فصل: باب: المسح على الخفين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: المسح على الخفين:

396- المسح على الخف رخصة قال بها علماء الشريعة، ولم ينكرها إلاّ الروافض، ومن يُعرفُ بالانتماء إليهم من العلماء، ومنكروها هم الذين أثبتوا مسحَ القدم.
والأصل فيها الأخبار المشهورة، منها ما روي عن صفوان بن عسّال المرادي، أنه قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنّا مسافرين أو سَفْراً ألا ننزع خفافنا فيها ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة، لكن من كائط، وبول، ونوم»، وروي أنه صلى الله عليه وسلم: «أرخص للمقيم يوماً وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، إذا تطهر فلبس خفَّيه أن يمسح عليهما»، وروي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: مسح على خفَّيه».
397- ثم الباب مصدّر بذكر مدة المسح.
فالذي صار إليه معظم الفقهاء أن مدة المسح تتأقت، فهو في حق المقيم يومٌ وليلة، وكذلك في حق المسافر سفراً قصيراً، وفي حق المسافر سفراً طويلاً، ثلاثة أيام ولياليهن.
ثم يجب نزع الخف، وراء المدة على ما سيأتي مشروحاً- إن شاء الله عز وجل.
وقال مالك: يمسح المقيمُ والمسافرُ ما بدا لهما، ما لم يلزمهما الغُسل؛ فإنه يجب إذ ذاك النزع. وهذا قولُ الشافعي في القديم. وشهد له أخبار: منها حديث خزيمة، قال: "رخّص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسافر أن يمسح ثلاثة أيام، ولو استزدناه، لزادنا". وروي عن أُبي بن عمارة، وهو كان ممن صلّى إلى القبلتين قال: قلت: يا رسول الله أنمسح على الخف يوماً وليلةً؟ قال: نعم، قلت: يومين وليلتين؟ قال: نعم، قلت: ثلاثة أيامٍ؟ قال: نعم، وما شئت، وهذه الألفاظ مشكلة، وقد صححها مالك.
ومن يجري على ظاهر المذهب يقول: أما حديث خزيمة، فظنٌ منه، والظن يخطىء ويصيب، وأما حديث ابن عمارة، فتأويله عسر، وقد قيل: "لم يُرد رسول الله صلى الله عليه وسلم امتدادَ مدّةِ مسحِ واحد"، وهو كقوله عليه السلام «التراب كافيك، ولو لم تجد الماء عشر حجج». والوجه عندي المعارضة بنصوص التأقيت، ثم الأصل غسل القدمين، فلا تثبت رخصةُ المسح إلا بثَبَتٍ.
398- ثم ابتداء المدّة لا يحتسب من وقت لُبس الخف وفاقاً، ومذهبنا أنه يحتسب من أول حدث يقع بعد لُبس الخفين.
ويؤثر عن أحمدَ بنِ حنبل أنه قال: يحسب ابتداء المدة من أول مسحٍ.
وهذا غير سديد، ونفش مذهبنا إذا ذُكر أغنى عن ذكر دليل عليه، فلا يدخل وقت المسح واللابس على الطهارة الكاملة، فإذا أحدث، حان وقتُ المسح، فكان ذلك ابتداءَ وقت المسح.
399- ثم مما يتعلق بأثر المدة أن من لبس الخفَّ مقيماً، ثم سافر، أو لبس مسافراً، ثم أقام، فيختلف أثر المدة.
فنذكرُ المقيم يسافر، فمذهبنا أنه إن أحدث في الإقامة، ودخل وقتُ المسح، ولم يمسح عليه، حتى فارق البلد مسافراً سفراً طويلاً، فإنه عند الشافعي يمسح مسح المسافرين، وابتداء المدة من وقت الحدث الذي جرى في الإقامة. وإن ابتدأَ المسحَ في الإقامة مسحَ مَسْحَ المقيمين. والمزني يقول: إذا أحدث مقيماً، مسح مَسْح المقيمين. وقال أبو حنيفة: إذا سافر قبل انقضاء المدة مسح مَسْح المسافرين.
فرع:
400- إذا أحدث مقيماً، ودخل عليه وقت الصلاة، فلم يمسح حتى انقضى وقت الصلاة وهو مقيم، ثم سافر، ففي المسألة وجهان: أصحهما- أنه يمسح مَسْح المسافرين؛ فإنه سافر قبل ابتداء المسح.
والثاني: أنه يمسح مسْحَ المقيمين؛ فإنه عصى بتأخير المسح، والرخص لا تناط بالمعاصي، وأيضاً استقر وجوبُ المسح بانقضاء الوقت، فكان ذلك كإيقاع المسح في الإقامة.
