فصل: كتاب الإجارة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب الإجارة:

5057- الإجارة معاملة صحيحة، تورد على منافعَ مقصودةٍ قابلةٍ للبذل والإباحة، على شرط الإعلام مع العوض المبيّن.
5058- وقد أجمع من بإجماعه اعتبار على صحة الإجارة، وخلاف ابن كيسان الأصم، والقاساني غيرُ معتدٍّ به من وجهين:
أحدهما: أنهما ليسا من أهل الحل والعقد، والآخر- أن خلافهما مسبوقٌ بإجماع الأمة على صحة الإجارة قبلهما.
5059- وتيمّن الأئمةُ بذكر قصة شعيب في استئجار موسى صلوات الله عليهما، والاستئجار على الإرضاع منصوصٌ عليه في قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6].
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أعطوا الأجير أجره، قبل أن يجفّ عرقُه». والحديث الذي أجراه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً، إذ قال: «مثلكم ومثل الذين من قبلكم من اليهود والنصارى، كمثل رجل استأجر أجيراً من الصبح إلى الظهر بقيراط». معروف. وهو أصل في الباب. وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثةٌ أنا خصمهم، ومن كنت خصمه خصمتُه: رجل باع حراً، وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً، فاستوفى منفعته، ولم يؤدّ أجره، ورجل أعطاني صفقةَ يمينه، ثم غدر».
" وأجّر عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه نفسَه من يهودي كان يستقي له الماء، كل دلو بتمرة". " واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بنَ أريقط دليلاً".
والحاجة ماسة إلى الإجارة بينةٌ لا خفاء بها.
5060- ولسنا ننكر أن الإجارة من حيث وردت عدى منافعَ لم تخلق بعدُ مائلةٌ عن القياس بعض الميل، ولكنها مسوغةٌ لعموم الحاجة. وقد ذكرنا في مواضعَ أن الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة. ثم ما ثبت أصله بالحاجة، لم يتوقف إثباته وتصحيحه في حق الآحاد على قيام الحاجة، حتى يقال: الإجارة تنعقد في حق من لا مسكن له، وهو محتاج إلى المسكن، ولا تنعقد في حق من يملك المساكن، بل يُعمم في حكم التجويز الكافة.
5061- ثم نذكر تراجم في أصول الكتاب بالتوطئة والإيناس، وننعكس في المسائل على تفصيلها، فنذكر معقود الإجارة، والألفاظَ التي تنعقد الإجارةُ بها، وما تصح الإجارة فيها، ونرمز إلى انقسام الإجارة في قاعدتها. إن شاء الله تعالى.
5062- فأما القول في معقود الإجارة، فقد ظهر اختلاف الأصحاب فيه قديماً وحديثاً، فقال بعضهم: المعقود عليه في الإجارة العينُ المستأجرة، وإنما حملهم على ذلك محاذرةُ الحكم بإيراد المعاوضة اللازمة على مفقودٍ، وهي المنافع.
وقال قائلون: المعقود عليه في الإجارة المنافعُ.
وهذه الطريقةُ هي المرضية عند الفقهاء، فإن معقودَ كلِّ عقدٍ هو المقصود منه، والمنافع هي المقصودةُ، والإجارة عقدُ تمليكٍ، والمنافع هي التي تُملّك، وتستحق فيها دون العين، والأجرة في الإجارة تتوزع على المنافع، إذا تبعضت في منازل الفسخ والانفساخ، فهي المقصودة المعقودُ عليها، ولكن الشرعَ احتمل إيراد العقد عليها، وهي تثبت شيئاًً شيئاً؛ لما أشرنا إليه من مسيس الحاجة.
وقد ينتهي الكلامُ إلى ماهية المنفعة، وليست المنافع رقبةَ العين المستأجرة، ولا ما يعقل من صفاتها كتركّب الجدران وتنضّد السقف على الهيآت المطلوبة، وغيرها من الصفات.
فالمنافع إذن نعني بها تهيُّؤَ العين المستأجرة لانتفاع المستأجِر بها في الوجه المطلوب، ولا مزيد في الأحكام الشرعية على هذه المواقف.
5063- وقال القاضي: الإجارة ترد على العين، لاستيفاء المنفعة منها، وأشار بذلك إلى أن العاقد يقول: أجرتك هذه الدارَ، فيضيف لفظَه إلى عينها، والمقصود استيفاء المنفعة منها.
وهذا الذي قاله قريب؛ فإنه عَنَى بذكر العين إضافةَ لفظ الإجارة إليها.
وهذا لا اختلاف فيه، ثم أشار إلى المنافع، وأبان أنها المقصودة، وفيما ذكره مزيد نظر وتفصيل، سننبه عليه في ألفاظ هذا العقد، إن شاء الله تعالى.
5064- فأما القول في الألفاظ التي تنعقد الإجارةُ بها، فاللفظ الشائع الصريح في الباب-من غير استكراه- الإجارةُ، والإكراءُ. فقول المالك: أكريتُك هذه الدارَ سنةً، أو أجرتك بكذا. ولو قال: ملكتك منفعةَ هذه الدار، أو منفعةَ هذا العبدِ شهراً بكذا، صحَّ، باتفاق الأصحاب. وهذا يدل دلالة ظاهرة على أن المعقود عليه المنافع.
5065- ولو قال: بعتُ منك منافعَ هذه العين شهراً بكذا، ففي صحة الإجارة وجهان مشهوران: أظهرهما- أن الإجارة لا تنعقد؛ لأن لفظ البيع موضوعٌ لتمليك الأعيان، فاستعماله في المنافع بعيدٌ عن موضوعه، ونقْلٌ له عن حقيقة بابه.
ولفظُ التمليك لا اختصاص له ببابٍ، بل هو صالح لكل ما يثبت فيه الملك، والمنافع مملوكة بالإجارة.
وقال ابن سُريج: تصح الإجارةُ باستعمال لفظ البيع على الصيغة التي ذكرناها؛ فن البيع يتضمن تمليكَ الأعيان، والمنافعُ تملك بملك الأعيان، فلا يبعد استعمال لفظ البيع فيها، كما لا يبعد مساواةُ المنافع للأعيان في جريان الملك، وقد قال الشافعي: الإجاراتُ صنفٌ من البيوع.
5066- ولو قال: أكريتك، أو قال: أجرتك منافع هذه الدار، كان اللفظ لاغياً؛ فإن وضع لفظ الإجارة على الإضافة إلى العين المنتفع بها، فإذا أضيف إلى المنافع، كان لاغياً في اللسان، غيرَ مفيد، ولا يضاف إلى المنافع إلا ما يقتضي التمليك في وضعه وصيغته، والإجارةُ ليست كذلك. وإنما أفادت الملكَ بالشيوع في الاستعمال، فلتستعمل على الوجه المعتاد.
5067- وهذا أوان التنبيه على ما ذكرناه قبلُ من كلام القاضي: فقوله: الإجارة ترد على العين لاستيفاء المنفعة، يختص بلفظ الإجارة والإكراء؛ فإنهما لا يتضمنان تمليكاً، وما يتضمن تمليكاً يَضاف إلى المنفعة دون العين، فلو قال: ملكتك هذه الدارَ شهراً، وأراد الإجارة، لم يجز، وحُمل اللفظُ فيه على تمليكٍ مؤقت في العين، وهو فاسد. فإذا كان يقع الكلام كلياً في معقود الإجارة، فلا معنى للتعلق بصيغة لفظة من الألفاظ مختصة، وإنما يمتحن المعقود من الألفاظ الناصّة على الغرض كالتمليك، فلا جرم هو مضاف إلى المنافع، والإجارة تعمل عن جهة شيوعها في العادة، لا عَنْ معناها. فهذا ما أردنا التنبيهَ عليه.
5068- فأما القول فيما تصح إجارته، وما لا تصح إجارته، فالأوْلى فيه التعرض للتقسيم. فالأعيان تنقسم إلى الجمادات، والحيوانات، فأما الجمادات، فإنما تجري الإجارة فيما يُنتفع به انتفاعاً يقابَل بالمال عرفاً، مع بقاء العين. وما لا يتأتى الانتفاع به إلا باستهلاكه، فلا يتخيل فيه الإجارة. كالأطعمة والأشربة، فلا تُستأجر التفاحةُ لتُشتمَّ؛ فإن ذلك، وإن كان منفعة، فليست من المنافع التي تُبذل عليها الأموال، ومالك التفاحة لا يرضى بتسليمها لتُبذلَ، وتقربَ من الفساد، ثم تُرد.
5069- واختلف أئمتنا في استئجار الدراهم والدنانير، لتزيين الحوانيت، ودكاكين الصيارفة، فذهب الأكثرون إلى منع استئجارها؛ فإن ما ذكرناه ليست منفعةً مقصودةً؛ فإن الغرض مما أشرنا إليه موقوفٌ على أن يُرِي الصرافُ أنها ملكُه، ولو ظهر ذلك، لفسد الغرض، فغاية المقصود تلبيسٌ إذاً، وإذا منعنا الاستئجار، ففي جواز استعارتها للمقصود الذي ذكرناه خلافٌ، ولا وجه لمنع الإعارة إلا ما نبهنا عليه من التلبيس، وإلا فالإعارة تقبل الجهالةَ والإبهام، ولا تقبلها الإجارة.
5070- وذكر القاضي في الاستشهاد بفساد إجارة الدراهم، والدنانير: أن استئجار الأطعمة لمثل الغرض الذي ذكرناه في الدراهم فاسدٌ. ولستُ أرى الأمرَ كذلك، فلو استأجر الرجلُ صُبرةَ حِنطةٍ، ليزين بها دكّانه، فالكلام فيه كالكلام في استئجار الدراهم والدنانير. ولا يجوز تخيّل الفرق بينهما والخلاف جارٍ فيهما، والأصح المنع، كما قدمناه.
5071- وأما الحيوان قسمان: آدمي، وغيرُ آدمي، فالآدمي يجوز إجارته، حراً كان أو عبداً. وغير الآدمي قسمان: منتفعٌ به، وغير منتفع به. فما لا ينتفع به يظهر فساد إجارته، كالخنازير، والسباع غير الجوارح، والحشرات ونحوها.
والمنتفع به قسمان: نجس العين، وطاهر العين. فأما ما هو نجس العين، فالكلب المعلّم، وفي جواز إجارته وجهان:
أحدهما: لا تصح، كما لا يصح بيعه.
والثاني: أنها تصح؛ لأن مَوْرد البيع العين، وعين الكلب نجسة، ومورد الإجارة المنافع، وهي لا تتصف بالطهارة والنجاسة.
وأما الحيوان الطاهر المنتفع به، كالجوارح من الطيور، وكالفهد، والحُمر، والبغال، والفيلة، والبقر، التي تركب، وتَحمل، أو تصلح للحراثة، فاستئجارها جائز.
5072- ولا يجوز استئجار الأعيان لأعيانٍ تنفصل منها، كاستئجار الأشجار لمكان الثمار؛ قصداً إلى تملكها، وكاستئجار المواشي قصداً إلى درِّها ونسلها. هذا ممتنع لا مجوّز له.
5073- ثم الإجارة تنقسم، فقد تُفرضُ واردةً على العين، بحيث لا يتصور ورودها على الذمة، وهذا بمثابة استئجار الأراضي، والمساكن، والقنوات، ونحوها، فلا يتأتى فرض إيرادها على الذمة، كما لا يتأتى الإسلامُ في شيءٍ منها في الذمة، يُلتزم، ثم يُعيّن، والسبب فيه أن مقصودَها الأعظم يتعلق بتعيينها؛ وإلا، فالقَراح في موضعٍ يُقوّم بمائة، ومثله في موضع آخر يُقوّم بعشرة، فإذا كان مقصودُها الأظهر في تعينها، ولا يتصور نقلُها، لم ينتظر إيراد البيع إلا على ما يتعين منها. وكذلك القول في إجارتها.
فأما ما سواها من الأعيان وهي المنقولات، فالإجارة تنقسم فيها إلى ما يرد على العين، وإلى ما يرد على الذمة. وهذا مما سيأتي مفصلاً في مسائل الكتاب.
ولكنا نذكر الآن جُملاً من خواصّ ما يرد على الذمة، وقضايا ما يرد على العين.
والقسمان أولاً يستويان في وجوب الإعلام في العوض والمعوّض، وقد تختلف طرق الإعلام في المنافع على ما سنذكر معاقد الكلام، فيها، إن شاء الله تعالى.
5074- فإن وردت الإجارة على عينٍ مثل أن يقول: استأجرت منك هذا العبد أو هذه الدّابة، صحّت الإجارة. ولإعلام المنفعة مسلكان:
أحدهما: المدة، والآخر- الإعلام بذكر نهاية المقصود، فأما المدة، فيقول: استأجرت منك هذه الدّابة لأتردد عليها في حوائجي في هذا اليوم، أَوْ أَحملَ عليها في هذا اليوم أقمشةً أنقلها من الحانوت إلى الدار، فهذا وجهٌ.
والوجه الآخر- أن يقول: استأجرت هذه الدابة، لأركبها إلى موضع كذا، أو أحمل عليها كذا وكذا إلى موضع كذا، فإذا صحت الإجارة، فمن حكمها ألا يجب تسليم الأجرة في المجلس؛ فإنها لم تقع سلماً، بل ارتبطت بعينٍ، ولا يجري فيها إبدال العين المعيّنة بغيرها، وإن تلفت قبل استيفاء المنفعة، انفسخت الإجارة. كما سنصف ذلك من بعدُ، إن شاء الله، وإن عابت، فردها المستأجر، انفسخت الإجارة.
5075- ثم مما نمهده في هذا القسم أن المستأجر إذا ذكر نوعاً من الانتفاع، لم يتعين، وكان ما يساويه في الإضرار بالدابة في معناه. فلو قال: استأجرت هذه الدابة لأركبها، ثم أراد أن يُركب غيرَه، وكان ذلك الغير مثلَه، فذلك جائز.
ولو استأجر أرضاً لزراعة الحنطة، كان له أن يزرعها شعيراً؛ فإن ضرر الشعير أقلُّ، ولسنا نلتزم تفصيل هذا؛ فإنه بين أيدينا.
والضابط الذي يليق بعقد التراجم أن الإبدال جائز في جهات الانتفاع، إذا لم يزد الضررُ، ولم يختلف جنسُه. أما زيادة الضرر، فمثل: أن يستأجر الدابة لركوب نفسه، وهو نحيف، ثم يُركبها رجلاً ضخماً، وأما الاختلاف في الجنس، فهو أن يستأجر دابة ليحملها تبناً، فحمّلها مثلَ وزن التبن تبراً، لم يجز؛ فإن ضرر التبن في أن يغمر الدابة ويعمّها، وضرر التبر في ثقلها على موضع من البهيمة؛ فهي تكُدُّ ذلك الموضعَ، وتُميده، فلا يجوز هذا النوع من الإبدال.
