فصل: باب: تضمين الأجراء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: تضمين الأجراء:

قال الشافعي رحمة الله عليه: "والأجراء كلهم سواء، وما تلف في أيديهم، ففيه واحدٌ من قولين... إلى آخره".
5253- نقول أولاً قبل الخوض في مقصود الفصل: من استأجر دابةً، أو غيرَها من الأعيان، وقبضها ليستوفي المنفعةَ منها، فإذا تلفت في يده من غير عدوانه وتقصيره في الحفظ، لم يضمنها، لا نعرفُ في ذلك خلافاًً، والسببُ فيه- عندنا- أنه استحق المنفعة منها، ولا سبيل إلى استيفاء المنفعة منها إلا بقبضها، وليست العين هي المستحقة في نفسها، فلما كان قبضُها طريقاً في استيفاء المنفعة، لم يثبت الضمان فيها.
ولو اشترى رجل سمناً في بُستوقة ليستخرج السمن منها، فتلفت في يده من غير عدوانٍ وتقصيرٍ، فقد ذهب بعض أصحابنا إلى أن البُستوقة لا تكون مضمونةً على القابض، قياساً على العين المستأجرة، ووجه التقريب أن اتصال المنفعة بالعين كاتصال السمن بالبُستوقة.
وهذا غير صحيح، والذي ارتضاه المحققون أن البستوقة مضمونة؛ فإن إخراج السمن منها من غير نقلٍ وإثبات يدٍ عليها ممكنٌ، ولا يتأتى الانتفاعُ دون نقل الأعيان التي بها الانتفاع، فالبستوقة في يده كالعين المستعارة، فهذه مقدمةٌ، جددنا ذكرها.
ونحن نخوض بعدها في مقصود الباب، فنقول:
5254- إذا تلفت عينٌ في يد الأجير، وكانت سُلِّمت إليه ليوقع فيها العملَ المستحَقَّ على الأجير بالإجارة، فلو تلفت تلك العينُ، فنقول: إن كانت يد المالك قائمةً، والأجير كان يعمل بين يديه، فليس للأجير يدٌ على الحقيقة، فإذا تلفت العينُ بآفة سماوية، فلا ضمان؛ فإنها لم تتلف في يد الأجير، وهذا يسمى الأجير المشاهَد. ومعناه أنه يعمل في مشاهدة المالك، وتحت يده.
5255- فأما إذا زالت يد المالك وثبتت يد الأجير على العين التي كان يوقع عملَه
فيها، فإذا فرض التلف بآفةٍ من غير صُنعٍ من جهة الأجير، ولا تقصيرٍ، ولا عدوانٍ، فحاصل المذهب طريقان: من أصحابنا من رأى أقوال الشافعي محتملة في ذلك، ففي المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يجب الضمان، وهو الأقيس؛ فإنه لم تثبت يده على العين لمنفعةِ نفسه، وإنما أثبتها ليوقع فيها عملاً مستحقاً عليه، وإذا كان مستأجرُ العين لا يضمنها، لأنه يستوفي منها منفعةً له، فلأن لا يضمن الأجير-وسببُ قبضه منفعةٌ مستحقة عليه- أولى؛ فإن من استحق شيئاً متخيِّرٌ في إسقاط حقه، ومن استحق عليه شي، فلا خِيَرَة له.
والقول الثاني- أنه يجب الضمان؛ لأنه يقبض ما يقبض لتقرير عوضِ عملِ نفسه، وترجع المنفعةُ إليه.
والقول الثالث: أن الأجير المشترك يضمن، والأجير المنفرد لا يضمن.
5256- واختلف أئمتنا في الأجير المشترك، ويظهر من ذكر الاختلاف فيه الأجيرُ المنفرد، فمنهم من قال: الأجير المشترك هو الذي يلتزم تحصيلَ العمل في ذمته، فإن شاء أوقعه بنفسه، وإن شاء استأجر من يُحصِّلُه، فيجتمع في يده أعيان أملاك الناس، وسمي مشتركاً، لأنه لا يختص بواحدٍ من المستأجرين، والأجير المنفرد هو الذي تتعلق الإجارة بعينه لابد منه، فهو منفرد لمستأجِره. والمشترك أولى بالضمان؛ لاتساع الطريق عليه، حتى كأنه غيرُ مأمورٍ في عينه بتحصيل العمل، بخلاف المنفرد.
5257- وذكر العراقيون وجهاً آخر في معنى المشترك والمنفرد، فقالوا: المشترك من لا يتعين لعمله مكانٌ، وهو الذي يستأجَر لعملٍ موصوفٍ، من غير ذكر وقت، وقد يُتصور ذلك مطلوباً من عمله، حتى لو أراد إقامة غيره مقام نفسه، لم يجد إليه سبيلاً، وذلك أن يقول: خِط بنفسك هذا الثوبَ، فيتصور إذاً أن يعاقده على عمله في عينه أقوامٌ، والأجير المنفرد هو الذي يستعمل عقيب العقد، ولا يمهل، ويتعين له مكانٌ على هذا، ولا يقدّر مشتركاً.
5258- وهذا الذي ذكره العراقيون فيه نظر، أولاً- في نفسه، ثم الرجوع يقع بعد ذلك إلى مقصود الفصل.
فإذا استأجر رجل شخصاً في خياطة ثوب وأورد الإجارةَ على عمله، فلو أراد أن يلزمه الاشتغال بما استحقه عليه، فله ذلك، وإذا كان يملك هذا، فمنافعه مستحقة في هذه الجهة، فيجب أن لا يصح من الغير استئجاره، ومنفعة عينه مستحقةٌ مستغرقةٌ.
وهذا فيه احتمال، فلو جرينا على حقيقة الاستغراق، لزم منه أن يقال: إذا مضى على أثر العقد زمانٌ يسع العمل، فلم يعمل فيه، تنفسخ الإجارة، كما لو استأجر داراً شهراً، ولم يتفق تسليمُها حتى انقضى الشهر، وقد ذكرت طرفاً من هذا فيما تقدم، وهذا أوان استقصائه.
فإذا وردت الإجارة على الذمة، لم يخف مقصودُنا فيه، وإذا وردت على العين، وقُرنت بالتأقيت، فيتحقق لا محالة الاستغراق، ويترتب عليه الانفساخ إذا مضت المدة قبل التسليم.
وإن كانت الإجارة متعلقةً بالعين، ولكن المعتمدَ فيها صفةُ العمل، وبيانُ مقداره، كخياطة الثوب، وما في معناها، فهذا مختلف فيه. والاختلاف مأخوذ من فحوى كلام الأئمة.
فالذي يقتضيه قياس المراوزة أن الإجارة إذا كانت متعلقة بالعين، فهي على التضييق، وحقيقةِ الاستغراق، كما لو تقيدت بالوقت.
والذي تقتضيه طريقة العراقيين أنها ليست على التضييق، حتى كأنها مستحقة في ذمة الأجير من عينه، فمهما أقامها، وقعت الموقع.
وإن استبعد سائلٌ الجمعَ بين العين والذمة، أمكن أن يقال: كل إجارة واردةٍ على عينٍ بهذه المثابة؛ فإن المستأجر يستحق منفعةَ الدار من عين الدار، قبل وجود المنفعة.
فرجع حاصل الكلام إلى أن الأجير المشترك هو الذي لا يضيّق عليه تضيّق التأقيت. والأجير المنفرد هو الذي يضيّق عليه المستأجر، فيقول: استأجرتك لتخيط هذا، ويشتغل به عقيب العقد من غير تأخير، وقياسهم أن إطلاق العمل لا يتضمن التضييق المؤدي إلى الانفساخ، وإذا قيد بالتضييق، ومضى الزمان الذي يسع العمل وقد تقيّد بالتضييق، اقتضى ذلك الانفساخَ.
5259- فإذا ظهر ما أردناه، فالذي نُجلِّيه من فرق بين الأجير المشترك، والأجير المنفرد، أن المنفرد كأن يده نائبة عن يد المالك؛ فإنها مستغرَقة به لا يُشارَك فيها، ويد الأجير المشترك ليست مختصةً بأحد، فتثبت اليد له على التحقيق.
وكل ما ذكرناه من التطويل، والتفصيل وإن كان مُقيداً في نفسه، فلا جدوى فيه فيما نحن فيه، كما سيتبين في الطريقة الثانية.
هذا بيان المسلك الأول.
5260- الطريقة الثانية- قال معظم المحققين: الأجير لا يضمن ما يتلف تحت يده من غير عُدوان وتقصير، قولاً واحداً، ويده يد أمانة. وقد حكى الربيع " أن الشافعي كان يرى أن الأجراء لا يضمنون، ولكنه كان لا يبوح به لأجراء السوء، وكان يرى أن القاضي يقضي بعلمه، وكان لا يبوح به لقضاة السوء". ووجه ذلك في القياس واضح لا حاجة إلى تكلف بيانه.
وهذا القائل يقول في قول الشافعي: "لا يجوز في الأجير إلا واحدٌ من قولين ": لم يُرد الشافعيُّ به ترديدَ القول، وإنما قصد محاجة أبي حنيفة، فإنه يقول: ما يتلف بعمل الأجير، وإن اقتصد فيه يضمنه، وما يتلف تحت يده من غير صُنعه لا يضمن، فقال: لا يجوز إلا واحدٌ من قولين: إما ألا يضمن أصلاً، وإما أن يضمن كيف فرض الأمر، سواء تلف بآفة أو بصنعٍ هو مأذون فيه، فرجع قوله إلى الرد على من فصل بين أن يتلف بصُنعه أويتلف بآفة.
هذا بيان طرق الأصحاب.
5261- ثم إن جعلنا يدَ الأجير يدَ ضمان، فلو تلف تحت يده بآفةٍ، ضمن، ولو تلف بصُنعه، ضمن. وإن قلنا يدُه ليست يدَ ضمان، فلو تلف بآفة، لم يضمن، وإذا تلف بسبب عمله، نُظر: فإن جاوز الحدَّ، وتعدَّى في عمله، ضمن، وإن اقتصر واقتصد، ولم يجاوز الحدّ، فلا ضمان أصلاً، ولا أثر للعمل من غير تفريط وعدوان، عند أصحابنا.
وقد يخطر للفقيه على قياس قول الشافعي أنا إذا جعلنا يدَ الأجير يدَ الضمان، فلو عمل في العين ما أُمر به، ولم يزد، فأدى ذلك إلى عيبٍ، فلا يجب ضمان ذلك، وينزل ذلك منزلة ما لو لبس المستعيرُ الثوبَ وأبلاه؛ فإن المذهب أن ضمان الأجزاء البالية لا تجب، ولو تلف الثوب بآفةٍ، وجب ضمانُه على المستعير. وهذا ظاهرٌ في الأجير، ولا ينبغي أن يقدَّر خلافٌ في أن الأجير لو فصَّل الثوبَ النفيسَ وقطّعه، فانتقصت قيمته بالقطع أنه لا ضمان عليه، فإذا جرى ذلك في النقصان الذي يوجبه القطع، فغيره بمثابته إذا اقتصر العامل على امتثال الأمر، وقد قررتُ هذا في (الأساليب).