وهذا غيرُ سديدٍ. أما المعصية، فليست في السفر، وهو سبب الرخصة، وأما لزوم المسح، فغير سديد؛ فإن المسح لا يتعيّن قط، من جهة أنه لو نزع خفّيه وغسل قدميه، فهو الأصل.
فرع:
401- إذا شك، فلم يدر: أمسح في الإقامة أم لا؟ فالأصل عدم المسح، وحكمه-لو لم يجر- استكمالُ مدة المسافرين. ولكن أجمع أئمتنا على أنه يمسح مَسْح المقيمين، أخذاً بالأقل. وهذا يناظر ما قدمناه: من أن الماسح لو شك في انقضاء المدة، فالأصل بقاؤُها، ولكن يتعين الأخدّ بانقضائها؛ إذ الأصل وجوبُ غسل القدمين، فلا معدل عنه إلى المسح، إلا بثبَت، وتحقيق، وقد ذكرنا ذلك ونظائرَ لها في مسائل استثناها صاحب التلخيص، إذ قال: لا يترك اليقين بالشك إلا في مسائلَ ذكرَها.
هذا في المقيم إذا سافر.
فأما من لبس الخف مسافراً، ثم أقام، فحكم الإقامة مغلَّب في كل حال، فإن مضى في السفر مدةُ المقيم، فأقام، نزع خُفّيه، وكذلك إن مضى كثر منها، فكما أقام، نزع. وإن لم تنقض تمام مدة المقيم، فإذا أقام، استكمل مدة الإقامة، ونزع.
واعتبر المزني النسبة، فقال: إن كان مضى في السفر يومان وليلتان، فقد مضى ثلثا المدة، فإذا أقام مسح مَسْح ثلث مدة المقيم، وإن كان مسح في السفر يوماً وليلة، فقد بقي ثلثا المدة، فإذا أقام مسح ثلثي مدة المقيم.
ولا حقيقة لما صار إليه. والأصل تغليب حكم الإقامة، كما ذكرناه.
402- فإن قيل: كل ما يغلَّب فيه حكم الإقامة إذا اشترك فيه الحضر والسفر، فلا فرق بين أن تطرأ الإقامة على السفر، وبين أن يطرأ السفر على الإقامة؛ فإن من تحرم بالصلاة المقصورة مسافراً، ثم انتهت السفينة في أثنائها، إلى الإقامة، فإنه يُتم ولا يقصر، وكذلك لو شرع في الصلاة مقيماً، ثم جرت السفينة، فإنه يتمها. فأما تغليبكم حكمَ الإقامة الطارئة على السفر، فجارٍ على هذا القياس. وأما مصيركم إلى أنه إذا دخل وقت المسح في الإقامة، فسافر يمسح مَسْح المسافرين، فنقضٌ للقاعدة.
قلنا: دخول وقت العبادة في الحضر لا يُلزم حكمَ الحضر؛ فإن دخل وقتُ الصلاة عليه، فسافر، يقصر. وقد ذكرنا أسلوب هذه المسألة في الخلاف.
403- ثم المقيم يُتصوّر أن يصلي في اليوم والليلة بطهارة المسح ستَّ صلواتٍ، في مواقيتها من غير جمع، بأن يلبس الخفين، ثم يمضي من أول وقت الظهر مقدارُ أربع ركعات، فيحدث، فهذا أول المدة، فيمسح، ويصلي الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصبح، ويصلي الظهر في أول الوقت أربع ركعات.
وقد انقضت مدةُ المسح.
فإن جمع بين الظهر والعصر في اليوم الثاني بعذر المطر، فيكون مؤدّياً سبع صلواتٍ ونفرض أن يحدث بعد مضي مقدار ثماني ركعات من أول الظهر. ثم يصلّي الصلوات الخمس على ما ذكرنا، ويصلي في أول وقت الظهر الظهرَ والعصرَ جمعاً وتقديماً.
فصل:
404- نذكر في هذا الفصل أمرين إن شاء الله عز وجل:
أحدهما:التفصيل في اشتراط تقديم الطهارة على لبس الخفين.
والثاني: بيان صفة الملبوس الذي يجوز المسح عليه.
فأما القول في تقديم الطهارة: فإذا تمكن المرء من الطهارة الكاملة، فلابد من تقديمها على ابتداء اللُّبس، فإذا فرغ من غسل القدمين، فيبتدىء بعد الفراغ منها لُبس الخف الأول.
