتُجَز، ثم تعود فتخلّف، فقد قال الشيخ أبو علي: إنها بمثابة الأشجار في الاستحقاق بالشفعة.
وهذا فيه نظر، ولم أره إلا للشيخ رضي الله عنه.
فصل:
قال: "فأما الطريق التي لا تُملك، فلا شفعة فيها... إلى آخره".
4781- الممر الشائع الذي لا اختصاص فيه لا حُكم للاشتراك فيه في اقتضاء الشفعة؛ فإن الشارع غيرُ مملوك؛ فلا يتصور ورود عقد عليه، فإذا بيع ملكٌ يُفضي إلى الشارع أو يُفضي الشارع إليه، فلا يثبت للمشارك في الممر شفعةٌ في الدّار المبيعة، التي بابها لافظٌ في الشارع. وهذا لا إشكال فيه.
والسكة المنفتحة في الأسفل شارعٌ، فأما السكة المنسدة، فَعَرْصَتُها، أو ساحتها ملك لسكان السكة، فإن فرض بيعُ دارٍ، فليس للمشتركين في عرصة السكة حق الشفعة في الدار التي بيعت؛ إذ لا شركة في الدار. وأما السكة في نفسها، فملكٌ من الأملاك، فالذي يقتضيه قياس الأصول أن يقال: إن كانت قابلةً للقسمة تثبت الشفعة فيها، وإن لم تكن قابلة للقسمة، فلا شفعة فيها، على ظاهر المذهب.
ثم الصحيح في اعتبار ما يقبل القسمة ما ذكره القفال، فإذا قلنا: السكة قابلة للقسمة عنينا بذلك أنها لو أفرزت، كانت كلُّ حصة بحيث يتأتى اتخاذها ممراً، فهذا هو القابل للقسمة على الطريقة المشهورة.
وإذا ثبت هذا، فمعلوم أن من باع داراً دخل تحت مطلق بيعها ممرُّها من السكة، فلو أثبتنا للشركاء في عرصة السكة حقَّ أخذ حصة الدار المبيعة من عرصة السكة، فهذا يقتضي أن يستحقوا على المشتري الممر الثابت للدار المشتراة، وإذا كان كذلك، فكيف السبيل فيه؟ فصل الأصحاب هذا أولاً، فقالوا: إن كان المشتري يتمكن من أن يتخذ للدار المشتراة ممراً من جانب آخر يدخل منه ملكَه، فالشفعة ثابتةٌ في الممر على قياس الأصول. وإن كان لا يتأتى للدار ممرٌّ إلا في هذه الجهة، فلا.
4782- وقد عبر الأئمة من أوجه وراء ذلك عن المقصود، فقال قائلون: في ثبوت الشفعة أوجهٌ: أحدُها- أن الشفعة تثبت جرياً على الأصول، ثم يمتنع على المشتري الممرُّ، ولا مبالاة بهذا. إذا أفضى القياس إليه؛ فإن المتبع الدليل.
والوجه الثاني- لا تثبت الشفعة؛ لأن في إثباتها إلحاق ضرر عظيم بمشتري الدار، وهو قطع ممرها، والشفعة أُثبتت في أصلها على دفع الضرر، فيستحيل أن تثبت على وجه يتضمن إلحاق الضرر بغير الشفيع؛ فإن الضرر لا يُزال بالضرر.
والوجه الثالث: أنه يقال للشفيع: إن كنت تُمكِّنُه من المرور، فلك الشفعة، وله حق المرور، وإن كنت تمنعه من المرور، فلا شفعة لك. وهذا الوجه مختل؛ فإن تخيير الشفيع في هذا غيرُ معقول، فإنا إذا كنا نثبت له أخذ ما اندرج تحت البيع من عرصة السكة، فلا يخلو إما أن نوجب للمشتري حقَّ المرور من غير خِيَرة، أو لا نوجب ذلك، فإن كنا نوجب للمشتري حقَّ المرور، فلا يعبر عن هذا بما ذكره صاحب الوجه الثالث من رد الأمر إلى خيرة الشفيع. وإن كان لا يستحق المشتري المرورَ فقول القائل للشفيع: إن منعت، وإن لم تمنع عبارةٌ مضطربة، والعبارة السديدة عن الغرض هي التي ذكرها صاحب التقريب، إذ قال: هل تثبت الشفعة أم لا؟ فعلى وجهين موجهين بما ذكرناه من قياس الأصول، وإلحاق الضرر، ثم قال: إن قلنا: تثبت الشفعة، فهل يستحق مشتري الدار حقَّ الممر في السكة، والملكُ فيها للشفيع؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يستحق، وهو القياس.
والثاني: يستحق، وقد يثبت للإنسان حقُّ الممر في ملك غيره.
ويمكن أن نعبر عن الطريقة، فيقال في المسألة أوجه: أحدها: أن الشفعة لا تثبت.
والثاني: تثبت، وينحسم حق الممر. والثالث: تثبت ويبقى حق الممر مستحقاً للمشتري.
ومبنى هذه العبارات على تفصيل في صدر المسألة بنينا الغرض عليه، وذلك أنا قلنا: إن كان يتأتى للمشتري اتخاذُ ممر في غير هذه السكة، وجب عليه أن يستجد ممراً آخر وتؤخذ حصتُه من السكة بثمنها. وإن كان لا يتأتى منه اتخاذ الممر في جهةٍ أخرى، فإذ ذلك يختلف الأصحاب.
وكان شيخي يقول: إذا كان اتخاذ الممر ممكناً، ولكن لا يتوصل إليه إلا بمعاناة عُسر والتزام مؤنة، فهذا أيضاً داخل تحت الخلاف، وتصوير الضرر لا ينحصر في أن يسقط الإمكان في اتخاذ الممر. ومن الممكن على هذه الطريقة أن نقابل ما يأخذه تقديراً من ثمن الممر بما يلزمه من المؤنة في استحداث ممرًّ آخر. فإن تقابلا، فلا ضرر. وإن قل التفاوت، احتمل. وإن ظهر، خرج الخلاف. فإذاً صار هذا أصلاً مختلفاً فيه، في قاعدة الكلام، فليتأمل. وقد نجز الغرض.
