فصل: باب: ما يجوز أن يُقطع وما لا يجوز:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: ما يجوز أن يُقطع وما لا يجوز:

قال: "ما لا يملكه أحد من الناس يُعرف صنفان... إلى آخره".
5609- وقد أتى المزني بألفاظٍ مضطربة في صدر هذا الباب، وجاوزت غلطاتُه في الكتاب حدَّ العثرات، ولو قيست مواضع غلطه بمواقع إصابته، لعادلتها، إن لم تزد.
قال: "ما لا يملكه أحدٌ من الناس يُعرف صنفان:
أحدهما: ما مضى، ولا يملكه إلا بما يستحدثه فيه، والثاني: ما لا تُطلب المنفعة فيه إلا بشيء يجعل فيه"، عَنَى بالأول المواتَ؛ فإنه غير مملوك قبل الإحياء، وإنما يملكه المحيي بأن يجعل فيه شيئاً، وعنى بالثاني المعدن، غيرَ أنه غَلِط، إذ قال: "لا تُطلب المنفعة فيه إلا بشيءٍ يُجعل فيه " وهذا والأول واحدٌ. والشافعي قال: "
والثاني: ما تُطلب منفعتُه، لا بشيء يجعل فيه، وهذا صفة المعادن".
5610- ثم مقصودُ هذا الباب الكلامُ في المعادن الظاهرة، ونحن نقول: المعادن تنقسم، فمنها كامنة، وفيها بابٌ معقودٌ سيأتي، إن شاء الله تعالى، ومنها ظاهرة، والكلام يتعلق بتصوّرها، ثم بيان الحكم فيها.
فأما القول في تصويرها: فالمعادن الظاهرة هي التي نيلُها ظاهر بادٍ، لا حاجة إلى عملٍ في إظهار نيلها، ثم قد يسهل أخذُ نيلها على يُسر، وقد يعاني الآخد بعضَ المشقة في الأخذ، لا في إظهار النَّيل، والقسمان جميعاً من المعادن الظاهرة، فمنها معدن الملح، وهو ينقسم إلى ما ينعقد من ماءٍ ظاهرٍ، وإلى ما يُلفى في الجبال ظاهراً من غير حاجة إلى إظهاره بتنحية التراب والأحجار عنه، والقِيرُ ظاهر، وكذلك النَّفطُ، والكبريت، والموميا. ويلتحق بالمعادن الظاهرة المياه العِدّة، وهي العيون والأودية، ومن المعادن الظاهرة الأحجار ذوات المنافع الخاصة، كأحجار الأرْحية، وأحجار البَرام، فإذا كانت ظاهرةً، فهي من المعادن الظاهرة، وإن كان يتعب آخذها باحتفارها وقلعها، وألحق الأئمة بالظاهر ما لو ظهر في مسيل الماء ذهبٌ أو غيره من الجواهر المطلوبة، مما يجرفه السيل وسال به، وأظهره، فهو الآن بمثابة المعادن الظاهرة.
هذا بيان التصوير.
5611- فأما الحُكم، فالأصل في الباب أن هذه المعادن مشتركة بين الناس لا يتطرق إليها اختصاصٌ بمالكٍ بوجهٍ، ولا يتطرق إليها تخصيصٌ بإقطاعٍ، بل الخلقُ فيها شَرَعٌ، وهي فوضى بينهم لا تحجّر فيها، ولا تملك، ولا إقطاعَ، والأصل في ذلك مع الإجماع ما روي أن أبيض بنَ حمال استقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملحَ مأرب، فأقطعه إياه، أو أراد، فقيل: يا رسول الله إنه كالماء العِدّ، فقال عليه السلام: «فلا إذاً»، وإنما همَّ عليه السلام بالإقطاع لأنه لم يحسبه ظاهراً، وقدّره من المعادن الكامنة، فلما تبيّن له ظهوره، أبى من الإقطاع.