هذا بيان عقد المذهب في تضمين الأجراء.
5262- ثم إن الشافعي ذكر مسائلَ، وبين فيها عملَ الأجراء، وتعدّيهم واقتصادهم، ونحن نذكرها، ولكن حظَّ الفقيه في جميعها ما قدّمناه، من أنه إن اعتدى، ضمن، وإن لم يعتد واقتصد، فالذي أطلقه الأصحاب تخريجُ ذلك على أن يدَ الأجير يدُ أمانة، أو يد ضمان.
والذي نراه في القياس الجلي أنه لا يضمن ما يقتضيه عملُه المأذون فيه، كما ذكرناه في بلى الثوب باللُّبس المأذون فيه للمستعير.
وإذا تمهدت القاعدة شرعنا بعدها في المسائل، ونُفرد لكل مسألة فصلاً، ونوضِّح ما يليق به.
فصل:
قال: "إذا استأجر من يحجمه، أو يختن غلاماً له، أو يبيطر دابته... إلى آخره".
5263- إذا استأجر من يحجمه، فلم يقصّر الحاجم، فأدى إلى سبب محذور، فإن كان المحجوم حراً، فلا ضمان، لأن يدَ الحر ثابتةٌ عليه، وإن كان استأجره ليحجم غلاماً له، فإن كانت يد المالك ثابتةً على الغلام، فلا ضمان على الحجام، إذا لم يجاوز ما أُمر به، وإن ثبتت يده عليه، ولم يكن السيد معه، ففيه التفصيل الذي ذكرناه من اختلاف الطرق، والفرق بين المنفرد والمشترك، ويعترض فيه ما نبهنا عليه من أن ذلك حاصل بفعلٍ مأذونٍ فيه، كما تقدم، ولسنا نعود بعد ذلك إلى هذا التفصيل، ولكن نذكر ما يتجدّد.
فصل:
قال: "ولو استأجر للخبز... إلى آخره".
5264- الخبز عملٌ من الأعمال، فإن فسد الخُبز بتقصيرٍ من الخباز، ضمن، وإن لم يَزد الخبّاز على ما استدعى منه، ولكن احترق بعض الخبز، ففي الضمان التفصيلُ الذي ذكرناه.
5265- والذي نذكره في هذا الفصل أن من استأجر خبازاً، فلابد من أن يوضّح أنه يخبز في تنّور، أو فرنٍ، وأنه يخبز الأقراص، أو الغلاظَ من الأرغفة، أو الرقاق. والغرض يختلف بذلك. وكل ما يوضحه العُرف من غير تردّد، فهو متبع، وهذا بمثابة ذكر التنور في هذه الديار؛ فإن العرف يعيِّنها، وإنما تمس الحاجة إلى التعيين عند إمكان التعدد.
5266- ثم إن كانت الإجارة واردة على العين، فالآلات التي لابد منها على
المستأجر، وليس على الأجير إلا تسليم نفسه إلى المستأجر.
وإن كانت الإجارة واردةً على الذمة، فالآلات على الملتزم في الذمة.
5267- وأما حطب التسجير، فإن عمّت العادة بأنه يأتي به المستأجر، فهو يجري على حكم العرف، وإن كانت العادة مطردةً في أن الحطب يأتي به الملتزم، ففيه اختلاف بين الأصحاب. فالذي ذهب إليه القاضي والمحققون أن العادة محكّمةٌ في ذلك، وقد التزم الأجير تحصيل الخبز، فعليه التسبب إليه.
ومن أئمتنا من قال: لا يكون على الملتزم حطبٌ؛ فإنه عينٌ يُشترى، وهو تمليك بجهات التملك، فلا يتبع المنفعة.
وهذا الذي ذكرناه في الخبز يجري في القلم والحبر في حق الورّاق، والخيط في حق الخياط. وإن اضطربت العادة، فلا يستحق على الخباز، ولكن في بطلان العقد الخلاف الذي قدّمناه.
فصل:
قال: "وإن اكترى دابة، فضربها أو كبحها باللجام... إلى آخره".
5268- هذه المسألة ليست نظيراً للمسائل التي تقدمت؛ فإنها كانت مفروضة في استئجار أجيرٍ للعمل، وهذه المسألة فيه إذا استأجر الرجل دابةً ليركبها، أو يحمّلها حُمولةً، فلو قبضها، أو ضربها في التسيير، أو كان يكبح لجامها، فهلكت، فقد قدمنا أن العين المستأجرة أمانةٌ في يد المستأجر، وأنها لو تلفت بآفةٍ سماوية تحت يده، لم يلتزم الضمان أصلاً، فإذا وجد من المستأجر فعلٌ كما ذكرناه، من الضرب وكبح اللجام، فإن لم يجاوز المعتادَ في ذلك، ففرض التلفُ، فلا ضمان أصلاً، وإن جاوز العادةَ في ذلك، بحيث يُعدّ مجاوزاً، فقد أثبت الأصحاب الضمان.
وقال أبو حنيفة يجب الضمان سواء عُدّ الضارب مقتصداً أو مجاوزاً للعادة، وهذا أجراه على مذهبه في أن سراية القصاص مضمونة، وسنجمع بعد ذلك بفصول قولاً بالغاً في التعزيرات، وحكم الضمان فيها إذا أدت إلى الهلاك، ونعيد هذا الفصل في أثناء التعزير والتحرير الضابط، إن شاء الله عز وجل.
5269- فأما إذا استأجر رائضاً حتى يروض دابةً له، فضربها الرائض، وكبح لجامها، فعابت، أو هلكت، فهذا عائد إلى سَنَن المسائل التي تقدمت، فإن عُد متعدياً، ضمن؛ وإن لم يعد متعدياً في تحصيل المستدعَى منه، فيعود التفصيل في المشترك، والمنفرد، واختلاف الطرق.
والرأي عندنا القطع بنفي الضمان، إذا كان السببُ الفعلَ المأذون فيه، كما أجرينا ذكرَ ذلك مراراً. وتمام البيان فيه بين أيدينا، ونحن، إن شاء الله- ذاكروه في فصل التعزير.
فصل:
قال: "وهذه الأغنام والبقور التي تسلم إلى الراعي من غير عقدٍ... إلى آخره".
5270- إذا سلم مالك المواشي المواشيَ إلى الراعي، واستعمل الراعي في رعيها، ولم يذكر أُجرة مسماةً، فهذا يخرّج على أن المستعمل إذا عمل هل يستحق أجر المثل؟ وهذا سيأتي مستقصَى، إن شاء الله تعالى.
فإن قلنا: يستحق، فالذي جرى في حكم إجارةٍ فاسدةٍ، وحكم الفساد في الضمان حكم الصحيح، وقد فصلنا ذلك.
فأما إذا قلنا: لا يستحق المستعمل شيئاًً إذا عمل، فالذي جرى ليس باستئجار على الفساد، وإنما العامل متبرع بالعمل، وليس على المتبرع ضمانٌ إذا لم يجاوز فيما فَعلَ مراسمَ المالك، وعلى هذا يخرّج على ضياع الثوب في الحمام، وليس فيه إجراء ذكر الأجرة.
وتمام البيان في هذه الفصول يأتي في فصل التعزيرات وما يتعلق بها، إن شاء الله تعالى.
فصل:
قال: "ولو أكرى حَمْلَ مكيلةٍ، وما زاد فبحسابه، فهو في المكيلة جائز، وفي الزيادة فاسد... إلى آخره".
5271- نذكر في مقدمة الفصل فصولاً تتعلق بإعلام المعقود عليه، وترتبط بألفاظ العقد، ثم نخوض بعدها في مقصود الفصل.
فإذا أشار إلى صُبرة مجهولة الصيعان، وقال: اكتريت هذه الدابة لتحمل هذه الصبرة إلى موضع كذا، أو ألزمت ذمتك ذلك، فالعقد جائز، وقد مهدنا ذلك فيما سبق، وقلنا: الإشارة كافيةٌ كما لو أشار في بيع الصّبرة.
ولو قال: تحمل هذه الصُّبرة كلَّ صاع بكذا، صحّ، وإن لم تكن الصيعان معلومة، كما لو قال: بعتك هذه الصّبرة كلَّ صاع بدرهم. ولو قال: تحمل عشرة آصعٍ من هذه الصبرة، فجائز.
ولو قال: تحمل كل صاعٍ من هذه الصبرة بكذا، ولم يذكر لفظاً يتضمن حملَ الصُّبرة بكمالها، فقد قال الجمهور: يفسد العقد، فإنه لم يتعرض لحمل الصبرة، ولم يبين مبلغاً منها، بل أبهم، وكذلك يبطل البيع على هذه الصيغة.
وقال بعضُ الأئمة: قوله " تحمل كلّ صاعٍ بكذا من هذه الصبرة " بمثابة قوله: "تحمل هذه الصبرة كل صاع بكذا". وكذلك القولُ في البيع. وهذا متجهٌ في المعنى، وإن كان بعيداً في الحكاية، ووجهه أن قوله: "تحمل كل صاع من هذه الصبرة " عبارةٌ تشمل جميعَ الصّبرة من غير اختصاص بمقدار.
5272- فأما صورة مسألة الكتاب، فهي أن يقول: تحمل عشرة آصاع من البُرِّ بكذا، وما زاد، فبحسابه. قال الشافعي: الاستئجار صحيح في المقدار المبين، وهو فاسد في الزيادة، أما الفساد في الزيادة، فمن قبل الجهالة؛ فإنه لم يذكر للزيادة ضبطاً، لا بإشارة، ولا بإعلام المنتهى، فأما علة الصحة في المقدار المذكور، فهي أنه صحيحٌ لو فرض الاقتصار عليه، والزيادة المذكورة لم تذكر على صيغةٍ تتضمن إلزامَها، واشتراطَها في العقد مع المذكور المقدّر، فليست معقوداً عليها مع المقدّر، ولا مشروطة في العقد الوارد على المقدّر.
فإذا ثبت ما ذكرناه في ألفاظ العقد، فقد قال الشافعي بعده: لو حمل مكيلةً، فوجدها زائدة... إلى آخره.
5273- إذا استأجر دابة ليحمل عليها مقداراً مُقدَّراً: عشرةَ آصعٍ مثلاً، فاتفق حملُ أحدَ عشرَ، فلا يخلو إما أن يحصل هذا التعدي من المكتري، أو من المكري، أو من أجنبيٍّ سواهما.
5274- فإن حصل التعدي من المكتري، وكان تولّى بنفسه الاكتيالَ، فزاد على المشروط، وحمل على الدابة، فانفرد باليد في الدابة، وكان مالكها سلّمها إلى المكتري، فنقول: إن سُلمت الدابة، فعلى المكتري الأجرةُ المسماةُ في مقابلة المذكور المشروط، وعليه أجرةُ المثل في مقابلة الزائد، ولو تلفت الدابة في يده، ضمن في هذه الصورة كمالَ قيمتها؛ وذلك لأنه لما حمَّلها أكثرَ مما تستحق، صار عاصياً، ويده يدُ عدوان، فيلتزم كمالَ الضَّمان. ولو تلفت الدابة والحالة هذه بآفةٍ سماوية، فيجب ضمانُها أيضاً، وإن لم يكن التلف بسبب العدوان.