ثم إجارة العين تضاهي بيعَ العين في الافتقار إلى الرؤية، على حسب ما ذكرناه في اختلاف القول في بيع الغائب.
5076- وأما الإجارة الواردة على الذمة، فمثل أن يقول: ألزمت ذمتَك خياطةَ هذا القميص، أو نقلَ هذه الحمولة ووزنُها كذا، من هذا الموضع إلى موضع كذا، أو تنقلني إلى موضع كذا، فهذا النوع جائز على الجملة.
فإن وقع العقدُ بلفظ السّلم، صح، ويجب تسليمُ الأجرة في المجلس، كما يجب تسليم رأس المال في السلم. وإن جرت الإجارة على الذمة من غير لفظ الإسلام والإسلاف، ففي اشتراط تسليم الأجرة في المجلس وجهان أجرينا نظيرهما في البيع الوارد على الذمة من غير لفظ السلم والسلف.
ثم من أحكام الإجارة الواردة على الذمة ذكرُ أوصاف ما ينتفع به على ما يليق بأوصاف المسْلَم فيه، فإذا طلب مركوباً، ذكر جنسَه ونوعَه، والذكورة والأنوثة، وصفةَ المشي، والتعرضُ للذكورة والأنوثةِ يؤول إلى صفة المشي، وسيأتي استقصاء هذا في موضعه، إن شاء الله تعالى. وقَدْرُ المقصود الآن عقدُ الجُمل.
ثم إذا جاء الملتزِم بالمنتفَع به، فلم يكن على الوصف المستحق، أبدله، وإن عابت تلك الدابة، ولم يرض بذلك العيبِ المؤثر في المنفعة- المستأجرُ ردَّها، ولم ينفسخ العقد، فليأخذ بدلها. وكذلك لو تلفت تلك الدابة، وجب إبدالها.
5077- ولو قال: استأجرت هذه الدابة، كانت الإجارة واردةً على عينها.
ولو قال للرجل الذي يخاطبه: استأجرتك بكذا وكذا، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن الإجارة واردةٌ على عين المخاطب، وقوله: استأجرتك، كقوله: استأجرتُ هذه الدابة.
والوجه الثاني-وهو الذي صححه القاضي- أن الإجارة تنعقد على الذمة بهذه العبارة؛ لأن معناها في التحقيق: استحققت عليك خياطةَ هذا الثوب، أو ما عينه من العمل سواه، وهذا يتضمن إلزامَ الذمة، وليس كما لو قال: استأجرت هذه الدابّة؛ لأنه طلب انتفاعاً بعينها، وفي مسألتنا طلب أن يوقع المخاطَب عملاً في عين مالٍ له، إما بنفسه، وإما بغيره.
فعلى هذا لو أراد أن يعلّق الإجارة بعين المخاطب، احتاج إلى مزيد تقييد، فيقول: استأجرت عينَك، أو نفسك، أو استأجرتك لتخيط بنفسك.
5078- ومما يليق بالمعاقد الكلية، أن إعلام المنفعة قد يقع بذكر المدة، كما ذكرناه. وليست المدّةُ في الحقيقة تأجيلاً، ولا تأقيتاً؛ فإن الأجل معناه مَهْلٌ يحِلّ الحق عند انقضائه، وهذا لا يتحقق في مدّة الإجارة، والإجارة ليست مؤقتة في الحقيقة؛ فإن علائق العقد تبقى بعد انقضاء المدة، ويكفي في تحقيق بقائها تصوّر فسخها بعد المدة بالتحالف، والاختلاف في مقدار الأجرة والمدة، فالمدة إذاً تُعلِم المنافعَ إعلام الكيل والوزن المكيلَ والموزون.
فإذا كان يتأتى إعلام المنفعة من غير مدة، كفى، مثل أن يقول: استأجرتك لخياطة هذا القميص، فهذا كافٍ، فلو جمع بين الإعلام بهذه الجهة وبين ذكر المدة، فقال: استأجرتك لتخيط هذا الثوبَ في هذا اليوم، ففي صحة الإجارة وجهان:
أحدهما: أنها تصح، وأن مزيد الإعلام لا يضر.
والثاني: أنها لا تصح؛ فإن الوفاء بالوجهين يعسر، فقد يتم العمل وفي النهار بقية، وقد ينقضي النهارُ وفي العمل بقية، فلا معنى للجمع بين الجهتين.
وإذا صححنا الجمعَ بين الجهتين، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن المقصود العملُ، فإذا تم، كفى، ولا يستعمل الأجير في بقية النهار، ولو انقضى النهار، وبقي من العمل وجب استتمامهُ.
ومن أصحابنا من قال: يتم المقصود المقابل بالأجرة بإحدى الجهتين، فإن قم العمل، كفى، وإن انقضى النهار والأجير مُكبٌّ على العمل، كفى، واستحق تمامَ الأجرة.
فهذه جملٌ رأينا تصدير الكتاب بها.
فصل:
قال: "وقد يختلف الرضاعُ... إلى آخره".
5079- أبان الشافعي أن الشرط في صحة الإجارة كونُ العمل معلوماً على الجملة، فإن تطرقت جهالةٌ إلى التفاصيل، لم يضر؛ إذ لو شرطنا العلم بالتفاصيل، لما صحت الإجارة على الإرضاع، وقد دل نصُّ القرآن على صحتها، ثم ما يشربه الصبي من اللبن في كل يوم غيرُ معلوم، وقدرُ ما يحتاج إليه غيرُ معلوم، وهو إلى النموّ والازدياد، والأعراض تعرض، والصبيّ للأمراض بالمرصاد، فثبت ما أشار إليه الشافعي من المقصود.
5080- ثم نجمع ما يتعلق بالاستئجار على الحضانة والإرضاع تأصيلاً وتفصيلاً، فنقول: الاستئجار على الحضانة المجرّدة من غير إرضاع جائز، ويجوز استئجار الحاضنة في الولد الذي ليس مرتَضعاً، ويجوز للأم أن تستأجر حاضنةً لا لبن لها، والأم ترضع.
ثم نقول وراء ذلك: إن استأجر مرضعةً على الإرضاع المجرد من غير حضانة، فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من جوّزه، ومنهم من لم يجوّز الاستئجار على الإرضاع دون الحضانة.
5081- توجيه الوجهين: من قال: لا يجوز، استدل بأن الإرضاع المجردَ صرفُ اللبن إلى الصبي، وهو عينٌ، واستحقاق الأعيان مقصودةً بالإجارة بعيدٌ عن القواعد؛ فإن الإجارةَ تعتمد المنافعَ، كما أن البيع يعتمد العين. وأيضاًً، فإن الإرضاع لا يتأتى دون الاحتضان في رفع الصبيّ ووضعه، وهو مقصودُ الحضانة.
ومن قال بالجواز، احتج بظاهر قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، فذكر الأجْرَ في مقابلة الإرضاع، ثم الفقيه من لا يألف فنّاً من الكلام، ويتبع المعنى، فالمرعي الحاجةُ في هذه الأبواب، وهي ماسة إلى الإرضاع، واللبن وإن كان عيناً، فليس موجوداً في الحال، ولكنه يَدِرُّ شيئاًً شيئاًً، ويضاهي المنافع من هذه الجهة، والمتبع الحاجةُ. وما ذكره القائل الأول من استحالة الأرضاع دون الحضانة، ليس بشيء؛ فإن المرضعة تلقم الصبيَّ الثديَ، وعلى غيرها الرفع والوضع.
ومما يتصل بهذا المنتهى أن المرأة لو كانت ذاتَ لبن، فقد اضطرب طرق الأصحاب في ذكر الحضانة دون الإرضاع، وفي ذكر الإرضاع دون الحضانة. ونحن نصف ما ذكره الأصحاب، ثم ننص على المختار.
5082- فإذا استأجر المرضعةَ للحضانة، ولم يتعرض للإرضاع، فهل يدخل الإرضاع تبعاً؟ ولو ذكر الإرضاعَ، ولم يتعرض للحضانة، فهل تدخل الحضانة تبعاً؟ اضطرب الأئمة: فقال قائلون: في الطرفين وجهان:
أحدهما: أن ذكر الحضانة يستتبع الإرضاع، إذا كانت الحاضنةُ مرضعةً، وذكر الإرضاع يستتبع الحضانة.
والوجه الثاني- أنه لا يستتبع أحدُ المقصودين الثاني، بل لا يثبت إلا ما ذكر.
التوجيه: من قال بالاستتباع، قال: الإرضاع في العرف لا يخلو عن الحضانة-وإن كان يتصوّر تجريده- فَحُمِلَ الأمرُ على المفهوم عرفاً، والحضانة في ذات اللبن لا تطلق إلا والمراد القيام بالإرضاع مع الحضانة، فوجب تنزيل اللفظ في الشقين على موجَب العرف.
ومن قال بنفي التبعية، تمسك بظاهر الصيغة. ومعناها الاقتصارُ على المذكور.
وذكر القاضي وجهاً ثالثاً- وهو أن الحضانة لا تستتبع الإرضاعَ، والإرضاعُ إذا ذكر، استتبع الحضانة. وهذا فقيهٌ حسنٌ؛ من جهة أن انفراد الإرضاع يتضمّن صرفَ الإجارة إلى استحقاق العين، وإذا ثبتت الحضانةُ، كان اللبن في حكم التبع، كما سنصفه.
فالخارج إذاً مما ذكرناه: أن إفراد الحضانة من غير لبنٍ جائزٌ. وكذلك يجوز إفرادُ الحضانة من ذات اللبن، إذا وقع التنصيصُ على ذلك، وقُطعَ العرفُ-كما ذكرناه في التوجيه- وذلك بأن يقول: استأجرتكِ على الحضانة دون الإرضاع. والاستئجار على الإرضاع من غير حضانةٍ فيه خلافٌ قدّمناه، ونبهنا على وجهه.
5083- وتمام البيان عندي يقف على بيان الحضانة، وبيانُها مقصود في الفصل.
قال علماؤنا: الحضانة تنقيةُ بدن الصبي عن الدرن والنجاسات، وغسلُ الخرق، وثياب البدن، عما يغسل عنه ثياب الصبيان، ورفعه، ووضعُه، وإضجاعه في المهد، وربطه، وتحريكه، على المعتاد في مثله. فهذه جمل أعمال الحاضنة.
فإذا قلنا: يجوز إفراد الإرضاع بالاستئجار، لم يشترط جميع هذه الأعمال، بل يكفي ضمُّ الرضيع إلى النحر عند الإرضاع، ووضعُه في الحجر، وما جرى هذا المجرى، مما يتعلق بالإرضاع، هذا لابد منه. فأما ما يزيد على هذا من الغسل، وغيرِه، فلا وجه لاشتراطه.
وأما الكلام في إطلاق الحضانة، وأن الرضاع هل يتبعها، وفي إطلاق الإرضاع، وأن الحضانة هل تتبعه، فعلى ما قدمناه. وإذا أتبعنا الحضانةَ الإرضاعَ بحكم العرف، أردنا جميعَ أعمال الحضانة.
ولو استأجر امرأة للحضانة والإرضاع، وصرح بالجمع، وأراح نفسه من الخلاف، ثبت الأمران.
5084- ثم اختلف أئمتنا في أن المقصود من العقد أيّهما، فمنهم من قال: المقصود الحضانة، والخدمةُ، واللبن تبعٌ؛ لأن المنافع هي المستحقةُ بالإجارة، واللبن عينٌ، وإذا انعقد على المنفعة، لم يبعد أن يتبعها عينٌ، كما إذا استأجر داراً فيها بئرٌ، فالإجارة على منافع الدار، وماء البئر يختص بالمستأجِر تبعاً، والدليل عليه أن الله تعالى سمى ما يبذل لصاحبة اللبن أجرةً، والأجرةُ عِوض المنافع، واللبن يبعد أن يكون مقصوداً، وهو مجهول متفاوت.
ومن أئمتنا من قال: المقصود اللبن، والحضانةُ تابعةٌ، فإن إحياء الولد وتربيتَه باللبن، والحضانةُ تعهدٌ، وقيامٌ بالخدمة.
وبالجملة إنما يتميز المقصود بحكم العرف.
ومن أئمتنا من قال: هما جميعاً مقصودان. ولعله الأصح، والأعدلُ؛ فإنه يجوز الاستئجار على كل واحدٍ منهما، على حياله. وما ذكرناه من منع إفراد الإرضاع عند بعض الأصحاب بعيدٌ، وقد فسرناه بما يخرج معظم أفعال الحاضنة، فبان أن كل واحدٍ منهما يجوز إفراده بالعقد، فإذا جمعا كانا مقصودين.
التفريع على الوجوه:
5085- إن قلنا: المقصود الحضانة، فلو انقطع اللبن، لم تنفسخ الإجارةُ؛ لبقاء مقصودها، ولكن يثبت الخيار، كما لو استأجر طاحونةً، وانقطع الماء المدير، فللمستأجر خيارُ الفسخ.
ومن قال: المقصود اللبن؛ فإذا انقطع، وجب الحكم بانفساخ الإجارة.
ومن جعل اللبن والحضانة مقصودين، فإذا انقطع اللبن، وجب أن يقال: هو بمثابة ما لو اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض، فينفسخ البيع في التالف، وفي الانفساخ في الثاني قولا تفريق الصفقة.
هذا بيان الوجوه وفوائدها.
5086- وقال قائلون: ما ذكرناه من أن الحضانة تتبع الإرضاعَ، والإرضاعُ يتبع الحضانةَ مأخوذٌ من هذا الاختلاف الذي ذكرناه في أن المقصود من الإجارة المشتملة على الحضانة والإرضاع ماذا؟ وهذا غفلةٌ عن مأخذ الكلام؛ فإن الإتباع والاستتباع محالان على حكم العرف، كما قدمناه، بدليل أنه يجوز إفراد الحضانة والتصريحُ بقطع الإرضاع، وكذلك يجوز إفراد الإرضاع والتصريح بقطع الحضانة.
فرع:
5087- ليس للمنكوحة أن تؤاجر نفسها للإرضاع، وإن كان الزوج لا يستحق منها هذه المنفعة، والسبب في المنع أنها لا تقدرعلى تسليم نفسها، وعلى توفية ما يستحق عليها، ولو قدرنا صحة الإجارة؛ إذ لو أرادت إدخال الصبي دار زوجها، لم يكن لها ذلك، وللزوج منعها من الخروج. ولو أجرت نفسها بإذن زوجها للإرضاع، صح ذلك، ثم يجب الوفاء بالعقد.
5088- ولو أراد الزوج أن يستأجرها لترضع ولده منها، أو من غيرها، فقد ذكر العراقيون أن الاستئجار فاسد، فإنها على الجملة مستغرقة المنافع بحق الزوج.
وقطع المراوزة بصحة الاستئجار، والوجه ما ذكروه؛ فإنّ استئجار الزوج إياها بمثابة إذنه لها في أن تؤاجر نفسها، والإرضاع ليس واجباً عليها، والزوج لا يستحق من منافعها شيئاً إلا منفعة المستمتع. والذي ذكروه مذهبُ أبي حنيفة- رضوان الله عليه، فلستُ أعتد إذاً بما حكَوْه، وإن قطعوا به.
