فصل: باب: إقطاع المعادن وغيرها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: إقطاع المعادن وغيرها:

قال الشافعي رحمه الله: "في إقطاع المعادن قولان:
أحدهما: أنه يخالف إقطاع الأرض... إلى آخره".
5636- وقد أخل المزني في النقل؛ فإنه نقل: "أحدهما أنه يخالف إقطاع الأرض لا وإنما قال الشافعي: "أحدهما أنه لا يخالف إقطاع الأرض"، فحذف المزني كلمة " لا"، وجعل القولين واحداً، وقد سئمنا تتبع كلامه.
5637- فمقصود الباب القولُ في المعادن الكامنة التي يظهر نيلها بالعمل عليها، ولو جدَّدْنا عهدنا بتراجم القول في محالّ الإقطاع نفياً وإثباتاً، وخلافاًً ووفاقاً، لقلنا: الأراضي وما يتصل بها من المعادن والمقاعد أربعةُ أقسام:
أحدها: ما يملك بالعمل فيها، وللإمام أن يُقطع، ويصير المقطَع أحقَّ بمحل الإقطاع كالمتحجر.
والثاني: ما لا مدخل للإقطاع فيه أصلاً، وهو المعادن الظاهرة، ويلتحق بها مقاعد المساجد.
والثالث: ما لا يملك، وفي جريان الإقطاع فيه خلاف، وهو المقاعد في الشوارع، والأظهر جريان الإقطاع.
والرابع- ما اختلف القول في جريان الإقطاع فيه وهو المعادن الكامنة.
5638- والأولى في ضبط ما يجري فيه الإقطاع، وما لا يجري، وما يختلف فيه المذهبُ أن نقول: إذا كان المطلوب تملك مباحٍ، وهو في محل الاجتهاد، فالإقطاع يجري فيه قولاً واحداً، وهو الموات، كما قدمناه؛ فإن الملك هو الاختصاص الأكبر، فيجوز أن يؤثّر فيه تخصيص الوالي، وما لا يتصور فيه اختصاص الملك، ولا اختصاصُ الانتفاع، فلا معنى للإقطاع فيه وهو المعادن الظاهرة العِدة. وما يجري فيه الاختصاص من غير تملك، ففي جريان الإقطاع فيه خلاف، كما ذكرناه في المقاعد.
والمعادنُ الكامنة ينبني أمرها في الإقطاع على أن العامل عليها هل يملكها؟ فإن قلنا: يملك العامل رقابها، فيجري الإقطاعُ فيها كالموات، وإن قلنا: لا يملك العامل رقبة المعدن، ولكنه يختص به، كما سنصفه، فهل يجري الإقطاع فيها؟ فعلى الخلاف.
فهذا تفصيل القول في الإقطاع.
5639- ثم نبتدىء فنصف المعادن الكامنةَ، ونذكر أحكامها أولاً، فأولاً.
فأما صفتها، فهي المعادن التي ليس يظهر نيلُها إلا بالعمل عليها، ثم النيل فيها مكتتم بالطبقات، فيظهر النيل، ثم لا يتواصل النيل على الظهور، كمعادن الذهب والفضة، والفيروز، والبَلْخَش، وما في معانيها.
وكان شيخي يتردد في الأحجار التي فيها جواهر، وهي باديةٌ على الأحجار كالحديد، فإن أثره يبدو على الحجر، ولكنه لا يستخرج منه إلا بمعاناة، ولا يكون البادي عينَ الحديد المجسّم، وهذا فيه تردد واحتمالٌ ظاهر.
5640- فإذا تصورت المعادن، فمن سبق إليها، فله العمل عليها؛ فإن الإقطاع حيث يثبت ليس شرطاً في استفادة العامل، بدليل أن الإقطاع متفق عليه في الموات، ولا يتوقف التملك بالإحياء عليه. ومن ابتدر إلى معدنٍ من المعادن الكامنة، وعمل حتى بدا النَّيْل، فهل يتملك المعدنَ بعمله تملكَ الموات بالإحياء؟ لا يخلو: إما ألاّ يكون على المعدن أثر العمارة الجاهلية، وإما أن يكون عليها أثر عمارتها، فإن لم يكن عليها أثر الجاهلية، فابتدر العمل عليه مبتدر، فهل يملك رقبة المعدن؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنه يملك ملك الموات بالإحياء؛ فإن المعدن قطعة من الأرض المباحة التي لم يظهر عليها أثر تملك سابق، والنيل من طبقاتها معدود من جملتها، فأشبهت الموات يُحيَا.
والقول الثاني- أن رقبة المعدن لا تملك بالعمل عليها، بخلاف الموات؛ فإن الموات بالإحياء يتهيّأ للانتفاع الدائم، والمعدن وإن ظهر منه بعضُ النيل، فإظهار ما لم يظهر يستدعي من العمل ما استدعاه النيل الأول، فلم ينته الأمر فيه إلى عمارة تامة تتهيأ البقعة لأجلها لمنفعة دارّة.