5612- فإذا تمهد ما ذكرناه من حقيقة الاشتراك فيها، فللسّابق إليها حقٌّ لا ينكر، وقال الأئمة: من سبق إلى معدنٍ من هذه المعادن، فهو أحق بها حتى يستوفي حقَّه، لا يزاحمه من يلحقه، وهذا لا موقف فيه يقف الفقيه عنده، ولا توقيف من جهة الشرع يُنتهَى إليه، غيرَ أنا نعلم أن السابق لِحَقِّ سبقه مزيّةٌ، فلو قال الذي يلحقه: نشترك في أخْذِ النّيل، فيأخد وآخُذ، قيل: هذا إبطالٌ لِحَقِّ السبق، وقد اتفق العلماء على ثبوته، وهذا بمثابة إثباتهم حقَّ السبق لمن يسبق إلى مجلس القاضي؛ فإنه يُقدّم بحكومته لحق سبقه، وكذلك السابق إلى المفتي، والعالم المعلِّم.
ولو قال السابق: أُوقر من نيل المعدن أوقاراً كثيرة وأرُدّ الحُمُرَ ذاهبة وجائية، وأنا في ذلك لا أبرح حتى أقضي وطري، قلنا: ليس لك إلا ما يقتضيه العرفُ لأمثالك إذا سبق، فلك ما يعتاده السابق الذي يبغي الرفعَ والانكفافَ، ولا عليك لو استعنت على الاعتياد، فأما ترديد الدواب، فمحاولةٌ للاختصاص بالمعدن، ثم لا ضبط في جهة النهاية، وهذا كما أن السابق إلى مجلس القاضي لا يقدّم إلا بحكومةٍ واحدةٍ؛ إذ هذا هو المعتاد في المجلس الواحد بلا مزيدٍ.
ولو تكلّف السابق إلى المعدِن جمْعَ مائة حمار فصاعداً، وهذا لا يعتاده الرجل السابق إلى المعدن، لم يمكّن من هذا، فليس له إذاً إلا ما يليق به. لا يزاحمُ في النَّيْل حتى يستوفيه، وأثر سبقه أن يتخفف ويأخد اللائق بحاله، على قربٍ من غير مزاحمة، فإذا فعل، لم نمنعه من أخد النيل أيضاًًً، ولكنه يزاحمه غيرُه؛ فإنه استوفى حقَّ سبقه، وصار في الزائد عليه كغيره، فلو عكف على المعدن، وكان لا يبرح، ولا يمتنع من أن يزاحَم، ولكن كان يأخد مع الآخذين، فالمذهب أنه لا يُمنع منه.
5613- وذهب بعضُ الأصحاب إلى أنه يُمنع ويُنحَّى؛ فإنه في عكوفه مجاوزٌ لعادة
الآخذين من نيل المعدن، والأصح الأول؛ فإن الازدحام غير منكر في نيل المعادن، ولو كان يبتكر إلى المعدن كلَّ يوم، أو كان يبعث إليه غلمانه يتناوبون، فلا منعَ.
5614- ولو استبق رجلان إلى المعدن، فإن استمْكنا من الاشتراك في أخد النيل، اشتركا فيه، وإن ضاق مدخل المعدن، ففي المسألة وجهان:
أحدهما- أنه يُقرع بينهما، فمن خرجت قرعته، قُدّم، فيستوفي حقَّه على ما فسرناه في حق السابق، والقرعة تُلحقه بالسابق، كما إذا ازدحم رجلان على مجلس القاضي، فإنا نقرع بينهما، فمن خرجت قرعته، قدم، كما نُقدِّم السابق.
والوجه الثاني- أن الإمام يقدّم بالاجتهاد أحدَهما، من غير قرعة.
وذكر أصحابنا مسلكاً ثالثاً، فقالوا: ينصب القاضي من ينوب عنهما، ويأخد قدرَ ما يحتاجان إليه، ويقسم بينهما.
وهذه الأوجه تحتاج إلى مزيد بحث. أما وجه القرعة، فبيِّنٌ، وأما تقديم القاضي، فليس يستند إلى تَشَهٍّ، وإلى وفاقٍ في انطلاق اللسان، وإنما يرجع إلى رأي، فإن خفي، مثل أن يرى أحدَهما أفقر وأضيق وقتاً، فيقدمه لهذا، فإن استويا عنده، اضطر إلى القرعة، إذا دام نزاعُهما.