فرع:
5089- إذا استأجر الرجل وراقاً ليكتب له شيئاً معلوماً، فهل يدخل الحِبرُ في مطلق الاستئجار؟ ذكر الشيخ أبو علي طريقين للأصحاب: فمن أصحابنا من قال: في المسألة وجهان، كالوجهين في أن الرضاع هل يتبع الحضانة. وقد ذكرنا وجهين في ذلك، والمتبع في تشبيه الحبر باللبن العرفُ، وجريانُه بأن يهيء الوراق الحبرَ منْ عند نفسه، ويصلحه على ما يُحب ويؤثر.
التفريع:
5090- إن قلنا: الحبر يتبع، فلا كلام، وإن قلنا: لا يتبع، فلو شُرط، ثبت، وإن كان مجهولاً كالرضاع. هذه طريقة.
ومن أصحابنا من قطع بأن الحبر لا يتبع الكتابة، وليس في معنى اللبن في الإرضاع، ولو ذكر مع الكتابة على الجهالة، فسد، وإن ذُكر وأُعلم، فهو جمعٌ بين بيع عينٍ وإجارة في صفقة واحدة، وفيه الخلاف المشهور.
وهذه الطريقةُ أمتن وأقيس؛ فإن الاستئجار على الرضاع المجرد جائز، ولا يجوز أن يبتاع الإنسان من الحبر ما يكتب به مجلّدةً، أو مجلدتين، والسر في ذلك أن تصحيح الاستئجار على الإرضاع متلقى من الضرورة المرهقة، والحاجة الحاقة.
وكان شيخي يقطع بأن استئجار الخياط لا يُلزمه الخيطَ، بخلاف الحبر، والأمر على ما ذكر.
والفاصل أن جريان العرف في الورّاق قريبٌ من الاطراد، في أن الورّاق يتكلف الحبرَ، والأمر في الخياط بخلاف ذلك.
وإن اضطربت العادة في الخياط والورّاق، في الحبر والخيط، فقد ذكر القاضي وطائفة من الأصحاب أن إطلاق العقد يُبطله، ولابد من التعرض لما يقع التوافق عليه في الحبر والخيط؛ فإنّ العادات إذا ترددت واللفظ بينها لا تفصيل فيه، فهو ملتحق بالمجملات.
وكان شيخي يقطع بأن العادات إذا اختلفت، فالحبر والخيط على المستأجر، وليس على الآجِر إلا الكتابة والخياطة؛ فإنها المذكورة، فلا مزيد على مقتضى اللفظ، ووضع العقود على اتباع قضايا الألفاظ إلا أن يغيّرها العرف، فإذا اضطرب العرف، لم نبالِ به، ورجعنا إلى موجب اللفظ، وكذلك القول في الخياطة.
فصل:
قال: "والإجاراتُ صنفٌ من البيوع... إلى آخره".
5091- الإجارات معاوضةٌ محققة مشتملةٌ على التمليك من الجانبين، فالمُكري يملك الأجرة على المستأجر، والمستأجر يملك عليه في مقابلة الأجرة منفعةَ العين، أما الأجرة، فنها بمثابة الأثمان، فإن عُجِّلت، تعجلت، وإن أُجلت، وكانت ديناً، تأجلت. وإن أطلقت، تعجلت، كما لو قيدت بالتعجيل، فهي فيما ذكرناه تنزل منزلة الثمن.
5092- ولو كانت الأجرة عيناً مشاراً إليها، تعيّنت، ولو كانت الأجرة صُبرةَ دراهم أشير إليها، ولم تكن معلومةَ المقدار، فلأصحابنا طريقان: منهم من قال: يصح ذلك، وتثبت الأجرة جزافاً، تعويلاً على الإشارة، كما يثبت الثمن كذلك.
ومن أصحابنا من خرّج جواز ذلك على قولين، كالقولين في رأس المال في السلم، وقد قدمنا قولين في أن رأس مال السلم إذا كان جُزافاً هل يصح السلم، والجامع بين العقدين أن السلم عقدُ غررٍ، وكذلك الإجارة عقدُ غرر؛ فإنّ المنافعَ توجد شيئاًً، فشيئاًً، ولا يستقر الضمان ما لم تنقض المدة في يد المكتري، وقد يعرض تلفُ العين المستأجرة، وانفساخُ الإجارة في المدة المستقبلة، ثم تمس الحاجة إلى توزيع الأجرة المسماة على ما مضى وبقي، فإذا لم تكن الأجرة معلومةً، جَرَّ ذلك خبطاً وجهالة يعسر دفعُها.
والفقه في العقدين أنهما جُوَّزا على حسب الحاجة، واحتمل فيهما من الغرر ما يليق بقدر الحاجة، فما يفرض زائداً على مقدار الحاجة فسد وأفسد. هذا قولنا في الأجرة.
5093- فأما المنافع، فمذهب الشافعي أن المستأجر يملكها بالعقد، ومعنى ملكه لها أنه يستحق على مالك الدار توفيةَ المنافع، من عين الدار، وهذا الاستحقاق يضاهي من وجهٍ استحقاقَ الديون؛ من حيث إن المنافع ليست موجودة، ونحن نقضي بالملك حملاً على الاستحقاق، كما نقضي بكون الدين مملوكاً لمستحقه، وإن لم نكن نعني به استحقاقَ عينٍ موجودة في الحالة الراهنة، ولكنّ الدين لا يتعلق بعين، والمنافع تستحق من عينٍ مخصوصة. وقد قررنا ذلك في (الأساليب).
5094- ثم إذا قبض المستأجر العينَ المستأجرةَ، ثبت حكم الملك، والقبضِ في منافع العين المستأجرة، وآية ذلك أنه لو أصدق امرأةً سكنى دارٍ مدةً معلومة، وسلم الدار إليها؛ فإنه يستحق عليها تسليمَ النفس.
ولو فُرض ما ذكرناه نجْمَ الكتابة، فالمكاتب يعتِق. لكن لا ينتقل الضمان إلى المستأجِر؛ فإن العين المستأجرة لو تلفت بعد قبض المستأجر، انفسخت الإجارة في المدة المستقبلة، فالقبض في العين وإن كان يؤثر في تأكيد حق المستأجِر، وتسليطه على الإجارة، فلا يتضمن نقلَ الضمان عن المُكري بالكلّية، ولا تنقطع العلائق بالكلية؛ فإن القبضَ في المنافع لم يحصل محسوساً، وإنما حصل حكماً.
ومن الدليل على بقاء العُلقة أنه يجب على المكري السعيُ في إدامة يدِ المستأجر على العين المستأجرة، حتى لو استرمّت الدارُ المكراة ولوْ لم تُعمَّر، لَعسُر استيفاء المنفعة، فيجب على المُكري أن يعمّرها، كما سيأتي ذلك مشروحاً في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
5095- ثم المذهب الأصح أن المستأجِر لو أراد أن يُكري الدارَ المستأجرةَ قبل قبضه إياها، لم يجد إلى ذلك سبيلاً، وإنما يتسلط على إجارتها إذا قبضها. وقبضُه يؤثر في تسليطه على الإجارة، ولا يقطع عُلقة الضمان عن المكري؛ لأن العين المستأجرة، لو تلفت بعد القبض، حُكم بانفساخ الإجارة.
وأبعد بعض أصحابنا، فجوّز للمستأجر إجارة العين المستأجرة قبل القبض، فإنّ قبض العين إذا كان لا ينقل الضمان على الحقيقة، ولا يقطع عُلقةً من المكري، فلا أثر لهُ في التسليط على الإجارة، فكما تصح الإجارة من المستأجر بعد قبض العين، فكذلك يصح ذلك منه قبل القبض.
فصل:
قال: "فإن قبض العبدَ، فاستخدمه، أو المسكن، فسكنه... إلى آخره".
5096- قد ذكرنا أن القبض في العين المستأجرة لا ينقل الضمان عن المكري، وإن كان يُبيح التصرفَ للمكتري، فإذا استأجر عبداً وقبضه، فتلف، نُظر: فإن تلف كما قُبض، ولم ينقضِ من مدة الإجارة شيء به اعتبار؛ فإن الإجارة تنفسخ، وترتدّ الأجرة.
وإن مضى بعضُ المدة في يد المستأجر، ثم تلفت العين، فالإجارة تنفسخ في المدة الباقية المستقبلة.
وهل نقضي بانفساخها في المدة الماضية؟ فعلى قولين: أظهرهما وأشهرهما- أنها لا تنفسخ في المدة الماضية؛ فإن المنافع صارت مستوفاة فيما مضى تحت يد المستحِق، ثم فاتت من ضمانه واستحقاقه، فلا ينعطف انفساخ العقد عليه.
والقول الثاني- وهو ضعيف مزيف، أن الإجارة تنفسخ فيما مضى. وهذا القول يجري فيه إذا اشترى عبدين، وقبض أحدَهما، وتلف في يده، ثم تلف العبدُ الآخر في يد البائع، فالبيع ينفسخ في العبد الذي تلف في يد البائع. وهو نظير الإجارة في المدة المستقبلة في مسألتنا. وهل نحكم بانفساخ البيع في العبد الذي قبضه المشتري وتلف في يده؟ المذهب أنا لا نحكم بذلك؛ لتلفه تحت يد المستحق.
وفيه قولٌ بعيد أنا نحكم بانفساخ العقد فيه.
التفريع على القولين في الأجارة:
5097- فإن حكمنا بأن الإجارة تنفسخ في المدة الماضية بانفساخها في المدة المستقبلة، فترتد الأجرة المسماة بكمالها على المستأجر، ويغرَم المستأجر للآجر قيمةَ ما تلف في يده، وهو أجرة مثل المنافع في الزمان الماضي.
وإن حكمنا بأن الإجارة لا تنفسخ في المدة الماضية، ولا يقع الانفساخ فيها، فهل يثبت للمستأجر الخيارُ في فسخ الإجارة؟ فعلى قولين: أصحهما- أنه لا يثبت خيارُ الفسخ فيها؛ فإنها لو قبلت الفسخَ إنشاءً بسبب الخيار، لقبلت الانفساخ.
والقول الثاني- أنه يثبت خيار الفسخ فيها لتبعّض الأمر وانفساخه، وخيار الفسخ أعم من الانفساخ؛ فإنه يثبت لا محالة، حيث لا يثبت الانفساخ وقوعاً.
5098- فإذا انتهى التفريع إلى التبعيض، وهو الجواب الصحيح، وأردنا أن نبُقي العقدَ وحُكمَه في الزمان الماضي، ونقضي بانفساخه في الزمان المستقبل، فلا ننظر في ذلك إلى مقدار الزمان، حتى إذا كان مضى نصفُ المدّة، وبقي نصفُها، فلا نحكم بالانفساخ في النصف وبقاء العقد في النصف، ولكن ننظر في أصل التوزيع إلى أجرة المثل، فإن كان مثل ما مضى كأجر مثل ما بقي، نصّفْنَا، وقضينا بانفساخ العقد في النصف، واستقراره في النصف.
وإن كانت الأجرة للزمان الماضي أكثرَ، لوقوع ذلك الزمان في موسم يكثر في مثله الرغبات في منافع العين، وكان أجر مثل ما بقي أقل، ضبطنا النسبة، ونسبنا ما بقي إلى ما مضى وأجرينا الحكم على حسب ذلك.
فإذا كان أجر مثل الماضي ثلثين، وإجر مثل الباقي ثلثاً، قضينا باستقرار العقد في ثلثي المعقود، واستقر بحسب ذلك ملكُ الآجِر في ثلثي الأجرة المسماة، ونحكم بانفساخ الإجارة في الثلث، فيسترد المستأجر ثلثَ الأجرة المسماة.
وكذلك الاعتبار لو كان الأمر على العكس في ذلك، وكانت أجرة مثل ما مضى مائة، وأجرة مثل ما بقي مائتين والأجرة المسماة خمسمائة، فيستقر ثلثها، ويرتد ثلثاها إلى المستأجر لمكان الانفساخ في المدة المستقبلة.
وتفاوت الأجرة في المدتين كتفاوت القيمة في عبدين يشتريهما، ويقبض أحدَهما، ويتلف في يده، ثم يتلف الثاني في يد البائع، فينفسخ البيعُ في العبد التالف في يد البائع، ويستقر في العبد الذي قبضه المشتري وتلف في يده، والرجوع إلى القيمتين في العبدين قراراً وانفساخاً. ووضوح ذلك يغني عن مزيد الشرح فيه.
وهذا كله فيه إذا استأجر عيناً، وقبضها، ثم تلفت في يده تحقيقاً، كالعبد يتلف في يد المستأجر، وهو موْرد العقد.
5099- فلو استأجر داراً، وقبضها، ثم انهدمت في يده بعد مضي مدة كما سبق تصويرها، فالذي ذهب إليه الجماهير أن الإجارة تنفسخ بانهدام الدار في المدة المستقبلة، كما تنفسخ بموت العبد المستأجَر. والكلام في انفساخها أو فسخها بالخيار في المدة الماضية على التفصيل الذي تقدم ذكره.
وذهب بعض القياسين من الأئمة إلى أن الإجارة لا تنفسخ بالانهدام في المستقبل، فإن المنافع لا تزول بالكلية؛ إذ العرصةُ باقية، والانتفاع بها سُكُوناً ممكن على الجملة، وليس كموت العبد المستأجَر؛ فإن موته يزيل وجهَ الانتفاع بالكلية.
فإن جرينا على ما ذهب إليه الأصحاب في الانهدام، فالتفريع في التوزيع كما تقدم في تلف العبد.
وإن لم نجعل الانهدام بمثابة التلف، فإنا نجعله بمثابة تعيّب المعقود عليه، ولو تعيّب، لثبت للمستأجر حقُّ الخيار. فإن أجاز العقدَ، استقرت الأجرة المسماة بكمالها للمكري، ولم يملك المستأجر استرداد شيء منها، لرضاه بالعيب، ولا يخفى نظير ذلك في المبيع إذا وقع الرضا بعيبه.
وإن فسخ العقدَ، انفسخ بفسخه في المستقبل، وعاد التفريع على التوزيع الذي قدمناه في المدة الماضية والمستقبلة.
والانهدامُ إذا لم يكن تلفاً عند هؤلاء، فهو كالتعيب في المعقود عليه، وليست العَرْصة الباقية مع السقوف التالفة بمثابة عبدين استأجرهما، وتلف أحدهما وبقي الثاني.
5100- وقد ذكرنا في أحكام البيع أن من اشترى داراً واحترق سقفها في يد البائع، فيكون ذلك كتعيّب المبيع في يد البائع، أم يكون كتلف بعض المبيع، حتى نقول: السقف مع بقاء العرصة بمنزلة تلف أحد العبدين المبيعين مع بقاء الثاني؟ فيه اختلاف مشهور، تقدم ذكره في كتاب البيع. وهذا الاختلاف لا يجري في الإجارة.