فلو غسل إحدى رجليه، وأدخلها الخف، ثم غسل الأخرى، فأدخلها الخف، ثم أحدث، لم يمسح على خفيه عندنا؛ وعلة المذهب أن الطهارة إنما تشترط لأجل اللُّبس، فيشترط تقديمها بكمالها على اللُّبس كالصلاة مع الطهارة.
وقد قرّرْنا هذا المعنى في (الأساليب).
فلو غسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، ولبس خفيه قبل غسل الرجلين، ثم صب الماء في خفيه حتى حصل غسل الرجلين، ثم أراد المسحَ بعد الحدث، لم يجز؛ فإن اللُّبس ابتداءً وقع من غير طهارة.
ولو غسل إحدى رجليه، وأدخلها الخف، ثم غسل الثانية، وأدخلها الخف، لم يمسح عند مسيس الحاجة، فلو أنه نزع الرجلَ الأولى، وهو بعدُ على الطهارة، وأعادها، فيمسح الآن؛ فإنه كان لبس الخفَّ الثاني على كمال الطهارة، فكان لُبسه صحيحاً. وإنما جرى الخلل في لُبس الخف الأول. فإذا نزع وأعاد، فنجعل كأنّ اللُّبس الأول لم يكن، وقد لبس الآن على كمال الطهارة.
405- ولو لبست المستحاضة-والحدثُ منها دائمٌ-الخفَّ بعد أن توضأت، ثم أرادت المسح على الخف، فقد اختلف أصحابُنا فيه، فمنهم من قال: لا تمسح؛ لأن طهارتها ناقصة، والحدث مقارن لها، وإنما يجوز المسح على الخف بعد تقديم طهارةٍ كاملة رافعةٍ للحدث.
ومن أصحابنا من قال: تمسح؛ لأنها تستبيح الصلاة بطهارتها الضعيفة، فإذا كانت صلاتها تصح بطهارتها، فينبغي أن يصح لُبسُها الخف بطهارتها.
ومن قال بالأول يقول: إذا كانت تمسح وأصل طهارتها ضعيف، فينضم ضعفٌ إلى ضعفٍ، والرخص لا يعدّى بها مواضعها. ونحن نأمر المستحاضة بأن تجدد الوضوءَ لكل فريضة، لتكون آتيةً بأقصى الممكن مع استمرار الحدث، فكيف يُضم إلى ما بها تركُ غَسل القدمين.
ثم قال الصيدلاني: من أجاز لها أن تمسح، فإنما يقول: لو لم تلبس، لكانت تصلّي فريضة واحدة ونوافل، فإذا لبست، وأحدثت حدثاً آخر-سوى حدث الاستحاضة- فإنها تتوضأ، وتمسح، وتصلي تلك الفريضة، وما شاءت من النوافل، وتقتصر، ثم تنزع للفريضة الثانية؛ فإن طهارتها الأولى كلا طهارة في حق الفريضة الثانية. وليس كالطهارة التامة في حق غير المعذور؛ فإنها تصلح لأداء فرائض لو دامت، فإذا طرأ الحدث، جاز مسح الخف إلى انقضاء المدة المرعيّة.
هكذا قال الصيدلاني.
وليس هذا خالياً عن إشكال؛ فإن المسح إنما يقع بعد طريان الحدث على الطهارة التي يُرتب اللُّبس عليها، فكان يحتمل أن يقال: إذا جوزنا لها أن تلبس الخف، فإنها تتوضأ لكل فريضة، وتمسح وتجعل ما يتجدد من حدث الاستحاضة بمثابة ما يتجدّد من الحدث على الطهارة الكاملة، إلى انقضاء مدة المسح، فهذا تنبيه على محل الإشكال.
وما ذكره الصيدلاني مقطوع به على جواز المسح، وهكذا ذكره الأئمة في الطرق، فليس في المذهب تردّدٌ، فلتقع الثقة بما ذكره.
406- ولو تيمم ولبس الخف، نُظر: فإن كان التيمم لإعواز الماء، فلا يستفيد به المسحَ عند وجود الماء، بل كما وُجد، بطل التيمم، ولزم نزع الخف، وتكميل الوضوء.
ولو تيمم الجريح، ولبس الخف، ففيه من الخلاف ما ذكرناه في المستحاضة.
ثم قال الأصحاب: إنما يمسح إذا أحدث قبل أداء فريضةٍ واحدةٍ، فيتوضأ، ويمسح، ويصلّي تلك الفريضة، وذلك يتصور إذا كان بدنه صحيحاً، وبعضه جريحاً، ولم يكن برجليه جرح، وكان يتمكن من غسلهما. فعلى الوجه الذي نفرع عليه إذا غسل الممكن وتيمّم، فإنه كان يصلي فريضة واحدة، فلو لبس الخف وأحدث، فإنه يغسل الممكن ويتيمم، ويمسح، ويصلي تلك الفريضة مع نوافلَ بلا مزيد، ثم ينزع، ويعود إلى أوّل مرّة.