ولو كان المكتري يكتال بمرأًى من مالك الدابة، فكان يراه يزيد، فسكت، ولم ينكر، فحكم أجرة المثل، وضمان الدابة لو تلفت كما ذكرناه، وسكوتُ المالك على سبب الضمان، لا يغيّر حكمَ وجوبه.
5275- ولو اكتال المكتري وزاد، ولكنه سلّم إلى المكري، حتى تولى الحملَ بنفسه، وكانت اليدُ له في دابته، قال الأئمة: إن كان المكري عالماً بما جرى، فلا يستحق للزيادة أجرَ المثل؛ فإنه تعاطى حملها، ولو تلفت الدابة، فلا يستحق ضماناً على المكتري؛ فإن المالك هو الذي تعاطى سببَ الهلاك بنفسه، مع العلم بحقيقة الحال.
وهذا الذي ذكروه في نفي الضمان سديدٌ، فأما نفي أجرة المثل في الزيادة، ففيه نظر، ولا أقل من أن يُحمَلَ ذلك على استعمال إنسان، أو استعمالِ دابته من غير ذكرِ الأجرة، وفي ذلك تفصيل سيأتي مشروحاً، إن شاء الله عز وجل.
فأما إذا زاد المكتري، وسلّم إلى المكري، فحمل المكري على الدابة، مع الجهل بحقيقة الحال؛ فقد قيل: يستحق الأجرة في مقابلة الزيادة، ويثبت الضمان لو تلفت الدابة؛ فإن المكري لم يرض بهذه الزيادة إذا كان جاهلاً بها.
5276- وهذا فيه فضل نظر. فأما الضمان، فقد تعاطى المالك بنفسه حَمْلَ الزيادة على الدابة، فوُجد منه سببُ التلف مباشرة، ولكنه كان مغروراً من جهة المكتري، فيجب تخريج ذلك على قولي الغرور، كما تكرر مراراً. فأما لزوم أجر المثل في الزيادة، ففيه احتمالٌ أيضاًًً على بُعدٍ؛ فإنه لم يجرِ لتلك الزيادة ذكرٌ، والظاهر لزومُ أجر المثل؛ فإن الزيادة حُملت في ضمن عقد معاوضة، وليس كالعمل المطلق، حيث لا يجري ذكر الأجرة.
5277- ثم إذا تلفت الدابة بآفةٍ تحت يد مالكها، وما تلفت بسبب الحمل، فلا يجبْ ضمان الدابة أصلاً. وإن كان تلفُها بسبب الحمل الثقيل، واتفق التلف في يد المالك، ففي مقدار الواجب قولان:
أحدهما: أنه يجب نصف الضمان، ولا ينظر إلى مقدار الزيادة، قل أو كثر، والقول الثاني- أنا نوزع قيمة الدابة على المحمول المستحق وعلى الزائد، ونوجب ما يخص الزائد، فإن كان جزءاً من أحد عشر جزءاً، وجب ضمان جزء من أحدَ عشر جزءاً من القيمة، وإن كان أقلَّ أو أكثر، فبهذا الحساب.
وهذان القولان بناهما الأصحاب على القولين في أن الجلاد إذا زاد على الحد سوطاً أو أكثر، وهلك المحدود، ففيما يلتزمه الجلاد قولان:
أحدهما: أنه يلتزم شطرَ الضمان.
والثاني: أنه يلتزم جزءاً من الأجزاء؛ فإن كان الحدُّ ثمانين، فزاد سوطاً، التزم جزءاً من أحد وثمانين جزءاً من الدية. وعلى هذا البابُ وقياسُه، إن كثرت الزيادةُ، أو قلَّت. ومن يُوجب الشطرَ يطردُه فيه إذا كثرت الزيادة، وزادت على المقدار المستحق.
5278- ولا خلاف أن الجراحات إذا تعددت من شخصين، وآل الأمر إلى التوزيع، وكان جَرَحَ أحدُهما مائةَ جراحة، وجَرح الثاني جراحةً واحدةً، فالدية عليهما نصفان، والسبب فيه أن آثار الجراحات تتفاوت تفاوتاً عظيماً، وربما يكون أثرُ الجراحةِ الواحدةِ أكثرَ من أثر مائةِ جراحة، وإذا كان الأمر كذلك، فلا نظر إلى أعداد الجراحات، ولا سبيل إلى استدراك أغوارها، فالوجه التوزيعُ على رؤوس الجناية، وأما الزيادةُ على الجلدات المستحقة، فإنها خارجة على القولين، فهي في قولٍ: كالجراحات، والمتبع التشطير، وفي قولٍ: يقع التوزيعُ على الأعداد؛ فإن آثار الجلدات لا تتفاوت، بخلاف الجراحات والزيادة في الحمل ملحقةٌ بالجلدات.
وذهب بعضُ المحققين إلى أن الأولى القطعُ بالتوزيع في الزيادة المحمولة على الأجزاء؛ فإنها لا تتفاوت قطعاً، والسياط يقدّر فيها تفاوت، وهذا حسنٌ. ولكن الطريقة المشهورة تخريج القولين بناءً على الجلدات.
5279- وكل ما ذكرناه في زيادةٍ تتحقق، فأما إذا كانت تلك الزيادة بحيث يقع مثلُها من الكيلين، فلا حكمَ، ولا وقعَ لها؛ فإنها غيرُ متحققة، وقد يعاد الكيل مرة أخرى، فلا تظهر الزيادة، وقد يظهر نقصان.
5280- وما ذكرناه فيه إذا زاد المكتري والمكري مغرور، وقد حمل بنفسه.
وقد يحمل المكتري بنفسه، واليدُ في الدابة للمكري، فحكم الأجرة والضمان على ما ذكرناه، وهذه الصورة تقع مقطوعاً بها، في أجرة المثل، في الزيادة، وفي أصل الضمان. ثم القولان في مقداره على ما ذكرناه، ولا حاجة إلى تخريج الضمان على قاعدة الغرور؛ فإن المكتري قد تولى بنفسه حملَ الزيادة.
والذي يجب التنبيهُ له في تفاصيل المسألة أن لا يُصوّرَ حملُ الزيادة والدابة في يد المكتري؛ فإنها لو كانت تحت يده، فيصير بنفس حمل الزيادة غاصباً، ولو تلفت الدابة بسبب آخر، وجب كمال الضمان، فكذلك بسبب الحمل، فليقع التصوير فيه إذا كانت الدابة في يد مالكها.
5281- فأما إذا تولى المكري الكيلَ وكان المكتري فوّض إليه أن يكيل القدرَ المشروط، ويحملَه، فزاد المكري وحمل أكثر من المشروط، فنقول: لا يستحق في مقابلة الزيادة أجرةً، ولو تلفت الدابة بسبب الحمل، فلا ضمان، وتعليله بيِّنٌ.
5282- ويطرأ في المسألة شيء آخر، وهو أن المكري نقل شيئاًً من حنطةِ المكتري إلى بلدةٍ أخرى، من غير إذنه، فكان حكمه فيما فعل حكمَ الغاصب.
ونحن نذكر ما يتعلق بذلك. ونقول:
أولاً- يجب على الناقل أن يرد تلك الزيادة إلى الموضع الذي نقلها منه؛ جرياً على وجوب ضمان الرد، فلو ظفر صاحب الحنطة بالناقل في المكان الذي نقل عنه؛ فإنه يلزمه مثلُ حنطته، لمكان الحيلولة التي أوقعها، وقد جرى سبب الضمان في هذا المكان ابتداءً، فهو كما لو أتلف حنطةً، فظفر صاحب الحنطة بالمتلِف في مكان الإتلاف؛ فإنه يغرمه المثلَ، ثم لا تنقطع الطَّلِبةُ عن الناقل بهذه الغرامة، بل هو مطالب برد تلك العين التي نقلها إلى موضعها، ولا فرق بين أن تكثر المؤنة، أو تقل، فإذا ردّها، فإنه يسترد ما كان بذله، والقول في أنه يسترد عينَه، إن كانت باقيةً، كما تقدم في المغصوب منه، إذا أبق العبد المغصوب وغرم الغاصبُ للمالك قيمتَه، لمكان الحيلولة، فإذا رجع العبدُ، وعينُ تلك القيمة باقية، فهل يستردّها؟ فيه تفصيل قدمتُه.
5283- ولو ظفر صاحب الحنطة في مسألتنا بالناقل في البلدة التي نقل إليها، فلو قال المتعدي بالنقل: خذ حنطتَك، فإن أخذها مالكها، فلا كلام، ولو طلبها من الناقل، وجب عليه ردُّها عليه، وإذا قبضها، انقطعت مؤنة الرد، فلو بدا لمالك الحنطة، فقال: ردّها الآن من يدي إلى المكان الذي نُقلت عنه، فالظاهر أنه لا يلزمه ذلك؛ فإنّ قبضَه قد تم في الملك، فكان ذلك قطعاً للمادّة، واستئصالاً لتبعة الطّلبة، وإبراءً عن مؤنة الرد.
وفي المسألة احتمالٌ على تأويلِ أنه يقول: لست أثق بيدك في عين مالي، فاليد لي، والْتزم النقلَ.
5284- ولو لم يقبل منه الحنطة في تلك البلدة، وقال: الْتزم ردَّها إلى مكانها، فله ذلك.
فلو قال الناقل؛ خذها إليك، وأنا أنقلها في يدك، فللمالك أن يمتنع، ويقول:
لو قبضتُها، لكانت مؤنة الحفظ عليّ، ولو تلفت في يدي، لسقط الضمان، فكن أنت الملتزمَ لذلك كله.
5285- ثم لو قال المالك، والحالة هذه: اغرم لي على مقابلة الحيلولة، فله ذلك؛ فإن الحنطة، وإن كانت حاضرةً، فهي بمثابة الغائبة للوجوه التي ذكرناها، ثم لا يغرّمه مثلَها؛ إذ يستحيل أن يغرّمه المثلَ، وعينُ ماله قائمة، ويعسر عليه نقل المثل، كما يعسر عليه نقلُ العين، فلا يغرّمه إلا القيمة. ثم إذا ردّ الحنطةَ إلى مكانها، استرد القيمة.
5286- وكان شيخي يقول: يغرّمه أرفعَ قيمةٍ من مكان النقل، إلى حيث انتهت؛
فإن العدوان مطّردٌ في هذه الأماكن جملتِها، ولا مكان منها وإلا للمالك طلبُ حنطته إن صادف ناقلَها فيه مع الحنطة، وله طلب قيمتها في ذلك المكان، حملاً على تكليفه نقلَها إلى الأول، الذي نقلها منه، فينتظم من مجموع ذلك إيجابُ أقصى القيم.