ثم ما أشرنا إليه من وجوه الرأي لا يجوز أن يستمسك به المستبقان؛ فإن الرأي يدِق فيه، فهو مفوضٌ إلى من إليه الأمر، وأما ما ذكره بعض أصحابنا وجهاً ثالثاً من استنابة إنسان، فهذا إذا وجدنا متبرعاًً، أو رضيا بأن يستأجرا، فإن لم يرضيا، ولم نجد متبرعاًً، فالقرعةُ، فهي إذاً مآل كل مسلك، وهي المفتتح في الوجه الأول.
5615- ومن تمام البيان في ذلك أنهما إذا استبقا، والنَّيلُ غيرُ عزيزٍ، فلو أخذا يبتدران النيلَ، فقد يأخد أحدهما أكثر، فيُمنع من هذا، فليس الأمر بالتسالب، وليس كتناهب اللاقطين، لما يُنثر؛ فإنّ قصد الناثر أن يبتدره المتناهبون، والشرع يشير إلى الانتصاف، فإذا تنازعا، وقد ضاق النيل، فالتسوية، إلا أن يتسامحا.
5616- ومما يتصل بذلك أن العين العِدّ لو احتفّ به ناسٌ سبقوا إليه، واتخذوا بساتينَ ومزارعَ، وكان الماء كافياً، وافياً، من غير مزيد، فلو لحق لاحقٌ، واستحدث بستاناً، أو مزرعةً، وأراد أن يَشْركَ السابقين، ولو فعل لضاق الماء، وقَصَر عن البساتين، فالقدماء أولى بحق السبق، ولكن السبق في هذا النوع من الانتفاع لا يُزال، ولا يتصور التناوب فيه، بخلاف السبق إلى النَّيْل الذي يوجد من المعدن، وفي هذا مزيد كشفٍ سأذكره، إن شاء الله عز وجل- في البئر التي تحفر في المفازة؛ إذا فصَّلنا القول في فضل مائها.
هذا منتهى الكلام في المعادن الظاهرة، تصويراً، وحكماً.
5617- ثم قال الأئمة: إذا عمد الرجل إلى أرضٍ على الساحل، وسوّاها، واحتفر فيها حفيرةً يدخل الماء إليها، وينعقد الملح، فهذا مما يختص به العامر المحتفر، هكذا قال الأصحاب.
والوجه أن نقول: إن كان يبغي بالعمل على الأرض إحياءها لمقصودٍ، فسبق إليها الماء، وانعقد الملح، فلا شك أنه يختص بذلك الملح الحاصل، وسنوضّح أن من أحيا أرضاًً، فظهر فيها معدن من المعادن الكامنة، فمُحيي الأرض مالكه.
5618- ولو احتفر الأرض على الساحل، وقصد بما يفعله جذبَ الماء لينعقد الملح، فهذا في التحقيق أخذٌ من النَّيْل العام، على جهة الاختصاص.
فالوجه فيه أن يقال: إن كان بالقرب من مملحةٍ ينعقد الملح فيه، فإن احتفر حفيرةً، وجرَّ شيئاً من الماء، فهو مزاحَمٌ فيه إن أراد أن يبقى له دائماً، وقد يُميل إليه جملةَ المملحة، فاحتفاره كأخذه من النيل، وقد مضى الأخد مفصَّلاً، فالاحتفارُ طريقٌ في الأخْد فدائمُه كدائمه، وما يحصل شيئاً فشيئاً كالأخذ المقطّع من المعدن.
ولو احتفر الأرضَ على شط البحر، والبحر ليس مملحة، ولا ينعقد الملح فيه أبداً، ولكن إذا فتح منه فتحات ضيقة، إلى سَبْحة، انعقد الملح منه على قرب، فإذا فعل الفاعل هذا، اختص، ولم يزاحَم، فكان بما فعله كاسباً منفعةً بجهةٍ في إحياء الأرض، كالزارع والغارس وغيرهما. هذا تفصيل ما أبهمه الأصحاب.