ثم قال الصيدلاني وغيره: إذا لبست المستحاضة، وأرادت المسح في حق فريضة واحدة، فشفيت، أو شفي الجريح، فلينزعا، وليأتيا بطهارة كاملةٍ؛ فإن تلك الطهارة قد انقضت، بما طرأ من الشفاء، وزوال الضرورة، فلا سبيل إلى ترتيب المسح عليه أصلاً.
فهذا بيان ما أردناه من تقديم الطهارة على لبس الخف.
407- فأما المقصود الثاني، فهو بيان صفة الملبوس، الذي يجوز المسح عليه، فيشترط فيه أمور: منها أن يكون ساتراً لمحل الفرض، وهو القدم إلى ما فوق الكعبين، فلو كان شيء من محل الفرض بادياً، فلا يجوز المسح أصلاً. ولا يضرّ بَدْوُ القدم من أعلى الخف بسبب اتساع ساق الخف، والستر المرعي فيه هو الستر من أسفل الخف والجوانب. وسنذكر في كتاب الصلاة مقارنة ستر العورة بهذا، وكل واحد من البابين مُجرى على المعتاد فيه. فلو تخرق الخف وبدا شيء-وإن قلّ من محل الفرض- لم يجز المسح على الجديد.
وقال مالك: يجوز المسح على الخف المتخرق، ما دام متماسكاً في الرجل، وإن بدا من الرجل شيء كثير، وعنى بالتماسك أن يكون بحيث يتأتى المشي فيه، على ما سنصف معنى ذلك.
وأضيف هذا المذهب إلى الشافعي قولاً قديماً؛ فإن تخرُّقَ الخف قد يغلب في الأسفار، ويُعوِز الخارز في الأسفار، ولو شُرط الستر التام، فقد يؤدي ذلك إلى عسرٍ في إقامة هذه الرخصة، والمذهب القول الجديد.
ومما يشترط في الملبوس أن يكون فيه قوة، بحيث يعد مثله للتردد فيه في الحوائج. وصرح الصيدلاني بأنا لا نشترط أن يتأتى قطعُ الفراسخ بالمشي فيه.
408- وهذا من مواقع الانتشار الذي ينبغي أن يُعتنى فيه بتقريب وضبط. فمذهبنا أن من لبس جورباً ضعيفاً لا يعتاد المشي فيه وحده، فلا سبيل إلى المسح عليه، والسبب فيه أن نزع الجورب يسير، لا يُحتاج فيه إلى معاناة تعبٍ، والغرض من هذه الرخصة إقامة المسح على الملبوس الذي يمشي فيه حضراً وسفراً مقام غسل القدمين، والجورب إنما يلبس لدفع الغبار عن الرجل، ثم العادة جارية بأنه ينزع عند النزول، فلا يبقى في الرجل. ومن لبس خفاً على الجورب، ثم نزع الخف، فإنه ينزع الجورب، كما ينزع اللفافة. فإذاً لا تُفسَّر قوة الملبوس بأن يتأتى قطع مرحلةٍ أو مرحلتين فيه؛ فإن المسافر قد يكون راكباً في سفره، ولكنه يرتفق بإدامة الخف في رجله عند نزوله، غَيْرَ أن الارتفاق إنما يحصل إذا كان الملبوس بحيث يتأتى التردد معه في الحوائج عند الحطّ والترحال، فإن لم يكن كذلك، لم يكن له الارتفاق به واستدامته، فليفهمه الفاهم. وليعلم أن القوة في الملبوس للتردد في الحوائج في المنازل، لا لإمكان المشي والترجل في المراحل.
ولا يقع الاكتفاء بالساتر، كما يكتفى بالساتر من الجبائر في المسح عليها؛ فإن الرفق في الجبيرة للستر المطلوب فحسب.
وأنا أقول: لو ألقى على موضع الخَلْع ساتراً، لا نفع فيه، ولا ارتفاق به، فلا يجوز المسح عليه. والرفق اللائق بهذا الباب يستدعي مع الستر إمكان التردد. فقد بان الغرض ووضح.
وأنا أعلم أنه لا يتبرّم بتطويلٍ في مثل ذلك إلا غبيّ، لا ينتفع بالنظر في هذا المذهب، فإن من أجلّ مقاصدي في وضع هذا الكتاب هذا الفن من الكلام.