فصل:
قال: "ولولي اليتيم، وأب الصبي أن يأخذ بالشفعة... إلى آخره".
4783- ولي الطفل إذا كان أباً أوجداً، أو وصياً من جهتهما، أو قيماً مطلقاً من جهة القاضي، إذا بيع شقصٌ، وللطفل فيه الشفعة، فعليه أن يأخذ الشقص المشفوع بالشفعة، إذا كان النظرُ، والغبطة للصبي في الأخذ.
وهذا يُضبط بأن يقال: إذا كان للولي أن يشتري العقارَ للطفل، فعليه في مثل تلك الحالة أن يأخذ له بالشفعة، فإن لم يأخذ، فله الأخذ بعد البلوغ، والاستقلال بالنفس.
وبيان ذلك أنه إن كان يفوت للصبي غبطة ظاهرة، فيتعين أخذُ الشفعة له، ولا يجوز إبطالها عليه، وإن كان في أخذها له ما يخالف النظر والغبطة، ووجه الصلاح، فليس للولي أن يأخذه.
وقد يعارض ذلك أمرٌ بذكره يبين المقصود. وهو أنه إذا تمكن الولي من شراء شيء للطفل ابتداء وكان في الشراء غبطةٌ ظاهرة، فلا شك أن الأوْلى للولي أن يشتري.
ولكن تردد الأئمة في أن ذلك هل يجب على الولي؟ فقال الأكثرون: يجب، ووجه ذلك ما تمهد من وجوب رعاية المصلحة.
وقال آخرون: لا يجب؛ فإن الذي يؤاخذ الولي به ألا يفرط في مال الطفل، فأما أن يحصّل له مالاً عن جهةٍ أخرى، فلا يلزم ذلك. ولو ألزمناه، لأوجبنا أن يبذل كنه المجهود في سلوك طرق المكاسب والمتاجر، ويبعد أن نوجب ذلك.
ومما ذكره الأئمة أنه لو أراد الولي أن يشتري شيئاً بمال الطفل، وما كان للطفل فيه منفعة، فهذا في حكم العبث، الذي لا يفيد شيئاً، ولا يجدي، وليس هذا النوع مما يفيد مصلحةً، وتصرف الولي في مال الطفل يجب أن يتقيد بالمصلحة الناجزة، أو بتوقعها على ظنٍّ غالب، وكان شيخي يقطع بأن التصرف الذي لا خير، ولا شر فيه ممنوع. وهذا حسنٌ متجه.
4784- ونحن نعود بعده إلى القول في الشفعة، فنقول: إن كانت المصلحة في الأخذ بالشفعة، فلا يجوز للولي الترك وجهاً واحداً، وليس على التردد الذي ذكرناه في ابتياع ما فيه مصلحة ظاهرة؛ فإن الأخذَ بالشفعة يُعد من حقوق الطفل، ولا يجوز تضييع حقه، والشراءُ ابتداءً ليس مستنداً إلى حق الطفل، فليفهم الناظر ذلك.
ثم إن أخذ الولي، فذاك، وإن لم يأخذ، فحق الطفل المَوْليِّ عليه لا يبطل، بل إذا بلغ واستقل، فله طلب الشفعة والأخذُ بها، ولو لم يكن في أخذ الشفعة مصلحةٌ، بل كانت المصلحة في تركها، قالوا: لا يأخذ بها، ولو أخذ بها، كان أخذُه مردوداً؛ فإن التصرفات في مال الطفل تنحصر في رعاية المصلحة، فلو بلغ الطفل مستقلاً، وأراد أخْذَ الشفعة، ففي المسألة وجهان: أظهرهما- أنه لا يثبت له ذلك؛ فإن الولي قد تركه مصلحةً ونظراً، فنفذ تركُه نفوذاً لا يستدرك.
والوجه الثاني- أن الصبي يأخذ حق الشفعة إن أراد؛ فإن الولي إن لم يأخذ بها لانحصار تصرفه فيما يجلب منفعة، فلا منفعة للطفل في إبطال حق شفعته.
ومما يتعلق بحقيقة هذا الفصل أن الغبطة إذا كانت في الأخذ، فتأخير الولي وتقصيره لا يبطل شفعةَ الطفل، بل لو صرح بالعفو، لم يظهر لعفوه أثر، والتقصير لا يزيد على العفو الصريح.
ويتصل بهذا أن القاضي لو اطّلع على ترك الولي الطلبَ بالشفعة مع أن الغبطةَ في الأخذ بها، فإنه يتعين عليه أن يأخذ للطفل ما يتركه الولي، ولا يمتنع أن يكون على خبرة من مطالعة القوّام والأوصياء، كما سنذكره في موضعه، إن شاء الله تعالى.
ولا يلزمه أن يكون على بحثٍ عن أحوال الآباء والأجداد، بل يكل الأمر إليهم، واثقاً بشفقتهم، وسنذكر تفصيل ذلك في كتاب الوصايا، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "وإن اشترى شقصاً على أنهما جميعاً بالخيار، فلا شفعة... إلى آخره".
4785- غرض الفصل الكلامُ في أن الشفيع هل يأخذ بالشفعة في زمان الخيار؟ وقد قال الأصحاب: إن كان الخيار للمتعاقدَين، أو للبائع وحده، فلا يثبت للشفيع حقُّ الأخذ؛ فإنّ أخذ الشفيع موضوعٌ في الشرع لدفع الضرر، فلو قدرنا له حق الأخذ مع بطلان خيار البائع، كان محالاً، فإن حقه يتعلق بالمشتري، ويستحيل أن يتضمن إبطال حق على غير المشتري. وإن قلنا: يأخذ الشفيع، ويبقى حق البائع في الخيار، فليس هذا الأخذَ المشروعَ؛ فإن الضرار لا يندفع به، بل هو قائم كما كان، فمهما لم يكن أخذ الشفيع محسمةً للضرر، ومقطعة له، فلا سبيل إلى إثبات حق الأخذ له. وهذا ظاهر في مقصود الشفعة.