5287- وقد مهدنا في كتاب الغصوب في ظاهر المذهب أصلاً، فقلنا: إذا أتلف رجل مثليّاً في مكان، ثم ظفر المتلَفُ عليه بالمتلِف في غير مكان الإتلاف، فالمذهب الظاهر أنه لا يطالبه بالمثل، وإنما يطالبه بقيمة مكان الإتلاف. وما ذكرناه في هذا الفصل مباينٌ لذلك الأصل؛ فإن الحنطة في عينها فائتةٌ، واقتضى الترتيب على ما رآه الأصحاب ألا نُغرّمَه المثلَ في غير مكان الإتلاف، والحنطة قائمة في مسألتنا، فجرى ما مهدناه من غرامةِ المثلِ والقيمةِ على ترتيبٍ يخالف الإتلاف، ويكفي في ذلك التنبّه والتأمل.
5288- ولو جرى نقلُ تلك الحنطةِ الزائدةِ من ثالثِ، مثل أن يُفوّض المكتري الكيلَ إلى إنسانٍ، فيزداد ويحملَ أكثر من المشروط، فالكلام في أجر المثل والضمان في الدابّة لو تلفت معلّقٌ بهذا الثالث، فيغرَم أجرَ المثل في الزائد، وفي الضمان عند فرض التلف اختلافُ القول، كما تقدم.
وللمالك أن يكلفه ردَّ الزيادة إلى البلد المحمول عنه، كما ذكرناه في حق المكري إذا كان هو الناقل.
5289- ومما يتعين التصوير عنه في أطراف المسألة ألا تُفرض اليدُ عند فرض حمل الزيادة للضامن؛ فإن اليدَ لو كانت له، ونقدِّر التلفَ في الدابة وجب ضمانُ تمام القيمة، لأنه بنفس حمل الزيادة، صار في حكم الغاصب للدابة، وإذا كان كذلك، فإذا كانت اليد للمكتري، وهو الحامل، ضمن تمام القيمة، وإنما يختلف القول في مقدار الضمان، مع القطع بأن جميع القيمة لا تلزم إذا كانت اليد في الدابة للمكري، فإذا فرضنا ثالثاً، فينبغي أن يكون منصوباً من جهة المكري، ثم ينبغي أن تكون يده مع يده؛ إذ لو انفرد باليد، لضمن تمامَ القيمة إذا اعتدى بحمل الزيادة، ثم لا نظر إلى صدور ذلك عن أمر المكتري؛ فإن الأمر بالعدوان من غير إكراهٍ لا يُثبت على الآمر ضماناً.
فخرج من ذلك أن الثالث إذا انفرد باليد، ثم نفقت الدابة، ضمن تمام قيمتها، إذا كان هو الحامل للزيادة بالأمر أو بغير الأمر، وإن كانت اليد للمكري، فإذ ذاك يضطرب القول في مقدار الضمان.
فصل:
قال: "ومعلّم الكتّابِ، والآدميين، مخالف لراعي البهائم... إلى آخره".
5290- هذا الفصل يجمع قواعدَ المذهب في بيان التلف الذي يُفضي إليه ضربٌ جنسُه مأذونٌ فيه. والوجه أن نرسل المسائل، فنذكرَ ما يتعلق بالمذهب فيها، ثم نحرص على ضبطها، كصنعتنا في أمثالها.
فنقول:
5291- لمعلّم الصبي أن يؤدِّبه إذا مست الحاجةُ إلى تأديبه، وعليه التحفظ عما يؤدي إلى هلاكه، أو تعييب عضوٍ من أعضائه؛ فإن تأديبَه في الشرع، مشروطٌ بالسلامة. ولو كانت العرامة التي به لا تزول بالضرب الخفيف، وكان يظهر أن إمكانَ زوالها يقتضي ضرباً عنيفاً مخوفاً، فلا يجوز أن يُضرب ضرباً عنيفاً، وإن كان زوال العرامة موقوفاً عليه.
فإن فرض تأديبٌ لا يقصد في ظاهر الظن بمثله الإهلاكُ، فاتفق التلف منه، تعلق الضمان به. فإن قال المؤدب: قد اقتصدتُ، واقتصرتُ على حدّ الأدب، فقد جوزتم لي هذا القدرَ، فلم تثبتون الضمان فيما جوزتموه؟ قلنا: لا يتصور التلفُ إلا بمجاوزة الحدّ في كيفية الضرب، أو مقدارِه، أو محلِّه، أو زمانه، وقولُ القائل وقع التلفُ وفاقاً عريٌّ عن التحصيل؛ فإن القتلَ لا يقع وفاقاً إلا بمجاوزة حدٍّ من الحدود التي أشرنا إليها. ثم إذا حصل التلف، وبان أن سببَه مجاوزةُ الحد، وكان التأديب مشروطاً بتوقي التَّلف، وجب الضمان.
5292- ثم ما جرى شبهُ عمدٍ، ولا يخفى الكلامُ في متعلّق ضمانه، فالدية على العاقلة، وهي مغلظةٌ، والكفارة على الضارب.
5293- والزوج إذا أدّب زوجتَه، فالكلام فيه على نحو ما ذكرناه.
5294- ولو كان أذن الولي للمؤدب في الضرب العنيف، فلا حكم لإذنه، مع نهي الشرع عنه، ولا يتعلق بالولي الضمانُ لإذنه.
5295- وأبو حنيفة رضي الله عنه لا يوجب الضمانَ في تأديب الصبي إذا أفضى إلى إهلاكه، مَصيراً إلى أن المرعي مصلحته، وأوجب الضمانَ على الزوج إذا أدّب زوجتَه، وأهلكها، وقال: مطلوب الزوج أن تصلح الزوجةُ له، فإذا هلكت، ضمنها.
وهذا كلامٌ ساقط؛ فإن التأديب المهلك، لا استصلاح فيه.
5296- ولو سلّم مالكُ العبد عبدَه إلى من يعلّمه، وسوغ له من تأديبه ما يسوغه
الشرع، فالقول في وجوب الضمان إذا أدى التأديب إلى التلف ما ذكرناه في الصبي.
ولو أذن له المالك في الضرب العنيف المخُوف، فإذا ارتسم المأمورُ رسمَه، ولم يتعدّه، فأدى إلى التلف، لم يضمنه لمالكه، وإن تعدى، وظلم؛ فإن حق المالية في رقبة العبد للمولى.
ولو أباح دمَه، لم يحلّ للمأمور بقتله أن يقتله، ولكن لو قتله، لم يضمنه.
5297- ولو عزر السلطانُ في أمرٍ يتعلق بحق الله وأدى التعزيرُ إلى التلف، وجب الضمان. ثم في محله قولان:
أحدهما: أن محلّه عاقلتُه المختصون به.
والثاني: أن محله بيتُ المال. وسيأتي شرح ذلك في موضعه، إن شاء الله- ولكن إذا انتهى نظمُ كلامٍ إلى حكمٍ، فلابد من الرمز إلى أصله، مع إحالة البيان على موضعه.
ثم إن أوجبنا الضمان على عاقلته، فالكفارةُ يختص وجوبها به، لا تحملها العاقلةُ. وإن ضربنا الغرمَ على بيت المال، ففي ضرب الكفارة عليه قولان، سيأتي ذكرهما، ومأخذ وجوب الضمان أن التعزير لحق الله تعالى يجري مجرى التأديب، وهو مشروط بالسلامة.
5298- واختلف أئمتنا في أن التعزير إذا وجب حقّاً للآدمي، فأقامه الإمام لأجله، فأدى إلى التلف مع الاحتياط في الاقتصاد، فهل يجب الضمان؟ والأصح القطعُ بوجوب الضمان، والمصيرُ إلى نفي الضمان ذهولٌ عن حقيقة مذهبنا، كما سنصفه عند خوضنا في ذكر ضابط المذهب في المسائل.
5299- فإن قيل: من أصلكم أن سِرايةَ القصاص ليست مضمونة، وإن كان مستحقُّ القصاص بالخيار في استيفاء القصاص، وليس محمولاً عليه بقهر شرعي، فما المتّبعُ في هذه المسائل؟
قلنا: قد ظن من لا يحيط بمأخذ الكلام أن المذهب مُدارٌ في النفي والإثبات على كون سبب الإتلاف مقدَّراً أو غيرَ مقدَّر، وزعم أن التعزير اقتضى الضمانَ، من حيث إنه لا يتقدّر، فالأمر فيه مفوّضٌ إلى اجتهاد المعزِّر، والقصاص في حكم الأفعال المقدّرة المحدودة، ولا اجتهاد فيها، فإذا أفضى إلى التلف، لم ينتسب المقتصُّ إلى الخطأ في الاجتهاد.
وهذا كلام غيرُ بالغٍ في مقصوده، وإن كان تحويماً على الحق.
5300- والمتبع في الباب فَهْمُ الشرع على وجهه، فحيث ينهى الشرعُ عن السبب المتلِف، ويأمر بالاقتصار على ما لا يُتلف، فإذا فُرض التلف، فقد تعدّى الضارب ما رُسم له، مخطئاً، أو عامداً، فإذا أباح الشرعُ سبباً متلفاً، لم يتعلق به الضمان.
والاقتصاص من الأسباب المتلفة، ثم لا يختلف ذلك بالوجوب والإباحة، ولا يختلف بكونه مضبوطاً، أو محالاً على الاجتهادِ والنظرِ، بدليل أن من دفع صائلاً على نفسه، أو ماله، فمقدار الدفع يتقيد بقدر الحاجة، وليس فيها ضبطٌ شرعي، وتقديرٌ محسوس، ثم ما يُفضي إلى تلف الصائل لا يُعقب ضماناً؛ لأن الشرع سلّط على القدر المتلف عند الحاجة، ثم لا يضرّ أن يكون ذلك مظنوناً؛ فإن معظم مسائل الدماء تتعلق بالظنون.
ويُخرّج على القاعدة التعزيرُ؛ فإنه لم يَثبت مُهلكاً، وإنما أُثبت أدباً يستبقي المؤدَّب، فإذا أهلك، أثبت الضمانَ.
ومن أخذ هذا من أن التعزير لا يجب، تعرّض كلامُه للانتقاض بالقصاص، ومن فرّق بين التعزير الذي يجب لحق الله تعالى، وبين التعزير الذي يجب للآدمي، فقد اضطرب عن مأخذ هذا الأصل؛ فإن الشرع لم يثبت التعزير لحق الآدمي إلا أدباً، بمثابة تعزير الزوج زوجته. وهذا أصل جليٌّ، فليتبعه الناظر.
5301- وإذا سلم المكري الدابة إلى المكتري، فكان المكتري يزجيها ويضربها، فهلكت، أو عابت، فإن عدّ مقتصداً، فلا ضمان.