فإن حكمنا بأن انهدام الدار بمثابة تلف العبد المستاجَر، فلا كلام. وإن لم نجعله تلفاً في جميع المعقود عليه، لم نقل: تَلِفَ بعضُ المعقود في الإجارة، وبقي البعضُ. والفرق بيّنٌ بين العقدين: الإجارة والبيع؛ فإن الغرض من البيع المالية، فلا يمتنع أن يكون للسقف جزءٌ معلوم من المالية، ولا يتحقق مثل ذلك في الإجارة.
وهذا بينٌ للمتأمل لا خفاء به.
5101- ومما فرعه الأئمة في ذلك أن قالوا: من استأجر عبداً مدةً معلومة، وقبضه، ثم إن المستأجر أتلفه بنفسه، فالإجارة تنفسخ بفوات العبد بهذه الجهة، كما تنفسخ إذا مات حتف أنفه، أو قتله أجنبي، وليس ذلك كما لو اشترى عبداً وأتلفه؛ فإنا نجعل إتلافه إياه قبضاً منه، كما تقدم تقريره، في كتاب البيع، ولا نجعل إتلافَ المستأجِر للعين بهذه المثابة.
والفرق أن إتلاف المشترى يرِد على عين المعقود عليه، فيقع قبضاً لما تقدم ذكره في البيع. وإتلاف المستأجَر لا يرد على المعقود عليه في الإجارة؛ فإن المقصود فيها المنافع، والإتلافُ لا يتناولها. نعم يمتنع بسبب إتلاف العبد وجودُ منافعه في المستقبل، فالحكم إذاً ما ذكرناه من الانفساخ، كما لو مات العبد بنفسه، أو قتله أجنبي.
5102- قال القاضي إذا استأجر داراً، وقبضها، وعابت الدار في يده، فإنا نُثبت له حقَّ الفسخ، كما سنشرح ذلك في مسائل الكتاب، إن شاء الله تعالى.
فلو أنّ المستأجر عيّب تلك الدارَ بنفسه، والتزم أرش النقص بسبب جنايته، فله حق فسخ الإجارة؛ فإن العيب قد وقع، فلا نظر بعد وقوعه إلى جهة الوقوع؛ بناء على ما مهدناه في التلف؛ فإنه يوجب الانفساخ، سواء وقع أو أوقعه المستأجر قصداً.
فالقول في وقوع العيب كالقول في وقوع التلف.
وهذا الذي ذكره منقاسٌ حسن، لا ينقدح في الفقه غيرُه.
ولكن قد يختلج في صدر الفقيه خلافُه؛ من جهة أنه المتسبب إلى إيقاع هذا العيب، وهذا الاحتمال لا يظهر في الإتلاف؛ من جهة أن المنفعة قد فاتت بالإتلاف، ولم يصادفها في عينها إتلاف، والمنفعة في مسألة التعييب لم تفت، وإنما طرأ عليها عيبٌ، والمستأجِر سببه، فلا يبعد ألا يثبت الخيار.
5103- وقال القاضي مفرعاًعلى ما ذكره: إذا جعلنا طريان الجَبّ على الزوج مثبتأ للمرأة حقَّ الفسخ، على التفصيل الذي سيأتي ذكره في كتاب النكاح، إن شاء الله تعالى، في الفرق بين ما قبل المسيس وبعده، فلو جبَّت المرأةُ بنفسها زوجَها ينبغي أن يثبت لها الخيار في الفسخ، وإن حصل العيب بجنايتها، وفعلها.
وهذا الذي ذكره جارٍ على قياسه الفقيه الذي مهده، وفيه الاحتمال الذي ذكرناه، وقد يعتضد الاحتمال بشيء، وهو أن المرأة لو أخّرت حق الفسخ مع التمكن منه، فقد نجعل ذلك سبباً في بطلان حقها، فإذا كان يبطل حقها بالتأخير لإشعاره برضاها بالمقام تحت الزوج المجبوب، فإقدامها على الجب لأن يدل على رضاها أولى.
هذا وجهٌ، والأوجه الأفقه ما ذكره القاضي.
فصل:
قال: "ولا تنفسخ بموت أحدهما ما كانت الدار قائمة... إلى آخره".
5104- مذهب الشافعي أن الإجارة لا تنفسخ بموت أحد المتعاقدين، إذا بقيت العين المستأجرة، فلا نقضي بانفساخها بموت الآجِر، ولا بموت المستأجر؛ فإن الإجارة معاوضةٌ لازمة، فإذا لزمت، لم يتضمن موتُ أحد المتعاقدين انفساخَها، كالبيع.
وأبو حنيفة خالف في ذلك.
ولو أجر الحرُّ نفسَه، ثم مات، فالإجارة تنفسخ لفوات المعقود عليه، لا لفوات العاقد.
والإجارة فيما ذكرناه تضاهي النكاح في القاعدة، فإذا زوّج السيد أمته من إنسانٍ، ثم مات السيد، وبقيت الأمة المزوّجة وزوجُها، فالنكاح قائم، ولا يؤثر فيه تلفُ السيد المزوَّج، وإذا مات أحد الزوجين، فموته يضاهي موت المعقود عليه في الإجارة، ولكن لا ينفسخ النكاح بموت أحد الزوجين، بل ينتهي نهايته؛ فإن النكاح معقودٌ للعمر، فإذا تصرّم، كان منقضَى العمر منتهى النكاح.
وإذا فاتت العين المستأجرةُ في أثناء المدة، فات بفواتها المنفعة المستحقة في بقية المدة؛ فإن الإجارة عقدت للمنفعة التي تحتويها المدة.
ثم ذكر الأئمة أحكاماً في طريان الملك على الإجارة، ونحن بعون الله تعالى نأتي بها موضّحة مشروحة إن شاء الله عز وجل.
5105- فنقول أولاً: من نكح أَمَةً، ثم ملكها بإرثٍ، أو اكتسابٍ، فينفسخ النكاح بطريان الملك على رقبة الزوجة، بلا خلاف.
ومن اكترى داراً اكتراءً صحيحاً، ثم ملك في أثناء المدة رقبةَ الدار بإرثٍ، أو اكتسابٍ، فهل نقضي بانفساخ الإجارة في بقية المدة، فعلى وجهين مشهورين:
أحدهما: أنا نحكم بالانفساخ قياساً على النكاح؛ إذ لا خلاف أن طريان الملك على الزوجة يتضمن انفساخَ الزوجيّة، والجامع أن ملك اليمين يُثبت استحقاق منفعة البضع، والنكاحُ يتضمن ذلك، فيستحيل أن يستحق منفعةَ البضع بجهتين. وملكُ الرقبة لا سبيل إلى درائه ودفْعه، فاقتضى ذلك انقطاعَ النكاح. فكذلك ملك الرقبة يتضمن ملك المنفعة، والإجارة تقتضي ملكَ المنفعة، فلا يسوغ اجتماعُ موجبي الاستحقاق في شيء واحدٍ.
5106- ومن أصحابنا من قال: لا تنفسخ الإجارة بطريان الملك على الرقبة، بل تبقى على مقتضاها، كما سنبين حكمَ بقائها بالتفريع، إن شاء الله تعالى.
ولو أكرى الإنسانُ داره، ثم إن المالكَ المكري اكترى تلك الدارَ من المكتري، ففي صحة ذلك وجهان مأخوذان مما تقدم ذكرُه. فإن جعلنا ملك الرقبة والاستئجارَ نقيضين، لم تصح الإجارة، وإن حكمنا بأنهما لا يتناقضان، وإذا طرأ الملك على الرقبة، بقيت الإجارةُ، فنحكم بأنه يصح من المالك أن يُكريَ ملكه، ثم يكتريه من المكري.
5107- فإذا ثبت ما ذكرناه، فنقول في التفريع: من اكترى داراً سنةً، ثم ملكها في أثناء السنة، فإن حكمنا بأن الإجارة لا تنفسخ في بقية المدة، فلا يسترد المكتري شيئاًً من الأجرة؛ فإن الإجارة قائمة، ولو انقطع الملك الطارىء في رقبة الدار بسببٍ مثل أن يشتري المستأجر الدارَ، ثم يطلع على عيبٍ قديمٍ يُثبت مثلُه حقَّ الفسخ في البيع، ولا يُثبت حق الفسخ في الإجارة، فإذا فُسخ البيعُ بالعيب، فالإجارة باقية كما كانت، فيتمسك بالدار بحق الإجارة إلى انقضاء المدة.
وإن حكمنا بانفساخ الإجارة بسبب طريان الملك على الرقبة، فإذا رد المبيعَ بالعيب، فالإجارة لا تعود بعد انفساخها. وهذا بيّن لا شك فيه.
5108- ثم إن ابنَ الحداد فرّع على هذا الأصل، واختار أن طريان الملك على الرقبة يوجب انفساخ الإجارة، وقال بعد هذا الاختيار: إن حصل الملك في الرقبة قهراً بالإرث، وحكمنا بانفساخ الإجارة، فالمستأجر يرجع بقسطٍ من الأجرة في مقابلة المدة المستقبلة، ولو حصل له الملك باختياره، فاشترى الدار المستأجرة، فالإجارة تنفسخ، كما ذكرناه في اختيار ابن الحداد. ثم قال: لا يسترد من الأجرة شيئاًً، واعتلّ بأن الانفساخ ترتب على اختياره لمَّا تملّك الرقبةَ قصداً، وإذا كان حصول ذلك مترتباً على الاختيار كما ذكرناه، فهو المتسبب إلى رفع الإجارة في المستقبل، من غير سببٍ خاص يُثبت حقَّ رفع الإجارة، كالرد بالعيب المؤثر في مقصود الإجارة، فلا يثبت له حق استرجاع الأجرة في المستقبل.
5109- وهذا الذي ذكره ضعيف، خارج عن قياس الفقه خروجاً ظاهراً؛ فإن الإجارة إذا انفسخت، فلا أثر للقصد، وعدم القصد في سبب ارتفاع الإجارة.
وسنذكر هذا الفرع لابن الحداد مستقصىً في آخر المزارعة من هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى.
وليت شعري ماذا يقول ابن الحداد فيه إذا هدم المستأجر الدار المستأجرة، أو قتل العبدَ المستأجر، فهو المتسبب إلى انفساخ الإجارة قصداً، فقياس ابن الحداد أنه لا يسترد من الأجرة شيئاًً في مقابلة المدة المستقبلة. وهذا إن قال به في نهاية البعد.
5110- ثم فرق ابن الحداد بين طريان الملك القهري، وبين طريان الملك على سبيل الاختيار، فحكم بأن الملك إذا كان قهرياً، وترتَّب عليه انفساخ الإجارة، فيثبت حق استرداد الأجرة في المستقبل، بخلاف ما لو حصل الملك باختياره، واستشهد الأصحاب لما ذكره من الفصل بين القهر والاختيار بأصلٍ يناظر ما نحن فيه من النكاح، وهو أن من نكح أمةً، ثم ورثها قبل المسيس، وانفسخ النكاح، فلا يثبت من مهرها شيء، ولو اشترى زوجته قبل المسيس تشطّر المهرُ، كما لو طلّق قبل المسيس، فرقاً بين أن يختار سبب الفسخ، وبين أن يقع من غير اختياره.
وهذا التفريع من ابن الحداد والفرق بين الملك القهري، وبين الملك الاختياري ساقط لا أصل له، ويلزمه بحسبه أن يقول: لو أتلف المستأجر العين المستأجرة، لم يسترد من الأجرة شيئاًً، لمكان اختياره؛ بخلاف ما لو تلفت العين بنفسها، فإن ارتكب ذلك طرداً لقياس مذهبه، رجع الكلام معه إلى إفساد أصل مذهبه، وإن سلم ذلك، لم يجد فصلاً.
هذا تمام البيان في طريان ملك الرقبة على مدة الإجارة.
5111- ومما يتصل بما نحن فيه أن المالك إذا أجر الدار، ثم أراد بيعها، ففي بيع الدار المكراة قولان مشهوران، سيأتي ذكرهما، إن شاء الله تعالى، ولكنا نشير إليهما لغرضٍ لنا ناجزٍ في الفصل.
فإن قلنا: لا يصح البيع، فلا كلام.
وإن قضينا بصحة البيع، فالإجارة لا تنفسخ، ويجب الوفاء بها إلى انقضاء مُدتها، فإن أقدم المشتري على الشراء عالماً بأنها مستأجرة، فلا خيار له، وإن اطلع على ذلك بعد الشراء، فله خيار الفسخ.
ولو باع مالك الدار الدارَ من المستأجر، صح بلا خلاف، سواء قلنا: إن طريان الملك على الرقبة يوجب انفساخ الإجارة، أو قلنا: تبقى الإجارة. فأما إن حكمنا بانفساخ الإجارة، فقد زال المانع.
وإن حكمنا ببقائها، فسبب القطع بصحة البيع أن الحق لا يعدوهما، وإن كنا نمنع بيع المكري لمكان يد المكتري وتعذّر إزالة يده؛ فاليد فيما نحن فيه للمشتري، فإنه المكتري.
5112- فإذا وضح الحكم بصحة البيع من المكتري، فنقول بعد ذلك: إذا صححنا البيع في صورة القولين، والمكتري غير المشتري، فلو فسخ المكتري الإجارة بسببٍ، فالدار تسلم إلى المشتري أم للبائع الاستمساكُ بمنافع الدار إلى انقضاء مدة الإجارة؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أن الدار تسلم إلى المشتري؛ فإن الحق في المنافع كان للمكتري، وقد انقطع حقُّه، فصار كما لو اشترى داراً خليَّةً عن الإجارة.
والثاني: أن حق المنافع إلى تمام مدة الإجارة للبائع؛ فإن البيع ورَدَ والمنافعُ مستثناةٌ عن استحقاق المشتري، والردّ من المكتري على البائع، لا على المشتري، فيخلف البائعُ المكتري باستحقاق المنفعة.
5113- وهذا الخلاف ينبني على مسألةٍ، وهي أن الرجل إذا باع داراً واستثنى سكناها سنةً، ففي صحة البيع على هذا الوجه وجهان:
أحدهما: أنه يفسد؛ فإنه يخالف موضوعَ البيع؛ إذ مقتضاه أن يملك المشتري المنافعَ بملك الرقبة.
والثاني: أنه يصح وتبقى المنافع المستثناة للبائع.
قال الأئمة: اختلاف القول في صحة بيع الدار المكراة يؤخذ من هذا. فإن قلنا:
لا يمتنع استثناء منافع الدار، فلا يمتنع بيع الدار المكراة، وإن قلنا: يمتنع استثناؤها، فيمتنع بيع الدار المكراة. وهذا الذي ذكره يقارب من طريق اللفظ، ولولا خبرٌ ورد في استثناء منافع المبيع، لما كان للاختلاف في استثناء المنافع وجه.