وإن كان الخيار للمشتري وحده، فأحسن ترتيبٍ في ذلك أن نقول: إن حكمنا بأن الملك للمشتري في زمان الخيار، ففي المسألة طريقان:
أحدهما: أن أخذ الشفيع ينبني على الخلاف الذي ذكرناه إذا أراد الشفيعُ الأخذ، وأراد المشتري ردَّ الشقص بالعيب القديم، وقد ذكرنا اختلاف القول في ذلك، فليكن الأخذ في زمان الخيار بهذه المثابة، حتى يخرّج على قولين:
أحدهما: أنه لا يأخذ استبقاءً لخيار المشتري.
والثاني: أنه يأخذ وينقطع بأخذه خيارُ المشتري، كما ينقطع حقُّ رده بالعيب، ولا أحد يصير إلى إثبات الأخذ للشفيع، مع بقاء الخيرة للمشتري.
هذه طريقة.
ومن أصحابنا من رأى القطعَ بأن الشفيع لا يأخذ في زمان الخيار، بخلاف الأخذ والمشتري يهم بالرد؛ وذلك لأن الأخذ بالشفعة يستدعي إفضاء العقد إلى استقرار الملك، وليس الأمر كذلك في زمان الخيار.
والصحيح في ترتيب المذهب إجراء القولين، ثم إن قلنا: إنه لا يأخذ، فيصبر إلى انقضاء الخيار، وانقطاعه بإلزام المشتري العقد، فإن فسخ، انقطع العقد، وفاتت الشفعة، وإن أجاز، أو انقضى الخيار، ثبتت الشفعة حينئذ.
وإن قلنا: يأخذ الشفيع في زمان الخيار، فيلزم العقد بأخذه، ولا خيرة للمشتري، كما تقدم، ولا خيرة للشفيع أيضاًً.
فإن قيل: هلا أحللتم الشفيع من المشتري محل الوَارِثِ من الموروث، ثم أصلكُمْ أن الوارث يخلف الموروث في خيار الشرط، فاطردوا ذلك في حق الشفيع؟
قلنا: لا سواء؛ فإن الوارث يردُّ على من كان يردّ عليه الموروث، واقتضت خلافة الوارث حلولَ الوارث محل الموروث، فإذاً تبذل المتصرف، والحقُّ بحالِه، لم يتبذل، وهذا حقيقة الوراثة في كل ما يجري الإرث فيه، والشفيع لو أثبتنا له الخيار ليردّ على البائع، كان محالاً؛ فإنه ليس يتلقى الملكَ منه. وإن أثبتنا له الخيار ليردّ على المشتري، لكان هذا خياراً جديداً، لم يتضمنه العقد، وهذا حسَنٌ لطيف.
فإن قيل: أليس يثبت للشفيع حقُّ الرد بالعيب على المشتري؟ قلنا: أجل. وسببه استدراك الظلامة، والرد بهذه الجهة أمر يثبت شرعاً، وهو يرد على من يتلقى منه، وهذا الآن ظاهرٌ، لا حاجة إلى المزيد عليه.
وكل ما ذكرناه تفريعٌ على قولنا: إن الملك في زمان الخيار للمشتري.
4786- فأما إذا فرعنا على أن الملك في زمان الخيار للبائع، وإن انفرد المشتري بالخيار، فهذا القول أوّلاً ضعيفٌ. والأصح والنص أن الملك للمشتري إذا كان منفرداً بالخيار.
فإن فرعنا على القول الضعيف فالأصح أن الشفيع لا يأخذ بالشفعة؛ فإن أخْذه مبني على ثبوت الملك للمشتري، وإذا كان الملك القديم باقياً، بَعُدَ الأخذُ؛ إذ الشفعة أثبتت شرعاً عند تجدد ملك وحدوثِه، لأجنبي، وهذا ظاهر.
ومن أصحابنا من ذكر وجهين في أن الشفيع هل يأخذ؟ ذكرهما صاحب التقريب، وأشار إليهما القاضي: أحد الوجهين- أنه يأخذ؛ فإنه لم يبق للبائع سلطان؛ إذ لوْ أراد تداركَ الأمر-ولا خيار له- لم يملك ذلك، فالحق كله للمشتري، ولهذا التحقيق ضعُف قولُ بقاء الملك للبائع، وصار إطلاق ذلك في حكم اللفظ الذي لا حاصل له، ثم إن فرّعنا على هذا الوجه على ضعفه، فإذا أخذَ الشفيع، ملكَ؛ فإنه لا يبقى الخيارُ مع أخذه. وإذا انقطع الخيارُ، ثبت الملكُ، ومن ضرورة ذلك تقديرُ الملك للمشتري متقدّماً، وترتّبُ ملك الشفيع على ملكه.
وهذا يناظر في التفريع ما إذا اشترى رجل شيئاًً، وانفرد بالخيار، فلو باعه، نفذ بيعُه على الأصح، وإن قلنا: لا ملك له في زمان الخيار؛ فإن بيعَه يتضمن قطعَ الخيار أوّلاً تقديراً، ثم ينبني عليه تصحيحُ التصرف، وما تَحصّل ضمناً من هذه الأحكام له قياسٌ بيّن في الشرع.
هذا منتهى الكلام، واستكماله بسؤال وجوابٍ عنه، ينعطف على ما تقدم. فإن استبعد مستبعد إثباتَنا حق الشفعة في زمان الخيار لما فيه من قطع خيار المشتري.
قلنا له: إذا كان لا يبعد أن يقطع الشفيع ملكَه اللازم قهراً، لم يبعد أن يقطع حقه.
فصل:
قال: "ولو كان مع الشفعة عَرْضٌ بثمنٍ واحد... إلى آخره".
