فصل: كتاب إحياء الموات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب إحياء الموات:

قال الشافعي رحمه الله: "بلاد المسلمين شيئان عَامرٌ وموات... إلى آخره".
5566- الأصل في الكتاب السنة والإجماع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضاًً ميتةً، فهي له». وقال صلى الله عليه وسلم: «مَوتان الأرض لله، ولرسوله، ثم هي لكم مني أيها المسلمون». وأجمع المسلمون على الأصل، وإن اختلفوا في التفاصيل.
5567- ثم ابتدأ الشافعي، فقسم الأراضي، وعبر عنها بالبلاد على دأب العرب، وأراد بالبلاد الأراضي.
والتقسيم الجامع فيها أن نقول: الأراضي تنقسم إلى أراضي بلاد الإسلام وإلى أراضي بلاد الكفر، فأما أراضي بلاد الإسلام تنقسم إلى عامر وغامر، فالعامر لأهله، وكذلك حقوق الأراضي، وسأجمع إن شاء الله قولاً شافياً في حقوق الأملاك.
وأما الغامر، فقسمان، قسمٌ لم يجرِ عليه ملكٌ في الجاهلية والإسلام، وهو المَوَات الذي يُملك بالإحياء. وغرض الباب بيان أحكامه، إن شاء الله عز وجل.
وقسم جرى عليه ملكٌ، وذلك ينقسم: قسمٌ جرى عليه ملك، ثم درست العمارة، فهو ملكٌ لمالكه، والأملاك لا تزول بزوال العمارات.
فإن كان مالكه متعيّناً، لم يخف حكمه.
وإن تطاول الزمن، وأشكل المالك في فترات وانجلى لأهل النواحي، فهو ملك لمسلم غير متعيّن، والأمر فيه مفوّض إلى رأي الإمام، فإن رأى أن يحفظه ليتبيّن مالكه، أو وارثه، فَعَلَ، وإن رأى أن يبيعه، ويحفظ ثمنه على مالكه، فيفعل من ذلك ما يرى النظر فيه. ثم إن أراد أن يستقرض ذلك على بيت المال، فله ذلك.
ولعلنا نستقصي ما يتعلّق بالفقه من أحكام الإيالة في موضعٍ نوفق له، إن شاء الله تعالى، وأراه لائقاً بأدب القضاء.
هذا إذا كانت الأرض ملكاً للمسلمين، فدرست عمارتها، وغاب ملاكها.
5568- فأما إذا كان على الأرض عمارة جاهلية، وقد خفي الأمر، ولم يدر كيف جرى استيلاء المسلمين عليها؟ فإذا استبهم كما وصفناه، ففي تملكه بالإحياء قولان منصوصان للشافعي:
أحدهما: أنها تملك كما يملك ركازُهم، وإن لم يُدر كيف الاستيلاء، فإن آثارهم القديمة لا معوّل عليها، ولا حُرمة لها.
والقول الثاني- لا تملك بالإحياء؛ فإنها ليست مواتاً، بل قد جرى الملك عليها، والموات هو الذي لم يجر عليها ملك قط. وهذا القائل ينفصل عن الركاز، ويقول: هو عرضةُ الضياع، فلو لم يأخذه أول واجدٍ، لأخذه غيره. ونحن نرى تمليك الملتقط اللقطة، وإن علمناها لمسلم، لقربت مما ذكرناه، كما سيأتي مشروحاً، إن شاء الله تعالى.
فأما ا"لأرض، فلا نخشى فواتَها، ولا نتوقع الاستزلال فيها.
ثم من لم ير إحياءها، فإن أمكن معرفة كيفية الاستيلاء، أحدثنا الحكمَ على مقتضاه، فإن كان الاستيلاء عَنوة، سُلك بالأرض مسلك المغانم، ثم حصة الغانمين تلتحق بملك المسلم الذي لا يُدرى، وسبيله سبيل الضوالّ. وإن عرفنا أن الاستيلاء من غير إيجاف خيلٍ وركاب، فسبيله سبيل الفيء، وإن أشكل الأمر، لم يخرج عن ملكٍ جُهل مالكه سواء كان من الغانمين أو من المرتزقة.
والذي أراه في ذلك أنه إذا كان إدراك كيفية الاستيلاء ممكناً، فلا يلتحق هذا بصورة القولين، وإنما القولان فيه إذا عرفنا أن العمارة جاهلية، وأشكل علينا دخولُها تحت أيدينا.
5569- وذكر الشيخ أبو علي أن العمارة إذا تقادمت، وانتهت إلى عصر عادٍ وثمود، في الأمم السالفة، فلا حكم لها، وهي ملتحقة بالموات قولاً واحداً، واحتُج عليه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "عادي الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم مني أيها المسلمون"، فعلى طريقه لو تفاحش التقدّم والتقادم، فلا حكم له، وقد أوضحتُ أن العمارة الجاهلية إذا قربت، وأمكن استدراك كيفية الاستيلاء من التواريخ، فيتعين الحكم بما يظهر في ذلك. وإن استبهم الأمرُ فيخرّج القولان حينئذٍ، ولعل المرعي في التقدم الذي ذكره الشيخ أن يكون بحيث لا ينتهي إليه ضبطُ ناقلٍ، إلا على إجمال.
وما ذكره ليس متفقاً عليه. ومعظم الأصحاب على مخالفته، والمصيرِ إلى طرد القولين، مهما رأينا عمارة جاهلية.
وإذا لم نر أثرَ عمارة أصلاً، وقلنا إنه الموات الذي يُملك بالإحياء، فلسنا نشترط فيما ذكرناه في ذلك العِلْمَ والدرْك الحقيقي؛ فإنا لا نبعد أن ذلك الذي نقدّره مواتاً كان مملوكاً قبلُ، ولكن يكفي ألا نرى أثرَ عمارةٍ، ولا نراه من حقوق موضعِ أثرِ عمارة الإسلام، ولا نعلم أنه كان عامراً فدرست عمارته بسبب من الأسباب، وإنما نُجري أحكام الأملاك دواماًً وابتداء على الظواهر، ولا يتصور مُدرَك القطع فيها.