فإن قيل: كيف يُخرّجُ هذا على الحد الذي ذكرتموه، وقتل البهيمة ممتنع شرعاً؟ قلنا: الأسباب التي أذن الشرع فيها في البهائم مهلكاتٌ، أو أسباب في الهلاك؛ فإن تحميل البعير العبء الثقيل على الاعتياد في مثله، وجَوْب البوادي عليه، على الظمأ، مع التَّزجية بالضرب المعتاد، مما لا يندر الهلاكُ منه، فالإذن فيه من المالك إذنٌ في سبب الإهلاك.
5302- ومما يجب التنبه له في هذا المنتهى أن المتمادي في كلامه إذا قال: لا يجوز السعي في إهلاك البهيمة، رُدّ عليه قوله بما ذكرناه، وقيل له: أباح الشرعُ قتلَ كثيرٍ من البهائم لحاجة الآدميين إلى أكل لحومها، فتحميلها المشاقَّ في معنى الإذن في إهلاكها، ولكن على اقتصادٍ معتادٍ.
فإن لم يقنع السائل وقال: كيف يرضى مالك الدابة النفيسة بإهلاكها وحظه من كِراها مقدارٌ نزرٌ؟ قلنا: مثل هذه الدابة لا تتلف إلا بسَرفٍ، فلا جَرَم يجب الضمان.
والتلفُ إنما يقع في الدابة الضعيفة، أو المئوفة، والإذن في تحميلها إذنٌ في سبب تلفها، أو تعيّبها، فقد خرج ما ذكرناه على القاعدة خروجاً بيّناً.
5303- فإن قيل: إذا تعدى المكتري، وجاوز حدّ الحاجة، فتلفت الدابة، فقد حصل التلف بما له أن يفعله، وبما ليس له أن يفعله، فهلا قسَّطتم الضمان، وحططتم بعضَه على مقابلة ما يجوز فعله؟ وتقريب القول فيه أن ضرباتٍ معلومة لو فرض الاقتصار عليها، لعد الضارب مقتصداً، فإذا زاد، عُدَّ مجاوزاً، فقد حصل التلف بما يجوز وبما لا يجوز؟
قلنا: إن كان المكتري منفرداً باليد، فيصير بأول العدوان غاصباً، والغاصب يضمن ليده، وإن لم يصدر منه إتلافٌ.
وإن كانت الدابة في يد مالكها، وكان المكتري يزجيها، فزاد على حد الاقتصاد، فهذا موضع السؤال، فانه لا يضمن ليده، وإنما يضمن لفعله.
5304- والذي قطع الأصحاب به وجوبُ تمام الضمان؛ والسبب فيه أن القدرَ الذي لو اقتصر عليه، لكان مقتصداً إنما يكون مأذوناً فيه من المالك بشرط الاقتصار عليه، فإذا جاوزه، فقد خرج أصل الضرب عن الإذن. فهذا بيّنٌ في فنِّه. ولكنّ الاحتمالَ متطرقٌ إليه من طريق المعنى؛ لأن الفعل المقتصد منفصلٌ عن الزائد، فكان لا يبعد في القياس التقسيطُ إذا لم يكن سببُ الضمان اليدَ، كما نبهنا عليه. وهذا بمثابة الزيادة على الجلد في الحدّ.
ولنا أن نعتصم بتأديب المؤدب، وتعزير المعزّر؛ من جهة أن الهلاك يحصل بالقدر الزائد، ثم يجب تمام الضمان.
ولم نُبد الاحتمالَ الذي ذكرناه ليكون مذهباً وإنما ذكرناه للتنبيه على وجوه الكلام.
5305- وإذا تعدّى الأجير في فعله، وزاد على الحد المطلوب، وأتلف العين التي استؤجر لإيقاع الفعل فيها، وجب كمالُ الضمان؛ تخريجاً على هذه القاعدة. ثم الضبط في هذا القبيل يستدعي الربطَ بالخروج عن التقدير، فإذا كان كذلك، وثبت النهي عن سبب الإتلاف، وفوّض القدر إلى المتعاطي، فلا تقسيط إذا تعدّى الحدَّ أصلاً.
هذا منتهى الكلام في غرض الفصل.
فصل:
قال: "ولو اختلفا في ثوب، فقال ربُّه: أمرتك أن تقطعه قميصاً... إلى آخره".
5306- إذا دفع مالكُ الثوب الثوبَ إلى خياطٍ ليخيطه، فخاطه قَبَاءً، ثم اختلفا، فقال صاحب الثوب: أمرتك بأن تخيطه قميصاً، وقال الخياط: بل أمرتني بأن أخيطه قَباءً، فقد حكى الشافعي من قول ابن أبي ليلى أن القول قولُ الخياط، وحكى من مذهب أبي حنيفة أن القول قولُ رب الثوب، ورجَّحَ مذهبَ أبي حنيفة ورآه أوقع، ثم قال: "وكلاهما مدخول"، فأشار إلى قولٍ ثالثٍ في المسألة، وقد نصّ في الأمالي على أنهما يتحالفان.
وهذا هو القول الثالث الذي أشار إليه هاهنا.
واختلف أئمتنا: فمنهم من قال: مذهب الشافعي التحالف، وما سواه حكاه مذهباً لغيره.
ومن أصحابنا من أثبت للشافعي ثلاثة أقوالٍ، وأخذ ذلك من ترجيحه مذهبَ أبي حنيفة على مذهب ابن أبي ليلى، وهذا يشر بتردده في القولين؛ فإن من يُفسد القولين لا يرجّح أحدهما على الثاني.
فليقع التعويل على طريقة الأقوال، ونحن نوجهها ونفرع عليها.
5307- فمن قال: القولُ قول الخياط، احتج بأن أصل الإذن متفقٌ عليه، والأجير مؤتمن فيما أُمر به، وصاحب الثوب يبغي تضمينَه، والأصل براءةُ ذمته.
ومن قال: القول قول رب الثوب، احتج بأنه الآذن، ولو أنكر أصلَ الإذن، يصدّق مع يمينه، فالقول في تفصيل الإذن قوله. والذي يوضّح الحقَّ أنه إذا ثبت الرجوع إلى قوله في أصل الإذن، فإنه ينكر أصلَ الإذن في قطعه قباءً.
فهذا وإن سمي تفصيلاً، فهو أصلٌ متنازع فيه نفياً وإثباتاً، فليقع الرجوع إلى الآذن.
ومن قال: يتحالفان، احتج بأن سبب التحالف بين المتعاقدين الاختلافُ في المعقود عليه، وتعرُّضُ كلِّ واحدٍ منهما لكونه مدعياً من وجهٍ ومدعىً عليه من وجهٍ.
فإن نظرنا إلى المنفعة المعقود عليها، فهي على التنازع، وكل واحد مدّعىً ومدعىً عليه، فالمالك يدعي جنايةَ الخياط، ويُدّعَى عليه الإذن، والخياط يدعي إذنَ المالك ويُدّعَى عليه الجناية، ومجموع ذلك يقتضي التحالفَ؛ إذ ليس أحدهما أولى بالتصديق من الثاني.
فإذا توجهت الأقوال، فرعنا عليها.
5308- فإن قلنا: القول قول الخياط مع يمينه، فقد قال الأصحاب: إنه يحلف بالله ما أمره بقطع الثوب قميصاً، وإنما أمره بقطعه قَباءً، فيشتمل اليمين على النفي والإثبات.
فإن قيل: هلا اقتصر على النفي؟ قلنا: نفي الأمر بقطعه قميصاً لا ينفعه في نفي الجناية، فإن نفي الجناية ادّعاها ربُّ الثوب؛ من حيث قطع الثوبَ قَباء، فلم يكن بدٌّ من التعرض لنفي. ذلك، وسبيل نفي الجناية إثباتُ الإذن، فإن كان لهذا إشكال، فهو من إشكال القول، وإلا، فلا طريق في تفريعه- غيرُه إذا اعتمد أصله. ثم من حكم يمينه أنه لا يغرم لرب الثوب أرشَ النقصان.
5309- ويقع النظر وراء ذلك في استحقاق الأجرة.
وقد اضطرب طريق الأصحاب فيه، فالذي صرح به شيخي-وهو مقتضى ما ذكره الصيدلاني وغيرُه- ذكرُ الاختلاف في أنه هل يستحق الأجرة المسماة إذا حلف؟
وقال العراقيون: لا يستحق الأجرة المسماة وجهاً واحداً، وهل يستحق أجرَ مثل عمله؟ فعلى وجهين، فنوجه الخلافَ في استحقاق الأجرة، ثم نبين ما صار إليه العراقيون من الفرق بين الأجرة المسماة وأجرة المثل.
فالتوجيه في الأصل: من قال: لا يستحق الأجرةَ، قال: يكفيه أن تنفي يمينُه الغرمَ عن نفسه، فأما أن يُتوصل بها إلى استحقاق ما يدّعيه، فهو بعيد عن نظم الخصومة.
ومن قال: إنه يستحق الأجرَ، احتج بأن أصلَ الأجرة متفق عليه، وإنما الكلام في تعيين العمل، وبينهما عملان يتنازعان فيهما، ومن ضرورة انتفاء الغُرْم عن الأجير ثبوتُ الإذن في العمل الذي صدر منه. فإذا ثبت كونه مأذوناً فيه، وقد تقرر أن العمل المأذون فيه مقابَلٌ بالأجرة، فتثبت الأجرة.
5310- هذا أصل التوجيه. والذي صار إليه العراقيون من الفرق بين المسمى وأجرة المثل مُنقدح؛ فإن الأجرة المسماةَ قد تزيد على أجرة المثل، فثباتها بقولِ من يدّعيها بعيدٌ، ويبعد أن يحبَطَ تعبُ العامل إذا ثبت كونُه مأذوناً فيه، فالإنصاف أن ألا يزيد على أجر المثل.
ومن يُثبت الأجرةَ المسماةَ يقول: سبب ثبوت الأجرة أنها متفقٌ عليها ذكراً، وقد انتفى العدوان بيمينه، وتعيّن بانتفائه وقوعُ الفعل مأذوناً فيه، ومساق ذلك يُثبت الأجرة المسماةَ، إن كنا نرى إثبات الأجرة.
ومما يجري في خلل الكلام، أن من أثبت أجرة المثل؛ فإنه يقول لا محالة: إن كانت المسماة أقلَّ منها، فليس للخياط إلا الأجرةُ المسماة؛ فإنه ليس يدّعي أكثر منها، فيستحيل أن يستحق أكثر من المدَّعَى.
التفريع على ما ذكرناه في الأجرة:
5311- فإن حكمنا باستحقاقها، فلا كلام، واستقلت يمين الخياط بنفي الغُرم، وإثبات الأجرة.
وإن قلنا: لا يستحق الأجرةَ، فله أن يعرض اليمين في طلب الأجرة على رب
الثوب، فإن حلف رب الثوب، انتفت الأجرة في ظاهر الحكم، وإن نكل، فقد اختلف مسلك الأئمة: فذهب بعضهم إلى أنا نثُبت الأجرةَ الآن باليمين السابقة الصادرة من الخياط؛ فإنها اشتملت على النفي والإثبات، ولكنا لم نثبت بها مالاً للحالف، حِذاراً من إثبات المدعَى بيمين المدعي ابتداءً، فإذا تبيّن آخراً نكولُ رب الثوب، وقع الاكتفاء بما تقدّم، فإنا لو أعدنا تحليفه، لم نزد على تحليفه على إثبات الإذن، وقد تقدّم هذا، فلا معنى لإعادته، فهذه يمينُ ردٍّ اقتضى ترتيبُ الخصومة تقدُّمَها، ولكنها لا تقع الموقع في استحقاق الأجرة، حتى يتبين نكولُ رب الثوب عن اليمين.