ولكن ورد خبرٌ في جواز استثناء المنافع مدة يقع التوافق عليها، ومقتضى العقد في وضعه يخالف ذلك.
5114- ولا نعرف خلافاًً أنه لو باع أشجاراً، لم تثمر بعدُ، واستثنى ثمار تلك السنة، أو ثمار سنين، فلا يصح الاستثناء، وملك الرقبة يقتضي للمشتري استحقاقَ المنافع، كما يقتضي له استحقاق الزوائد والفوائد، فالحكم بفساد الاستثناء لا ينافي إجراء القولين في صحة بيع العين المكراة؛ فإن استحقاق المنافع بالإجارة تقدم على جريان البيع، ولم يُبعد تنزيلَ البيع على الرقبة، وإن كان لا يتأتى تسليم الدار على الفور إلى المشتري، كما لو باع الرجل داراً مشحونةً بالأمتعة، وكان لا يتأتى منه تفريغُها على الفور، ولو أقدم على التفريغ باذلاً جهده، لم يتأت إلا في مدة، فالبيع يصح؛ فإذاً القولان في بيع المكري لا يستدّ أحدهما من مسألة الاستثناء لما نبهنا عليه.
فصل:
5115- الإجارة عندنا لا تفسخ بالمعاذير، إذا لم يثبت في العين المستأجرة ما يقتضي الفسخَ، خلافاًً لأبي حنيفة، فإنه قال: تفسخ الإجارة بالمعاذير، فلو اكترى رجل حانوتاً ليحترف عليه، ثم بدا له الانتقالُ إلى سوقٍ آخر، فيفسخ به العقدَ، وكذلك إذا اكترى دابة للمسافرة، ثم انتقض عزمُه، فله الفسخ في تفصيلٍ لهم.
ونحن لا نرى الفسخَ بشيء من ذلك، وقد ألزمونا في أثناء الكلام مسألة مذهبية، لابد من شرح القول فيها.
5116- فنقول: من استأجر من يقلع له سناً، نُظر، فإن لم يكن به وجع، فالإجارة فاسدة؛ لأن السن الذي لا وجع به يحرُم قلعه، كما يحرم قطعُ عضو من غير علّة، ولا ضرورة مرهقة. وإن كان السن وجِعاً وقال أهل الخبرة: قلعُه لا يُريح ولا يقطع الألم، فلا يجوز الاستئجار، والحالة هذه. ولو قيل: قلعُ السن يريح من الألم، فيسوغ القلع. وهذا فيه إذا عظم الوجعُ، وصعب احتمالُه. وقد يؤدي إلى السهر، ثم السهر عظيمٌ يجر أمراضاً صعبة.
فأما الوجع القريب، فلا يجوز قلع السن لأجله.
ومن هذا القبيل قطعُ اليد المتآكلة إذا قال أهل الصنعة: إن الأكَلَة تترامى وتتقاذف لو لم تقطع اليد، ثم إنما ينفع القطع إذا أخذ القاطع شيئاًً من الصحيح، وإن قلّ.
وكان شيخي أبو محمد يحكي في هذا اختلافاً، من جهة وضع الحديدة على المحل الصحيح، والقطع في نفسه مهلك، ولعله أرجى من الأكلة. وأما السن الوجِع، فليس في قلعه قطعُ ما لا وجع به، فإن جوّزنا قطع اليد المتآكلة، كما يجوز قلعُ السن الوجع فقد قال الأئمة: يحق بذل مالٍ لمن يقلع السن.
5117- واختلفوا في أن سبيله سبيل الجِعالة، أم سبيله سبيل الإجارة؟ فمنهم من قال: هو جعالة، فإن الوجع قد يسكن في أثناء الأمر، وإذا سكن، لم يجز القلع، وليس فتور الوجع أمراً بدعاً غريباً، فجواز العمل ليس موثوقاً به، والإجارة إنما تصح في عمل موثوقٍ به، أما الجعالة مبناها على الغرر، وترقُّب ما يكون.
ومنهم من قال: لا يمتنع الاستئجار عليه؛ فإن القلع في نفسه فعلٌ معلوم، وإمكانهُ ظاهر، وفتور الوجع في الزمان الذي يتأتى فيه القلع بعيد، ولا يشترط في صحة الإجارة القطعُ بسلامة العقد عمّا يُنافيه، ويطرأ عليه؛ فإن الإجارة الصحيحة متعرضة لتقدير الطوارىء.
5118- وأما قطع اليد المتآكلة إن جوزناه، فيظهر جواز الاستئجار فيه، وذلك أن الذي اعتمدناه في منع الاستئجار على قلع السن إمكان فتور الوجع، ولا إمكان في اليد المتآكلة؛ فإنا على تحقيقٍ نعلم أن الأكلة لا تزول في الزمان الذي يُفرض فيه عقد الإجارة على القطع، وليس لقائلٍ أن يقول: القطع في نفسه مما لا ينضبط؛ فإنه مضبوط، ولو لم يكن منضبطاً، لما جاز. فإذا جوزناً القطعَ، وجب أن يجوز الاستئجار عليه.
5119- فإن قيل: معتمد من منع الاستئجار على قلع السن أن الوجع قد يفتر، ويمتنع القلع، فقولوا على حسب ذلك: من استأجر امرأة على كنس المسجد، وهي مُشفيةٌ على دَوْر حيضها، لا يجوز استئجارها، لظهور الاحتمال في طريان الحيض، والسؤال مفروض في الاستئجار على الكنس في زمان معين.
قال القاضي: لا نص في هذه المسألة. ولو قلنا: لا يصح الاستئجار إذا صور المصور مسألته على التضييق الذي وصفناه، لم يمتنع، ولا يمتنع الفرق أيضاًًً؛ فن الكنس على الجملة أمر جائز، وإنما الكلام فيمن يتولاه، ولا ثقة بأدوار النسوة، فيحمل الأمر على الظاهر.
فإن قيل: هلا قلتم: إن من استأجر امرأةً حائضاً على كنس مسجدٍ، ففعلت، فقد عصت، ولكنها وفت العمل المستحق عليها بالإجارة؟ قلنا: هذا لا سبيل إليه؛ فإن كنس الحائض في زمان الحيض حرام في نفسه، والاستئجار على الحرام باطل.
5120- وقد يتصل بهذا الفصل إشكالٌ نبيّنه من بعدُ، إن شاء الله تعالى.
وهو أن من استأجر شخصاً لكنس دارٍ معينة، ثم أراد أن يستعمل ذلك الأجير في كنس دارٍ أخرى تساويها، فكيف السبيل فيه؟ إن جوّزنا ذلك، فالتعيين إذاً لا حكم له، ومعقود الإجارة كنسُ بقعةٍ تساوي البقعةَ المذكورة في قدرها، ويلزم من مساق ذلك تصحيحُ الاستئجار على كنس المسجد، ثم تنزيل المعقود عليه على ما ذكرناه. وهذا مع ما يتصل به سنذكره من بعدُ، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
5121- الإجارة إذا أضيفت إلى مستأجَرٍ معين، فيجب اتصال الاستحقاق بالعقد، فلو وقعت الإضافة إلى زمانٍ منتظرٍ، لا يعقب انعقادَ العقد، والمستأجَر عينٌ، فإجارةٌ فاسدةٌ عندنا. وذلك إذا قال في رجب: أجرتك داري هذه شهراً مبتدؤه غرةُ شعبان، والمسألة خلافية مع أبي حنيفة وإضافة العقد في المعيّن إلى زمانٍ سيأتي تتنزل منزلة تعليق العقد عندنا على مجيء الوقت المذكور، فلا فرق بين أن يقول: أجرتك داري هذه الشهرَ الآتي، وبين أن يقول: إذا جاء رأس الشهر، فقد أجرتك.
5122- واختلف أئمتنا فيه إذا أجر شيئاًً من شخصٍ، واستعقبت الإجارةُ الاستحقاقَ، ثم قال معه: إذا انقضت هذه المدة، فقد أجرتك هذه البقعةَ سنةً أخرى. فمنهم من قال: لا يصح ذلك. وهو القياس؛ لأنه تعليق العقد، والإجارة الثانية متميزة عن الأولى، وهي مستأخرة كما ذكرناه، فلتبطل هذه الإجارة، كما لو لم تتقدّم الإجارةُ الأولى.
ومن أصحابنا من قال: تصح الإجارةُ الثانية المترتبةُ على الأولى، إذا اتحد القائل؛ وذلك أن المنافع في حقه متواصلة الاستحقاق، لا تقطّع فيها، فلا فرق بين أن تفرض في عقدٍ واحدٍ أوْ عقود، وإذا أجر الرجلُ داراً سنة، فالشهر الأخير من السنة مستأخِر عن العقد، وكذلك كل جزء يتأخر عن الجزء المقترن بالعقد.
وهذا لا أصل له. والصحيح الحكم بفساد الإجارة الثانية؛ نظراً إلى هذه الإجارة في نفسها، وما ذكرناه بجملته فيه إذا كانت الإجارة واردةً على العين.
5123- فأما إذا كانت واردة على الذمة، فلا يمتنع ثبوت الأجل فيه، وذلك بأن يقول: ألزمتُ ذمتك خياطةَ هذا الثوب غُرةَ شعبان، فالتأجيل غيرُ ممتنعٍ؛ فإن العمل المستحق دينٌ، والدين يتأجل ويحل.
5124- ويتعلق بالقاعدة التي نحن فيها تفصيل القول في كراء العُقَب، فله التفات على تأخر الاستحقاق عن العقد، ونحن نستوعب ما فيه من الصور، ثم نذكر في كل صورةٍ ما يليق بها، إن شاء الله تعالى.
فمن الصور أن يضيف المستأجر الإجارةَ إلى دابةٍ معيّنة، ويقول: أركب هذه نصف الطريق وأسلّمها إليك نصفَها، فالذي سبق إليه المزني أوّلاً في هذه الصورة، وتابعه معظمُ الأصحاب عليه أن الإجارة فاسدة، في هذه الصورة؛ فإن مضمونها أن يركب على الاتصال مثلاً، ثم ينقطع استحقاق ركوبه، ثم يعود الاستحقاق بعد تخلّل قاطعٍ، والإجارة تبطل على هذا الوجه؛ فإن الاستحقاق الثاني غيرُ متصل بالأول، فيقع في حكم تأخر الاستحقاق عن العقد، واستئجار دابةٍ الزمانَ الآتي.
ومن أصحابنا من قال: الإجارة صحيحةٌ، ومعناها استئجار نصف الدابة على الشيوع، ومذهبنا أن الشيوع لا يمنع صحةَ الإجارة، كما لا يمنع صحة الرهن والهبة والبيع، فمقتضى الإجارةِ استحقاقُ نصف منفعة الدابة، ثم حكم المهأياة بين المستأجِر والمالك توجب التقطّعَ لا محالة، فرجع التقطّع إلى قسمة المنافع بالمهايأة، والعقد في أصله يضمن استحقاقَ نصف المنافع على الاتصال والاستعقاب. وهذا منقدحٌ في القياس بالغٌ.
ونص الشافعي يدل على تصحيح كراء العُقب.
هذا ما ذكره الأئمة في هذه الصورة، وعلينا فيها فضلُ نظر.
5125- فنقول: هذه الصورة تنقسم قسمين:
أحدهما: أن تعقد الإجارة على صيغة التقطيع، وتدرج هذه القضية في موجب العقد، مثل أن يقول: أركب هذه الدابة نصف المنزل، وأتركها إليك في الباقي، هذه صورة.
والأخرى- ألا يقع التعرض لذلك، بل يستأجر الرجل النصفَ من دابة.
فإن جرت صيغة التقطيع في صلب العقد، فميلُ الجمهور إلى الفساد، لما ذكرناه من التقطيع في الاستحقاق، وهؤلاء لا يرَوْن الإجارةَ واردة على كل الدابة مع التقطيع الذي ذكرناه.
ومن أصحابنا من لم يجعل التقطيعَ محمولاً على حقيقته، وجعله عبارة عن الشيوع في الإجارة، ثم اعتقد أن الشيوع لا يمنع صحة الإجارة.
5126- ولو لم يقع في العقد تعرض للتقطيع، ولكنه استأجر نصف دابة معيّنة، فالذي ذهب إليه الجمهور صحةُ الإجارة، ثم المهايأة موقوفة في أصلها وتفصيلها على ما يقع التراضي به.
وغلا بعض أصحابنا، فلم يصحح الإجارةَ في العين المعينة إذا وقع التعرض إما باللفظ، وإما بقرينة الحال للركوب، فإن ذلك لا يتأتى إلا بالتقطيع، فيعود الكلام إلى التصريح بالتقطيع. وهذا القائل يقول: الشيوع لا يمنع صحةَ الإجارة ما لم يُردّ إلى ما ذكرناه من تقطيع الاستيفاء، فإذا علمنا أن الاستيفاء لا يتصور إلا مقطَّعاً، حكمنا بالفساد.
5127- وهذا وإن كان يتأتى توجيهه بعيدٌ عن مذهب الشافعي مخالف لنصه.
فإن قيل: فمتى يجوّز هذا القائل استئجارَ الجزء الشائع؟ قلنا: إنما نجوّزه إذا كان لا يحتاج إلى التقطيع في توفية المنافع، كالذي يستأجر جزءاً من دارٍ، ويتأتى منه مساكنة غيره من غير فرض مهايأة.
وهذا خبطٌ وتخليط. والصحيح التصحيحُ، إذا لم يجْر لفظُ التقطيع في العقد، فهذا بيان صورة واحدةٍ، قسمناها، وفصلنا ما قيل فيها.
5128- فأما إذا استأجر رجلان دابة معينة على أن يتعاقبا، ويتناوبا في الركوب، فهذا ينقسم أيضاًًً: فإن لم يتعرضا للتناوب وذكر التعاقب، ولكنهما استأجرا دابة معينة عن مالكها، فلا يجوز أن يفرض في ذلك اختلاف.
والوجهُ القطع بصحة الإجارة. ثم إنهما إن أرادا المهايأة أجرياها على حسب التوافق، وأصل العقد وارد على استعقاب العقد الاستحقاقَ.
وشَبّبَ بعضُ الضَّعَفةِ من الأصحاب بفساد الإجارة؛ لأنهما يستحقان المنافع، واستيفاؤها على هيئة التقطّع لو صحت الإجارة، والتقطّع يُفضي إلى استئخار الاستحقاق، وهو مفسد عند الشافعي.
وكأن هذا القائل لا يصحح الإجارةَ على نعت الشيوع، إلا حيث يُتصور الوصول إلى الانتفاع على الاشتراك، من غير تقطيع، وهذا كالرجلين يستأجران بعيراً على أن يحمّلاه محمَلاً ويركبانه جميعاً، فهذا مسوغٌّ لا دافع له، فأما إذا كان لا يتأتى اجتماعهما للركوب والانتفاع، وكان سبيل الانتفاع التعاقب، فالإجارة فاسدة؛ فإن العقد إنما يصح إذا كان يصح استيفاء المعقود فيه على وجه يطابق الشريعة.