هذا إذا لم يكن عليها أثر عمارة الجاهلية.
5641- فإن كان على المعدن أثر عمارة الجاهلية، فلأصحابنا فيه خبطٌ وتخليط، وما استد أحد من الأئمة استداد الشيخ أبي علي، فنذكر ما ذكره الجمهور، ثم نذكر طريقته.
قال الأئمة: في المعدن الذي عليه أثر العمارة الجاهلية ثلاثة أقوال: قولان تقدم ذكرهما، والثالث: أنه بمثابة المعادن الظاهرة العِدة، وليس يتوجه هذا إلا بأن يقول قائل: ألفيناه في الإسلام معدناً، فلا يضر اكتتام نَيْله إذا كنا نعلم أن المعدن نيل.
وهذا بعيدٌ؛ فإن المعدن إذا لم يكن عليه أثر الجاهلية، فأظهر نيلَه مسلم، وقلنا: إنه لا يملكه، ثم أضرب عنه، أو مات، فلا يصير المعدن ملتحقاً بالمعادن الظاهرة، لا نعرف في ذلك خلافاً، ولو صح ما ذكره موجِّه القول الثالث، للزم التحاق المعادن التي ظهر نيلُها بعمل المسلمين بالمعادن الظاهرة، وهذا لا سبيل إلى التزامه.
5642- فأما الطريقة التي ذكرها الشيخ أبو علي، فهي المنقاسة المرضية، وهي أنه قال: إذا عمل أهل الجاهلية على المعدن، وقلنا لا تملك المعادن بالعمل عليها، فوجود عملهم وعدمه بمثابةٍ، وهو كما لو لم يكن عليه أثر عمارة، وإن قلنا: إن المعادن تملك بالعمارة، فإذا عمروها، فكأنهم ملكوها، فإذا تحولت البلاد إلى المسلمين، فالتفصيل فيها كالتفصيل في الموات الذي ملكوه بالعمارة في الجاهلية، وفيه قولان تقدم ذكرهما، وسبب التردد في هذا أنا نحكم لأهل ملتنا بتملك الموات إذا أحْيَوْه، وإسناد هذا الحكم إلى الجاهلية في حكم تقديم الحكم من ملّتنا على أهل الملل السابقة، ولم يتبين من أديانهم حكمُ إحياء الموات، فأما ما نصادفه في أيديهم متموَّلاً متحوَِّلاً، فنحكم فيه بحكم الماليّة.
هذا بيان قاعدة الحكم في المعادن الكامنة.
5643- فإذا أحيا رجل أرضاًً مواتاً، وحكمنا له بالملك فيه، فظهر فيه معدن من المعادن الكامنة، فهو باتفاق الأئمة ملك محيي الأرض؛ فإنه بالإحياء ملك الرقبة إلى منتهى التخوم، فإذا استقر الملك بالإحياء، لم ينتقض، ولو ظهر في الموات المملوك بالإحياء معدن ظاهر كالكبريت ونحوه، فهو ملك المحيي إجماعاً، لا يزاحَم فيه، لأن الملك بالإحياء استقر على رقبة الأرض، وكل ما في الأرض فهو حقُّ مالك الأرض.
ومن احتفر قناةً، ملك الآبارَ، والأسرابَ، فالماءُ الجاري على صورة المعدن العِد.
5644- فإذا تمهد ذلك، فلو علم الرجل بمعدن، فاتخد عليه داراً أو بستاناً، وقال: إنه موات، وقد قصدتُ إحياءه، فإذا قلنا: لا يملك المعدن، فالظاهر من المذهب أنه لا يملك البقعة، وإنما ملكناه بالإحياء حيث يصح قصده في تملك الرقبة للإحياء، وهاهنا لا يصح القصد، والبقعةُ معدنٌ، فإن المعادن في القصود الصحيحة لا تتخد مزارعَ.
وقال بعضُ أصحابنا: يُملَكُ المُحيَا بالإحياء، ولا أثر للعلم.
وإن قلنا: هذه البقعة لا تملك بهذه الجهة، والمعدن يُملك، فليس بناء الدار مما يملك به هذه البقعة، وسبيل الملك فيها إظهار النيل.
5645- ومما يتصل بهذا المنتهى أن من احتفر معدناً، واتسعت الحفيرة، وظهر في طرفٍ منها، أو في وسطها النَّيل، فكيف القول إذا لم يظهر النيل إلا في هذا الجانب؟ أنقول: هو المملوك، أو المملوك جملة الحفيرة؟ لابد في هذا من نظر، فلا سبيل إلى الحكم بتخصيص الملك بمحل النيل، وقد يكون كالذَّر وجناح البعوض، ولا سبيل إلى إطلاق القول بملك كل ما يتصل بموقع النَّيل من غير ضبط وانتهاءٍ إلى موقف.