4787- إذا اشترى الرجل شقصاً ومنقولاً، أخذ الشفيع الشقص بقسطه من الثمن، وتركَ المنقول على المشتري، وهذا ظاهر. وقصد الشافعي الرد على مالك رحمه الله، في إثباته الشفعةَ في بعض المنقولات، وذلك أنه قال: إن كان مع الشقص منقول يتعلق بمصلحته، فلا يأخذه الشفيع، وإن اشتراه المشتري مع الشقص، وهذا كالغلمان الذين يعملون في العقار، وكالثيران في الضيعة وآلاتِ الحرث، فلا يأخذ الشفيع شيئاًً منها.
هذا مقصود الفصل.
ثم الاعتبار في قيمة التوزيع بوقت العقد؛ إذْ فيه يتوزع الثمن على المثمن، لم يختلف الأصحاب في ذلك.
ويتعلق بهذا فائدتان: إحداهما- أن هذا يدل على أن التوزيع مقتضى العقد؛ فإنه لو حمل على الضرورة المُحْوِجَة، لأمكن أن يقال: الاعتبار بحال طلب الشفيع.
والأخرى- أن الأصحاب أطلقوا العقد، فإن حكمنا بأن الملك ينتقل إلى المشتري بنفس العقد، فهذا متجه، وإن كنا لا نرى أخْذ الشفعة في زمان الخيار؛ فإن المقابل يحصل بتقدير انتقال الملك، وإن لم يكن على اللزوم، وإن حكمنا بأن الملك لا ينتقل ما لم يَنْقَضِ الخيار، أو ينقطع، فالمسألة محتملة احتمالاً ظاهراً، يجوز أن يقال: الاعتبار بقيمة يوم الانتقال؛ إذ فيه يتحقق الملك الحديث، الذي بسببه الشفعة، ويجوز أن يقال: الاعتبار بيوم العقد، وهذا هو الذي أطلقه الأصحاب من غير تفصيل. ووجهه أن العقد يرسم تقدير المقابلة، وإن كنا نتمارى في نقل الملك، فالاعتبار بما رسمه العقد. وهذا فقيه حسن.
فصل:
قال: "وعهدة المشتري على البائع... إلى آخره".
4788- هذا الفصل من أصول الكتاب، فينبغي أن يكون للناظر بفهمه وجميع ما فيه فضلُ اعتناء، فنقول في قاعدة الفصل: إن الشفيع يرجع في عهدة ما أخذه على المشتري، لأنه يتلقى الملك منه، ويبني ملكَه على ملكه، فهو في حق المشتري بمثابة المشتري في حق البائع.
هذا أصل المذهب.
ومن موجبات هذا الأصل أن الشفيع يدفع الثمن إلى المشتري في الأحوال كلها، سواء كان الشقصُ في يده، أو في يد البائع، وسواء كان قد أدى المشتري الثمنَ إلى البائع، أوْ لم يُؤدّه، فيدفع الثمنَ إلى المشتري، ويرجع بالعهدة عليه.
ولو قال الشفيع والتفريع على قول الفور، والمبيع بعدُ في يد البائع: لستُ أنقدُ الثمنَ، حتى ينقده المشتري. قلنا: ليس لك ذلك، ولا تعلّق لك بما بين المشتري والبائع.
ولكن يعترض في هذا شيء، وهو أنه إذا دفع الثمن إلى المشتري، ولم يدفعه المشتري إلى البائع، والتفريع على أنه يثبت للبائع حق الحبس، ولا يستعقب أداءُ الشفيع الثمنَ إلى المشتري قدرة المشتري على تسليم المبيع، فالوجه في ذلك عندنا، أن يقال: إذا كان البائع حاضراً وكان توفيرُ الثمن عليه، وإلزامُه تسليمَ المبيع ممكناً، فليبذل الشفيعُ الثمنَ للمشتري، ثم إنه يتوصل إلى تسليم المبيع إلى الشفيع بطريقه. ولو كان البائع حاضراً، والمبيع معه، ويعلم أنه لا يقدر المشتري على التوصل إلى تحصيل المبيع في الحال، فلا يجب على الشفيع توفيرُ الثمن، وإذا أخر توفية الثمن على المشتري للعذر الذي ذكرناه، لم يكن مقصراً، ولم ينزل منزلة الشفيع يعجل الطلب، ويماطل بالثمن، حتى ينتهي الأمرُ إلى تفصيلٍ قدمناه، في أن شفعته تبطل في وجهٍ، ويُبطلها القاضي إذا استدعى المشتري ذلك في وجهٍ.
هذا الذي ذكرناه أصلُ المذهب، وبه الاعتبار، وعليه التعويل.
4789- وذكر صاحب التقريب وجهاًً بعيداً عن ابن سريج في العهدة، وهو أنه قال: عهدة الشفيع على البائع، وعليه رجوعه، وبه تعلقه، وإذا طالب بالشفعة، وكان قبض البائعُ الثمن من المشتري، رد ما قبض على المشتري، وأخذ من الشفيع ما يبذله، وينزل الشفيع منزلة المشتري، وكأنه المشتري في الحقيقة، ومن كان مشترياً مرفوعاً من البين، وزعم أن الشفيع لا يدفع الثمن إلى غير البائع.
وهذا بعيدٌ جداً، لم أر أحداً من أصحابنا حكاه كذلك سوى صاحب التقريب، وكيف يستقيم المصيرُ إلى هذا، ولا خلاف أن الملك يحصل للمشتري بالشراء، وسبب ثبوت الشفعة ملك المشتري، فإن كان هذا القائل يسلم أن ملك الشفيع يترتب على ملك المشتري، فيبعد مع هذا تقديرُ رفعه من البين.
وإن كان يزعم أنا نقدر ارتفاع المشتري من البين؛ فإن الملك يرتد إلى البائع، فإذا ارتد إليه، فأي حاجةٍ إلى الشفعة.