.باب: تفريع القطائع:

5619- مقصود الباب الكلام في مقاعد الأسواق وما يتعلق بها ويُدانيها، فالأصل في الشوارع المرورُ والاستطراقُ. وكلُّ ما يضيّق على المارة، فهو ممنوعٌ، فإن الشوارع مقصودُها مضطرَبُ الناس في الذهاب والمجيء.
فإن اتسع الشارع، وقلّ الطارقون بالإضافة إليه، فلا يمتنع أن يقعد القاعد في وسط الشارع، أو في جانبٍ إذا وجد الطارقون سبيلاً عن مقعده، على يُسرٍ، وليس للطارق أن يقول: لا أبغي الطروق إلا في مقعدك، وموضِع جلوسك؛ فإنا وإن حكمنا بأن الشارع للإطراق، فلسنا ننكر حقوق الكائنين وهم وقوفٌ أو قعود، غيرَ أن الطروق أولى إذا ضاق المسلك.
فخرج من ذلك أن من جلس غير مضيِّقٍ على المارة، وتخيَّر مقعداً يبيع فيه ويشتري، فلا منعَ، وإذا سبقَ إليه، لم يزاحمه غيرُه.
ولا حاجة إلى استئذان الوالي؛ فإنه من حقوق الطريق، فأشبه المرورَ.
5620- والاختصاصُ بالبقعة التي يتخيّرها بمثابة اختصاص المحي بالإحياء قطعةً من الموات، بيدَ أَنَّ المُحْيي يملك ما يُحييه، ومن يتخيّر مقعداً لا يملكه؛ فإن الشارع تعلّق به حقوقُ الناس قبل أن تخيَّر القاعدُ مجلسَه، فقيل: لا مطمع في الملك مع العلم بتأكد حق الطروق، وقد يزدحم الناس، ويضيق الشارع، ولكن إن لم يضق، فلا ننكر اختصاص السابق إلى المكان الذي تخيّره، كما سنصفه.
5621- فنقول: من حقه ألا يُزعَج مادام فيه، ولا يُضيّقَ عليه في مجلسه، فلو جلس جالس أمامه أو بالقرب منه، بحيث يتعذر عليه انبساطُه في الكيل والوزن والإعطاء والأخذ، كان ذلك تزاحماً ممنوعاً، فإنا إذا أثبتنا للسابق إلى المقعد حقّاً، فقد التزمنا توفيرَه عليه، وهذا يُثبت لمقعده حريماً، والمحكَّمُ في مثله العادةُ.
وذكر بعضُ من لم يُحط بحقيقة ذلك شيئاً أَشْعَرَ بذهوله، فقال: لو جلس بجنبه من يمنع المساومين معه، لم نتركه، وهذا ليس بشيءٍ؛ فإنه جارٍ في الدكاكين المملوكة، فلا تزيد المقاعد عليها، وإنما المرعي ما نبهنا عليه من الانبساط، مع الرجوع إلى العادة، وقد يختلف بكثرة القاعدين، وضيق المقاعد؛ فإن أصحابها يتضامّون إذا كثروا، ويتوسعون إذا قلّوا، وموجب الشرع الحملُ على أحسن المراشد في العوائد.
5622- ومن تخيّر بقعةً، وجعلناه أولى بها، فإنه يُزايلها ليلاً، وهو أولى بها، إذا كان ينتابها، ولا يسوغ لسابقٍ أن يسبق إلى مجلسه لتخلّل قيامه، وليس ذلك بمثابة المعادن الظاهرة؛ فإنها لا تتعين لمنتابٍ؛ إذْ مبناها على الاشتراك، وليس فيها حق الاختصاص إلا على قدرٍ ذكرناه في السابق، ومبنى المقاعد على الاختصاص.
ثم المتبع فيه الاعتيادُ، ومن يتخيّر مقعداً يبيع فيه ويشتري، أو يحترف، فغرضه الأظهر أن يظهر مكانُه، حتى يعرفَه المعاملون، وهو الركن الأعظم في المكاسب، فإذا كان هذا هو المقصود في تعيين المقاعد، فلابد من الوفاء به.