هذا بيان أراضي بلاد الإسلام في غرضنا المتعلق بالتقسيم.
5575- فأما أراضي بلاد الشرك، فإنها تنقسم إلى عَامرٍ، وموات. فأما العامر فملك الكفار، وإن استولينا عليها قهراً، كانت غنيمة، وإن انجلَوْا عنها مرعوبين من غير قتال، فهو فيءٌ إذا ثبتت الأيدي عليها.
فأما الموات في دار الحرب، فقسمان: قسم كانوا يذبّون عنه، ويحامون، وقسم لا يذبون عنه.
فأما ما كانوا يذبون عنه، فإن استولينا على ديارهم، نُظر: فإن جرى الاستيلاء عَنوة عن قتال واقتهار، فكل من له حقٌّ في المغنم يصير فيه بمثابة المتحجّر، وسنذكر أن من يحجِّر موضعاً ليُحييه، فهو أولى به.
وإن كان الاستيلاء من غير قتالٍ، فأهل الفيء في ذلك الموات بمثابة المتحجرين، كما ذكرنا. وسيأتي بيان التحجُّر، ومعناه، وحكمه.
وإن كانوا لا يذبّون عن ذلك الموات، فهو مما يشترك فيه كل محيي، فإن أحياه مسلم، ملكه، وإن أحياه كافرٌ ملكه؛ فإنه ليس من بلاد الإسلام، حتى يمتنع إحياؤه على الكفار، كما سنذكره من بعد.
5571- ومما يتعلق بذلك أنا إذا قررنا طائفةً من الكفار على بلدةٍ لهم صُلحاً، ووضعنا الأمر على ألاَّ نتعرّض لديارهم ويقبلوا الجزية، فإذا كان ببلدتهم مواتٌ، وكانوا يذبّون عنه، كما قدّمنا وصفه، فليس للمسلمين إحياء مواتهم، كما ليس للكفار إحياءُ موات بلاد الإسلام؛ فإن موات بلدتهم منسوبٌ إليها، كما أن موات بلاد الإسلام منسوب إلى بلاد الإسلام.
وليس هذا الذي ذكرناه على حد التحجّر؛ فإن التحجر لا يُثبت حكماً دائماً، ومن تحجر ثم توانى، بطل حقُّه، والاختصاصُ الذي ذكرناه دائمٌ للكفار في البلدة المختصة بهم، وللمسلمين في موات بلاد الإسلام، ثم الموات الذي يملك بالإحياء في بلاد المسلمين يختص به المسلمون، فلا يملكه أهل الذمة إذا أحْيَوْه، خلافاً لأبي حنيقة.
5572- ولا يتوقف حصول الملك بالإحياء للمسلم على إذن الإمام وإقطاعه، خلافاًً لأبي حنيفة.
5573- ثم قد كثرت غلطات المزني في هذا الكتاب، وبلغت مبلغاً لا يليق بمنصبه، ولا محمل لها عندي إلا شيء واحد، وهو أنه أحاط بفقه المسائل وأتى به على وجهه، وصادف في الكتاب ألفاظاً قليلةَ الجدوى في الفقه، فلعله انتسخها من نسخة، فوقع فيها بعض الزلل، والخللُ يتطرق إلى اعتماد النسخ، فممّا أُخذ عليه أنه قال: "والموات الثاني ما لم يملكه أحد في الإسلام يُعرف، فإذا لم يملكه، فهو الموات الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وهذا فيه خلل؛ لأنه جعل قوله: "إذا لم يملك" تكراراً لما سبق من قوله: "والموات الثاني ما لم يملكه " فجعلهما شيئاً واحداً. وإنما قال الشافعي: "أو لم يُملك، فهو الموات"، فجعل المواتَ الذي يملك بالإحياء قسمين:
أحدهما: لم يملكه أحد في الإسلام يعرف، وليس عليه عمارة في الجاهلية، والثاني: ما عليه عمارة في الجاهلية، فجعل المزني القسمين قسماً واحداً.
فصل:
قال: "وسواء كان إلى جنب قرية عامرة، أو نهر... إلى آخره".
5574- قصدَ الشافعي بذلك الردَّ على أبي حنيفة، حيث قال: "الموات الذي بقرب العمران لا يملكه غير ملاّك العمران بالإحياء، ومالك العمران أحق بقدر صَيْحته منه في كل جانب".
5575- فأما عندنا، فالموات القريب من العمران والبعيد سواء، إذا لم يكن من حريم العمران وفِنائه، والحقوق المعدودة من حقوق الأملاك: كمسيل الماء، ومناخ الإبل، ومراح الغنم، ومتحدّث النادي، وملعب الصبيان، وسأجمع حقوقَ الأملاك في فصل-إن شاء الله تعالى- وهو من أهم مقاصد الكتاب.
5576- والغرض الآن أن ما لا يتعلق بحقوق الأملاك من الموات يملكه من يبتدره بالإحياء. واحتج الشافعي عليه بأنه صلى الله عليه وسلم أقطع ابن مسعود موضعاً يقال له: "دور" وكان بين ظهراني عمارة الأنصار، فجاءه حيٌّ من بني زهرة يقال لهم: بنو عبد بن زهرة، فقالوا: نَكِّب عنَّا ابنَ أم عبد، قال صلى الله عليه وسلم: «فلم ابتعثني اللهُ إذاً، إن الله لا يقدس أمةً لا يؤخد للضعيف فيهم حقُّه». وأراد حقَّ الإكرام والتعظيم، وأبان أنه ضعيف في جسده، حقيقٌ بأن يعظم حقُّه، لمقامه في العلم والدين، والحق نوعان حقٌّ واجب، يُقضى ويقتضى، وحق تقديم وتفضيل.