409- ثم يعترض على القاعدة التي مهدناها، أن الرجل لو لبس خفاً من حديد، فإنه يمسح عليه، وإن كان لا يتأتى التردد فيه؛ والسبب فيه أن عسر التردد إنما كان لضعف اللابس، لا لضعف الملبوس، فلا يُنظر إلى أحوال اللابسين؛ فإنها تخرج عن الضبط، وإنما النظر إلى صفة الملبوس.
فهذا منتهى النظر في ذلك.
410- وكان شيخي يقول: لو لف الرجلُ قطعةَ أَدَمٍ على قدمه واستوثق شدَّه بالرباط، فكان قوياً يتأتى التردد فيه، فلا يجوز المسح عليه؛ فإن اللف لا يقوى، ولا يتأتى التردد في الملفوف على ما تقدم الشرح، فإن ألحّ متكلف وصوَّر الاستيثاق بربط الملفوف بخيوط قوية، فمثل هذا تعسر إزالته، وإعادته على هيئته، مع استيفاز المسافر، ويتعسر معه الارتفاق المعنيّ بالمسح على الملبوس المرفِق.
وبالجملة: الغالبُ في الرخص اتباع موارد النصوص، وإنما وردت في الخف وما في معناه.
411- وكان شيخي يذكر في الملبوس مشقوق المقدّم مخروز الجملة، يشد محل الشق بشَرَج، أو تُعطف إحدى الضفتين على الأخرى- وجهين في جواز المسح، أحدهما- المنع؛ فإن هذا سترُ لفٍّ، والأصح القطع بالجواز، إذا كان الستر حاصلاً مستداماً في مدة المسح؛ فإن الستر مع تيسر الارتفاق بهذه الآلة على جريان العرف حاصلٌ، فليقع الاكتفاء بهذا.
وقد نجز ما ذكرناه من اشتراط كون الملبوس ساتراً لمحل الفرض، قوياً يُعدّ للتردد في الحاجات.
412- وقد تردد أئمتنا في اشتراط صفة أخرى في الساتر، وهي أنه لو كان ساتراً لا تبدو منه القدم للناظرين، وكان قوياً يتأتى التردد فيه، كما تقدم شرح ذلك، ولكن كان منسوجاً بحيث لو صب الماء عليه نفذ إلى القدم، ففي جواز المسح عليه خلاف.
من أئمتنا من جوز المسح، وهو القياس، ومنهم من منع. وفي كلام الصيدلاني إشارة إليه، ووجهه أن الذي وقع المسح عليه يجب أن يكون حائلاً حاجزاً بين الماء والقدم، فإذا لم يكن كذلك، وكان الماء ينفذ إلى الرجل، فكأنه ليس حائلاً.
وهذا بعيد.
وقد نصّ علماؤنا على أنه إذا انثقبت ظهارة الخف، ولم تنثقب البطانة بإزاء تلك الثُّقْبة، ولكن انثقبت البطانة من موضع آخر، وانفتقت الظهارة عن البطانة، وكان القدم لا تبدو، ولكن لو صُبّ الماء في ثقبة الظهارة، لجرت إلى ثقبة البطانة، ووصلت إلى القدم، فيجوز المسح والحالة هذه؛ فإذاً لا أثر لنفوذ الماء، ثم الماء في المسح لا ينفذ إلى القدم، وغسل الخف ليس مأموراً به.
فرع:
413- قال الصيدلاني: إذا اتخذ ملبوساً قويّاً من جوهرٍ شفاف يتراءى ما وراءه لصفائه، لا لخلل فيه، فيجوز المسح عليه، وستر العورة في ذلك ينفصل عن ستر القدم؛ فإن المصلي لو استتر بشيء تتراءى منه عورته لصفائِه، أو وقف في ماء صافٍ، لم يكن ساتراً للعورة. والمرعي من الستر في الخف حائلٌ قوي بين يد الماسح وبين القدم، وفي نفوذ الماء من التفصيل ما ذكرناه.
فصل:
414- إذا لبس الرجل خفاً، ولبس فوقه جُرمُوقاً، ثم أراد المسح على الجرموق، فإن كان الجرموق ضعيفاً: بحيث لا يتأتى التردّدُ فيه، فلا يجوز المسح على الجرموق. ولو كان الجرموق قويّاً، والخف تحته ضعيفاً، فيجوز المسح على الجرموقين؛ فإنهما بمثابة الخفين، والخف بمثابة الجورب واللفافة.
وإن كان الخف والجرموق قويين: بحيث يجوز المسح على كل واحد منهما لو انفرد، ففي جواز المسح على الجرموقين-والحالة هذه- قولان:
أحدهما:وهو الذي نقله المزني- أنه لا يجوز المسح عليه.