والوجه فيه أن يقال: إذا وجدنا النَّيل بدداً في أطراف بقعةٍ ووسطها، عُدَّ ذلك معدناً، وعُدّ النيل ظاهراً بالعمل، وإذا بعدت بقعة لم يتواصل النيل إليها، ولم يكن ذلك البعد معتاداً في تضاعيف النَّيْل المتبدِّد، فهو خارج عن حدّ المعدن. ومعظم هذه الأمور والتصويرات آيلة إلى العادات، والمحكَّمُ فيها أهل العادات.
5646- ثم قال الأئمة: إذا ملك الرجل معدناً من المعادن الكامنة: إما على قولنا: المعدن يملك بالعمل المُظهِر لنيله، وإما إذا وقع الفَرْض في إحياء مواتٍ مُلك، ثم ظهر فيه معدنٌ، فإذا باع الإنسان هذا المعدن، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن البيع مردودٌ، واعتلّوا بأن المقصود من هذا المعدن النيلُ، وهو مجهول، والمعادن لا تُبغى لترابها وحجرها، ومدَرها، والانتفاعِ فيها بالوجوه المعلومة في الأراضي، فإذا صار المقصود مجهولاً، امتنع البيعُ.
ورأيت في مرامزِ كلام الأصحاب ما يدل على تصحيح البيع، وهو متّجهٌ في القياس على تقدير إيراد البيع على الرقبة، ثم النيل على موجب الوفاق.
والذي يجب القطع بفساد البيع فيه أن يجمع الرجل مقداراً من تراب المعدن وفي حشوه النيلُ، فإذا باعه على علم بأنّ فيه نيلاً، فهذا باطل؛ فإنه لا يبغي من البيع الترابَ، وإنما يبغي النيلَ، وهو مجهول. وقد ذكرنا تردُّدَ الأصحاب في المعاملة على الدراهم المغشوشة إذا كانت جارية في المعاملات، وسبب الاختلاف أن النُّقرة ليست مقصودة، وإنما المقصود الجريان.
5647- ثم قال الشافعي: "ولا ينبغي أن يقطعه من المعادن إلا قدرَ ما يحتمل... إلى آخره".
ما يجري الإقطاع فيه، فلا ينبغي أن يُقطِع الإمامُ الشخصَ إلا مقدارَ ما يستقلّ به، فإن زاد، لم يكن للإقطاع حكمٌ.
وكذلك إذا تحجر الإنسان متسعاً من الموات لا يستقل بإحيائه، فلا حكم لتحجره. ثم إذا أبطلنا تحجرَه، لم يثبت له في المتحجر حقُّ الاختصاص في المقدار الذي يتصور أن يستقلّ به؛ فإن ذلك لا يتعين في قُطرٍ، وحق الاختصاص على الشيوع غير معقول، فإن عين شيئاً، فهو تحجّرٌ منه الآن والإنسان لا يمنع من ابتداء التحجر.
5648- ثم قال الشافعي: "وكل ما وصفناه من إحياء الموات، وإقطاع المعادن وغيرها، فإنما عنيتُه في عفو بلاد العرب فإنه الذي عامره عشر، وعفوه مملوك".
وهذا مما أخل المزني بنقله خللاً فاحشاً؛ فإنه قال: وعفوه مملوك. والشافعي
قال: "وعفوه غيرُ مملوك"، وعنى بالعفو المواتَ، فحذف المزني كلمة " غير " حتى إنها تُزاد في بعض النسخ، وتُثبت على الاستقامة، ومعنى كلام الشافعي ما ذكرته في الغامر والعامر في بلاد العرب، وخصصها بالذكر؛ لأن العرب أسلمت على بلادها، ولم تُملك على القهر، إلا في مواضع مخصوصة، وأراد بقوله عامره عشر، أي ليس على أهل عامره إلا عشرُ الزروع، ولم يضرب عليه خراج.
وظنَّ الشافعيُّ أن بلاد العجم افتتحت قهراً، وغُنمت عليهم، وفي غامرهم
التفصيل المقدّم في الذب والمحاماة، وتنزيل المستولين منزلة المتحجِّرين، فأراد أن يصوّر أراضي عامرُها ليس خراجياً، ولم يُقضَ بالاستيلاء على غامرها ومواتها من الغانمين، حتى تتسق المسائل التي أطلقها من غير احتياج إلى تفصيل.
فرع:
5649- إذا عمل العامل على المعدن الكامن، فإن قلنا: إنه يملكه، فلا كلام، وإن قلنا: إنه لا يملكه، فقد ذكر الأئمة وجهين في أن الإمام لو أراد تنحيته بعد طول الزمان لينتفع بالموضع غيره، فهل له ذلك؟
وقد قدمنا مثلَ هذين الوجهين في مقاعد الشارع، وأطلقنا وجهين أيضاً في المعادن العِدة الظاهرة، وما ذكرناه من الوجهين في المعادن الكامنة-حيث انتهى الكلام إليه- يناظر ما ذكرناه من الوجهين في المقاعد المُقْطعة في الأسواق.