هذا إذا استأجرا على الشيوع، ولم يتعرضا في العقد لصيغة التقطيع.
5129- فأما إذا تعرضا للتقطيع، فقالا: يركب زيد هذا شطر المرحلة، ثم يركب عمرو هذا، فإذا جرى العقد كذلك، فمن قطع بصحة الإجارة الواردة على الإشاعة من غير تقطيعٍ في اللفظ والصيغة، يجعل في هذا العقد وجهين، لما فيها من التصريح بالاستئخار، حتى كأن مضمونَها أن كل واحدٍ استأجر جملةَ الدابة في بعض المرحلة.
هذا منتهى البيان في ذلك.
5130- ثم نصَّ الشافعيُّ على صحة استئجار الرجلين الدابة على أن يركباها تعاقباً وتناوباً، ولفظه رضي الله عنه صالح لأن يُحمل على الاستئجار المطلق من غير تعرضِ لذكر التقطيع في صيغة العقد، وهو صالحٌ أيضاًً لذكر التقطيع في صيغة العقد.
ثم من تفريعه رضي الله عنه أنهما إذا كانا يتناوبان على الدابة، فينبغي أن يرعيا الإنصاف، والانتصاف، ومن مقتضى هذا ألاّ تطولَ مدةُ ركوب كل واحدٍ، فإن أحدهما إذا ركب فراسخ وصاحبه يمشي فإذا أراد الركوبَ، وقد لحقه العِيُّ والكلال، فيثقل بدنه على الدابة إذا ركب، وهذا مما يظهر أثره، وإذا كانا يتناوبان على أزمنة متقاربة بحيث لا ينتهي واحدٌ منهما إلى الكلال، فلا يؤدي إلى الإضرار بالدابة.
وهذا حسنٌ، لابد من مراعاته، إلا أن يكون الذي يُطيل المشيَ لا ينتهي إلى العِيّ الذي يُفضي إلى ثقل البدن، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص، واعتبارُه هيّن، إذا فهم المقصود.
فصل:
قال: "وإن تكارى دابة من مكة إلى بطن مَرّ، فتعدى بها إلى عُسفان... إلى آخره".
5131- صورة المسألة أن يكتري دابة ليركبها إلى موضعٍ معلوم، فإذا انتهى إلى ذلك الموضع، وتعدّاه راكباً للدابة، وذلك بأن يكتريها للذهاب إلى ذلك الموضع فحسب، من غير رجوع من ذلك الموضع إلى مكان الإجارة، فإذا كان كذلك، فكما انتهت الدابة إلى المنتهى المذكور، فقد انتهت الإجارة، ولا يجوز للمستأجر أن يركبها بعد ذلك، وعليه أن يسلمها للمالك إن كان معه المالك، أو إلى نائبه.
فإن لم يكونا حاضرين في ذلك المكان، سلّم الدابة إلى حاكم البقعة، فإن لم يتمكن من شيء من ذلك، فحكمه حكم المودَع إذا كان يضطر إلى مفارقة البلدة والانجلاء منها، وكان لا يجد من يودع الوديعةَ عنده، ولم يجد أيضاًًً حاكماً يراجعه، فلا وجه إلا أن يسافر بالوديعة، كذلك القول في المسافرة بالدابة بعد انتهاء الإجارة نهايتها، فيسوقها أو يقودها راجعاً، ولا ينتفع بها.
5132- فلو جاوز المكانَ المعلومَ، وتعدّاه راكباً منتفعاًَ بالدابة، فقد تعدى إذا فعل ذلك، وصار غاصباً للدابة، ودخلت في ضمانه فيغرَم أجر المثل بعد انتهاء الإجارة.
فإن تلفت الدابة في يده، ضمنها بأكثر قيمتها من يوم التعدي إلى يوم التلف، وكذلك يغرم أجر المثل لمدة العدوان، فلو رد الدابة إلى المكان المعلوم المعيّن في الإجارة، لم يخرج عن الضمان.
وهذا جارٍ على قياسنا؛ فإنا نقول: المودَع إذا تعدى في الوديعة، ثم كف عن عدوانه، لم يعد أميناً، وبقي ضامناً.
وأبو حنيفة خالف في ذلك، وحكم بأن المودَع إذا ترك عدوانه، عاد إلى حكم الائتمان، ثم إنه مع المخالفة في هذا الأصل، وافق في أن المستأجر إذا جاوز بالدابة المنتهى المعلوم، وصار متعدّياً ضامناً، فإذا ردّها إلى ذلك المنتهى، لم ينقطع أثر العدوان، وتكلّف فرقاً لسنا له الآن.
5133- ومما يتعلق بأصول هذا الفصل أن من اكترى دابة ليركبها إلى موضعٍ عيّنه، فلا يتعين الخروج في ذلك الصوب، فلو ركبها في صوب آخر، واستوت المسافتان، وتماثل المسلكان في السهولة والوعورة، فلا معترض، ولا بأس؛ فإن المنفعة هي المستحقة، والدابة متعيّنة، ولا يتعين جهة استيفاء المنفعة مع رعاية الاقتصار، فليس الصوب المعيّن معقوداً عليه، حتى يتخيل تعيّنه، ولهذا الأصل جوّز الشافعي أن ينيب المستأجرُ غيرَه مناب نفسه في الركوب إذا كان مثلَه، وجوّز أن يُكري مستأجرُ الدابةِ الدّابةَ من غيره، على شرط استواء المستأجر الأول والثاني.
ولو استأجر ثوباً ليلبسه مدة، فله أن يُلبِسَه غيرَه، مع رعاية التساوي والاقتصاد.
ومنع أبو حنيفة الاستنابة تبرعاً، وإجارةً في الحيوان والثوب، ووافق في العقار والدار، فجوز الاستنابة والإجارة من المستأجر.
5134- فإذا تمهد ما ذكرناه إلى أن الصوب المعين لا يتعين في الإجارة، فلو استأجر دابة من مكة إلى مَرّ ظهران، فركب المستأجر إلى نصف الطريق، ثم عنت له حاجة في البلدة، فانعطف راجعاً، قلنا له: إن كنت استأجرت الدابة لتركبها أربعة فراسخ وعيّنت لانتهاء سفرك مرّ ظهران، فقد استوفيت ما استحققت؛ إذ ركبت ذاهباً، ومنعطفاً راجعاً أربعة فراسخ، فقد استقرت الأجرة، والدابة مردودةٌ على ربها.
ولو خرج نصفَ فرسخٍ من مكةَ، ثم انعطف على مكة، فقد استوفى ربعَ المنفعة.
فلو اتجه في صوب مَرّ، فإذا طوى ثلاثة فراسخ، قيل له: انتهى استحقاقُك، فلا تتعدَّ موضعَك، فإن تعدَّيْته راكباً، كنت غاصباً، وعليك أجرُ المثل للزيادة، مع التعرض لضمان الدابة.
وكل ذلك يخرج على ما مهدناه من أن الاعتبار بالمسافة، ولا أثر لتعيين الصوْب.
5135- ويعترض فيما نُجريه أنه إذا ذكر صوباً سهلاً معبّداً، ثم ركب الدابة في صوبٍ آخر وعرٍ، فهذا عدوان. وإذا فرض عيبُ الدابةِ أو تلفُها بسبب سلوك المسلك الوعر، كان هذا كما لو استأجر داراً ليسكنها، فأسكنها القصَّارين، والحدادين، فتزلزلت القواعد، واختلت، ففي ذلك كلامٌ مجموعٌ، يأتي من بعدُ، إن شاء الله عز وجل.
ولو استأجر دابةً إلى مَرّ ليركبها إليه، ثم يرجع، فهذا استحقاق الركوب، في ثمانِ فراسخ، فإن من مكة إلى مَرّ أربعةَ فراسخَ، فالذاهب إليه والراجع طاوٍ ثمانِ فراسخَ، وما مهدناه من أن المرعِيَّ المسافةُ، لا الصوْبُ المعين، يقتضي أن يجوز للمستأجر أن يمرّ على الدابة ثمان فراسخَ في أيّ صوبٍ.
ولكن يعترض فيه أنه إذا فعل هذا، وانتهى إلى منقطع الفراسخ الثمان، فإلى من تسلم الدابة، وكيف الطريق فيه؟ فنقول: إن رضي المالك بهذا، وصاحَب الدابةَ، أو أصحبها نائباً له، فلا امتناع، ولا عدوان، والدابة تسلّم عند منتهى الفراسخ الثمان إلى المالك، أو إلى نائبه من غير عدوانٍ، وهذا جرى بعد إيراد العقد على الذهاب إلى مَرّ والرجوع منه.
5136- ثم حكم هذه الصورة استقرار الأجرة المسماة لحصول استيفاء الركوب في ثمان فراسخَ، ولو جرى العقد على المرور والرجوع، ثم لم يصدر من المالك إذنٌ في مجاوزة مَرّ، وعسر تسليم الدابة على منتهى ثمان فراسخ، فهذا يجر عدواناً لا محالة؛ فإن العقد انعقد على رد الدابة إلى بلدة المكري، وهو بها، ولكن إذا اتفق هذا، فنقول: أما الأجرة المسماة، فقد استقرت من جهة استيفاء المنافع، وإذا انتهت المسافة، فلا شك أن الراكب المستأجر متعدٍّ؛ فإنه كان مأموراً بالرد إلى مكة راجعاً، وقد ترك هذا وأنهى الدابةَ إلى محل يعسر الجريان فيه على موجب الشرط، ولو ردها من تلك المسافة، فهو في ردّه معتدٍ غارمٌ لأجر المثل.
5137- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنه إذا جاوز مَرّاً، والمسألة مفروضةٌ فيه إذا لم يكن الطريق الذي سلكه-مجاوزاً- أوعرَ مما بين مكة ومَرّ، فإنا نجعله بنفس مجاوزته متعدياً، من جهة أنه بمجاوزة مرٍّ، يتعرض لمخالفة الأمر في جهة رد الدابة، وهو مقصودٌ بَيِّنٌ، فهو إذاً غيرُ متعدٍّ من جهة استيفاء المنفعة، ولكن يأتيه العدوان من الجهة التي أشرنا إليها، وهذا واضحٌ لا إشكال فيه.
وقد يخطر للفقيه أنه لا يصير متعدياً ما لم يستوف الفراسخ، فإنّ عُسْر الرد يتبيّن إذ ذاك. وهذا ليس بشيء ولم نذكره ذِكْرَنا الاحتمالات الممكنة.
5138- ومما يتم به الغرضُ أنه إذا استأجر دابةً ليركبها إلى مرّ، ويرجع عليها إلى مكة، وكانت العادة أن من انتهى إلى مرّ لم يرجع على فوره، بل يبيت ثم يُصبح راجعاًً، فإذا جرى على العادة، جاز، ولا مستدرك، ولا نقول: اليوم الذي سكن فيه بمرّ محسوبٌ عليه؛ من جهة تضييعه المنفعة، كما سنوضح هذا في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى.
ولو كانت العادةُ جاريةً بأن ينكفىء على فوره راجعاًً، فلينكفىء. فإن أقام على خلاف المعهود في العادة، كان ذلك الزمان محسوباً عليه. كما سيأتي تفصيله.
ولو اضطربت العادةُ فالأصح حملُ مطلق العقد على الانكفاء على البدار.
ومن أصحابنا من أوجب التعرض لذلك عند اضطراب العرف، وزعم أن إطلاق العقد مع اضطراب العرف يفسده. وهذا رديءٌ لا أصل له.
5139- ولو استأجر دابةً للذهاب والرجوع، فخرج والطريق آمنٌ، فلما انتهى إلى المكان المعيّن، حدث خوفٌ في الطريق، فليس له أن يقتحمه، ولو فعل، وضاعت الدابة، صار ضامناًً، وإذا مكث في ذلك المكان، وتثبط إلى أن انجلى الخوف، فذلك الزمان غيرُ محسوبٍ، فإنا أمرناه بمصابرة تلك البقعة في ذلك الزمان احتياطاً للدّابة، فكان في حكم المودَع المؤتمن في تلك المدة.
وإن استأجر الدابة، وفي الطريق خوفٌ، ثم رجع، وذلك الخوفُ قائم، ففاتت الدابة، فلا ضمان؛ لأن الخوض في العقد جرى مع العلم بالخوف القائم، ووقع الرضا بالذهاب، والرجوع.
ولو كان الخوفُ قائماً، ولكن لم يكن مالكُ الدابة عالماً به، بل كان يظن أن الطريق آمن، فهذا مما تردد فيه كلامُ الأصحاب، فقال بعضهم: لا ضمان على المستأجر، وإن فاتت الدابة؛ وكان التقصيرُ من المالك؛ إذْ لم يبحث، ولم يحتط لملكه.
ومن أصحابنا من قال: يجب الضمان على المستأجر؛ فإن المالك بنى الأمرَ على تقدير الأمن، وقصّر المستأجر؛ إذْ لم يبيّن له حقيقةَ الحال.
5140- ولو كان الطريق آمناً في الممر، ووقع بناءُ العقد عليه، ثم حدث الخوف بعد الانتهاء إلى الموضع المعيّن، فقد ذكرنا أن المستأجر لا ينقلب راجعاًً حتى ينجلي الخوفُ، فلو رجع، وسلمت الدابةُ من جهة ذلك الخوف المعترض، ولكن أصابتها آفةٌ أخرى، فالمذهب أن الدابة مضمونة؛ لأن المستأجر في خروجه في هذا الوقت متعدٍ. ومن صار متعدّياً، لم يتوقف وجوب الضمان عليه على أن يكون التلف من جهة عدوانه. هذا هو الذي لا يجوز أن يُعتقد غيره.
وقد أنهيتُ مسائلَ الفصل وختامها ما وعدناه من بيان احتساب الضمان على المستأجر.
5141- وتفصيل القول فيه أنه إذا اكترى دابةً، وذكر في الإجارة مدةً معلومة، فإن لم يسلِّم المكري الدابةَ حتى انقضت المدةُ المضروبة، تنفسخ الإجارة، وترتفع بانقضاء مدتها، ولو سلم الدابةَ إلى المكتري على أثر العقد، فربطها المكتري، ولم ينتفع بها حتى انقضت المدة، فقد انتهت الإجارة نهايتَها، وقرّت الأجرةُ المسماة؛ فإنه استمكن من الانتفاع، وضيّع حقَّه، حتى تلفت المنافع تحت يده.
ولو لم يضرب مدةً في الإجارة ولكن استأجر دابة معينةً ليركبها إلى موضعٍ عيّنه، فلو سلّم المكري الدابةَ إلى المستأجر، فربطها مدةً لو سافر فيها، لأمكنه قَطْع المسافةِ المذكورة، فالإجارةُ تنتهي، وتستقر الأجرة، ولا يملك المسافرة؛ فإنا جعلناه في حبسه وربطه بمثابة المستوفي.