والثاني-وهو الذي نصّ عليه في القديم- أنه يجوز المسح عليه، وهو مذهب المزني.
فأما وجه قول المنع، فهو أن الخف بدل عن القدم، فيقع الجرموق بدلاً عن الخف، وليس للبدل في الطهارات بدل. على أن الرخص لا يعدّى بها مواقعها.
واحتج المزني بأن قال: "إنما جاز المسح على الخف مِرْفقاً للمتردد في سفره وفي المسح على الجرموقين مَرفق ظاهر".
فنقول: هذا المِرفق تمس الحاجة إليه نادراً، فكان كالقفازين؛ فإن المسافر تشتد حاجته إليهما في شدة البرد، ثم لا يمسح عليهما. وأما الخف، فالحاجة إليه عامة ظاهرة، في حق المقيم والمسافر، ثم لا يعسر إدخال اليد تحت الجرموق ومسحُ الخف، وغسلُ الرجل في الخف عسر جدّاً.
التفريع:
415- إن قلنا: لا يجوز المسح على الجرموقين، نزعهما-أو أدخل يده تحتهما- ومسح على الخفين.
وإن قلنا: يجوز المسح على الجرموقين، فقد ذكر ابن سريج في تنزيلهما ومحلّهما ثلاثةَ أوجهٍ: أحدها: أنه بدل عن الخف، والخف بدل عن القدم، فهو بدل البدل.
والثاني: أنهما بمثابة الخف، والخف بمثابة اللفاف، فالجرموق بدل عن القدم.
والثالث: أن الخف والجرموق بمثابة ملبوسٍ واحد، وكان الجرموق ظهارةٌ، والخف بطانة.
وهذه التقديرات محتملة، لا حاجة إلى توجيهها.
416- ونحن نفرع على جواز المسح على الجرموقين أمرين:
أحدهما: اللبس على الحدث.
والثاني: النزع.
فأما تفصيل القول في الحدث، فإن لبس الخفين على طهارة كاملةٍ، ثم لبس الجرموقَ، وهو مستديمٌ للطهارة، فلا إشكال، وإن أحدث بعد لُبس الخفين، لم يخل: إما أن يلبس الجرموق محدثاً، وإما أن يلبسه وهو على طهارة المسح على الخفين، فإن لبس محدثاً، نفرع على هذه التقديرات.
فإن قلنا: الجرموق بدل البدل، أو بدل القدم، والخف لفافة، فلا يمسح على الجرموق؛ فإنه ممسوح عليه مقصودٌ، لَبِسه محدثاً، فأشبه ما لو لبس الخف محدثاً، وأراد المسحَ عليه.
وإن قلنا: الجرموق فوق الخف، كطاقة فوق طاقة، من ملبوسٍ واحد، فيجوز المسح عليه، ويكون لُبسه على الحدث بمثابة ما لو لبس خفاً متطهراًً، ثم أحدث وألصق طاقةً جديدة بخفه بخرزٍ أو غراء، فله المسح على الطاقة التي ألصقها بعد الحدث.
ولو لبس خفيه وأحدث وتوضأ، ومسح على الخفين، ثم لبس الجرموق وهو على طهارة المسح. فإن قلنا: لو لبسه محدثاً، مسح، فيمسح هاهنا.
وإن قلنا: لا يمسح، فهذا يُبنى على أن المسح على الخف هل يرفع الحدث؟
قال قائلون: إن قلنا: يرفعه، فيجوز أن يمسح على الجرموق، بناء على طهارة المسح على الخف، وإن قلنا: لا يرفع المسحُ على الخف الحدثَ، فلا يمسح على الجرموق بناءً على طهارة المسح على الخف.
417- ثم قال هؤلاء: ما ذكر من الخلاف-في أن المستحاضة إذا توضأت، ولبست الخف هل تمسح- يخرّج على أن طهارة المستحاضة هل ترفع الحدث السابق أم لا؟ وفيه نظر.
وكان شيخي يقطع بأن طهارة المستحاضة لا تؤثر في رفع الحدث.
وقال هذا القائل: الجريح إذا غَسل ما قدر عليه، وتيمم عن المعجوز عنه، ولبس الخف، ففي جواز المسح خلاف، وهو أيضاً مبني على أن ما جرى من الغسل والتيمم هل يرفع الحدث؟ وإنما لا يرفع الحدث إذا لم يكن معه غَسل؛ فإن التيمم مع الغَسل بمثابة المسح على الخف مع غسل سائر أعضاء الوضوء.