هذا مسلك متجه، فإن كان فيه إشكالٌ، فلا إشكال القول لا بخلل التفريع، ولكن تصديق الخياط يجر هذا.
5312- وهذا هو الذي ارتضاه القاضي في التفريع. وذهب ذاهبون إلى أنا إذا لم نثبت الأجرة بمجرد يمين الخياط ابتداءً، فيقتصر على درء الغرم عنه، وخروجه عن العدوان. فإن أراد الأجرةَ، فينبغي أن يبتدىء دعوى فيها، ولا نظر إلى ما تقدم، ثم حكم الدعوى التي يبتديها عرضُ اليمين على رب الثوب، فإن نكل، رددنا اليمينَ على المدعي، وحلّفناه، ولا نظر إلى ما تقدّم.
وهذا قياس الخصومات، وقد يفرض في خصومةٍ ذاتِ أطراف نكولٌ عن يمينٍ في جانب مع الإقدام عليها في جانب آخر، فإذا تميزت الخصومة عن الخصومة، وجب أن نُوفِّر على الخصومة الأخيرة حقَّها، وترتيبَها. وهذا حسنٌ منقاس.
وكل ذلك تفريع على قولنا بتصديق الخياط.
5313- وإن قلنا: القول قولُ ربّ الثوب مع يمينه، فيحلف بالله ما أمره بقطعه قَباءً، وتنتفي الأجرة عنه بيمينه.
ثم اتفق الأصحاب على أن الخياط يضمن، ولم يختلفوا في أصل الضمان، وهذا في الترتيب قد يناظر الأجرة في التفريع على القول الأول.
ثم ثبوت الأجرة مختلف فيه، وثبوت الضمان في التفريع على تصديق المالك غيرُ مختلف فيه، والسبب أن رب الثوب بيمينه يهجم على إثبات عدوانه؛ فإن الإذن إذا انتفى، ثبت العدوان، فإذا كان العدوان يثبت بالنفي وهو متضمَّنُ اليمين في قياس الخصومة، والأجرة لا تثبت إلا بتقدير إثبات، فكان الافتراق لذلك.
5314- ثم إذا ثبت الضمان على الخياط، ففي قدره قولان: أحد القولين- أنه يجب ما بين القطعين، وبيانه أن الثوب لو كان يساوي عشرةً، غيرَ مقطوع، وكان يساوي القميص تسعة، والقَباء ثمانية، فالتفاوت بين القطعين دينار؛ فهو الواجب في قولٍ.
والقول الثاني- أنه يجب ما بين قيمة الثوب غيرَ مقطوع وبين كونه قَباء، وهو ديناران.
توجيه القولين: من أوجب الدينارين، احتج بأنه إذا لم يكن القطع مأذوناً فيه، فهو عدوان، ومن اعتدى، فقطع ثوباً قباءً، التزم كمالَ النقصان.
ومن قال بالقول الثاني، احتج بأن قال: أصل القطع مأذون فيه، وفي تقرير هذا لطف، فقطع الثوب بنصفين مثلاً يليق بتفصيله قميصاً، وهذا القدر يقع مأذوناً فيه، والعدوان في الزيادة، فإن من يبغي القَباء يَزيد بعد هذا القطع قطعاً، وذلك هو المضمَّنُ، وهذا يتضمن تضمينه ما بين القطعين.
5315- وبنى الأئمة هذين القولين على أن الوكيل بالبيع إذا باع بغبن فاحش، وفاتت العين، فماذا يضمن؟ وفيه قولان-نص عليهما في الرهن اللطيف: أحد القولين- أنه يضمن كمال قيمة العين، والقول الثاني- أنه يغرَم المقدارَ الذي لو باع به، لنفذ، ويُحطّ عنه ما يتغابن الناس بمثله. وقد ذكرنا حقيقة هذين القولين. ووجْهُ بناء القولين في مقدار الضمان في مسألتنا على هذا ظاهرٌ من طريق اللفظ.
ولست أوثر هذا البناء؛ فإن مَن يوجب ما بين القطعين يأخذ مذهبه ممّا أشرت إليه، من جريان ابتداء القطع على حسب الإذن، كما ذكرته. وإذا كان مأخذ تعليل الضمان هذا، فلا مناسبة بين هذا الأصل، وبين ما ذكرناه في الوكيل.
5316- وأنا أقول: لو كان القطع المنفي باليمين على وجهٍ لا يترتب شيء منه على جنس القطع المأمور به، فيجب القطعُ بإيجاب تمام الضمان، وإنما يختص القولان بالصورة التي ذكرناها، وهي أن يجري ابتداء القطع على حسب الإذن، ثم يترتب عليه قطعٌ يخالف الإذنَ، ثم الأصح في صورة القولين إثباتُ تمام الضمان؛ فإن بعض الإذن لا ينفع مع العدوان. ولهذا قلنا: إذا تعدى القصار، وزاد في الدّق، ضمن التمامَ وإن كان بعضُ الدقات مأذوناً فيه.
5317- وإن قلنا: إنهما يتحالفان، فيترتب على جريان التحالف سقوطُ الأجرة؛ فإن من ضرورة التحالف انتفاء الإذن، وانقطاعُ العقد، وهذا يقتضي سقوط الأجرة.
ثم ذكر العراقيون في التفريع على قول التحالف قولين للشافعي منصوصين، في أن الخياط هل يضمن؟ أحدهما- أنه لا يضمن؛ فإن الذي يقتضيه الإنصاف أن تسقط الأجرة ويسقط بإزائها الضمان، وبهذا يحصل الاعتدال في الجانبين.
والقول الثاني- أن الضمان يثبت؛ لأن المتعاقدَيْن إنما يتبارآن إذا رجع كلٌّ إلى ما كان عليه قبل العقد، وصاحب الثوب يقول: هذا الثوب رددتموه عليَّ مقطعاً على خلاف إذني، وقد انتفى العقد، فضمّنوه لي. وهذا القول مشكلٌ؛ من جهة أنه يضاهي تصديقنا صاحبَ الثوب، ويسقط أثر تحليفنا الخياط، ولو قدّرناه ناكلاً عن اليمين، لما لزمه إلا هذا، واليمين التي لا تجرّ نفعاً، ولا تفيد دفعاً لا معنى فيها.
وسبب جريان هذا القول ضعفٌ في أصل التحالف؛ فإن ملك الإنسان إذا غُيّر عليه والقول قوله في نفي الإذن فيه، فالتحالف يبعدُ في هذه الصورة، فإذا قيل به، ثم رجع في عاقبته إلى إبطال أثر التحالف، كان تناقضاً، ولا يستدّ على القول بالتحالف إلا سقوطُ الغُرم، في مقابلة سقوط الأجرة.
5318- ومما يتعلق بتمام البيان في المسألة أن الخياط إذا أسقطنا أجرتَه، لو قال: كانت الخيوط لي، وأنا أنزعها؛ فإنها تبعت عملي الموجب للأجرة، فإذا كانت الخيوط له، فله نزعها إذا كانت متقوّمة منتفعاً بها بعد النزع.
ثم قال الأصحاب: إذا نزعها، يغرَم ما دخل الثوبَ من النقص بسبب نزع الخيوط، كما إذا صبغ ثوبَ الغير بصبغ من عنده، ثم نزع الصبغ، فإنه يضمن لمالك الثوب أرشَ النقص، الذي يلحقه بسبب نزع الصبغ، كما قدمنا تقريره.
وهذا يستدعي مزيد نظر، فإن قلنا: لا يجب الضمان على الأجير، تفريعاً على قول التحالف، فإذا نزع، فقد أحدث نقصاً؛ إذ ردَّ الثوب قِطَعاً؛ فيغرم ما بين الثوب مخيطاً، وبين القِطَع.
وإن قلنا: إنه يضمن نقصان القطع في الأصل، فقد ضمّناه أرشَ نقصان التقطيع مرة، فيبعد أن يضمنه مرة أخرى، ولكن إن حدث بسبب نزع الخيط مداخلُ الإبر، وكانت انسدت بالخيوط، وقد يُحدث النزعُ خرقاً في موضع الخيط، فهذا يضمنه، فأما تضمينه الزيادة، وقد ضمّناه مرة؛ فإنه يتضمن تضعيف الضمان.
والذي ذكره الأصحاب ظاهرٌ في إيجاب الضمان عليه مرة أخرى، لتفصيله للثوب بعدما نظمه، وهذا غير سديد؛ فإنه لا معنى لضمّه إلا وصل الخيوط به، فإذا جوزنا نزع الخيوط، عادَ الأمرُ إلى ما كان عليه.
هذا منتهى الكلام في الفصل.
فصل:
قال: "ولو اكترى دابة، فحبسها... إلى آخره".
5319- إذا اكترى دابة، وقبضها، فالإجارة لا تخلو إما أن تكون معقودةً على مدة، وإما أن تكون معقودة على منفعة معلومة.
فإن كانت معقودة على مدة، فإذا حبسها حتى انقضت المدة، ولم ينتفع بها، استقرت الأجرة، وانتهى العقد، ووجب ردُّ الدابة.
ولو وردت الإجارة على منفعة معلومةٍ، ولم يقع التعرض للمدّة، فمضى في يد المستأجر من الزمان ما يسع استيفاءَ تلك المنفعة، استقرت الأجرة، وانتهت الإجارة، وقد قدمنا ذلك.
5320- ثم قال الأئمة: لو تلفت الدابة في يد المستأجر في المدة المضروبة، أو
في مدة العمل الموصوف، بآفة سماوية، فلا ضمان على المكتري؛ فإن يده يدُ أمانة، والأمانةُ لا تختلُّ بتركه حظَّ نفسه في الانتفاع، وإذا كان الزمان محسوباً عليه، فترك الانتفاع ترفيهٌ للدابة. نعم لو ربطها في إصطبلٍ، فانهدم الإصطبل عليها، من غير انتسابه إلى تقصير، بأن اتفقت رجفة ورجّة، تهدَّم السقف لها، فقد قال الأئمة: يجب الضمان، وإن كنا نقول: لو كانت الدابة مودعة عنده، وربطها في المحل الذي وصفناه، فاتفق انهدام السقف، فلا ضمان.
والسبب في إيجاب الضمان في مسألتنا أنه لو كان راكبها وسائراً عليها، لما كانت ربيطةً تحت سقفٍ، فإن ربطها، وكان ذلك سببَ الهلاك، أوجب الضمانَ؛ فإن التلف حصل بسببٍ يخالف مضمون العقد.