5577- وغلط المزني، فقال: فجاء حيٌّ من بني عُذْرة، وهذا غلط؛ لأن عبدَ بن زهرة، لم يكونوا من بني عُذْرة، وإنما هم من قريش، وهم رهط عبد الرحمن بن عوف.
وغلط المزني غلطاً آخر، حيث قال: "وإن ذلك لأهل العامر". والشافعي قال: ليس ذلك لأهل العامر.
وغلط بعد هذا غلطاً آخر، فقال: "والموات الذي للسلطان"، واقتصر على هذا، وهذا كلام يستدعي جواباً، والشافعي قال: والموات الذي للسلطان أن يقطعه كذا وكذا.
فصل:
قال: "والذي عرفناه نصاً ودليلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حمى النقيع، وهو بلد ليس بالواسع... إلى آخره".
5578- مضمون الفصل الحمى، وتصويره: أن يحمي الإمامُ ناحيةً، مرعىً لإبل المصالح، ويَمنع نَعَمَ العامة عنه. وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى لخاصته ولمصالح المسلمين من نَعَم الصدقة والجزية، والضوالّ، والخيل المعدّة في سبيل الله، فلا يُنكِر حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدٌ.
5579- وهل يجوز للأئمة بعده أن يحموا؟
أما إن حمَوْا لخاصتهم، لم يجز، وإن جاز لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو إذاً معدودٌ من خواصّه، وخصائصه.
وهل للأئمة أن يحموا لمصالح المسلمين؟ فعلى قولين:
أحدهما: لا يجوز لهم ذلك، كما لا يجوز لآحاد الناس، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا حمى إلا لله ورسوله».
والثاني: يجوز، والحديث محمول على الحمى للخاصة، بدليل ما روي في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا حمى إلا لله ولرسوله وللأئمة بعده».
وصح أن عُمر حمى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الزَّبَذة، وولّى حماه مولاه هُنَيّ، وقال " يا هُنيّ ضمَّ جناحك للناس"، وعنى به تواضع ولا تتكبر، " واتق دعوة المظلوم؛ فإن دعوة المظلوم مجابة، وأدخل ربّ الصُرَيْمة والغُنيمة، وإياك ونَعَم ابنِ عوف ونعمَ ابنِ عفان؛ فإنهما إن تهْلِك ماشيتُهما يرجعا إلى نخل وزرع، وإن رب الغنيمة يأتيني بعياله، ويقول: يا أمير المؤمنين أفتاركُه أنا؟ لا أبالك، فالكلأ أهون عليّ من الدينار والدرهم " وأراد به أنه إن هلكت ماشيته، احْتجتُ إلى الإنفاق عليه من الدنانير والدراهم في بيت المال، والكلأ دونهما.
5580- ثم قال: "حمى رسول صلى الله عليه وسلم النقيع " ثم فسر النقيع، فقال: "هو بلد ليس بالواسع الذي إذا حُمي ضاقت البلاد على أهل المواشي حوله". وقال: "وإنه قليل من كثير مجاوزٌ للقدر". وهذا مختلٌّ؛ فإن الشافعي قال: "فإنه قليل من كثير غيرُ مجاوز للقدر"، وقد يتجه تصويب المزني بأن نجعل (مجاوز) نعتاً لكثير، فنكسر الزاي، فيقال: من كثيرٍ مجاوزٍ للقدر.
5581- ثم قال الشافعي: "وفي حماه-عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم- صلاحٌ لعامة المسلمين، وذكر وجهَ الصلاح.
وكان للعرب في الجاهلية حِمًى، فكان الكبير منهم يحمي لنفسه، إذا انتجع بلداً مخصباً، فكان يوفي بكلبٍ على جبل أو نشزٍ، ثم استعوى الكلبَ، ووقف له من يسمع منتهى صوته، فحيث انتهى عواؤه حماه من كل ناحية لنفسه، وهو يرعى مع العامة فيما سواه، ولا شك في فساد مثل هذا.
ثم قال المزني: ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يحمي، إن شاء الله تعالى، لصلاح عامة المسلمين. وهذا استثناء في غير موضعه؛ فإنه يتضمن شكّاً، وتردّداً، والشافعي لم يقل هكذا، ولم يذكر الاستثناء في حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: إنه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر الاستثناء، فحذف المزني الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضع الاستثناء مكانه.
5582- ثم احتج الشافعي على أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يحمي إلا لصلاح العامة، وإن جاز له الحمى لخاصته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يملك مالاً إلا ما لا غنى به وبعياله عنه، وأنه صلى الله عليه وسلم ملك خمسَ الفيء والغنيمة، وأربعة أخماس الفيء، وكان يصرف خمس الخمس إلى الكُراع والسلاح عُدّةً في سبيل الله، وينفق على نفسه وعياله من أربعة أخماس الفيء، ويدّخر منها نفقةَ سنتهم، فما فضل كان يصرفه إلى الكُراع والسلاح، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة».
وأخلّ المزني بنقل هذا اللفظ، لأنه نقل: "حتى صيّر ما ملّكه الله من خُمس الخُمس قوت سنته"، وهذا يوهم أنه كان ينفق من خمس الخمس، وليس الأمر كذلك.
والشافعي قال: "صيّر ما ملّكه الله من خمس الخمس مردوداً في الكراع والسلاح".