5142- ولو كانت المسألة بحالها، فلم يسلِّم المكري الدابةَ حتى انقضت مدة كان يتأتى في مثلها قطعُ المسافة، فهل نحكم بانفساخ الإجارة قياساً على ما لو اعتمد العقدُ مدةً مضروبة، ثم حبس المكري الدابةَ فيها، حتى انقضت تلك المدة؟ اختلف أصحابنا: فذهب المراوزةُ إلى أن الإجارة تنفسخ، وإن لم يجر للمدة ذكرٌ، إذا مضى زمنٌ يسع في مثله استيفاءُ المنفعة، وقطعُ المسافة، وهذا قياسٌ حسنٌ، لا يتجه غيره؛ فإنَّ المدة وإن ذُكرت، فليست معيّنة، وإنما المطلوب المنفعةُ فيها، فليكن الاعتبار بمضي زمان إمكان الانتفاع، وأيضاًً لم يختلف أصحابنا في أن الإجارة تنتهي نهايتها بربط المستأجر الدابة في الإجارة التي لم يجر فيها ذكر المدة، فإذا استوى ذكرُ المدة وذكرُ المنفعة في حق المستأجر، وفي حكم انتهاء الإجارة، فينبغي أن يكون الأمر كذلك في حق المكري.
5143- وذهب العراقيون إلى أن المدةَ إذا لم يجر لها ذكرٌ في الإجارة وإنما اعتمدت الإجارةُ قطعَ المسافة، وإعلامَ المدى، فإذا لم يسلم المكري الدابةَ في زمان لو سلمها فيه، لأمكن استيفاء المنفعة، فالإجارة لا تنفسخ، والمكري مطالبٌ بتسليم الدابة، وعللوا بأن المدة لم يجر ذكرُها، والتسليم ممكنٌ بعد هذا الحبس، وليس كحبس المستأجر الدابة، فإنا لو لم نحسب عليه تلك المدة، لكان ذلك تضييعاً للمنفعة على المكري، وإسقاطاً لحقه.
وهذا الذي ذكروه وإن كان في ظاهره بعضُ الإخالة، فلا وجه عندنا في القياس إلا ما ذكره المراوزة. وهذا واضح لا إشكال فيه على المتأمل.
5144- ولو استأجر دابة وقبضها، ثم تعذَّر عليه المسافرة عليها، واحتبست عنده مدةً تسع المسافرة لو أمكنت، فالأجرة تتقرر عليه؛ فإن المنافع فاتت تحت يده.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت الإجارة واردةً على العين.
5145- فأما إذا كانت واردةً على الذمة، فالإجارة الواردة على الذمة تقبل التعجيل والتأجيل، فإن كانت معجلةً، فلم يسلّم المكري حتى مضت مدة، لم تنفسخ الإجارة وبقي الدين مستقراً في الذمة؛ فإن الإجارة ليست تعتمد عيناً حتى يُفرض انفساخ العقد بضياعٍ وتلفٍ فيها، وهذا بيِّنٌ، لا شك فيه.
ولو سلم المكري في إجارة الذمة دابةً إلى المكتري على شرط الاستحقاق، فحبسها، حُسبت المدةُ عليه؛ فإنَّ حقه تعين بتسليم الدابة، فلم يفترق الأمر في حقه بين أن يكون أصل العقد على العين، أو على الذمة.
وهذا واضحٌ، لا إشكال فيه.
5146- وقد يتصل بهذا الفصل القول في ثبوت الخيار في الإجارة، ثم الكلام في أن الخيار إذا ثبت، فالمدة من أي وقتٍ تُحتسب.
وهذا قد استقصيناه في أول كتاب البيع على أبلغ وجهٍ في البيان، فليطلبه في فصول الخيار من يريده.
فصل:
قال: "وله أن يؤاجر عبده وداره ثلاثين سنة... إلى آخره".
5147- نص الشافعي هاهنا على أن من أراد أن يؤاجر ملكه ثلاثين سنة في عُقدةٍ واحدةٍ، جاز له ذلك، ونص في بعض كتبه على أنه لا يزيد على سنة واحدة في مدة الإجارة، ونص في كتاب الدعاوى على أنه يؤاجر ما شاء، فجعل المدة إلى خِيَرَته من غير ضبط.
واختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من جعل هذه النصوص أقوالاً، وأجرى ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا ضبط من طريق التعبد في المدة، والأمرُ مفوّضٌ إلى ما وقع التراضي عليه، وهذا هو القياس، ولا حاجة إلى تكلف توجيهه.
والقول الثاني- أنه لا يجوز المزيد على سنة؛ فإن الإجارةَ أُثبتت للحاجة، وإلا فهي حائدةٌ عن القياس؛ من جهة إيرادِها على مفقودٍ، يتوقع وجوده من عينٍ مخصوصة، والحاجة في الأغلب لا تزيد على السنة، والسنة الواحدة تشتمل على جميع جهات المنفعة، وما يزيد بعد انقضائها في حكم المتكرر.
والقول الثالث:وهو أضعف الأقوال- أن الأمدَ الأقصى ثلاثون سنة، ولا مزيد على هذه، وهذا وإن لم يترتب على أثرٍ، فلا يليق بقاعدة الشافعي-رضي الله عنه- في توقِّيه عن التحكم بالتقديرات، من غير توقيفٍ، ولكنّ الممكن في توجيهه، أن هذه المدة في تفاوض الناس هي المعتبر الأقصى في نهايات التغايير وهي نصف العمر الغالب.
وهذا وما يدانيه لا ثبات له.
5148- وذهب المحققون من أئمتنا إلى قطع القول بأن مدة الإجارة مردودة إلى التراضي، ولا تعبّد فيها، ولا ضبط، ولكن يجب أن يؤاجر كلُّ شيء مدةً يُعلم بقاؤُه فيها، أو يظن ذلك، فإن كانت المدة بحيث يُقطع بأن المستأجَر لا يبقى فيها، فالإجارة مردودة، وإن كان يغلب إمكان البقاء فيها، صحت الإجارة، وإن غلب على الظن أن العين لا تبقى فيها، وأمكن البقاء على بُعدٍ، ففي المسألة احتمالٌ، والأظهر التصحيحُ.
وهذا القائل يحمل ذكر الثلاثين على وفاقٍ أجراه الشافعي في محاولةِ بيان تطويل المدة. وقد يُجري المبيِّن عدداً على قصد المبالغة، ولا يبغي تقديراتها، وهو كقوله تعالى: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ التوبة: 80.
ومما يجب التنبيه له أن القول الثالث في طريقة الأقوال، وهو القول المنقاس المحكي عن الدعاوى، محمول على ما وقع القطع به في هذه الطريقة لا محالة.
5149- ثم من أجر شيئاًً سنة لم يلزمه بيان حصة كل شهر من الأجرة. وإذا آجر سنين، ففي المسألة قولان:
أحدهما:وهو القياس- أنه لا يلزمه أن يبين حصةَ كل سنة منها، كما لو اشترى عبيداً صفقةً واحدةً؛ فإنه لا يجب بيان ما يخص كلّ واحد من العبيد.
والقول الثاني- أنه يجب أن يُبيّن ما يخص كلَّ سنة من الأجرة؛ لأن في ذلك تقليلَ الغرر، وقد يُفرض تلف المعقود عليه، ومسيس الحاجة إلى تقسيط الأجرة المسماة على ما مضى وبقي، فإذا كانت الحصصُ مُبيّنةً، هان دَرْكُ المقصود، ووقع الاكتفاء بنص العقد عن طلب الحصص بالاشتهار، وقد يعسر البحث عن الأُجَر في الأزمنة الماضية، وإذا أمكن تقليل الغرر، تعيّن في عقود الغرر. ثم هذا القائل يرعى هذا في السنين؛ فإن إدراك حصص الشهور قريب، وإنما يُتوقع التفاوت في السنين، لتطاول الآماد بها.
وهذان القولان يقربان من الخلاف الذي حكيناه في كون الأجرة جزافاً مشاراً إليها.
5150- ومما يتعلق بهذه الفصول أنه لو قال: أجرتك هذه الدارَ سنةً، مبتداها من وقت العقد، صح ذلك.
ولو قال: أجرتك هذه الدارَ سنةً، ولم يذكر أنها السنة التي تعقب العقد، فقد اختلف أصحابنا في ذلك، فذهب بعضهم إلى أن الإجارة تفسد؛ فإن السنة ذكرت مطلقةً مجهولةً، وهي متناولة للسنة المتصلة بالعقد ولغيرها، والإجمال في صيغ العقود يفسدها.
ومن أصحابنا من يصحح الإجارة، وإلى ذلك مال الجمهور؛ فإن السنة إذا ذكرت على الصيغة التي ذكرناها، لم يُفهم منها في مطرد العرف إلا السنة المتصلة بالعقد، والعرفُ إذا اقترن باللفظ المجمل بيّنه وأوضحه. وهو كما لو قال: بعتك عبدي هذا بألف درهم، فاللفظ في نفسه مجملٌ من طريق وضع اللغة، ولكنه محمول على النقد الغالب يوم العقد.
وهذا متِّجه، ولا يبقى معه للوجه الأول متمسك، إلا أن يقال: الإجارة تقع على أنحاء ووجوه، وقد لا يحيط بتفاصيلها إلا الخواص، والمدة تختلف فيها، ولا يمكن اطراد العرف في أنها تحتسب في ظن المتعاملين من وقت العقد، أو من وقت التسليم، وإذا كان الأمر مضطرباً في ظنون الناس، فلابد فيه من البيان.
5151- ومما يتعلق بأحكام المدة أنه لو قال: أكريتك هذه الدار شهراً من السنة، ولم يعين الشهر، فهذا فاسد وفاقاً. وما ذكرناه من الخلاف فيه إذا ذكر شهراً، ولم يضفه إلى سنة، فإذا قال: شهراً من السنة، فتقديره: أكريتك شهراً من شهور السنة، وهذا إبهام لا شك فيه.
ولو قال: بعتك صاعاً من هذه الصُّبرة، وكانت معلومةَ الصيعان، فالبيع صحيح. وإن كانت مجهولة الصيعان، ففيه وجهان، قدمنا ذكرهما في كتاب البيع، والجريان على الصحة. والفرقُ بين صاعٍ من صُبرة، وبين شهر من شهور السنة أن الغرض يختلف بتقدم الشهر وتأخره، وينضم إلى ذلك أنه لو فرض متاخراً، لكان ذلك باطلاً؛ من جهة استئخار الاستحقاق عن العقد الوارد على العين، وهذا لا يتحقق في الصاع من الصُّبرة؛ فإنه إذا عقد عليه، فقد تنجّز استحقاقُ جزءٍ من الصُّبرة، وتسليمه سهلٌ، لا عسر فيه.
5152- ولو قال: أجرتك الدار سنةً، كلُّ شهر منها بكذا، وأوضح حصةَ كل شهر، فهذا جائزٌ، ولا فرق بين أن يجعل الشهور متساوية في الحصص، وبين أن يقدّرها مختلفة، ونظير ذلك من مسائل البيع أنه لو قال: بعتك هذه الصُّبرة: كل صاعٍ بدرهم، فالبيع صحيح، ولو قال: بعتك هذه الصّبرة: كلّ صاع من نصفها بدرهم، وكلُّ صاع من نصفها الآخر بدرهمين، فالبيع صحيح وإن تفاوت ثمن الصيعان؛ فإن النصف من الصُّبرة كصبرةٍ على حالها، فكأنه في تقدير النصفين يشير إلى صُبرتين، ويقول: بعتك هذه الصبرة: كل صاع بدرهم، وبعتك هذه
الصبرة الأخرى: كلّ صاع بدرهمين.
5153- ولو قال: أكريتك هذه الدارَ: كلَّ شهرٍ بدينار، ولم يذكر مدةً مضبوطة، فالإجارة لا تصح على هذه الصيغة عندنا، والمذهب أنها لا تصح في الشهر الأول أيضاًً.
ومن أصحابنا من قال: تصح الإجارةُ في الشهر الأول، وهو اختيارُ ابن سُريج، وهو غير مرضي عند أئمة المذهب؛ فإن الإجارة وردت على صيغةٍ واحدةٍ مسترسلة على الشهور كلها، فتصحيحها في بعضها دون البعض لا يتجه.
ونظير الإجارة فيما ذكرناه من البيع ما لو قال: بعتك كلَّ صاع من هذه الصُّبرة بدرهم.
قال الأئمة: لا يصح البيع في جميع الصبرة؛ فإنه لم يقل: بعتك هذه الصُّبرة، كلَّ صاع بكذا، بل قال: بعتُك كلَّ صاعٍ من هذه الصُّبرة، فلم يأت بعبارةٍ تشتمل على جميع الصّبرة.
وكان شيخي يقول: إذا قال: بعتك كلَّ صاع من هذه الصبرة بكذا، فالبيع يصح في الصبرة، كما لو قال: بعتك الصبرة كل صاع بكذا.
والمسألة محتملة.
5154- فإذا فرعنا على المشهور الذي ذكره القاضي، فلم نجعل ذلك بيعاً في جميع الصبرة، فهل يصح البيع في صاعٍ واحد من الصبرة؟ فعلى الوجهين اللذين ذكرناهما فيه إذا قال: أجرتك داري هذه كل شهر بكذا، فهل تصح الإجارة في الشهر الأول؟ فيه ما ذكرناه من خلافِ ابن سريج، ولكن مذهبه يختص بالشهر الأول؛ إذْ لا يتصور تصحيح الإجارة في غيره. وفي مسألة الصبرة يصح البيع في صاعٍ من جملتها عند ابن سريج، والأصح أن لا تصح الإجارة في الشهر الأول، ولا يصح البيع في صاعٍ من الصبرة إذا لم نجعل ما جرى بيْعاً في جميع الصُّبرة.
فهذا تمام المراد في ذلك.
فصل:
5155- ذكر الأئمة في إجارة الوقف كلاماً متصلاً بما نحن فيه، فنقول: إذا أجر
الوقفَ من تصح إجارته، فذكر مدةً معلومة، ثم مات الآجرُ، نُظر: فإن كان الآجِرُ متولِّياً، ولم يكن موقوفاً عليه، فموته لا يؤثر في الإجارة، وهي باقية على لزومها.
فأما إذا أجر الوقفَ من هو موقوف عليه، وكان شرط الواقف مقتضياً ترتيبَ البطون، وألا يستحق من في البطن الثاني شيئاً ما لم ينقرض مَن في البطن الأول، ثم أجّر الموقوفُ عليه في البطن الأول الوقفَ، فالقول في أن الموقوف عليه هل يؤاجر بسبب استحقاقه لرَيْع الوقف يأتي مستقصًى في كتاب الوقف، إن شاء الله عز وجل، وفيه نذكر تخريج ذلك على الأقوال في أن الملك في رقبة الوقف لمن؟ فلسنا نخوض الآن في تفصيل ذلك؛ فإنه من أقطاب كتاب الوقف، كما سيأتي، إن شاء الله تعالى.