ويتطرق إلى هذا خبالٌ آخر، لا استقلال به، وهو أن ثمن العقد إذا كان عبداً مثلاً، فإن كُلّف البائع ردّه إلى المشتري، وأُلزم أن يقبل قيمته من الشفيع، فهذا كلام ساقط ليس في أساليب الفقه، وقوانين الشريعة، وإن جوز له أن يستمسك بالعبد، فكيف يسلّم الشفيع الثمنَ إليه، فإذاً لا وجه لعدّ ما نقله ابنُ سريج من متن المذهب.
ولا شك أن قياسه على ما نقله صاحب التقريب، يقتضي ردَّ العبد إلى المشتري، وأخذَ قيمتِه من الشفيع، ومساقه يوجب أن يرد الشفيع الشقصَ بالعيب على البائع، ومن يسلك هذا المسلك الذي حكاه صاحب التقريب، يلتزم جميع ذلك.
ولا عَوْد إلى هذا الوجه بعد هذا، ولا اعتداد به.
4790- والمقدار الذي حكاه الأئمة من تعلّق الشفيع بالبائع مخصوص بصورةٍ، وهي إذا اعترف الرجل أنه باع الشقص المشفوع من زيد، وأنكر زيدٌ الشراء أصلاً، وقد اختلف أصحابنا في ذلك، فذهب طوائف إلى أن الشفعة تثبت على ما سنفصلها.
وهذا اختيار المزني، ومذهب أبي حنيفة.
وذهب ابن سريج في بعض أجوبته إلى أن الشفعة لا تثبت.
4791- توجيه الوجهين: من قال: لا تثبت الشفعة احتج بأن الشفيع في قاعدة المذهب فرع المشتري، فإذا لم يثبت الشراء، وهو الأصل، فكيف تثبت الشفعة، وهي الفرع؟ ومن قال: تثبت الشفعة، احتج بأنَ البائع اعترف بالبيع ومصير الملك في الشقص إلى الشفيع، فإذا اعترف الشريكُ بالبيع وادّعاه من إليه مصير الملك، لزم من موجب القولين. ثبوتُ الحق لمن يدعي استحقاقَه، وهو الشفيع.
التفريع على الوجهين:
4792- إن حكمنا بأن الشفعة لا تثبت، فغاية ما نذكره على هذا أن نتوقف إلى ثبوت الشراء، ولا نثبت في الحال للشفيع شيئاً، فإن لم تكن بينة، فالقول قول المشتري مع يمينه، وينقطع الخصام بحلفه. وإن نكل، لم يخفَ ردُّ اليمين والحكمُ بها.
وإن فرعنا على ثبوت الشفعة، كما ذهب إليه المزني، فالشفيع يسلّم الثمن إلى من؟ ظهر اختلاف الأصحاب في ذلك على هذا الوجه: فقال قائلون: يسلم الثمن إلى البائع، فإنه وإن كان لا يتلقى الملكَ منه، والقياس يقتضي أن يسلم الثمن إلى من يتلقى الملك منه، فإذا قضينا بثبوت حق الشفعة، ولا سبيل إلى أخذ الشقص من غير عوض، والبائع يزعم أنه ما قبض الثمن، والشفيع معترف بالتزام الثمن، فالضرورة تقتضي صرفَ الثمن إلى البائع، كأنّ الشفيع في هذا المقام، هو المشتري المؤدي للثمن. هذا وجهٌ.
والوجه الثاني- أنه لا يسلم الثمن إلى البائع، ولكن يرفع الأمرَ إلى الحاكم، فينصب الحاكم منصوباً نائباً عن المشتري، ويسلم الشفيعُ الثمنَ إليه، ثم ذلك المنصوب يسلم ما قبضه إلى البائع.
وهذا ضعيفٌ، لا اتجاه لهُ؛ فإن نصب المنصوب عمن لا يدعي لنفسه حقاً، لا حاصل له، والقُضاةُ إنما ينصبون المستنابين عن أصحاب الحقوق، إذا لم يكن لهم استقلال بطلب حقوقهم، لغيبةٍ، أو سقوط عبارةٍ، بجنونٍ، أو صبا، أو موت، فلا وجه إذاً لهذا التقدير، ولا تحقيق له.
ومن هذا الوجه يتضح إسقاط الشفعة، وليس للشافعي نص في إثباتها في الصورة التي ذكرناها.
4793- ومما يتعلق بالتفريع على مذهب المزني أنّ البائع لو اعترف بالبيع، وأنكر المشتري، واعترف البائع بأنه قبض الثمن من المشتري، فهذا فيه مزيد إشكالِ؛ من جهة أن الشفيع ليس يدعي الشقص من غير ثمن يبذله ولا مُدّعيَ للثمن الذي هو معترف به، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يدفع الثمن إلى القاضي ليحفظه للمشتري.
والثانن- أنه يأخذ الشقص، ويبقى الثمن في ذمته إلى أن يدّعيه المشتري. ومن الممكن أن يعترف المشتري باستحقاق الثمن بعد الإنكار، وقد سبق تقرير هذا في كتاب الأقارير.
والوجه الثالث: أنه لا شفعة في هذه الحالة، وإن فرّعنا على مذهب المزني، فإنّ أخذها من غير عوض عَسِر، ولا مدعي للعوض، فلا وجه إلا التوقف في الشفعة إلى بيان الأمر.
فهذا قاعدة المذهب في أصل العهدة.
4794- ثم استتم الأصحاب التفريعَ على الأصل الذي عليه التعويل، وعادوا إلى فرض الكلام في إقرار المشتري بالشراء مع إقرار البائع بالبيع، وأجرَوْا تفريعاتٍ في تسليم الثمن، لابد من ذكرها.
فقالوا: إنْ دفع الشفيع الثمنَ إلى البائع، نُظر: فإن دفعه بأمر المشتري، فهو كما لو دفعه إلى المشتري، وهذا فيه إذا قال: ادفع الثمن إليه؛ فإنّ قوله هذا يتضمن احتساب ما يؤديه له.