5583- ثم من بقية الكلام في الحمى أنا إذا جوّزنا للإمام أن يحمي، فحمى على موجب الشرع، فلو أراد إمامٌ بعده أن ينقض حمى الإمام قبله، ففي جواز النقض قولان: أحد القولين- أنه يجوز، ولعله الأصح؛ فإن حمى الإمام اجتهادٌ منه في جهة النظر، وطلبٌ لمصلحة المسلمين، فإذا رأى مَن بعده ردَّ الحمى نظراً، لم يُعترض عليه.
والقول الثاني- لا يجوز نقضه؛ فإنه في حكم المُحْرز للجهة المعيّنة، فلا سبيل إلى نقضه، كما إذا جعل بقعةً مسجداً، أو مقبرةً، فلا يجوز تغييره، وإن اقتضت المصلحة التغيير.
والقائل الأول ينفصل عن هذا، ويقول: المسجد يترتب على ملك مالك، ثم هو تصرفٌ لازمٌ، فلم يقبل النقضَ، والحمى يرد على الموات، وهو ضربٌ من الحَجْر على حسب المصلحة، فنقضُه، وردُّه إلى ما كان عليه من حكم العموم لا يشابه نقضَ تصرفات الملاك.
وأطلق الأئمةُ القولَ بأن حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يُنقض، وقالوا: إنه نصٌّ، ونصُّ الشارع لا يتطرق إليه نقضٌ، وحمى الإمام اجتهادٌ، ولا يمتنع نقض الاجتهاد. وقال قائلون فيما ذكره الأئمة، وفيما ذكره الشيخ أبو علي وغيرُه: لو ظهر لنا أن حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لعلّةٍ، ثم تبيّن زوالُ العلة، ففي ردّ حماه إلى حكم العموم وجهان أيضاًً.
ثم من جوّز الردَّ إلى حكم العموم يقول: لابد من صَدَر ذلك عن رأيٍ متَّبع، من جهة الوالي، ولا نقول: كما زالت العلة، انقطع حكم الحمى، وذلك أن هذا مختلفٌ فيه، والهجوم على مخالفة حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُخطرٌ، فلابد عند من يرى جوازَ الرد إلى حكم العموم من نظرِ صاحب الأمر، فينتظم في جواز نقض الحمى قولان في حمى الإمام، ثم وجهان مرتبان في حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
5584- ومما يجب التنبه له أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد بين الولاة والقضاة ومن جوّز نقض الحمى جوزه عن اجتهادٍ، وقد يُخيِّل ذلك أنه من باب نقض الاجتهاد بالاجتهاد قلنا: المعنيُّ بقول العلماء لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد أن القاضي إذا أمضى حكمه وقضاءه في واقعةٍ، وكان لقضائه مستندٌ من مذهب العلماء، ومتعلّق بالحجة، فإذا أراد قاضٍ بعده أن ينقض قضاءه، لم يجد إليه سبيلاً. وأما الحمى فمن جوّز نقضَه، فليس يأخذه من هذا المأخذ، ولكنه يقول: حَمْيُ الأول كان لمصلحة، فالمتبع المصلحة في كل عصر.
ثم إذا جوزنا للإمام أن ينقض حَمْي إمامٍ قبله، فيجوز للحامي أن ينقض حَمْي نفسه، إذا رأى في ذلك مصلحة، ولا يتوقف جواز النقض على ضرورة مرهقة.
فهذا منتهى الكلام ومأخذه في الحمى، وما يتعلق به ابتداءً ونقضاً انتهاءً.
ولو ابتدر مبتدر، فأحيا قطعةَ أرضٍ مما حماه، فسنذكر هذا مفصلاً، إن شاء الله تعالى.

.باب: ما يكون إحياءً:

5585- قد ذكرنا أن إحياء الموات-على التفصيل المقدّم- سببٌ يُملّكه. وهذا الباب معقود لتفصيله، وكيفيته، وليس يكاد يخفى أن صفة الإحياء تختلف باختلاف المقصود في المُحيا، والمتبع في ذلك العرفُ، وقد مهدنا في (الأساليب) وغيرِها: "أن ما ورد في الشرع غيرَ محدود، وهو ما يختلف تفصيله، فالرجوع فيه إلى العرف، وسبب اقتصار الشرع على الإطلاق الإحالةُ على ما يفهمه أهل العرف في الفن الذي ورد الخطاب فيه".
5586- فنطلق في صدر الباب أن ما يعد إحياءً عرفاً في الغرض المقصود، فهو سبب تملّك الموات، وما لا فلا.
5587- فإن أراد أن يتخد من الموات مسكناً فإحياؤها بأن يحُوطَها ويسقُف البعض بأن يتأتى سُكونه، ثم يقع استتمامُ الأبنية والمرافق بعد جريان الملك.
5588- وإن أراد أن يتخد من الأرض حظيرة تأوي إليها الأغنام، والمواشي، فقد رأيت الأصحاب متفقين في الطرق على أنه لا يكفي أن ينصب حوالي البقعة شوكاً وسعفاً، وجريداً، من غير أن يبني؛ فإنّ الزريبة التي يُقصد تملكها لا يُكتفَى بهذا التحويط فيها، وإنما يعتاد الاقتصارَ على هذا القدر المنتجِعُ المجتاز، وأيضاً فإن ما يفرض من ذلك ليس تغييراً للأرض به مبالاة، وإنما هو بمثابة نصب الأخبية والخيام، ثم لو حوّط على الحظيرة حائطاً مبنياً، فإذاك، ولو أثبت بناء في طرفٍ يأوي إليه الراعي والمراقب، وجعل الباقي حظيرةً من سعفٍ أو قصبٍ، فقد ذهب بعضُ أصحابنا إلى أن هذا كافٍ.