5623- وأنا أقول: لو جلس الجالس في بقعةٍ، ولم يضيِّق على الطارقين، لم يُزعَج، وإذا لم يكن له غرضٌ كما نصصنا عليه، فليس له حقُّ العوْد إلى ذلك المكان، حتى يقالَ لو سبق إليه سابق، لم يكن له ذلك؛ إذ لا غرض للجالس فيه؛ حتى يقالَ: يتعطل غرضه بتفويت مجلسه.
5624- ثم إذا عيَّنا المقعد لذي الغرض الصحيح، فلو استأخر يوماً ويومين، لم ينقطع حقه عن المقعد، سواء كان معذوراً أو غير معذور، وإن طال الزمان وتمادى الفصل، لم يعطَّل المقعد، وكان للغير السبقُ إليه. وكذلك إذا غاب غيبةً بعيدةً.
هذا ما أطلقه الأصحاب، وما ذكروه كلام مرسل ومقصودنا ضبطُه، ولم يهتم به أئمةُ المذهب، ولم يُعملوا فيه وفي أمثاله القرائحَ الذكيةَ، واكتفى الناقلون عنهم بظواهر الأمور، وانضم إليه قلة الاعتناء بالبحث، فصار أمثال ذلك عماية عمياء، والموفق من يهتدي إلى المأخد الأعلى؛ فإن مذهب إمامنا الشافعي تَدْواره على الأصول، ومآخد الشريعة.
5624/م- وأنا أقول مستعيناً بالله تعالى: إن أضرب صاحبُ المقعد، وتبيّن إضرابه، بطل حقُّه على قربٍ من الزمان، وذلك بأن يَبْذُل مجلسَه لغيره، أو يتخذ مقعداً آخر، وأخد ينتابه، فيتبين إضرابُه عن الأول.
هذا مسلك في بطلان اختصاصه بالمقعد الذي تخيره.
وإن لم يفعل ذلك، ولكن وُجد يختلف بعذر أو بغير عذر، فالذي ذكره الأصحاب فيما لا يُبطِل حقَّه اليومَ واليومين، ولو روجعوا في الثلاثة والأربعة، لاسترسلوا عليها، ولا يمكننا أن نقول: المعتبر الزمن الذي يدل مثله على الإضراب، فإن المريض المعذور إذا طال زمانُه غيرُ مضرب، ويبطلُ حقُّه، وكذلك من استفزَّه سفرٌ، لم يجد منه بداً، فحاله يُظهر عدمَ إضرابه، فالوجه أن يقال: لا حقَّ في تعيُّن المقعد إلا أن يُعرف فيعامل، وإلا فمقعد كمقعد، فكل زمانٍ يظهر فيه انخرامُ الغرض، ففيه سقوطُ حقه، فإذا طال انقطاعه، انقطع أُلاّفُه، واستفتحوا المعاملةَ مع غيره، فينقطع غرضُه، في تعيّن المقعد.
ولهذا لم نفصل بين المعذور وغيره، فإذا عاد، كان كمن يتخيّر مقعداً على الابتداء.
ولو كان ينتاب تلك البقعة، فاتفق استئخاره مدة، لا ينقطع بمثلها حقُّه، فلو جلس جالسٌ على مقعده بانياً على أن ينزعج إذا عاد، ويسلِّم له مقعده، فظاهر المذهب أنه لا يُمنع، ويحتمل أن يقال: يمنع؛ لأن هذا يُظهر لأُلاّفه ما يُظهره الزمانُ الطويل في الانقطاع.
فأما القعود في غير أوقات المعاملة، فلا بأس، والقعود في أوقات المعاملة لغير المعاملة، فلا بأس به.
فهذا هو الممكن في ضبط ذلك.
5625- وإن طرأت حالة يتقابل فيها الظنان في انقطاع الغرض وبقائه، فلعل الظاهر بقاءُ حقِّه ودوامُه.
5626- ثم أحدث الأصحاب فنّاً من الكلام، فقالوا: إذا طال عَوْد الرجل إلى مقعدٍ واحد، فهل يُزعج عنه، ويقال له: تنحَّ وتخيّر مقعداً آخر؟
ذكر نقلةُ المذهب وجهين في ذلك، واعتبروهما بالوجهين في العاكف على المعدن العِدّ، إذا طال مقامُه عليه، وهو في ذلك دائبٌ في أخد النَّيْل.