ولو قال له: اقض ما عليّ للبائع، فقد ذكرنا أن من عليه الدين إذا قال لأجنبي: اقض دَيْني، ولم يُقيّد الإذنَ بشرط الرجوع، فإذا أدّى المأمورُ الدينَ، فهل يملك الرجوعَ؟ فيه الخلاف المشهور. وإذا قال المشتري للشفيع: أدّ ما للبائع عليّ، فيظهر في هذه الصورة الاعتداد بما يؤديه؛ فإن الحالة القائمة بينهما مصرِّحةٌ بما أشرنا إليه.
وقد أشار بعض الأصحاب إلى تخريج هذا على الخلاف المذكور في أمر الأجنبي بأداء الدين، وهذا بعيد.
ثم إذا سلم الشفيع الثمنَ إلى المشتري، فيتحتم عليه أن يسعى في قبض المبيع من البائع وتسليمه إلى الشفيع، وكذلك إذا أدى الثمنَ بإذنه إلى البائع، فيكلف القبض من البائع، ويسلّمه إلى الشفيع فذلك حقٌّ على المشتري.
وكل ذلك من تحقيق تعلّق عهدة الشفيع به.
4795- ولو أدّى الشفيع الثمن إلى البائع، دون أمر المشتري، فهذا رجُلٌ قضى ديْنَ الغير، دون أمرِه، فسقط الثمنُ عن المشتري، ولا يستحق الشفيعُ الشقصَ، وإن نقد الثمن، فيسلّم البائعُ المبيعَ إلى المشتري، ثم المشتري لا يلزمه تسليمُ الشقص إلى الشفيع، حتى يؤدي الثمنَ إلى المشتري؛ لأن الذي قدّمه كان تبرعاً منه، ولا يرجع المتبرع بما يتبرع به.
ولو دفع الشفيع الثمن إلى البائع، وقال: خذ هذا لأتملكَ الشقصَ بالشفعة، فهذا إذا قيده بشرط التملّك، فله أن يرجع على البائع بما أدّى؛ لأنه لم يتبرع، بل شرط شرطاً، ولم يحصل له ذلك.
وإذا جوزنا-عند إنكار المشتري- للشفيع أن يدفع الثمن إلى البائع المقرّ، فإذا عاد المشتري، وأقر بالشراء، لم يكن له أن يغرِّم الشفيعَ الثمن؛ فإنا سلطنا الشفيع على تسليم الثمن إلى البائع، فلا نُثبت للمشتري عليه مرجعاً.
4796- ومما أجراه الأئمة من المسائل المتصلة بأحكام العهدة القولُ في ركنين هما عماد العهدة، ونحن نستقصيهما بعون الله تعالى:
أحد الركنين- يتعلق بالرد بالعيب.
والثاني: يتعلق بظهور الاستحقاق.
فأما القول في الرد بالعيب، فإنه ينقسم إلى ردّ الثمن، وإلى رد الشقص.
فأما رد الثمن، فينقسم إلى رد البائع ثمنَ العقد الذي أخذه من المشتري، إذا اطلع على عيبٍ. وإلى رد المشتري ما قبضه من الشفيع إذا رآه معيباً.
فأمّا التفصيل في ثمن الشراء، فالوجه أن نصوّر الثمن عيناً معيَّنةً، ونقول: إذا اشترى الشقصَ المشفوعَ بعبدٍ معيّن فسلّمه إلى البائع، وأخذ الشفيع الشقصَ بقيمة العبدِ، ثم إن البائع وجد بالعبد عيباً قديماً، فردّه على المشتري، فالذي ذهب إليه الأئمة أن المشتري يغرَم للبائع قيمةَ الشقص؛ إذ لا سبيل إلى ردّه بعدما زال الملك عنه إلى الشفيع، وهو بمثابة ما لو اشترى داراً بعبدٍ، وقبضها، وباعها، ثم اطلع بائع الدار على عيبٍ بالعبد، فإنه يرده ولا يصادف الدارَ في ملك المشتري، فَيُلْزِمُه قيمتَها.
وكأن المبيعَ تالفٌ في حق البائع، فهذا هو المسلك البين والسبيل الممهد في المذهب.
4797- وذكر صاحب التقريب قولاً بعيداً في المسألة، وهو أن البائع إذا ردّ الثمن بالعيب، فالمشتري يسترد الشقص من الشفيع، ويردّ عليه ما أخذه منه، ويرد الشقص على البائع.
وهذا القائل يقول: ردُّ البائع يتضمن نقضَ ملك الشفيع؛ فإنه بمنزلة المشتري، وإنما أخذ الشقصَ بالعقد الذي جرى بين البائع وبين المشتري، ولم يتجدد عقدٌ بين المشتري والشفيع. وهذا بمثابة ما لو خرج الثمن المعين مستحقاً؛ فإنا نتبين فساد العقد الأول، ويتبين من فساده فسادُ أخْذ الشفيع. وهذا قولٌ ضعيف لا اتجاه لهُ؛ فإنَّ أخْذَ الشفيع وملكَه جديد، وإن لم يُحوِج الشرعُ فيه إلى إجراء عقدٍ، فيستحيل أن ينتقض بردٍّ جرى في العقد الأول.
ثم فرع صاحب التقريب على هذا القول الضعيف، فقال: لو وجد البائع المشتري، ردّ عليه الثمنَ على التفصيل الذي ذكرناه، ولو لم يجد المشتري، ووجد الشفيعَ، فما حكمه؟ قال صاحب التقريب: لا يردّ الثمن على الشفيع؛ فإنه لم يتملكه من جهة الشفيع، وإنما تملكه من جهة المشتري، ولكن يرفع الأمرَ إلى القاضي، فيقبض القاضي الثمن وهو العبد، ثم إن القاضي يبيع ذلك العبد، ويرد على الشفيع ما بذله من الثمن، فإن وفى قيمةُ العبد بما بذله الشفيع، فلا كلام، وإن لم يفِ ثمنُ العبد بما بذله الشفيع، فيقول الحاكم للبائع: إن تبرعت بتكميل ما بذله الشفيع أسترِدُّ منه الشقصَ، وأرده عليك، وإن لم تتبرع بالتميل، لم أسترد الشقص.