وسيأتي تقرير ذلك في كتاب الوديعة إن شاء الله، عند ذكرنا مخالفة المودَع المالك في جهة الحفظ.
5321- ولو ربط الدابة في إصطبل، كما ذكرناه، فماتت بآفة لا تتعلق بالإصطبل، فلا ضمان، فنفس الربط ليس عدواناً، ولكنه يجر ضماناً من الجهة التي ذكرناها، فهذا ربط على شرط السلامة من آفة الربط في الإصطبل.
وتمام البيان في هذا محال على الوديعة.
5322- ثم قال الشافعي: إذا انقضت المدة، فحبس الدابة بعد انتهاء المدة، ضمنها.
وهذا مما اضطرب الأصحاب فيه، فقال المراوزة: لا يجب على المستأجر ردُّ العين المستأجرة. نعم لا يمنع المالك من استردادها، وسبيله فيها كسبيل المودَع. ثم ليس على المودَع ردُّ الوديعة، ولكن إن أرادها المالك، لم يحل بينه وبينها، ومكّنه من أخذها، فقول الشافعي: "ضمنها " عند هؤلاء محمولٌ على ما إذا طولب بالتمكين من الاسترداد فأبى.
5323- ومن أصحابنا من قال: إذا انقضت المدة، دخلت الدابة في ضمان المستأجر، وهؤلاء ذهبوا إلى أنه يجب عليه ردُّ العين، والتزام مؤنة الرد. وهذا الوجه ذكره العراقيون، وصاحب التقريب.
ثم فرع صاحب التقريب وقال: لو اكترى دابة وشرط أن يردّها إلى بلد المكري من منتهى سفره، لزمه الرد.
وإن كان العقد مطلقاً، فإن كان المالك مع الدابة، هان ردُّها عليه في منتهى السفر، وإن لم يكن رب الدابة معها، فعليه أن يردها إلى بلده جرياً على وجوب الرد.
والمراوزة يقولون: لا يلزم الرد، ولكن إذا انتهى السفر، فالمستأجر في العين المستأجرة كالمودَع إذا أراد سفراً، وسبيله إذا أراد ذلك أن يسلّم العين إلى الحاكم، وفيه تفصيل سيأتي في كتاب الوديعة، إن شاء الله عز وجل.
وهؤلاء يقولون: لو شرط الردَّ على المستأجر، كان شرطاً باطلاً، مفسداً للإجارة.
5324- فخرج من مجموع ما ذكرناه اختلافُ الأصحاب في أن الإجارة إذا انتهت، فيد المستأجر يدُ ضمان أم لا؟ وعليه يترتب مؤنةُ الرد، أو على مؤنة الرد يترتب الضمان. وهما كالقضية الواحدة؛ فإن ضمان العين نتيجة ضمان الرد، كما قررناه في العواري.
وطريقة المراوزة أمثل، ويبعد كل البعد أن يقال: إذا انقضت المدة، وهمَّ المستأجر بالرد، فتلفت العين في يده من غير تقصيره، يجب الضمان عليه. ومن أوجبه طردَ القياس في إثبات الضمان وألحق العينَ بعد الإجارة بالمستعار، والمأخوذِ سَوْماً.
ولا يمتنع عندنا أن يفصل الفاصل بين ألا يرد ويحبس، وبين أن يسعى في الرد غيرَ مقصّر. ولفظ الشافعي-إن كان الأخذُ منه- يتضمن هذا، فأنه قال: "ولو حبسها بعد انتهاء المدة، ضمنها". فخصص الضمان بالحبس.
5325- وذكر القاضي مسألةً لها اتصالٌ بما نحن فيه، فقال: إذا دفع الرجل بضاعةً إلى إنسان، فالتمس منه أن يحملها إلى بلد،، ويشتري له جاريةً، ففعل، فلا يلزمه نقلُ الجارية، بل يتركها؛ لأنه متبرع في عمله، وقد فعل ما أُمر به. وهذا الذي ذكره قياسٌ، لا شك فيه، والجارية التي يقبضها وتحصُل في يده، في حكم وديعةٍ وهو في تركها مسافر عن الوديعة. ثم في المسافرة عن الوديعة تفصيلٌ سيأتي مشروحاً، إن شاء الله.
ولا يمتنع أن يقول القائل: إذا قبض البضاعة التزم ردَّ الجارية إليه. وإنما سمحت نفسُ صاحب البضاعة بتغييبها حتى يرد الجارية إليه. و هذا له ظهورٌ في حكم العرف. ولكن الأصل ما ذكره القاضي، ثم لا نفصل بين أن يلتزم ردّها، ثم يبدو له، وبين أن يجري الإبضاعُ مطلقاً؛ فإن من التزم ردّ مال إنسان، ولم يُستأجر عليه، لم يلزمه الوفاء به.
فصل: نجمع فيه تفاصيلَ ما على المكري في عمارة الدار المكراة
5326- فالوجه أن نرسل عبارات الأصحاب في الغرض المقصود، ثم نبحث عن الحقيقة. قالوا رضي الله عنهم: إذا انكسر جذعٌ من الجذوع، وأمكن إصلاحه من غير إبدالٍ، فذلك على المكري، وإذا استرمّ جدارٌ، فمال، فإقامته على المكري.
وإن مست الحاجة في العمارة إلى الإتيان بجذعٍ جديدٍ، فقد ذكر شيخي وجهين:
أحدهما: أن على المكري ذلك.
والثاني: ليس عليه الإتيان بجذعٍ جديد، وهو الذي قطع به معظمُ الأئمة.
توجيه الوجهين: من قال: لا يجب الإتيان بجذعٍ، قال: إن كانت الإجارة متعلقةً بما انكسر، فقد فات محل الإجارة، فلا يجب إبداله، كما لو أجر جذعاً، فانكسر، لم يلزم الإبدال.
ومن قال بالوجه الثاني، احتج بأن الجذع كان في حكم الصفة للدار، والإتيان بجذعٍ جديد في حكم تغيير الصفة، وليس كما لو كان الجذع مخصوصاً بالإجارة مقصوداً فيها. وهذا الخلاف نازع إلى تردد الأصحاب في أن أجزاء البنيان هل توصف بكونها معقوداً عليها؟ أم هي كالصفات بمثابة أطراف العبد؟ وفيه تردد ظاهر قدمناه.
5327- ومما نرى تقديمه في صدر الفصل أن العمارة التي أطلقنا القولَ بوجوبها على المكري، كإصلاح الجذع المنكسر، وإقامة الجدار المائل، مما تمارى الأصحاب فيه، فالذي ذكره العراقيون أنه لا يجب في التحقيق، ولكن إن فعلها المكري، استمرت الإجارة، وإن امتنع تخير المكتري. وهذا مذهب أبي حنيفة.
ووجه هذا أن الإجارة وردت على عين الدار، فإيجاب إحداثِ فعل فيها إيجابُ زائدٍ، لا تقتضيه الإجارة بلفظها. نعم، يثبت الخيار؛ إذ الدار لو انهدمت، لانفسخت الإجارة، فإذا كان العقد ينفسخ بالتلف، يثبت التخير فيه بالتعيُّب.
5328- وذكر شيخي والقاضي ما يدلّ على أن العمارة تجب، على التفصيل الذي ذكرناه. وهذا متجه، من جهة أن توفية المنافع لا تتأتى إلا بمرمة الدار إذا هي استرمت، وبناء مذهبنا على أن المنافع مستحقة على المكري، ولا يتجه في الحكم بانفساخ الإجارة إذا انهدمت الدار في يد المكتري إلا أن يقال: يد المكتري وإن ثبتت، وسلّطته على التصرف بالإجارة، ففي العين عُلقةٌ متعلقة بالمكري، وهي وجوب توفية المنافع عليه، فإذا كنا لا نوجب عليه العمارة، فلا يبقى لإيجاب توفية المنافع على المكري معنى سديد.
فقد حصلنا إذاً على طريقين للأصحاب أثبتناهما عنهم على ثبتٍ وثقة.
5329- ولو استأجر داراً، ولم يكن على بعض مداخلها بابٌ، أو لم يكن على مجرى مائها مزراب، فإذا اطلع المكتري على ذلك، وكان ما رآه مؤثراً في تنقيص المنفعة، فلا نوجب على المكري في هذه الحالة تعليقَ بابٍ، ولا نصبَ مزراب؛ فإنا لو ألزمناه ذلك، كنا موجبين عليه إحداث ما لم يكن ثابتاً حالةَ العقد، ولكن للمكتري الخيار في الفسخ والإجازة.
5330- ولو انكسر جذعٌ، وكان الاكتفاء يقع بأن يُدعم بدِعامة، فقد اختلف الأئمة في هذه المسألة، فذهب معظمهم إلى أن هذا يلتحق بإصلاح الجذع من غير مزيد، وإقامة الجدار المائل؛ فإن الدعامة وإن لم يكن منها بد، وهي زائدة لم تكن، فإنها ليست جزءاً من الدار، وإنما هي مستعارة.
وفي كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن هذا بمثابة إحداث جذع جديد؛ فإن الدعامة جديدة، وقد شغلها بالعمارة، وإذا تحقق شغلها، وهي لم تكن، فلا أثر وراء ذلك لكونها جزءاً من الدار، أو خروجها عن أجزاء الدار. وفي المسألة احتمال.
5331- ومما يتعلق بذلك أن كنس الدار مما لا يجب على المكري، وليس هذا معدوداً من عمارة الدار، وإنما هو من تنقية الساكن مسكنه إن أراد تنقيته، ولا تؤثر في المنافع المقصودة.
5332- واختلف أئمتنا في تنقية البالوعة إذا امتلأت، فمنهم من قال: هي على المكري. ومنهم من قال: ليست على المكري؛ فإن ما يتجمع فيها يضاهي ما يتجمع في الدار من الكناسات، وفضلات الأطعمة ونَفْض الموائد، وقشور البطيخ، ونحوها.
ومنهم من قال: هي ملتحقة بعمارة الدار؛ فإن الكناسات ليس لها ضبط، فقد تكون، وقد لا تكون، والعادة جارية بأن السكان يتولَّوْن طرحَها وإلقاءها، وتنقيةُ البالوعة من الرواتب التي تقع لا محالة، فإذا امتلأت البالوعة، تعذّر الانتفاع، فوجب إلحاقُها بالعمارات.
5333- فأما كسحُ الثلوج، فالقول فيه منقسمٌ إلى كسح عَرْصة الدار، وإلى كسح السطوح. فأما كسح العرصة، فإن كان الواقع فيه من الثلج لا يمنع كن الانتفاع، لقلّته وخفته، فهو ملتحق بكنس الدار من الغبار، وإن كثف الثلج، وكثر، وامتنع التردد في الدار بسببه، فظاهر المذهب أنه يلتحق بالكنس، ولا يمتنع التحاقه بتنقية البالوعة.
وفي كلام الأصحاب ما يدل على المسلكين جميعاً، وهو لكثرته يجانب الغبار المعتاد الذي يكنس، ويخالف امتلاء البالوعة، من حيث إن ذلك يقع على اعتياد، بخلاف الثلج.