5627- ونحن نقول: أما الخلاف في تنحية من يُطيل عكوفه على المعدن، فمأخود من طلبه الانفرادَ بما يأخذه من النّيْل، وخروجه عن العادة العامة في تقرير المعادن الظاهرة على الاشتراك والتناوب، فأما الخلاف في إزعاج من يتخيّر مقعداً من الشارع فبعيدٌ جدّاً، وهو موضوعُ الباب؛ فإن الغرض الذي يُدار عليه تخيّرُ المقاعد ما أشرنا إليه من ظهور الأُلاَّف، وكثرةِ المعارف في المعاملة، وفي تنحيته، وإزعاجه إبطالُ هذا الغرض، فأَخْذُ النيل على التناوب، وتخيّر المقاعد على نقيض ذلك؛ فإن الناس لو تناوبوا عليها، لبطلت أغراض الجميع فيها.
فإذا لاح ما ذكرناه من التنبيه، فالوجه في تنزيل الخلاف المأثور عن الأصحاب في المقاعد أن نقول:
إن اتسعت المقاعد واستوت الأغراض في أعيانها، وتخيّر كلٌّ مجلساً ينتابه، ويأوي إليه، فلا معنى لتنحيته والتبادلِ، والحالةُ هذه؛ فإن ذلك يُبطل أغراضَ الكافَّة. وإن ضاقت المجالس، وكثر المزدحمون، فيظهر إذْ ذاك الخلافُ بعضَ الظهور، ثم وجه التقريب فيه أَنَّ من طال انتيابُه بقعةً، وظهر انتفاعه بسبب جلوسه فيه، وهو مطلوبٌ من غيره في الصورة التي ذكرناها، فقد يقال: مبنى هذه البقاع على الاشتراك، فإذا اكتسبْتَ بسبب الجلوس في بقعةٍ منها مالاً، فسلِّمْها إلى غيرك، وهذا يناظر ما ذكرناه في المعادن، غيرَ أن نيْل المعدن العِدّ عتيدٌ يوجد، والمنفعة المطلوبة من المقاعد لا تظهر إلا على طول الزمان، فالنُّوَبُ في الأصلين تتفاوت طولاً وقصراً، والمعنَى هو المتبع في كل صنف.
ثم لا نظر إلى اتساع المتاجر والمكاسب على أصحاب المقاعد؛ فإن ذلك أرزاقٌ، فمن محظوظٍ فيها، ومن محروم، ولكنّ الاعتبارَ بالزمان الذي يتسع في مثله المتجر والمكسب على المرزوق. وهذا تفصيلٌ لابد منه.
5628- وذهب بعضُ الأصحاب في ذكر الخلاف مذهباً آخر، أشار إليه صاحب التقريب، وغيرُه، فزعموا: أن الغرض من تنحية من ينتاب مقعداً إذا طال الزمان أن يخرج عن مضاهاة المتملّكين، فقد يدعي على طول المدى ملكَ البقعة.
وهذا ركيك، لا أصل له؛ فإن الشوارع، وإن طال المدى عليها لا يَنسَى حُكمَها المحتفون بها، ولو صح هذا المعنى، لوجب سدُّ طريق لزوم المقاعد جملةً، لما أشار إليه هذا القائل، فلا أصل لهذا إذاً، وإنما التَّدْوار على ما ذكرناه.
ثم قدمنا أن الأصل أن العاكف على المعدن العِد لا ينحَّى، والوجه الآخر ضعيفٌ
جداً، ثم وقع الخلاف في تنحية من تخيَّر مقعداً أبعد، فتضاعف الضعفُ. ثم إن أردْنا التشوفَ إلى ضبطٍ في الزمان الذي تقع التنحية بعده، لم نجد إليه سبيلاً، مع اختلاف المكاسب، وأحوال الناس في البلاد، وغايتُنا إن أردنا ذلك تحكيمُ العرف، واتخاذُ الزمان الذي يتسع المكسبُ فيه معتمداً.
5629- ثم مما يتعين ذكره في هذا المقام أن الذي صار إليه معظم الأصحاب أن الوالي لو أراد أن يُقطع المقاعد، فله ذلك، كما له أن يُقطع المواتَ مَنْ يُحييه.