والمنقولُ عن القاضي وما اقتضاه كلام شيخنا أنه لا يملك صاحبُ هذه الواقعة إلا محلَّ البناء، والباقي يجري على قياس التحويط بالسعف والجريد، وليس كما إذا وُجد البناء ممن يبغي مسكناً بعد التحويط؛ فإنَّا نجعل ذلك إحياءً، تعويلاً على التحويط المعتبر مع إمكان السكون في المبنى، ونصب السَّعَفِ والقصب ليس حائطاً معتبراً.
5589- فإن أراد أن يتّخد بستاناً، فلابد من أن يحوِّط ويحفر الجداول ويهيّىء مجرى الماء إلى الأشجار. وذكر الأصحاب أنه لابد من غرس الأشجار؛ لأن اسمَ البستان لا ينطلق على الأرض البيضاء الخليّة عن الغراس. فإن أراد مزرعةً، لم يحتج إلى التّحويط فوقها؛ فإن معظم المزارع بارزٌ لا تحتوي عليه الحيطان، ولكن لابد من تمييز البقعة أوّلاً بجمع ترابٍ حولها؛ حتى تتميز عن الغير، وهذا التمييز فيها ينزل منزلة التحويط في غيرها، ثم لابد من أن يسوق إليها الماء من نهرٍ، أو يُنبط لها عَيْناً، أو يحفر بئراً، لتعتمد الزراعة الشِّرب العِدَّ، وإذا أجرى ماءً من نهرٍ عِدٍّ، كفى.
وإن كان يحتاج إلى شراء الماء؛ فإن الشرط أن يتمكن من السقي من الماء العِدّ.
5590- ثم اختلف الأئمة في أنا هل نشترط في إتمام الإحياء أن تُزرعَ وينبت البذر في الأرض؟ فمن أصحابنا من قال: لابد منه، وهو ظاهر النص، فإن الشافعي قال: "وتزرع".
ومن أصحابنا من قال: لا حاجة إلى إيقاع الزراعة؛ فإن الإحياء تهيئةُ البقعةِ للمقصود، وإيقاع الانتفاع ليس شرطاً؛ فإن من يبغي اتّخاد مسكنٍ يكفيه أن يهىء البقعة لإمكان السكون فيه، ولا يشترط في تتمة الإحياء أن يسكن.
وقد ذكرنا أن ظاهر المذهب أنه إذا أراد اتخاد بستانٍ، فلابد من غرس الفسيل، وهذا القائل يفرق بين البستان والمزرعة، ويقول: اسم البستان لا يُطلق على البقعة قبل الغرس، واسم المزرعة يثبت قبل الزراعة.
ومن أصحابنا من أجرى في الغراس والمقصودُ البستانُ خلافاً، وزعم أنه لا يشترط في وجهٍ؛ فتحصّل في الزراعة والغرس ثلاثةُ أوجه.
وذكر شيخي تردداً في أنا إذا جرينا على الأصح في اشتراط الغرس في البستان، فهل يشترط أن يَعْلَق الغراس، أم يكفي في جريان المِلْك الغرس؟ فذكر في ذلك خلافاً، والوجه عندنا القطعُ بأن العلوق ليس شرطاً.
ولا شك أنه يشترط في اتخاد المزرعة التسوية والتكريب والتقليب بالثيران والفدان، أو المساحي، هذا لابد منه، فلو عمد إلى مواتٍ، وحرثه وبذره، معتمداً على القَطْر والمطر، فقد تردد صاحب التقريب في أن هذا هل يكون إحياء مملِّكاً؟ ومال إلى أنه لا يكون مملّكاً؛ فإن هذا لا يعدّ أمراً مؤبداً معتمداً، ولا اعتماد حتى تستند البقعةُ إلى ماءٍ يعتمد، كما قدمناه.
قال: ويحتمل أن يحصل الملك؛ فإن المطر من جهاتِ السقي، ويحتمل أن يفصّل الأمر في ذلك رجوعاً إلى العرف، ويقال: إن كان أهل الناحية يعتمدون المطر. ويتّكلون عليه، فيكون ما فعله إحياء، وإن كانوا لا يعتمدون المطر، فمن فعل ما وصفناه عُدَّ طالباً رزقاً على غرر، فهذا محلّ تردد صاحب التقريب.
فإن قيل: هلاّ قطعتم في الصورة الأخيرة بأنه لا يملك لما أشرتم إليه، قلنا: لأن المزرعة تنقسم في عرف الزرّاعين، فمنها مزرعةٌ أصلية تعتمد ماءً عِدّاً، ومنها مزارع مهيّأة على الأمطار.
5591- فهذه جُملٌ من كلام الأصحاب فيما يكون إحياءً وفيما لا يكون إحياءً.
ومجاري كلامِ الأصحاب دالّةٌ على اختلاف صفةِ الإحياء باختلاف المقصود في المحيا.
5592- وكنت أود أن نقول: كلُّ ما يحصِّل الملكَ في بُقعةٍ إذا انضم إليه القصد، فإنه يحصِّل الملك، وإن فُرض القصدُ في جهةٍ أخرى.
والذي أراه في ذلك الاستشهاد بالحائط، فالتحويط يملِّك البقعةَ إذا انضم إليه قصدُ اتخاد الحظيرة، فليكفِ مجردُ التحويط في كل غرضٍ يفرض. وقد وجدتُ هذا لصاحب التقريب، ولكنه لم يصرح بالقاعدة التي رُمتُها، بل قال: لو قلتُ في حق من يبغي مسكناً يكفي التحويط فيه، لكان محتملاً.