وهذا الذي ذكره خبطٌ عظيم، وخروج عن سبيل الفقه.
فأما إذا قلنا بالصحيح: وهو أن الشقص لا يسترد من الشفيع، ولكن يغرَم المشتري قيمةَ الشقص، فإن كانت قيمةُ الشقص مثلَ ما بذله الشفيع من غير زيادة، ولا نقصان، فلا كلام. وإن كان ما بذله المشتري من قيمة الشقص أكثر مما بذله الشفيع، فالمذهب أنه لا يرجع على الشفيع بتلك الزيادة أصلاً.
وذكر صاحب التقريب في المسألة قولاً آخر: إن المشتري يرجع على الشفيع بتلك الزيادة التي بذلها، وذكر العراقيون هذا القول، وله على ضعفه وجهٌ؛ فإن المشتري يقول للشفيع: ينبغي أن تاخذ الشقص بما قام عليّ الشقصُ به، وقد قام عليّ بهذا المبلغ الذي بذلتُه آخراً.
هذا إذا كانت قيمةُ الشقص أكثر مما بذله الشفيع.
فأما إذا كانت قيمةُ الشقص أقلَّ مما بذله الشفيع، فقد ذكر العراقيون في هذا الطرف وجهين أيضاًً:
أحدهما: أن الشفيع لا يجد بتلك الزيادة مرجعاً. والوجه الثاني- أنه يرجع بتلك الزيادة على المشتري، وتوجيه الوجهين في صورة النقصان كتوجيه القولين في صورة الزيادة.
ثم قال العراقيون: إذا قلنا: المشتري يغرَم قيمةَ الشقص فغرِمها، ثم رجع الشقص إلى المشتري بوجهٍ من الوجوه إما بهبةٍ أو ابتياعٍ، أو إرث، فإن أراد أن يرد الشقصَ ويستردَّ القيمة، إذ تمكن من ردّه الآن؛ أو أراد البائع أن يجبره على رد الشقص، فليس يثبت ذلك من الجانبين.
وبمثله لو غصب عبداً فأبق من يده، وغرِم قيمته لمالكه ثم ظفر بالعبد، فيرد العبد ويسترد القيمةَ، والفرق أن ملك المالك لم يزُل بإباق العبد، فيُرَد عليه ملكُه إذا عاد، وقد زال ملك المشتري عن الشقص، ونفذ الردُّ على القيمة، فلا مرد لذلك الرد، ولا تغيير له.
هذا كله تفصيل القول في رد البائع ثمنَ العبد على المشتري.
4798- فأما الركن الثاني فيما إذا بذل الشفيع العوضَ للمشتري، وأخذ الشقصَ، فخرج ما بذله مستَحقاً، فالمشتري يُطالب الشفيع بالثمن الآن، وقد تبين أنه لم يوفِّ الثمن الذي كان عليه، ولا يتصور ردٌّ ينقض الشفعة؛ فإن ما يلتزمه الشفيع أبداً يكون واقعاً في ذمته، والعوض الثابت في الذمة لا يطرأ عليه ردٌّ يفسخ الأصل، والاستحقاق فيه غير قادحٍ في أصل التملك. فإن قال المشتري: قد قصرتَ إذْ أديتَ ما لم يكن لك، فيبطل حقُّك بتقصيرك، وتأخيرِك أدَاءَ ما عليك، فلا يخلو: إما أن يقول الشفيع: لم أدر أن ما أديتُه مستحَق، وإما أن يعترف بأنه كان عالماً بكونه مستحقاً إذْ أداه، فإن قال: لم أكن عالماً؛ فالقول قوله مع يمينه، إن مست الحاجة إلى التحليف، ولا تبطل الشفعة.
ولكن إن كان يملك بجهةِ توفيةِ الثمن؟ فهل نقول الآن تبيُّناً: إنه لم يملك الشقص، فعليه إن أراد التملك أن يوفي الثمن؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنا نتبين أنه لم يملك؛ فإن عماد الملك من هذه الجهة التوفية وأداء الثمن، وقد بان أنه لم يؤد الثمن.
والوجه الثاني- أن ملكَه ثابت في الشقص، لجريان القبض حسّاً وصورة، والقبض
من جهات تملك الشقص المشفوع، فيبقى الشقص ملكاً للشفيع، وهو مُطالب بالثمن.
هذا إذا قال: لم أعلم أن ما أديتُه مستحَقاً.
فأما إذا اعترف بكونه مستحَقاً، وبعلمه ذلك حالة التسليم، فهل نقول: يبطل حقه من الشفعة، لما صدر من تقصيره وتأخيره؟ فعلى وجهين. وهذا الخلاف قد قدمتُه بعينه، إذ قلتُ: لو ماطل بعد طلب الشفعة فهل نحكم بأن حقه يبطل أم يتوقف بطلان حقّه على أن يُبطلَه القاضي؟ فإن قلنا: يبطل حقه من الشفعة، فلا كلام. وإن قلنا:
لا يبطل حقه من الشفعة، فهل نحكم بأنه ملَك الشقصَ بقبضه أم لا نحكم له بالملك؟ فعلى وجهين، مرتبين على ما إذا كان جاهلاً بأن ما أدّاه مستحق. وهذه الصورة الأخيرة أولى بأن نقول فيها: لا يحصل الملك.
فهذا تحصيل القول.
وما ذكرناه فيه إذا خرج ما أدّاه مستحقاً، أو خرج زيوفاً.
4799- فلو لم يكن مستحَقاً، ولكن كان معيباً، وكان من الممكن أن يرضى المشتري به فإذا لم يرض، وردّ، أما الشفعة، فلا تبطل؛ فإنه إن كان جاهلاً، فهو معذور، وإن كان عالماً، لم يبعد أن يقدِّر أنه يُسامَح ويساهَل في قبول ما أدّاه. فإن أبى المشتري إلا الاستبدالَ، فليفعل. والأصح أن ملك الشفيع لا يزول عن الشقص في هذه الصورة.