وذكر صاحب التقريب والشيخ أبو علي، ومعظمُ الأئمة وجهاً آخر في أن الإقطاع في المقاعد لا ثبات له، وإنما جريانه فيما يفيد التسببَ إلى التملك؛ فإن الأمر فيه يعظم خطره.
5630- وللاجتهاد مساغٌ، فالمحل محل التنافس، والأظهر جريانُ الإقطاع لإمكان التنافس في المقاعد، ولكن التنافس المجردَ لا يصلح للاعتماد مع إمكان جريانه في المعادن العِدة الظاهرة، وقد أجمع الأصحابُ، وشهد الخبرُ على أنه لا يجري الإقطاع فيها، فالتعويل إذاً على تطرّق الاجتهاد في الأمر المطلوب، وأمر المعادن العِدة ظاهر، فلم يجر فيه الإقطاع، وأما الموات، ففي كونه مواتاً، ثم في كونه خارجاً عن حقوق الأملاك نظرٌ بيّنٌ، والاجتهاد يظهر في المقاعد من جهة أنها هل تُضيِّق على الطارقين، أم كيف السبيل فيها؟ ثم إن أجرينا الإقطاع أوّلاً، فلا كلام، وإن لم نُجْره، تعين مراجعة الوالي في تنحية من نُنحِّي إذا رأينا ذلك مذهباً، حتى لا يُفضي الأمرُ إلى التجاذب، والاجتهاد يدِق مُدركُه في الاكتفاء بالمدة التي استوفاها من يُنحَّى.
هذا هو الذي يظهر عندنا.
ولا يمتنع طرد الخلاف في ذلك أيضاًً؛ فإن التنافس متوقّع الجريان في الابتداء أيضاً، مع ظهور الخلاف، وغايتنا أن ننبّه على مسالك المعاني، إذا عدمنا النقلَ في التفاصيل.
5631- ومما يتعلق بمضمون الباب، ويلتحق به السبقُ إلى المواضع المعيّنة في الرباطات المسبّلة على السابلة.
فمن سبق إلى بقعة، لم يزاحم فيها، وإن فرض استباق وازدحام، فالأصل القرعةُ، وقد ينقدح فيه تحكيم صاحب الأمر، إن كان في الرُّفقة، والأصل القرعةُ.
ثم من تخيّر لسكونه بيتاً، أو بقعة، فلو زال عنها، لم يُمنع من العوْد إليها؛ فإن الحاجة قد تضطره إلى الانتشار في حوائجه، ولا نظر إلى استخلافه على البقعة بعضَ خدمه وعبيده، أو تركه فيها شيئاً من متاعه، فقد لا يكون الرجل مخدوماً، ثم المنفرد لا يمكنه أن يترك متاعَه، وينتشرَ في مآربه، فيكفي إذاً ما ذكرناه. هذا في رباط السابلة.
5632- ولو جاوز من تخيّر البقعة الغرضَ الذي بُنيت البقعة له، فأقام، أُزعج، إذا زاحمه نازلٌ يبغي أن ينزل، ويرحل. و قد، نقول: إذا ظهر أن البقعة مسبلة على من لا يُعرِّج، فلا تعريج، وإن لم يكن زحمة؛ فإنّ شرط الواقف متبع.
5633- ولو بنى الرجل رباطاً، وهيأ فيه مساكن، ووقفها على من يبغي السكونَ فيها، فهذا يخالف في وضعه رباط السابلة، فلا يمتنع السكون.
ولكن ذكر الأصحاب الخلافَ السابق في أن من يُطيل مدةَ الإقامة، ويجاوز الحدَّ، فهل يزعج؟ وشبهوا هذا بتنحية العاكف على المعدن العِدّ، وهذا لعمري متجهٌ؛ من جهة أن في إطالة مدة الإقامة اختصاصاً بالبقعة، ومنعاً للأمثال من ذلك النوع من الانتفاع.