5593- وإنما قلنا ما قلنا؛ لأن ما كان سبباً في تملّك مباح، فليس للقصد فيه وقعٌ، فإنّ من كان يتّبع ظبية وكان يبغي امتحانَ شدة سَعْي نفسه، فأدركها، وضبطها، ملكها، وإن لم يخطُر له قصدُ التملك. ومن احتشّ حشيشاً، وملأ ظرفاً كان معه، فقصد أن يتخد منه مقعداً يجلس عليه إذا ركب، فيملك الحشيشَ، وإن لم يقصد تملّكه، وكذلك القول فيما يداني ذلك، والمتعلَّقُ من جهة النقل فيما ذكرته ما حكيتُه من الاكتفاء بالتحويط في المسكن. والله أعلم، وإن أصرّ الأصحابُ، وهم كذلك يصرّون في تحصيل الإحياء على حسب المقاصد، فلو شبّبَ مُشبِّبٌ بالخلاف فيما استشهدتُ به في الاحتواء على الظبية والحشيش، كان بعيداً.
وقد ظهر اختلاف أصحابنا في صُورةٍ سنذكرها في الصيد والذبائح، وهي أن ظبية لو دخلت داراً فلو قام صاحب الدار إلى الباب وأغلقه، وجرّد قصده إلى أَخْذ الظبية، فهذا يثبت الملك في الظبية، وإن اتّفق منه إغلاق الباب من غير قصدٍ، ففيه اختلافٌ بين الأصحاب، وسيأتي مشروحاً في موضعه، إن شاء الله تعالى.
5594- والذي ذكرته يجري في كل سبب يشترك فيه وجهان فصاعداً، وهذا كالتكريب، والتقليب، والتسوية، فهذا القدر يكفي في المزرعة، مع تمييز البقعة، والاعتمادُ على ماءٍ؛ عِدٍّ كما وصفناه، وما ذكرناه مقدمةٌ لاتخاد البستان، فيتجه جداً الحكمُ بحصول الملك. ثم العَامل على قصده في استتمام العمارة، والدليل عليه أنه لو كان يبغي بستاناً تَمَثَّلَه في نفسه، وهو على نهاية العمارة، فلا يشترط أن يبلغها، حملاً للعمارة على قصد العامر، وهذا نبنيه على وجهٍ من الرأي مع تشبّثٍ بطرفٍ من النقل، مع الاعتراف بأن طريقة الأصحاب في المسلك الظاهر ما قدمناه.
5595- ومما يدور في الخَلَد أن الحائط له أثر في اتخاد المسكن، والبستان، والحظيرة، كما أطلقه الأصحاب، ثم لم يتعرضوا لتفصيل الحيطان، ولا نشك أنها تختلف باختلاف المقاصد، فحائط المسكن يزيد على حائط الزريبة، والمعتبر في كل مقصود ما يليق به، فالساكن يزداد قصدُه في التحصين بالجدار على قصد صاحب البستان.
5596- ومما نختتم به هذه الفصول أن من استفتح حائطاً، وأحكم الأساسَ ورفع منه مقداراً مثلاً، ولم يكن ذلك المقدار حاجزاً، فلا يحصل الملك به، فإذا لم نجعله مالكاً، جعلناه متحجراً، كما سنصف على أثر ذلك التحجرَ وحكمَه، فإذا أضرب عن استتمام العمارة، وتبين ذلك منه، فأراد إنسان أن يعمر تلك البقعة، واحتاج إلى نقض ما بناه ذلك الأول، فهذا سائغٌ، وأرى ذلك مشروطاً بالتزام الضمان في النقص الذي يُحدثه القلعُ؛ فإن الذي بنى كان له أن يبني، وكلُّ من بنى بناءً مباحاً، ثم تسلّط الشرعُ على نقضه، فعلى الناقض أرشُ ما ينقصه القلع.
وتمام البيان في هذا يتضح بفصل التحجر كما سنذكره الآن إن شاء الله.
فصل:
قال: "ومن أُقطع أرضاًً أو تحجّرها، فلم يعمُرها... إلى آخره".
5597- اتفق أصحابنا أولاً أن لإقطاع الوالي مساغاً في الأراضي الموات، وليس الإحياء مشروطاً بالإقطاع، كما ذهب إليه أبو حنيفة، فمن ابتدر وأحيا بقعة من الموات، ملكها، وإن لم يراجع الإمامَ، ولا معترضَ للأئمة فيما فعله، ولكن إذا جرى إقطاعُ صاحب الأمر، اختُصّ المقطَع بمحل الإقطاع، حتى لا يزاحمَ فيه اختصاص المتحجر. والتحجُّرُ أن يبتدىء الرجل تحقيقَ قصده في إحياء بقعةٍ، فينصب عليها علامة، بأن يخط حولها خطوطاً بيّنةً، أو يغرز خشباً وقصبات، أو يجمع حولها تراباً، وليس ما يأتي به محسوباً من العمارة، وإنما يفعله إعلاماً أنه يهمّ بالعمارة حتى لا يقصد البقعةَ مبادرٌ.
هذا هو التحجر. وغرضُه الإعلامُ، فيحصل بما يحصل به الإعلام.
5598- ثم ليس لغير المتحجّر أن يعمُر الموضعَ المتحجَّر، فإن ابتدره وعمَره مع كونه ممنوعاً، فهل يملك البقعة بالإحياء المعتبر التام؟ حاصل ما ذكره الأئمة أوجهٌ ثلاثة:
أحدُها- أنه لا يملك؛ فإنّه أقدم على إحياءٍ هو ممنوعٌ منه، فكان مقتضى المنع إعدام أثر الإحياء.
والوجه الثاني- أنه يملك، وهو ظاهر القياس؛ فإنه لم يوجد من المتحجِّر إلا إظهارُ همّه بسبب التملك، وليس ما جاء به محسوباً من السبب، وهذا الذي أكمل الإحياء أتى بسبب التملك، وهذا بمثابة تحريمنا السّوْمَ على السَّوْم والخطبة على الخِطبة، ثم لو سام على سَوْم أخيه، واشتراه، ملَكه، وإن فعل ما لم يكن له أن يفعله.