والتزام تخريج الخلاف على الخلاف في ارتفاع الحدث بما يجري في هذه المسائل من الطهارات- غيرُ صحيح؛ فإن طهارة المستحاضة مع مقارنة الحدث إياها يبعد أن ترفع حدثاً.
ثم إن صحّ هذا المسلك، فيجب، على موجَبه أن يقال: إذا لبست المستحاضةُ الخف على طهارتها، ولم يتفق حدث بين الفراغ من الوضوء وبين الفراغ من اللبس، ثم استرسل الدم بعد اللبس، إنها تمسح إلى تمام المدة؛ فإن الحدث الأول قد زال، والأحداث المتجددة بعد اللبس لا تمنع استكمال المدة، ولم أر ذلك لأحد.
418- والوجه عندي في تخريج هذه المسائل أن الطهارة المبيحة للصلاة، إذا لم تكن رافعةً للحدث، هل تفيد المسح على الخف؟ فعلى الخلاف المقدم.
فعلى هذا نقول:
إن حكمنا بأن المسح على الخف يرفع الحدث، فيجوز المسح على الجرموق بناء عليه، قولاً واحداً، وإن قلنا: إنه لا يرفع الحدث، فهل يُفيد جوازَ المسح على الجرموق؟ فعلى وجهين، كالوجهين في طهارة المستحاضة.
فهذا بيان المراد فيما يتعلق بتخلل الحدث، والمسح بين لبس الخف، ولبس الجرموق.
419- فأما القول في نزع الجرموقين. فنقول: إذا مسح على الجرموق على قول الجواز، ثم نزع الجرموقين بعد المسح عليهما. فإن قلنا: إنهما بمثابة الطاقة العليا، فلا يضرّ نزعهما، وهو بمثابة ما لو مسح على خفيه، ثم كشط الظهارة منهما.
وإن قلنا: الجرموق بدلٌ عن الخف، والخف بدل عن القدم، فإذا نزع الجرموقين، وجب المسح على الخفين. وهل تجب إعادة الطهارة من أولها، أم يجوز الاقتصار على مسح الخفين؟ فعلى قولين سيأتي ذكرهما في نزع الخفين، ولا نوجب نزع الخفين على هذا التقدير الذي ذكرناه.
وإن قلنا: الجرموق خفٌّ، والخف لفافة، فإذا نزع الجرموقَ، لزم نزع الخفين، ثم يجب إعادة الوضوء من أوله، أم يكفي غَسل القدمين؟ فعلى قولين. فهذا إذا نزع الجرموقين.
420- فأما إذا نزع أحدهما فنقدّم عليه أن الماسح على الخف إذا نزع أحدهما، لزمه نزع الثاني، ثم يجري القولان في إعادة الوضوء، ومما نقدّمه أنه لو كان يغسل رجلاً، ويمسح على خُفٍّ على الرجل الأخرى، فلا يجوز ذلك وفاقاً. ولو أنه في الابتداء لبس خفين، ثم لبس فوق أحدهما جرموقاً، وترك الخف الثاني بادياً، فإن جعلنا الجرموق كطاقةٍ، فلا شَك في جواز هذا.
وإن قلنا: الجرموق بدلٌ عن الخف، فلا يجوز؛ فإنه أَثبت بدلاً في إحدى الرجلين، وتركَ الخف-وهو أصلُ الجرموق على هذا التقدير- بادياً، فكان كما لو كان يغسل رجلاً، ويمسح على خف على الرجل الثانية.
وإن قلنا: الخف تحت الجرموق لفافةٌ تقديراً، فإذا لبس جرموقاًً واحداً، فكان يمسح عليه، ويمسح على خفٍّ على الرجل الثانية، ففي المسألة وجهان ذكرهما شيخي. أحدهما- لا يجوز ذلك؛ فإن الخف البادي بمثابة لفافة.
والثاني: يجوز. وهو الصحيح؛ فإن الخف إنما يقدر لفافة إذا كان فوقه جرموق. فإذا لم يكن، ترك الخف على حقيقته.
هذا تفصيل القول في الابتداء، إذا لبس جرموقاًً وترك خفاً بادياً.
فأما إذا لبس الجرموقين ومسح عليهما، ثم نزع أحدهما، فإن جعلناه كطاقةٍ، لم يضر ذلك، وله تبقية الجرموق الثاني، وإن لم نُقدِّر ذلك، فإذا نزع أحدهما، لزمه نزع الثاني.
ثم قد مضى تفصيل القول فيه إذا نزعهما جميعاًً.