ولمّا ذكر القفال هذا الخلاف فلفظه في تصويره: أن من أقام سنين هل يزعج أم لا؟ وهذا لا ضبط له على التحقيق، والممكن فيه أن البقعة إن بنيت لغرضٍ يحصّله الساكنون فيه، كالمدرسة المنسوبة إلى الطلبة، فإذا حصّل ساكنُها الغرضَ، تنحَّى.
وهذا إن ظهر، فهو مشكل فيما لم يربط بغرضٍ.
فإن صح المصير إلى أن مدة الإجارة لا تزيد على سنة، فهذا القول حريٌّ بالاستعمال في هذا المقام. وإن لم نصححه-وهو غير صحيح- فليس لنا مأخذٌ في هذا الأصل، ولا مرجعٌ إلا إلى نظر الوالي، وصاحب الأمر.
والموقفُ الأعظمُ على العلماء استعمالُ ما يجمعونه في آحاد الوقائع إذا بُلوا بها، وكان شيخي يشبّه هذا بجمع الجامع العلومَ المخصوصةَ بفن الطب، وهو هيّن على صاحب القريحة والجد، وإذا أراد استعمالَ ما جمعه في معالجة الأشخاص، عظم الأمر عليه فيها.
وإنما أحلنا ما انتهينا إليه إلى ذي الأمر لتفاوت الناس في الحاجات، واختلاف البقاع والأصقاع.
والظاهر في هذه الأبواب تركُ التنحية والإزعاج.
وما نحن فيه مفروضٌ فيه إذا أطلق المحبِّسُ التحبيسَ على من ذُكر، ولولا اتصالُ هذا بالمصالح العامة، لحذفنا الخلاف في هذا المقام؛ إذ لا خلاف أن من سبَّل بقعةً على سكون شخصٍ، لم يُعترض عليه بالتنحية، فذكْر منفعة السكون على الإطلاق بهذه المثابة.
5634- وألحق الأئمة بما ذكرناه نزولَ المنتجِع قُطراً من الصحراء، وتركَه بهائمه تنتشر في مرابعها، فلا سبيل إلى إزعاج من يسبق إلى مثل هذه البقاع، ولا سبيل إلى مزاحمته بنشر المواشي في محل انتشار ماشيته إلا أن تكون الرياض أُنُفاً لا يظهر في أمثالها ضرارٌ من زحمة.
5635- وتكلم الأصحاب في تخيّر الإنسان مجلساً في المسجد، فأجرى بعضهم تخيّره مجرى تخيّر المقاعد في الشوارع، حتى إذا ظهر ذلك من قصد سابقٍ إلى البقعة، لم يزاحم فيها، والمسجد مشترك كالشارع، ومن ضرورة هذا الحكم أنه إذا فارقها، وعاد إليها، كان أولى بها، على القياس الذي قدمناه في مقاعد الشارع.
وكان شيخي يأبى هذا على هذا الوجه، ووجدت صاحب التقريب على موافقته، والأمر في ذلك مبتوتٌ عندي على هذا الوجه؛ فليس المسجد في ذلك كالشارع؛ فان ما ذكرناه من تخيّر البقاع في الشوارع محمولٌ على غرضٍ ظاهرٍ في المعاملة، ولا يتحقق مثله في المساجد، فبقاع المسجد تضاهي مجالس المتحدثين في الشوارع.
وكان شيخي يثبت أثر التعيين في الصلاة الواحدة، إذا اتفق الخروج والعود، ثم كان يحكي في ذلك وجهين أنه لو رعف بعد الشروع في الصلاة، وخرج ليتهيّأ، فإذا عاد، لم يُزحم. وهذا وجه.
والآخر أنه لو شهد المسجدَ قبل إقامة الصلاة في اتساع الوقت، ثم أخرجته حاجةٌ، فإذا عاد، كان أولى بمجلسه. وهذا أمثلُ.
ولا نستريب في انقطاع تصرّف الإمام عن تعيين البقاع في المسجد وإقطاعها؛ فإن المساجد لله، والسبق فيها لمن سبق، ولا يظهر في لزوم موضعٍ واحدٍ غرضٌ، كما نصصنا عليه.
فهذا منتهى الكلام في ضم النشر، وإيضاح المقصود، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قام أحدكم من مجلسه في المسجد، فهو أحق به إذا عاد إليه».