والوجه الثالث: أن التحجر إن لم يتصل بإقطاع الإمام، ملك المحيي، وإن أقطع الإمامُ فتحجر، أو وجد الإقطاع المجرد من غير تحجر، فالمُحيي لا يملك؛ فإن الإقطاع صادر من صاحب الأمر، ولا يليق بتأكيد الشرع طاعةَ الولاة تجويزُ الخروج عن مراسمهم. والتحجر الذي ينفرد به المتحجر يجوز أن يُفرض مزاحمتُه.
5599- ولو تحجر المتحجر، ثم طال الزمان، وامتدت المدة، وأعرض عن العمارة، فللوالي أن يقول: إن أحيَيْتَها، وإلا خلّينا بينها وبين من يُحييها، فإن الموات مُرصدٍّ لعامّة المسلمين، وإنما ثبت حق المتحجِّرِ فيه؛ لأنه ذريعةٌ إلى العمارة، فإذا طال الزمان، بطلت الذريعة.
ثم لا يتوقف بُطلانُ التحجر على إبطال الوالي، وإنما نؤثر رفعَ الأمر إلى الوالي لقطع الخصومة، وإلا فالحكمُ أن التحجرَ إذا بطل أثره، فلا حكم له، حتى إذا قلنا: لا يملك المُحْيي البقعةَ المتحجرة، فيُقضَى بأنه يملكها إذا ظهر انقطاعُ أثر التحجّر.
ثم لا مرجع في ذلك إلى ضبطٍ محدود، وإنما الرجوع إلى أهل العرف، والذي نفهمه منه أن الإنسان لا يؤخر العمارة عن التحجر إلا في زمانٍ يتهيّأ فيه للعمارة، ويهيِّء أسبابَها. والوجه فرض ذلك من متمكن من تهيئة أسباب العمارة، فإذ ذاك يعتبر زمان التهيؤ، فأما إذا تحجر فقيرٌ بقعة، وأخد ينتظر أن يُملّكه الله عزّ وجل ما يهيّىء به أسباب العمارة، فهذا لا معوّلَ عليه، وكذلك لو تحجّر المتمكن بقعةً، وزعم أنه سيعمُرُها في السنة القابلة، فلا حكم لتحجّره، والأصلُ ألا ينفصل التحجرُ عن العمارة إلا بمدة التهيُّؤ.
وإذا حصل الانقطاع، فلا فرق بين أن يكون هذا عن عذر: مثل أن يغيب أو يُحبس، وبين أن يكون عن إضرابٍ وإعراضٍ، والأصل في الباب أن عامة المسلمين مشتركون في الموات، وأثر التحجُّر ما نصصنا عليه. فإذا زال أثرُ التحجّر ووقعُه، استمر حكمُ الاشتراك، وهو الأصل، وإذا أقطع الإمام بقعةً فالمُقطَع فيه كالمتحجِّر، فليشتغل بالعمارة، على حدّ اشتغال المتحجّر، فإن لم يفعل، كان القول فيه كالقول في المتحجر في جميع ما قدمناه.
وبَيْن أئمتنا الخلافُ في أن من ابتدر وأحيا البقعة المتحجَّرة قبل ظهور التقصير من المتحجِّر، فهل يملك بالإحياء؟ على خلاف سيأتي في الصيد، وهو أن ظبيةً لو توحّلت في ملكٍ لإنسان، أو عشَّش طائرٌ في ملكه، فصاحب الوحل والملك الذي فيه العُش لا يملك الظبيةَ والفرخَ، ولكن ليس لغير المالك أن يأخد الصيدَ والفرخَ، فلو أخذه هل يملكه؟ فيه خلافٌ سيأتي مشروحاً، إن شاء الله تعالى.
ووجه التشبيه أن التوحّل والتعشيش في الملك أثبت للمالك على الجملة حقّاً، والاصطيادُ سببٌ للتملك، فإذا ورد على حق التملك، كان مختلفاً فيه، كالتحجُّر مع الإحياء.
5605- ومما يتصل بتمام البيان في ذلك أن المتحجِّر إذا أخد في العمارة، وكان تمهّد الأساس، أو بنى بعضَ الجدار، فقد ذكرنا أن هذا القدرَ لا يُثبت له الملك، ولكن لو ابتدر مبتدر إلى إحياء هذه البقعة، يجب القطع بأنه لا يملكها؛ فإن السابق إلى العمارة أولى، فقد تأكد حقُّ تملكه. والخلاف الذي ذكرناه في الابتدار إلى عمارة البقعة المتحجرة، فسببه أن العمارةَ أقوى، وإن كان التحجر أسبق، فرأى بعضُ الأصحاب تقديمَ السبب الأقوى على الأسبق؛ فإن التحجر ليس من العمارة، وإذا ابتدأ العمارة في مسألتنا، فله حقُّ السبق، والتمسكُ بالسبب الأقوى.
5601- ومما يتعلق بذلك أن الإمام إذا حمى بقعةً، وصححنا الحمى، فلو ابتدر مسلمٌ، وأحيا طرفاً من المكان المحمي، فقد اختلف أصحابنا في أنه هل يملكه؟ وهذا يقرب من الخلاف في إحياء الأرض المتحجِّرة، ولعل الأولى في الحمى ألا يملك؛ فإنه حكمٌ ثابت، وليس في حكم العلامة على ما سيكون، بخلاف التحجر.
5602- وقد ذكرنا في قاعدة المذهب أن المسلمين إذا استولَوْا على موات بلاد الشِّرك، وكان المشركون يذبُّون عنه كما يذبّون عن عامر البلاد، فالغانمون فيه كالمتحجّرين. وذكر الشيخ أبو علي وجهين آخرين:
أحدهما- أنهم يملكون الموات إذا قصدوا تملّكه، كما يملكون المغانم؛ فإن الإحياء إثباتُ يدٍ على الاختصاص على الأرض المشتركة، فإذا ثبتت أيدي الغانمين، وظهر قصدُهم إلى الاستيلاء، كان ذلك بمثابة الإحياء، وليس يبعد أن يملكوا بالاستيلاء ما لم يكن ملكاً قبل استيلائهم، كما يملكون الحرائر، والذراري بالسبي.