ثم ذكرنا أن من تخيّر بقعةً على الشرط المقدم، أو اتصل بها إقطاع صاحب الأمر فيمهل فيه زماناً، وقرّبنا القولَ في ضبطه، ثم ذكرنا التنحيةَ وراء ذلك، كذلكَ يمكَّنُ العامل على المعدن زماناً متطاولاً، ثم الخلاف في تنحيته يقع وراء ذلك.
وسبيل التقريب اللائق بهذا الموضع في الزمان المتطاول، أن يبلغ مبلغاً يظهر منه فائدةُ العامل إذا اقتصدت الإنالة، فلم يتفق إكداء ولا نيلٌ نادرٌ مجاوزٌ المعتاد، ثم قد يتفق مثل هذا الزمن، والعامل لا يستفيد في ذلك الزمن للحرمان والمجازفة، فالخلاف في تنحيته على ما ذكرناه. ولو استفاد العامل نيلاً نادراً في زمان قريب، ففي إجراء الخلاف في تنحيته احتمالٌ ظاهر. يجوز أن يقال: لا ينحى نظراً إلى الزمان، ويجوز أن يقال: ينحَّى نظراً إلى الفائدة، وإذا طال الزمان في حق المحروم جرى الوجهان في طرده من غير أن ينظر إلى عدم الفائدة، وقد يُنحَّى المحروم ويرزق غيره، وقد يبقى المعدن حاقداً لا ينيل في عمل شخص، وإذا عمل غيره، ظهرت الأنالة، وأمرُ المعدن وفاق، ونيله أرزاق.
فصل:
قال: "ومن عمل في معدنٍ في أرضٍ ملكُها لغيره، فما يخرج منها، فلمالكها... إلى آخره".
5650- إذا ملك الرجل معدناً من المعادن الكامنة، ثم قال لغيره: اعمل عليه، وما يخرجه من النيل، فهو لك، فما يظهر من النيل، فهو لمالك المعدن؛ فإنه لا يجوز أن يقدَّرَ عوضاً على الجهالة، ولا متبرعاًً به موهوباً، فلا وجه إلا تقريره على ملك مالك المعدن، وهل يستحق العامل أجراً في مقابلة عمله؟ هذه القاعدة يفصّلها يربع مسائل:
5651- إحداها- أن يقول رب المعدن: أذنت لك في نهارك، أو أسبوعك، ولك ما يظهر من نيلٍ، فهذه الصيغة لا تتضمن استعماله، وإنما هو إطلاق التصرف، وتبرعٌ بما يتوقع من نيل، فإذا جرى الأمر كذلك، فالنيل مردود على المالك، كما قررناه. والذي ذهب إليه الجمهور أنه لا يستحق العامل على مقابلة عمله شيئاً، فإنه كان يعمل لنفسه ابتغاء النَّيل.
وحكى القاضي عن ابن سريج أنه أثبت للعامل أجر مثل عمله، لأن النيل انصرف إلى صاحب المعدن. وإن قصده العامل لتحصيل غرض نفسه، ووجّه ابنُ سريج هذا بأن قال: لم يرض العامل بأن يعمل مجاناً، ولم يسلَّم له ما طمع فيه، فينبغي أن يرجع بالأجر على من أوقعه في العمل، وسُلِّم له ما طمع فيه العامل؛ فإنّ ذلك ثمرةُ عمله وفائدتُه.
وقرّب الأئمة هذا من أصل ذكرناه في كتاب الحج، وهو أن المستأجَر على الحج إذا نوى مستأجِره أولاً، ثم صرف الإحرام إلى نفسه ظانّاً أنه ينصرف إلى نفسه، واستمر على عمله على هذا الظن، فالحج ينصرف إلى مستأجِره، وفي استحقاقه الأجرة الخلافُ المشهور.
وعندي أن الصورة التي ذكرناها بعيدة عن استحقاق الأجرة؛ إذ لا استعمال فيها، وإنما جرى الإذن إطلاقاً، ورفعاً للحجر، وليس كمسألة الأجير في الحج؛ فإن المستأجِر استعمله أولاً، وانصرف إليه العمل آخراً، فلا يبعد أن يلغو القصد الفاسد اللاغي من الأجير، ثم إذا رأى ابن سريج في هذه الصورة إثباتَ الأجرة للعامل، فليت شعري ماذا يقول إذا عمل، ولم يستفد شيئاً؟ فإن جرى على قياسه في إثبات الأجر، كان في نهاية البعد إذا لم يحصُل نَيْلٌ هو شوفُه، ومتعلّق طمعه، حتى يقال: إذا قُطع عنه ما أُطمع فيه، فهو عِوض عنه.
وإن سلّم في هذه الصورة أنه لا يستحق الأجرة، فقد وُجد الكدّ، وظاهر العمل، وعلى الجملة هذا محتمل على قياس ابن سريج.