5334- فأما الثلج على السطوح، فلا يجب على المكتري كسحُه؛ فإن كان يضر بالسقوف إضراراً مؤثراً في الانتفاع، فكسحه بمثابة إقامة الجدار المائل، وإصلاح الجذع. ثم يعود ما قدمناه من التفصيل في أن ذلك يجب على المكري، حتى يطالَب به أم لا يجب؟ فإن أوجبناه، فلا كلام. وإن لم نوجبه، فما لم يظهر نقصٌ مؤثر في الانتفاع، لا يثبت الخيار للمكتري.
ومن أصحابنا من قال: لا يجب كسحُ الثلج على المكري، وإن أوجبنا عليه العمارة؛ فإن العمارةَ تغييرٌ في صفة الدار، وردّها إلى ما كانت عليه، وكسح الثلج ليس بهذه المثابة.
5335- وإن انتهت الإجارة، وانقضت، فلا يجب على المكتري تنظيفُ البالوعة التي امتلأت في زمان الإجارة، ليردّها منظَّفة كما قبضها، هذا لا يجب وفاقاً على المكتري، وإن ترددنا في أنه هل يجب على المكري تنقية البالوعة في أثناء المدة.
5336- ومما يجب التنبه له أنا إذا لم نوجب التنقيةَ في أثناء المدة، فلو امتنع الانتفاع بالدار بسبب امتلاء البالوعة، والتفريع على أنه لا يجب على المكري التنقيةُ، فهل يثبت خيار الفسخ للمكتري؟
اضطرب أئمتنا، فذهب الأكثرون إلى أنه لا خيار له، ولكنا نقول له: إن أردت الانتفاع فنقِّ البالوعةَ، كما تنقي الدارَ من الكناسة. وهذا هو الظاهر.
وأبعد بعض أصحابنا، فأثبت للمكتري التخيّر، وهذا التردد إنما يحسن إذا كنا نوجب العمارة على المكري، ونوجِّهُ عليه الطَّلِبة بها، فنقول هاهنا: لا يجب عليه التنقية، ولكن للمكتري الخيار.
5337- ويظهر أثر ما ذكرناه بمسألة، وهي أن الإجارة إذا انتهت، وقد تجمعت كناسةٌ في الدار، فقد قال الأصحاب: على المكتري نقلُها، وتسليمُ الدار فارغةً منها، ولم يوجبوا تنقيةَ البالوعة، فكذلك لا يوجبونها في أثناء المدة، ويقولون: إذا عسر الانتفاع، ثبت الخيار، بخلاف ما لو عسر باجتماع الكناسة. والكناسةُ التي أطلقناها عَنَيْنا بها، ما يُلقيها المكتري من قشور، ونَفْض طعام، وأما ما يقع في الدار من ترابٍ بسبب هبوب الرياح، فلا يجب على المكتري نقلُه، وتنقيةُ الدار منه أصلاً؛ فإن هذا لم يحدث بفعله، وسببِه، وهو-إن كان ثقل- ينزل منزلة الثلج، الذي يقع، في أنه لا يجب على المكتري تنقيتُه.
5338- ولو اغتصب مغتصب الدارَ من يدي المكتري في أثناء المدة، فالذي أطلقه معظم الأئمة أنه لا يجب على المكري تخليصُها من يد الغاصب، وإن اقتدر عليه. وفي كلام بعض المحققين ما يدل على أنه يجب عليه التخليص؛ لتمكين المكتري من الانتفاع. وهذا يتفرع على مذهب من يرى إيجابَ العمارة، التي يحصل بها التمكّنُ من الانتفاع.
5339- وإذا اكترى الرجل حماماً، فتنقية الأتّون عن الرماد على المكتري؛ فإنه بمثابة الكناسة التي تجتمع في الدار المكتراة، بإلقاء المكتري إياها؛ إذ الرماد من أثر وقود الأتّون، فإذا انتهت الإجارةُ، فعلى المكتري نقلُ ذلك، كما ذكرنا في كناسة الدار.
ولا يجب على المكتري تنظيفُ مستنقع الماء، كما لا يجب عليه تنظيف البالوعة، وهذا فيه إذا انتهت الإجارة نهايتَها.
وهل يجب في أثناء المدة تنقية المستنقع، ومجتمع فضلات الماء؟ فعلى وجهين، كالوجهين في تنقية البالوعة في الدار، فلا فرق. والذي اختاره الأئمة في المسألتين أنهما على المكتري.
5340- ثم إذا اكترى حماماً، فالذي يجب على المكري أن يسلّمه مع الأبواب؛ فإنها بمثابة الأبواب المُحكمة، وإن كان يسهل نقلها، فأما الأرز العتيدة، والطاسات والحبل، والدَّلو، فلا يدخل شيء منها في إجارة الحمام.
وإذا اشترطنا في إجارة الأعيان رؤيةَ العين المستأجرة، فلابد من رؤية مواضعَ من الحمام، وما يتصل بها، إحداها البيوت وبئر الماء، والقِدر، ومطرح الرّماد، ومبسط القماش، والوقود والأتون، والموضع الذي تجتمع فيه فضلات الماء، وعلى مشتري الحمّام أن يراها، إذا اشترطنا رؤيةَ المبيع.
5341- وإذا اكترى الرجل داراً، فعلى مكريها تسليمُ المفتاح إلى المكتري؛ فإن منعه منه، انفسخ الكراء في زمان المنع، هكذا قال الأصحاب، وإن كان يتأتى من المكتري قلعُ الباب، أو قلعُ الأغلاق، أو العلوّ في السطح، فمنع المفتاح منعٌ من المكرى.
ولو سلّم إليه المفتاحَ، فضاع في يده، أبدله المكري بغيره. ثم قال الأئمة: لا يجبر المكري على الإبدال، وإنما يُجبر ابتداءً على بذل المفتاح؛ فإن البذل الأول هو ابتداء التسليم، وابتداء التسليم واجبٌ على المكري، والإبدال بعد التسليم الأول في حكم الامتناع الطارىء.
وألحق الأئمة إبدال المفتاح، بإبدال جذع ينكسر في الدار، والحاجة ماسة في توفية المنافع إلى الإتيان بجذعٍ جديد، غيرِ الذي انكسر. ثم ينبني على ذلك أن المكري إذا لم يُبدل، فللمكتري الخيار، كنظيره في الجذع.
5342- وإذا اكترى الرجل طاحونة، فعلى المكري مع تسليم البيت تسليمُ الآلات العتيدة، كحجرِ الرَّحا، والآلةِ المعلّقة فوق الرّحا، التي هي مجتمع الحب، والقطبِ، وما عليه مداره من أسفل في رحا الماء؛ فإن العادة مطردة بتسليم هذه الأشياء، وإن كان يسهل نقلُها، فهي بجملتها معدودة من الطاحونة، على اعتيادٍ مطرد.
والقول في بيع الطاحونة كالقول في إجارتها، وقد ذكرنا في كتاب البيع تردداً في أن مطلق البيع في الدار هل يستتبع ما فيها من رحاً مثبتٍ، وليس ذلك مما نحن فيه؛ فإن متعلّق العقد اسمُ الدار، ومتعلّقُ العقد فيما ذكرناه اسمُ الطاحونة، وهذا الاسم يستدعي هذه الأشياء.
وذكر الأئمة نقولاً جاريةً لقواعدَ في الإجارة، ونحن نأتي بها مستقصاة، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
5343- إذا اكترى الرجل داراً بعشرين ديناراً، وشرط المكتري على المكري أن يصرف مالَ الكراء إلى عمارة الدار، فالكراء فاسد، وعلّة الفساد الاحتكام على المكري في صرف عين الكراء إلى العمارة، ولفظ الشافعي في ذلك الكراهية، فأنه قال: "لو اكترى داراً، وشرط أن يُنفق الكراءَ على الدار، كرهتُ ذلك " وأجمع الأصحاب على حمل الكراهية من لفظ الشافعي على التحريم.
ولو وقع العقد بكراءٍ معلوم، وشرط المكري على المكتري أن يعمّر الدارَ بها، فهذا فاسد مفسدٌ أيضاًًً؛ من جهة أن قيامَ المكتري بالعمارة عملٌ منه مجهولٌ، واشتراط عمله مضموماً إلى الأجرة، يتضمن جهالةً بيّنة في العِوض.
ولو جرت الإجارة مطلقة عرية عن الشرط، ثم إن المكري وكّل المكتري ابتداءً بأن يصرف ما عليه من الأجرة إلى عمارة الدار، فهذا جائزٌ لا منع فيه.
فصل:
5344- إذا استأجر من يحفر بئراً، ولم يتعرّض لذكر المدة، ولابد من تبيين محلّ الحفر، وذكر عرْضِ البئر وعمقها، فإذا وقع الاستئجار على هذا الوجه، فأخذ الأجير في الاحتفار، فكل ما يحتفره، فهو جزء من عمله، واقعٌ مسلّم، وأثر ذلك أنه لو شرط على الأجير احتفارَ عشرين ذراعاً في عرض ذراعين، فإذا احتفر عشرة أذرعٍ ثم انهارت البئر، فانطمست، فالأجير يستحق من المسمى مقدارَ عمله.
ولا يخفى أن التوزيع لا يقع على أذرع العمق في العرض المذكور، حتى يقال: إذا كان المشروط عشرين ذراعاً، وقد احتفر عشرة أذرع، فنجعل ذلك في مقابلة نصف الأجرة المسماة. هذا لا سبيل إليه. ولكنا نوزّع المسمى على أجرة المثل فيما عمل، وبقي. فإن قيل: أجر مثل ما بقي خمسةَ عشرَ درهماً، وأجر مثل ما حفر خمسةُ دراهم، ولا شك أن العمل يكثر كلما ازداد عمقُ البئر، فيستحق الحافر من المسمى ربعَه، والأذرع المذكورة في توزيع الأجر عليها كالأيام في مدة الإجارة في الدور والمساكن، مع وقوع بعضها في المواسم.
5345- ولو انتهى الأجير في حفره إلى موضع صلب يخالف ما كان يعمل فيه، فإن كانت المعاول والفؤوس تعمل في الكُدية، فعلى الأجير أن يعمل.
وهذا الفن من التفاوت يقع في أمثال هذه الإجارة، فيحتمل، من جهة أن الضبط في قبيله غيرُ ممكن، ومبنى تصحيح الإجارة على الضرورة والحاجة.
ولو كانت المعاول لا تعمل في محل الإكداء، وكان الأجير يحتاج إلى استعانة بإيقاد النار على الكُدية، فليس على الأجير ذلك؛ فإن هذا مجاوزةٌ لحد الحفر المطلق.
5346- ولو استأجر أجيراً ليحفر، واعتمد في الإجارة ذكر المدة، فقال: تحفره في بياض هذا النهار، فلا حاجة-ومعتمد الإجارة المدة- إلى إعلام العمق والعرض؛ فإن الإجارة وردت على عين الأجير، والمطلوب منه عمل الحفر في المدة المقدرة.