5156- فإذا أجر الموقوفُ عليه حيث يجوز له ذلك، ثم مات الآجر في البطن الأول، وشرْطُ الواقف يقتضي انتقالَ الاستحقاق إلى البطن الثاني، فهل نحكم بارتفاع الإجارة في بقية المدة عند موت من في البطن الأول؟
في المسألة وجهان مشهوران:
أحدهما: أن الإجارة لا تنفسخ؛ فإنها انعقدت على
اللزوم، فلا يتضمن طريانُ الموت انفساخَها، كما لو أجر المالك داره المملوكةَ، ثم مات في أثناء المدّة، فالملك ينتقل إلى الوارث في الرقبة، ولكن لا تنفسخ الإجارة.
والوجه الثاني- أن العقد لا يبقى في بقية المدة إذا انتقل الاستحقاق إلى البطن الثاني.
5157- وبنى الأصحاب هذين الوجهين على اختلافٍ ذكروه في الوقف، وذلك أنَّهم قالوا: البطن الثاني يتلقى الاستحقاقَ من البطن الأول تلقي الوارثِ من الموروث أم يتلقى من الواقف؟ فيه اختلاف مشهورٌ بين الأصحاب، ثم بنَوْا مسألتنا على ذلك، فقالوا: إن حكمنا بأن البطن الثاني يتلقى من الأول، فالإجارةُ تبقى في بقية المدة، كما تبقى الإجارة إذا مات الموروث، وإن حكمنا بأن البطن الثاني يتلقى الاستحقاقَ من الواقف، فالعقد يزول في بقية المدة إذا مات من في البطن الأول.
وهذا الاختلاف الذي ذكره الأصحاب في الوقف لست أرى له وجهاً، بل يجب عندي القطعُ بأن البطنَ الثاني يتلقى الاستحقاقَ من الواقف؛ فإن المتبع في الوقف، وتعيينَ المستحقِّ والقدرِ شرطُ الواقف، ومن في البطن الثاني يستحق بما يستحق به من في البطن الأول ولا وِراثةَ في الوقف.
ولكن توجيه الوجهين مع القطع بما ذكرته ممكنٌ؛ فإن الإجارة صحت من البطن الأول على حالٍ، فلا يمتنع الحكمُ بدوامها.
ثم إذا حكمنا ببقاء الإجارة في بقية المدة، فيجب صرف حصة تلك المدة إلى البطن الثاني لا محالة، ولو استنفق من في البطن الأول جميعَ الأجرة، فحصة بقية المدة دينٌ في تركته. هذا لابد منه، ولا شك فيه.
5158- ثم ذكر الأصحاب وجهين في انفساخ الإجارة، وهذا يستدعي عندنا نظراً، والوجه ألاّ نذكر عبارةَ الانفساخ، بل نقول: نتبيّن في وجهٍ أن الإجارة باطلةٌ في بقية المدة؛ من جهة أنا علمنا أن من في البطن الأول تصرّف فيما لم يكن له. ومساق هذا يقتضي تبيّنَ البطلان، لا الحكمَ بالانفساخ؛ فإن الانفساخ يُشعر بانعقاد العقد، ثم بارتفاعه بعد حقيقة الانعقاد، كقولنا: إذا تلف المبيع قبل القبض، انفسخ البيع، وكقولنا: إذا انهدمت الدار في أثناء مدة الإجارة، انفسخت في بقية المدة، فلا معنى إذاً للانفساخ في مسألة الوقف. ولم يصرح بالبطلان على أحد الوجهين إلا الصيدلاني، والأمر على ما ذكرنا، ووافق فيه الصيدلاني.
5159- ومما يتصل بهذه القاعدة، ويناظر ما نحن فيه أن الولي إذا آجر الطفلَ، فهو جائز على حكم الغبطة على الجملة، فلو أجَّره مدةً سيبلغ بالسن في أثنائها لا محالةَ، فالإجارة وراء البلوغ باطلةٌ؛ فإنها وقعت وراء أمد الولاية. وهل تصح الإجارة في المدة التي تقع في الصبا؟ ذكر الأصحاب بطلانَ الإجارة من غير تفصيل، ولم يتعرضوا لبيان الإجارة في مدة الصبا.
وقال القاضي: يجب تخريج صحة الإجارة في المدة الواقعة في الصبا على قولي تفريق الصفقة. وهذا حسنٌ متّجهٌ، ويحمل ترك تعرض الأصحاب لذلك على اعتمادهم وضوحَ الأمر في هذا.
5160- ولو أجر الولي الطفلَ مدة لا يعلم أنه يبلغ بالسن فيها، ولكن كان بلوغه بالاحتلام ممكناً في أثناء المدة، فيحكم على ظاهر الحال باستمرار الإجارة، فإن لم يتفق البلوغ حتى تمت الإجارة، فلا كلام.
وإن اتفق البلوغ في المدة، ففي الإجارة وراء البلوغ خلافٌ، ذكره الأصحاب منهم من قال: الإجارة تبقى، فإنها جرت من وليٍّ على شرط الغبطة، ووقع الحكم أولاً بنفوذ الإجارة، فيجب الوفاء بها.
والصحيح أن الإجارة لا تبقى.
ثم ذكر الأصحاب عبارة الانفساخ، والوجه عندنا أن نقول: نتبين بطلانَ الإجارة وراء البلوغ، وهذا كما ذكرناه في مسألة الوقف.
5161- ثم إذا حكمنا ببطلان الإجارة وراء مدة البلوغ، فهل نقول: تبيّنا أن الإجارةَ اشتملت على ما يصح، وعلى ما يفسد، حتى يُخرّج على قولي تفريق الصفقة قولٌ إن الإجارة باطلة في جميع المدة، كما ذكرناه فيه إذا أجر الصبي مدةً يعلم أن شيئاًً منها يقع وراء بلوغه بالسن؟ هذا لم يتعرض إليه الأصحاب. وإذا أوضحنا أن انتفاء الإجارة وراء البلوغ سبيله البطلان، لا الانفساخ، فلابد من خروج هذا القول.
وقد يظهر للفقيه القطعُ بصحة الإجارة فيما تقدم على البلوغ بالاحتلام، وأن الإجارة عقدت على احتمال أن تصح وتستمر في جميع المدة، وكل عقد يُعقد كذلك، ثم يتبين آخراً أمرٌ، فيظهر تخصيصُ الإبطال بما يتبين آخراً، وسنذكر نظير ذلك في محاباة المريض في البيع، إذا لم يفِ الثلث باحتمالها.
5162- ومما يتصل بما نحن فيه أن المالك إذا أجر عبده سنة، ثم إنه أعتقه في أثنائها، فالذي قطع به الأصحاب أن الإجارة لا تنفسخ في بقتة المدّة بطريان العتق.
وذكر صاحب التقريب في ذلك وجهين:
أحدهما: ما ذكره الأصحاب.
والثاني: أن الإجارة تنفسخ في بقية المدة. وهذا ضعيفٌ لا خروج له على قاعدة المذهب. والسبب فيه أن الإجارة جرت من المالك بحقِّ الملك، ثم طرأ عليها ما يتضمن زوال الملك عن الرقبة، فكان ذلك بمثابة ما لو أجر المالك في اره، ثم مات.
وأبو حنيفة مع مصيره إلى أن الإجارة تنفسغ بموت المكري- سلّم أن العبد المستأجَر إذا أُعتق في خلال المدة، لم تَنْفسخ الإجارة، فالوجه القطع بأن الإجارة لا تنفسخ.
ثم هل يثبت للعبد إذا عَتَق الخيارُ في فسخ الإجارة في بقية المدة؟ فعلى وجهين- ذكرهما صاحب التقريب أيضاًًً:
أحدهما: أنه لا خيار له، والإجارة تجري على موجب لزومها.
والوجه الثاني- أنه يثبت له الخيار كما تتخير الأمة إذا عَتَقت تحت زوجها القِنّ، وهذا بعيدٌ لا أصل له.
نعم إن حكمنا ببقاء الإجارة ولزومها، وأوجبنا الوفاء بها، فإذا عمل المعتَق في بقية المدة، بعد نفوذ العتق، فهل يرجع بأجرة مثله في هذه المدة الواقعة بعد العتق على سيده؟ فعلى وجهين مشهورين:
أحدهما: أنه يرجع به على سيده؛ فإنه بسبب العقد الذي قدّمه في الرق استسخره بعد العتق، مع أنا نعلم أن السيد لا يستحق منفعةَ مُعتَقه بعد نفوذ العتق.
والوجه الثاني- أنه لا يرجع عليه بشيء، نظراً إلى ابتداء العقد، وقد جرى في حالة الرق، وما بقي منه من بقايا أحكام الرق، والدليل عليه أن المعتَق على المذهب الذي عليه الجريان لا يجد محيصاً عن العمل في بقية المدة، فالمعنى الذي أوجب إلزامَ الإجارة وإدامتَها بعد العتق، ذلك المعنى يوجب قطعَ الرجوع والتبعة عن السيد.
5163- ومما يجب تجديد العهد به في آخر الفصل التنبيه للفرق بين البطلان، وبين الانفساخ، فما ذكرناه من انتفاء الإجارة بعد بلوغ الطفل محمول على البطلان، وكذلك ما ذكرناه من انتفاء الإجارة بعد موت مَنْ هو في البطن الأول محمول على البطلان، وما ذكرناه في العبد إذا عتق عن صاحب التقريب من أن الإجارة تنتفي بعد العتق، فهو إن صح محمولٌ على الانفساخ؛ فإن الإجارة صدرت من المالك بحق الملك، ثم أنشأ تصرفاً ينافي حجرَ الرق، فكان ذلك بمثابة ما لو أتلف البائع المبيعَ قبل القبض، وقلنا بانفساخ البيع.
وهذه المراتب يجب أن يتنبه لها الفقيه، ولا يعتقدها على قضية واحدة.
5164- ثم قال الأئمة: إذا أكرى من في البطن الأول الوقفَ ممّن في البطن الثاني، ثم مات القريب قبل انقضاء المدة، فهذا يُخرّج على ما ذكرناه من أن تصرفه ينتفي إذا مات أم لا؟
فإن قلنا: إجارته تنتفي بموته لو جرت مع أجنبي، فلا شك أنها تنتفي في الصورة
التي فرضناها. وإن قلنا: لا تنتفي إجارته مع الأجنبي في بقية المدة إذا مات، ففي انتفاء الإجارة، وقد جرت ممّن هو في البطن الثاني وجهان، والسبب في جريانهما أنه قد طرأت حالةٌ في حقه توجب له استحقاق المنفعة من غير إجارة.
وقد ذكرنا أن المستأجر إذا اشترى في خلال المدة الدارَ المستأجرة، فهل تنفسخ إجارته؟ والوجه ترتيب مسألة الوقف على طريان الملك على الرقبة، ومسألة الوقف أولى بارتفاع الإجارة، والفرق أن طريان الملك في الرقبة ليس يُثبت الاستحقاقَ في المنافع مقصوداً، بل مالكُ الرقبة يستحق منفعتها تبعاً لملك الرقبة، والموقوف عليه في البطن الثاني يستحق المنافع استحقاقاً مقصوداً، من غير تقدير تبعية، فكان ذلك أولى بانفساخ الإجارة.
ثم نقول في هذا المنتهى هذا انفساخٌ، وليس بطلاناً، وهو بمثابة ما لو اشترى الزوج زوجته، فإن النكاح ينفسخ بما يطرأ من ذلك.
هذا بيان مسائل الفصل.
فصل:
قال: "وأي المتكاريين هلك... إلى آخره "
5165- قد ذكرنا من مذهب الشافعي أن الإجارة لا تنفسخ بموت واحد من المتعاقدَيْن، ولا بموتهما جميعاً؛ فإنها معاملةٌ لازمةٌ، فيجب الوفاء بها.
5166- وإذا أجر الحرُّ نفسه، ثم مات، فانفساخ الإجارة ليس بسبب موت الآجر، وإنما هو بسبب فوات المعقود عليه.
5167- ثم نقول: الإجارة لا تخلو إما أن تُفرضَ واردةً على عينٍ، أو تُفرضَ واردةً على ذمة الآجر، فإن وردت على عينٍ، وبقيت العين، ومات العاقد، فالإجارة تبقى. وإن كانت الإجارة واردةً على ذمة الآجر فإذا مات، فسبيل الإجارة في ذِمّته كسبيل الديون اللازمة، فإن كان في تركته وفاءٌ استأجرنا منها من يتمم العمل المستَحق في ذمته، وإن لم يكن في تركته وفاءٌ، أو لم يخلّف شيئاًً فوارثه بالخيار إن شاء سعى في إتمام العمل، واستحق الأجرة، وإن شاء أعرض.
ثم المستأجر يتخير في فسخ الإجارة، ورفع المعاملة لتحقق العذر، ولم نحكم بانفساخ الإجارة، فإن العجز لا يتحقق إلا عن مباحثة، وما كان كذلك، فهو متعلّق بخيَرةِ صاحب الحق.
ولو كان عمل بعض العمل في حياته، وكان استوفى تمامَ الأجرة، فإذا انفسخت، وقع الاعتداد بقسطٍ يقابل عملَه في الحياة، ويصير الباقي ديناً في ذمة المتوفَّى، وهذا بيّنٌ، والعهد بتقريره قريب في كتاب المساقاة.
5168- ثم ذكر الأصحاب مسائلَ مختلفاً فيها، منها: أن الشيوع لا يمنع صحة الإجارة عندنا، خلافاً لأبي حنيفة، وقد ذكرنا تحقيق المذهب فيه في مسألة كراء العُقَب.
ومنها أن من استأجر شيئاًً وقبضه، ثم أراد أن يكريه، فله ذلك، ولا معترض عليه في مقدار الأجرة، فلو كان استأجر داراً بمائةٍ سنة، وقبضها، ثم أكراها بمائتين، ساغ، وما يأخذه من الزيادة حلالٌ طيب. وقال أبو حنيفة: الإكراء بالزيادة صحيح، ولكن الزيادة على الأجرة ليست بطيّبة، ويلزم التصدق بها، وهذا لا أصل له في الشريعة عندنا.
5169- ولو أجر المستأجر العينَ التي قبضها من المالك المُكري، فقد ذكر الأصحاب في صحة ذلك وجهين وبنَوْهما على الوجهين في أن المكتري إذا ملك رقبةَ المكترَى، فهل تنفسخ الإجارة؟ وقد قدمنا تفصيلَ المذهب في ذلك، والوجهُ ترتيب الوجهين فيه إذا أكرى من المكري على الوجهين فيه إذا طرأ للمكتري ملكُ الرقبة، والإكراء من المكري أولى ألا يصح، والسبب في ذلك أنه اجتمع مع ملك المكري للرقبة أن المنافع بعدُ في ضمانه للمكتري منه، فلو صححنا الإجارة معه، لكانت المنافع مضمونةً له، و مضمونة عليه، وهذا متناقضٌ في موجب المعاملات، والله أعلم.