وما ذكرناه شرح مسألة واحدة.
5652- المسألة الثانية- أن يقول: اعمل في بياض هذا النهار، ولك ما تُظهره من النيل، فالقول في النَّيْل كما مضى؛ واستحقاق الأجرة مختلف فيه بين الأصحاب، وهو ظاهرٌ في هذه الصورة؛ من قِبل استعماله العامل بأمره.
5653- المسألة الثالثة- أن يقول: استأجرتك لتعمل في نهارك وأجرتك النَّيْلُ الذي تصادفه، فالظاهر هاهنا أنه يستحق أجرَ المثل، للتصريح بالاستئجار، وإثبات العوض.
وأبعد بعض أصحابنا، فأسقط الأجرة، لتعلق قصد العامل بأخد النيل الذي يُظهره عمله.
5654- المسألة الرابعة- أن يقول: استأجرتك لتعمل، ولك نصف النيل الذي تصيبه، فلا شك أنه يستحق نصفَ الأجر على مقابلة النصف الذي شرط لرب المعدن، وهل يستحق النصف الآخر من الأجر؟ فيه التردد الذي ذكرناه في الأجر كله إذا قال: استأجرتك وأجرتك النيل كله.
فهذا بيان المسائل المفصِّلةِ للقاعدة.
فصل:
ذكر الشافعي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من منع فضلَ الماء ليمنع به الكلأ، منعه الله فضل رحمته يوم القيامة... إلى آخره».
5655- قد ذكرنا في كتاب البيع فصلاً في المياه وبيعها، وجريان الملك فيها، وخلاف من خالف من الأصحاب في أن الماء لا يُملك.
ونحن نذكر غرضَ هذا الفصل، وما نراه غيرَ مذكور في الفصل المقدم، فإن تكرر شيء غاب عن الذكر، لم يضر.
ومعتمد الفصل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من منع فضل الماء ليمنع به الكلأ، منعه الله فضل رحمته يوم القيامة»، والمراد بالحديث أن من احتفر بئراً في برّيّة، يسقي بمائها ماشيتَه، فإذا لحقت ماشيةٌ لإنسان، وقد فضل من ماء البئر عن حاجةِ حافرها، فليس له أن يمنع الفاضل من حاجته من الماشية الواردة؛ فإن منعَ فضل الماء يكون سبباً لمنع الكلأ في تلك الناحية؛ إذ الماشيةُ إنما ترعى بقرب الماء، فإذا منع صاحب البئر فضلَ مائه، فكأنه منع الكلأ في تلك البقعة.
هذا هو المعنيّ بقوله صلى الله عليه وسلم: «ليمنع به الكلأ».
5656- ثم تفصيل المذهب بعد بيان الحديث أن من احتفر بئراً، لم يخل من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يقصد تملك البئر.
والآخر- ألا يقصد تملكها، ولكن قصد استعمال مائها في جهة حاجاته.
والثالث: أن يحتفر بئراً ولا يقصد شيئاً.
5657- فإن احتفر وقصد التملك ملك البئر كما ظهر الماء، ولا يتوقف استقرار ملكه على أن يصير الماء غديراً، ثم إذا ملك البئر، صار أوْلى بالماء والتفريع على أن الماء يُملك، فجمَّةُ البئر مملوكةٌ لمالك البئر، وهي بمثابة ما لو أحرز ماءً في قربة، أو آنية، أو انتزح ماءً، وجمعه في حوض. فإذا صار مالكاً للماء، فإذا أدركت ماشيةٌ، لم يلزمه تركُ فضلِ مائه لها، ولي الحديث في هذا القسم.
وإن أشرفت الماشية على الهلاك سقاها فضلَ مائه بالقيمة.
والجملةُ أن الماء في البئر المملوكة بمثابة الماء المجموع في الحوض، والأواني.
5658- فأما إذا لم يقصد تملكَ البئر، ولكن قصدَ الانتفاعَ بمائها، فإنه يتقدم في انتفاعه، فإذا فضل الماءُ عن حاجته وحاجة ماشيته، وعن مزرعةٍ هيأها بالقرب من البئر، فيجب بذلُ الماء للمواشي، كما نطق الخبر به، وهو محمول على هذه الحالة. ثم ذلك الفاضل لا يتقوّم؛ فإنه لم يَملك رقبةَ البئر، بل صار أولى بها، كذلك هو أولى بمائها على قدر حاجته، والفاضلُ في حق الماشية كالماء المباح العِدّ.
ثم قال الأصحاب: لو اتخد متخذٌ بالقرب من البئر مبقلةً، أو مزرعةً، فأراد أن يسقيها من فاضل ماء البئر، فليس له ذلك؛ فإنّ حقَّ السقي إنما ثبت لحرمة أرواح المواشي.