وفيه وجه آخر ضعيف: أن ملكه يزول، ولعل هذا القائل لا يحكم بثبوت الملك، ثم بزواله، بل يقول: كان الملك موقوفاً على ما يبين.
وذكر القاضي صورةً بديعة في سياق هذه المسائل، فقال: لو قال الشفيع حالة تسليم الثمن: تملكتُ الشقص بهذه الدنانير، ثم خرجت مستحَقة، أو رديئة الجنس، فرُدّت. قال: في المسألة وجهان:
أحدهما: أنه تبطل شفعته؛ لأنه أعطى ما لا يملكه، وعلّق الاستحقاق به.
والثاني: لا تبطل.
وخصص الخلافَ بالتعيين، وأطلق القول بأن الشفيع إذا لم يقل: تملكتُ الشقصَ بهذه الدنانير، ولكن جرى الإقباضُ والقبضُ مطلقاً، لم ينتقض الملك، ولم تبطل الشفعة.
أمّا ذكر الوفاق عند الإطلاق، فإخلالٌ بذكر خلاف الأصحاب، ولكنه متجه في المعنى.
والتفصيل البالغ ما ذكرناه.
وأمّا ما ذكره في صورة التعيين، فوجه الخلاف لم يأخذه من اعتقاد تعيين الدنانير، وإنما أخذه من لفظ الشفيع؛ إذ قال: تملكتُ بهذه، والترتيب أنا إن قلنا: المطلق مع العلم يتضمن الملك، فإذا لفظ بربط الملك بما يسلمه، فالمسألة محتملة. ويظهر أن لا يملك، ووجه تمليكه أن تعيينه باطل، فإن التعيين لا أصل له، وإنما ملك الشقص بقبضه.
هذا منتهى الغرض في هذا الركن من العهدة.
4800- ويلتحق به بعد نجازه أن الشفيع لو لم يكن قبض الشقص بعدُ، واطلع البائع على عيب بالعبد المسمى ثمناً، فإن أراد البائع الردَّ ليسترد الشقصَ، وأراد الشفيع أن يأخذ الشقص، فقد ذكرنا فيما تقدم أن المشتري لو أرادَ ردّ الشقص بالعيب، وأراد الشفيع أخذه، وبذْلَ الثمن فمن الذي يجابُ منهما إلى ملتمسه؟ في المسألة قولان، قدمنا ذكرهما.
والرد في هذه الصورة التي ذكرناها الآن من جهة البائع. وحاصل المذهب في هذا يحصره طريقان: من أصحابنا من أجرى القولين في هذه الصورة إجراءهما فيه إذا كان المشتري هو الذي يرد الشقص.
وسبيل التسوية بينهما أن في كل صورة من الصورتين ردّاً يتضمن نقضَ العقد الذي هو محل الشفعة، والشفيع يبغي بقاء العقد، ليدوم حقُّه، فينتظم القولان، مهما تعارض غرض الراد، وغرض الشفيع. ثم المشتري مدعوٌّ إلى أن يسترد من الشفيع مثلَ ما بذله أو قيمتَه، إن كان من ذوات القيم، والمشتري يبغي أن يسترد عين ماله، والبائع إذا كان هو الراد مدعوٌّ إلى أن يقنع بقيمة الشقص، وهو يبغي أن يسترد عينَه، فلا فرق، والتسوية اختيار القاضي.
ومن أصحابنا من قال: إذا كان الرّاد هو البائع والشفيع لم يملك الشقص بعدُ، فرأْيُ البائع متبعٌ؛ فإنّ رده نافذ، ولا ملك للشفيع بعدُ في الشقص، فتقديم غرض البائع أولى، وليس كرد المشتري؛ فإنه ينشىء الرد في عين محل الشفعة، والبائع ينشىء الرد في غير محل الشفعة، وهو العبد.
وفي المسألة احتمال ظاهر، والتسوية أقيس.
4801- ومما نرى إلحاقه بأعقاب هذا الفصل أن المشتري لو وجد بالشقص عيباً قديماً، وقد امتنع عليه الرد به لعيب حدث في يده، فرجع على البائع بأرش العيب القديم، فذلك القدر يُحط عن الشفيع بلا خلافٍ؛ فإنه وإن جرى بعدَ العقد، فهو مستحَق بالعقد، ولو تمكن المشتري من الرد بالعيب القديم، ولكن اتفق البائع والمشتري على الرجوع إلى الأرش والمصالحة عليه، ففي صحة ذلك وجهان مشهوران. فإن قلنا: لا يصح، فلا كلام. وإن قلنا: يصح، فهل يُحط في هذه الصورة عن الشفيع ما حُط عن المشتري؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي:
أحدهما: يُحط، كما لو امتنع الرّد؛ فإنه في مقابلة عيبٍ بالشقص.
والثاني: لا يحط؛ فإن هذه مصالحة عن حق الرد، لا عن عين العيب.
وممَّا ذكره صاحب التقريب أن من اشترى شقصاً بعبدٍ، وكان العبدُ معيباً، فلما رآه البائع، رضي بعيبه، ولم يردّه، فإذا أراد الشفيع الشفعة أخذها بقيمة العبد معيباً، وليس للمشتري أن يُلزمه قيمةَ العبد سليماً، ويقول: تبرع البائع عليَّ إذْ رضي بعيب العبد، وجوّزه تجويزَ السليم، فاغرم أنت أيها الشفيع قيمته سليماً، فيقال له: ليس على الشفيع إلا قيمةُ ما عيَّنته، إن كان سليماً، التزم قيمةَ السليم، وإن كان معيباً، التزم قيمةَ المعيب؛ فإنّ حكم الشَّرع أن يلتزم الشفيع قيمةَ المعيّن ثمناً على ما هو عليه من صفاته. وغلط بعضُ المصنفين، وصار إلى أن الشفيع يغرَم قيمة العبدِ سليماً.
وهذا غلط صريح لا يشك فيه ذو تحصيل.