421- فإن قيل: إذا جوزتم في الابتداء لبسَ جرموقٍ فوق خف، وترْك الخف بادياً، فهلا جوزتم ردّ الأمر إلى ذلك دواماً وانتهاء؟ قلنا: إنما جوزنا ذلك ابتداء على تقدير الخف لفافاً في أحد الوجهين. فقلنا: الخف البادي لم يكن مقَدّراً لفافاً إذا لم يكن مستوراً، فأما إذا لبس الجرموقين، فقد ثبت للخفين حكم اللفافة، فإذا نزع أحدهما، ووجب نزع الخف، لزم ذلك في الثاني أيضاً.
فهذا تحقيق الفصل.
422- وقال جماهير أصحابنا: يبنى الدوام على الابتداء. فإن قلنا: يجوز في الابتداء المسحُ على خف وجرموق فوق خف، فيجوز ردّ الأمر إلى ذلك آخراً.
وهذا عندي غير مستند إلى بصيرة، فلا ينقدح قطّ ذلك في الانتهاء، إلا على تقدير الجرموق طاقة فوق طاقة.
وإذا قلنا: لا يجوز المسح على الجرموقين، فلو أدخل يده تحتهما، ومسح على الخف، وجب القطع بجوازه.
وإن جوزنا المسح على الجرموقين، فلو أدخل يده تحت الجرموقين، ومسح على الخف، فإن جعلنا الخف كاللفافة والبطانة، وجب ألا يجوز هذا، وإن جعلناه أصلاً، وجعلنا الجرموق بدلاً، فيجوز حينئذٍ.
فصل:
423- من لبس خفّيه على كمال الطهارة، ثم نزعهما وهو على الطهارة الأولى، فلا أثر للنزع، ولا شك فيه.
وإن أحدث بعد لبس الخف، ونزعه وهو محدث، فلا شك أنه يستأنف الطهارة التامة، ثم يلبس الخف إن أراد المسح.
وإن أحدث، وتوضأ، ومسح على خفيه، ثم نزع وهو على طهارة المسح، فيجب غسل القدمين. وهل يجب استئناف الوضوء؟ فعلى قولين للشافعي.
ثم ذهب بعضُ الأصحاب إلى أن القولين مأخوذان من التفريق هل يبطل الوضوء؟ فإن قلنا: لا يبطل، كفى غسل الرجلين، وإن قلنا: يُبطله، لزم استئناف الوضوء.
وهذا غلطٌ عند المحققين؛ فإن القولين يجريان، وإن لم يطل زمانٌ؛ فإنه لو غسل وجهه ويديه، ومسح برأسه وعلى خفيه، ثم نزعهما على الفور، ففي وجوب إعادة الوضوء قولان، وإن توالى ما وصفناه، ولم يتخلّل زمان.
قال القفال وغيره من المحققين: القولان مأخوذان من أن المسح على الخف هل يرفع الحدث عن الرجل أم لا؟ وفيه قولان مستنبطان من معاني كلام الشافعي.
فإن قلنا: لا يرفع الحدث، فقد ارتفع عن الوجه واليدين والرأس، فبقي الرجلان فيغسلهما. وإن قلنا: ارتفع الحدث عن الرجلين، فإذا بدتا، وجب غسلهما، والحدث قد عاد إليهما، ثم الحدث في عوده لا يتبعض، فيجب استئناف الوضوء من أوله.
فرع:
424- كان شيخي ينقل من نص الشافعي أن لابس الخفين إذا نزع رجلاً من مقرها، وأنهاها إلى الساق، فهو نازع، وإن بقي منها شيء في مقر القدم، وهو محل فرض الغسل، فليس نازعاً بعد، فلو رد القدم، فالأمر مستدام لا يقطعه ما جرى.
ولو توضأ وضوءاً كاملاً، وأدخل إحدى رجليه الخفين، وقرّت في مقرها من الخف، ثم أدخل الثانية، فبقي شيء منها في ساق الخف، وقد أدخل المعظم، فأحدث، بطل اللبس، ولزم نزعُ القدمين، واستفتاحُ الأمر من أوله، فكأنا في الطرفين نستديم ما كانت الرجل عليه، إلى تمام خروجه عن صفته، إما من الخروج إلى الدخول، أو من الدخول إلى الخروج. ولم أر في الطرق ما يخالف هذا.
فرع:
425- إذا سقطت إحدى رجلي الرجل، ولم يبق شيء من محل الفرض، فلبس فَرْدَ خُف، وكان يمسح عليه، جاز؛ فإنّ حكم الرجل الأخرى ساقط بالكلّية، وإن بقي شيء من تيك الرجل وإن قل، فإذا لم يواره بملبوسٍ، تعين غسل الرجل الأخرى مع تيك البقية، وهذا أوضح.