وهذا وإن أطلقه الأئمة كذلك في الطرق، يتطرق إليه احتمالٌ-من جهة القياس- ظاهرٌ؛ فإن حافر البئر إذا لم يصر مالكَها، ولم يصر مالكاً لجَمَّتها، وإنما يثبت له حق الاختصاص والتقدم بقدر الحاجة، فالقياس أن الفاضل عن الحاجة بمثابة الماء العِد الذي يشترك الناس كافة فيه. هذا وجه الاحتمال. والذي ذكره الأصحاب ما قدمناه من أنه لا يَمنع فضل مائه الماشيةَ، ويمنعه من المزارع وغيرِها.
وفي هذا تفصيلٌ لابد من التنبّه له. وهو أن الذي لا يقصد تملك البئر إن كان يقصد كونَه أولى بالاستيلاء على البئر والاحتكام في مائه، فهو على موجب قصده أولى، وهذا الحكم يوجب له حق الاختصاص، وإن لم يكن ملكٌ. ولو أجرينا قياسَ الاختصاص على حقِّه، لما أوجبنا عليه بذلَ فضلِ مائه للمواشي من كير ضرورة، ولكن أوجبنا ذلك للخبر. وحق الاختصاص مطّرد في غير المواشي.
هذا إذا قصد الاختصاص مطلقاً.
وإن خطر له في احتفاره أن يتقدم بقدر حاجته من غير مزيد، فهذا موضع الاحتمال، فيجوز أن يقال: لا حكم له في الفاضل، وليس له منعه من أحدٍ من الناس، سواء طلبوا سقي المواشي به، أو سقي المزارع، ويجوز أن يقال: إذا ثبت اختصاصه، لم يتبعض، والبئر بحكم ذلك الاختصاص تحت يده وتصرفه والاختصاص لا يتبعض حكمه، حتى يثبت من وجه وينتفي من وجه.
وهذا يتضح بذكر الحالة الثالثة.
5659- وهي أنه إذا احتفر بئراً، ولم يقصد أن يختص بمائها، ولم يظهر منه قصد التملك ولا قصد الاختصاص، فالذي ذهب إليه المحققون أن الحافر مع كافة الناس في ماء البئر على قضيةِ الاستواء، فلا يتقدم بحاجته وهو في الماء كغيره.
ومن أصحابنا من قال: هو متقدم بحاجته. وهذا محتمل حسنٌ، ووجهه أن فعله هذا توصُّلٌ منه إلى الماء، فلا أقل من أن يُفيده الاختصاص، وإن لم يقصده، وهذا في إفادة الاختصاص بمثابة ما لو بنى رجلٌ على مواتٍ داراً، فإنه يملك عَرْصتَها، وإن لم يقصد التملك؛ لأن مثل ذلك لا يقع إلا من متملك، كذلك حفر البئر لا يقع إلا من مختصٍّ، فإن كان كذلك، ظهر على هذا الوجه ما ذكرناه في الحالة الثانية؛ فإنه وإن قصد التقدّم بالحاجة، فحق الاختصاص يثبت له بسبب الاحتفار.
هذا منتهى التفصيل في ذلك.
5660- ولو أوجبنا عليه بذلَ فضل الماء للماشية، ولكن كان الفاضل فاضلاً عن سقيه وماشيته، ولم يفضل عن مزارعه التي هيأها، ومباقله، ظاهرُ كلام الأصحاب أنه لا يلزمه بذلُ فضل مائه، حتى يفضل عن مزارعه، وهذا فيه احتمالٌ على بعدٍ، لحرمة الأرواح.
5661- ولو لحقت الماشية، فاستحدث حافرُ البئر مزرعة، فيظهر هاهنا أنه لا يصرف الماء إلى تلك المزرعة المستحدَثة بعد لحوق الماشية؛ إذ لو جوزناً منعَ الفضل بهذه الجهة، لاستمكن صاحب البئر من طرد الماشية بالزيادة في المزارع.
5662- ثم مما ذكره الأصحاب من جليِّ الكلام في هذا الفصل أن الفضل الذي أوجبنا بذلَه للماشية أردنا ببذله التخليةَ بينه وبين أصحاب المواشي، وعليهم تكلّفُ السقي إن أرادوه، ولا يجب على صاحب البئر إعارة البكرة والدلو، والرِّشا؛ فإنه لا يسوغ الاحتكام على أملاكه إلا في أوقات الضرورات، كما سبق وصفها.
5663- وإذا كان حافر البئر مالكاً للبئر، لم يُحتكم عليه في الملك، والماءِ الذي فيه، هذا ما قطع به المحققون.
وإنما أعدته لأن شيخي كان يكرر في دروسه وجوبَ بذل فضل الماء للمواشي، وإن كانت البئر مملوكةً؛ تمسكاً بظاهر الخبر؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يفصل بين البئر المملوكة لحافرها وبين البئر التي ليست مملوكة لحافرها، لأنه لم يقصد تملّكها.
وكلام الصيدلاني في هذا الفصل مطلقٌ ليس فيه تفصيلٌ، وفرقٌ. ولو كان الحكم يختلف عنده، لأشبه أن يفصّل.