والوجه الآخر- أنه لا يثبت لهم اختصاص بالموات، وإن اختصوا بالاستيلاء، ولا ينزلون منزلة المتحجِّرين أيضاًًً، بل المسلمون كافة في إحيائها شَرَعٌ؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم علق ملكَ الموات بالإحياء، وحقَّ التخصيص بالتحجر، ولم يوجد منهم إحياءٌ، ولا تحجّرٌ.
فقد تحصَّلَ مما ذكرناه، مع ما قدمناه ثلاثة أوجه:
أصحُّها-وهو الذي قطع به معظمُ الأئمة- أن المستَوْلين بمثابة المتحجّرين.
والثاني: أنهم في الموات بمثابتهم في المغانم.
والثالث: أنه لا حقَّ لهم، ولا اختصاص.
وهذا فيما كانوا يذبّون عنه، فأما إذا كانوا لا يذبّون عن موات بلادهم، فقد تقدم التفصيل فيه، فلا مزيد عليه.
5603- ومما ذكره الأئمة أن المتحجِّر لو باع ما تحجَّره، ففي صحة بيعه وجهان: أصحهما- المنعُ؛ فإن البيع يستدعي ملكاً ثابتاً، والتحجّر لا يقتضي ملكاً للمتحجّر.
والوجه الثاني- أنه يصح، ومورده حقُّ الاختصاص، وهذا القائل يستشهد ببيع حق البناء على العلوّ، كما قدمناه في كتاب الصلح. وهذا عند هذا القائل بيعُ حق مللكٍ، وليس بيعَ عينٍ مملوكةٍ من العلوّ، وقد قدمنا تفصيلَ القول في ذلك. وتصحيحُ البيع من المتحجِّر في نهاية الضعف.
5604- ومما أرى ختمَ الباب به أن الجهة التي لا تردد فيها في قصد التملك، لا حاجة إلى فرض القصد فيها، وهذا كبناء الدار، والمساكن، وكاتخاد البساتين، والتحويط عليها، وكل ما يقصده المتملك.
5605- وقد يقع ممن يطلب انتفاعاً" ثمّ إعراضاً بعده، كالزرع في بقعةٍ من الأرض على القَطْر-وكان أهل البادية يعتادون ذلك- فهذا مما يستدعي قصداً، وكذلك حفر البئر في المفاوز، ومواضع العشب، قد يفعله المنتجِع وقد يفعله المتملك، فإذا تردد الأمر، فلابد من القصد.
5606- وكل ما " لا " يقتصر عليه المتملك أصلاً؛ لم يتضمن ملكاًً، وإن انضم القصدُ إليه، وهذا كتسوية بقعة للنزول فيها، فهذا وإن قصد به المسوِّي تملكاًً، لا يكون تملّكاً.
5607- وهذه القواعد في النفي والإثبات تضاهي نظائرها في الاصطياد، فمن نصب أحبولة، وهيأ أسبابها على مدارج الصيود، فهذا مما لا يقصد به إلا الاصطياد، فلا حاجة إلى تقرير ضمِّ قصدٍ إليه. وإغلاقُ الباب على الصيد إذا اتفق دخولُه الدارَ مما يُقصد على علمٍ، وقد يقع من غيرِ علمٍ، فإن كان على علمٍ وقَصْدٍ، أفاد تملكاًً، وإن لم يجرِ به قصدٌ، ففي الملك وجهان.
ونحن نطرد هذه المسالك في الإحياء، فما لا تردد فيه، فلا حاجة إلى القصد فيه، حتى كأنه من قبيل الأفعال يضاهي التَّصريحَ من قبيل الأقوال.
وما يتردَّدُ إذا انضم إليه قصدُ التملك، كان تملّكاً، وإن لم ينضم إليه القصدُ، ففي حصول الملك به وجهان.
وما لا يقصد به التملك لم يؤثِّر انضمامُ القصد إليه، فيناظر توحّلَ الظبية في الأرض المسقيّة، ويضاهي من الألفاظ ما لا يحتمل معنى الطلاق.
هذا حاصل القول في قواعد الباب.
فرع:
5608- موات الحرم يُملك بالإحياء؛ فإن جهات التملكاًت جارية عندنا في الحرم، جريانَها في غير الحرم، وما ملكت رِباع مكة إلا على هذه الجهة.
ولو أحيا المُحيي بعضَ بقاع عرفة، فقد اضطرب أصحابنا فيه، فذهب القياسون إلى أنه يملك ما أحياه، ولا تضيق عرفةُ وإن اختلت أطرافها عن حجيج الدنيا.
ومن أصحابنا من قال: لا يَملك المُحيي من عرفةَ شيئاً، لتعلق حق الوقوف بها؛ وإذا فتحنا بابَ التملك، ارتفع الاختصاص، وقد يُفضي ذلك إلى الاستيعاب، ثم لا حجرَ على المحيي لو بنى، أو غرس وهذا يؤدي إلى إبطال حق الوقوف من البقاع المحياة.
والوجه الثالث: أن من أحيا مواتاً من عرفة ملكه، ويبقى حقُّ الوقوف للواقفين، ثم اضطرب أصحابنا في تفصيل هذا الوجه، فمنهم من قال: يبقى حقُّ الوقوف، وإن لم يضق الموقف، حتى لو قصد الموضعَ المحيا رهطٌ من الحجيج، لم يُمنعوا.
ومنهم من قال: إن كان في الموقف متسعٌ، لم يجز استطراق ما مُلك، وإن ضاق الموقف، استُطرِقت الأملاك.