وإنما أخرت ذلك لأني لست أعتمده ولا أعتدّ به، ولا آمن أن يكون إطلاق من أطلقه عن غفلة، ولم يصرح أحدٌ بوجوب صرف فضل الماء إلى المواشي مع التصريح بكون البئر مملوكة إلا شيخي.
5664- ومما ذكره الأئمة متصلاً بما ذكرناه أن من حاز ماءً، وأحرزه في أوانيه، أو جمعه قصداً في حوضٍ له، وسد المنافذ، فهذا مملوك على الرأي الظاهر، وإن لم نجعله مملوكاً على مذهب المروزي، فمحرزه أوْلى من غيره.
والماء الذي يجري في النهر المملوك، كماء القنوات مملوك على الرأي الظاهر لمالك القناة، وكل من تصرف فيه بما ينقُصه، ويُظهر نقصَه، فهو ممنوع منه، ولو استاق أصحاب المواشي مواشيَهم إلى هذه المياه، وكان يظهر النقص منها، فهي مجلاةٌ عن الماء ممنوعةٌ، وما لا يظهر له أثر كالشرب، أو كسقي دوابَّ معدودة، أو كأخد قِربٍ، فقد ذهب ذاهبون إلى أنه لا يسوغ المنع من هذا القدر، واستمسكوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «الناس شركاء في ثلاثة: الماء والنار، والكلأ» وهذا بعينه هو الذي نقلتُه عن شيخي وأنكرته، فإنه انتفاعٌ بفاضل مملوكٍ.
وذهب القاضي وطبقةُ المحققين إلى إجراء القياس، والمصيرِ إلى أن للملاّك أن يَمْنعوا من هذا.
5665- وما درج عليه الأولون من التسامح فيه محمول على أن الناس لا يضنون بهذا القدر، فصارت قرائن الأحوال بمثابة التصريح بالإباحة.
5666- وذكر الأئمة تفصيلَ القول في بيع المياه في القنوات، وأنه لا يصح، وقد ذكرت ذلك مفصَّلاً في موضعه.
ومما ذكره القاضي أن القناة إذا كانت مشتركة، فالمهايأة لا تصح فيها؛ من جهة أن النُّوب تختلف من وجهين:
أحدهما: أن الماء يزيد وينقص، والآخر- أنها تتفاوت في حاجات الدهقنة، فليس ما يقع في النوبة الأولى كما يقع في النوبة الأخيرة، وهذا فيما أظن لم أذكره في كتاب البيع.
ويتحصل مما ذكرته قبلُ، ومن هذا ثلاثة أوجه: أحدها: أن المهايأة تصح في نُوب القنوات ولا تلزم.
والثاني: أنها تصح وتلزم؛ فإن الانتفاع بنوبها لا يصح إلا كذلك، وهذا لا يخفى على أصحاب البصائر
والثالث: وهو الذي جددناه الآن أن المهايأة لا تصح أصلاً.
فصل:
5667- قد ذكرنا في الكتب السابقة مسائلَ متفرقة في حريم الأملاك، ونحن نذكر الآن في ذلك قولاً كافياً، إن شاء الله عز وجل، فنقول:
من كان له ملكٌ، لم يخل إما أن يتاخم مواتاً لا حق فيه لأحد، وإما أن يتاخم الشارعَ، وفيه الحقوق العامة، وإما أن يتاخم ملكاً.
فأما ما يجاور مواتاً، فيثبت له من ذلك الموات حقُّ الحريم، وهو ينقسم عندنا قسمين:
أحدهما: يتعلق بإدامه الملك، وإقامته، وصونه عن الخراب، وعن إمكانه.
وبيان ذلك أن من أراد أن يحتفر في الموات الذي بقرب العمران بئراً أو نهراً عميقاً، وكان الملك يتَضرّر على تحقيقٍ، أو يُخاف ضررُه، فيمنع المتصرف في الموات من ذلك، وهذا المنع في حكم الوقاية للملك سمي حريماً.
ويظهر الحريم ويتسع في القنوات اتساعاً بيّناً، فإذا احتفر الإنسان قناةً في موات، وتملك آبارها، ورسومَها، وأسرابها، فيحرم على من يريد التصرف في الموات أن يتصرف تصرفاً يضر بالقناة، ويُفضي إلى هدمها أو ينقُص من مائها. ولو أراد مريدٌ أن يجري على معارضة تلك القناة قناة أخرى، ولو فعل، لانقلب ماء هذه القناة المتقدّمة إلى المستحدثة، فهذا ممنوع، ويختلف ما ذكرناه باختلاف صفات الأراضي، فإنها تكون حَرّة، وحصبة، وذاتَ رملٍ متخلخل.
والجملة ما ذكرناه من المنع من التصرف المنقص.
هذا أحد القسمين المذكورين في الحريم.
5668- والقسم الثاني- لا يتعلق بخيفة الهدم، ولكنه يتعلق بالاتساع، وإثبات المضطرب، وهذا قد يقع عاماً لأهل القرية بالإضافة إلى الموات، فلهم فيه مطرحُ التراب، ومناخُ الإبل، ومجتمعُ النادي، وملعبُ الصبيان، ومركض الخيل إن كان سكان القرية خيّالة.
فأما المحتطَب والمرعى الذي ينشر فيه بهائم القرية، فالقول فيه ينقسم، فما يبعد لا يستحقّه أهل القرية، ولو أحياه محيٍ، ملكه، فأما ما يقرب من القرية، فلا يستقل مرعىً ومحتطَباً، ولكن قد تستدير البهائم بالقرب من القرية إذا استشعر أهلُها خوفاً من الإبعاد، فما كان كذلك، فهو مختلف فيه، على ما ذكره الشيخ أبو علي، والرأي الظاهر أنه ليس من حقوق القرية. هذا فيما يتعلق بالقرى على الجملة.
فأما إذا ابتنى الرجل داراً في مواتٍ، وفتح بابها في صوبٍ منه، فلصاحب الدار من الموات حقُّ مطرح التراب، والكُناسات، ومطرح الثلج، والممر في الصوب الذي فتح الباب فيه.
ولو أحيا محيٍ وبقَّى له الممرَّ، ولكن كان يحتاج أن يزورّ عن قبالة الباب، فليزورّ؛ فإنه لا يستحق الممر في صوب الباب على طول الامتداد في الموات الكائن في تلك الجهة.
وقد ذكرت في كتاب الصلح أحكامَ المزاريب والأجنحة إلى الشوارع، وافتتاح المنافد والأبواب إلى الممر العام.
5669- فأما إذا تضايقت الأملاك، فقد زال المتسعُ والحقُّ الذي سمّيناه المضطربَ والاتساعَ؛ إذ تتقابل الأقوال في ذلك.
وهذا إنما يُفرض في أملاكٍ صودفت كذلك، والكلامُ يرجع إلى تصرف الملاك في أملاكهم، فإذا تجاور ملكان، فلصاحب كل ملك أن يتصرف في ملكه بما يُعتاد مثله، وإن كان يُخاف منه اختلال ملك صاحبه، وهذا كتسليط كل مالك على حفر بئر في ملكه على الاقتصاد المعتاد، وكذلك القول في اتخاد مبرز لا يجاوز فيه حدّ ملكه.
وقد منعنا مثلَ هذا التصرف إذا خيف منه الضررُ في الموات؛ فإن الموات المطلق هو الذي لم يتعلق به حق. وما تعلق به حقُّ الحريم، فهو واقية الملك، وليس مواتاً مطلقاًً، وهذا لا يتحقق في الأملاك المتجاورة.
ثم يتفرع على ما ذكرناه أن احتفار البئر إذا أدى إلى اختلال دار الجار، فلا ضمان على الحافر لأنه متصرفٌ في ملكه، فليعتقد الملاك في الأملاك المتجاورة أنهم بصدد هذا الضرار، فلابد من احتماله، ولولاه، لتعطلت الأملاك ناجزاً لخيفة الضرار، ولا سبيل إلى قطعِ مرافق الأملاك، وتحصيلِ الضرار، وتعطيلِ المنافع لتوقع ضرارٍ.
والذي يجب إنعام النظر فيه أمور العادات، فلو كانت دار الإنسان محفوفةً بالدور والمساكن، فلو أجلس فيها قصاراً، أو حداداً، فهذا-والدار كما وصفناها- خارجٌ عن الاعتياد، والظاهر عندنا منعُه؛ فإنه وإن كان ارتفاقاً، فهو مجاوز للعادة، وكذلك إذا اتخد داره حمّاماً، وهي محفوفة بالمساكن، فهذا من القبيل الذي ذكرناه، إلا أن يستمكن من الإبرام والإحكام على حدٍّ لا يزيد ضرره على ضرر المرافق المعتادة.
وكان شيخي يتردد في اتخاد الإنسان داره مدبغةً، ويميل إلى التجويز؛ فإن الضرار إذا كان لا يتعلق بالدور فتضرر السكان بالروائح لا يوجب منعَ المالك من التصرف.
وهذا محتملٌ على ما كان يتردد فيه رحمه الله.
5670- والقول المغني عن التفصيل: إذا جاوز في التصرف العادةَ وعُد في حق نفسه مضرّاً بملك نفسه، فهذا لا يحتمل. وإن كان مرتفقاً بملك نفسه، ولكنه جاوز العادةَ في ذلك الفن وجرّ ضراراً ظاهراً، فهذا في ظاهر المذهب لا يحتمل. وإن لم يجرّ ضراراً على المساكن، وارتفق ارتفاقاً لا يعتاد، وجرّ إلى السكان تضرراً، فهذا فيه احتمال ظاهر. فهذا منتهى القول في ذلك والله المستعان.