فصل: كتاب العطَايَا والحبس والصدقات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب العطَايَا والحبس والصدقات:

قال الشافعي: "فجميع ما يعطي الناسُ من أموالهم ثلاثة وجوه... إلى آخره".
5671- صدّر الكتابَ بالتقاسيم في التبرعات، وقال: يقع قسمان منها في الحياة: وهما- الهبات، والصدقات.
ثم الصدقات تنقسم إلى صدقات البتات، وهي تصدّق الرجل بطائفة من ماله على من أراد.
والثاني: الوقف.
ومن التبرعات ما يقع بعد الوفاة. والمقصود من هذه التقاسيم انتزاع الوقف من خَلَلها، وباقي التبرعات تأتي في أبوابها.
5672- والأصل في الوقف السنة، وإجماع الأمة، أما السنة، فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا عن ثلاث: ولد صالح يدعو له، وعلم ينتفع به بعد موته، وصدقة جارية» فقال العلماء: الصدقةُ الجارية هي الوقف على وجوه الخير، وقال عمر رضي الله عنه: أصبت مالاً من خيبر، لم أصب مثله في الإسلام، فراجعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان حدائقَ، ونخيلاً، فقال صلى الله عليه وسلم: «حبِّس الأصلَ، وسبّل الثمرَ».
وأجمع المسلمون على أصلِ الوقف، وإن اختلفوا في التفصيل.
5673- ومذهبُ الإمام الشافعي أن الوقف إذا استجمع شرائطَه صحيحٌ لازمٌ، لا يتوقف لزومُه على تسجيلٍ من جهةِ قاضٍ، ويصح مُنَجَّزهُ في الحياة، ومنفَّذُه في الوصية بعد الوفاة.
5674- ثم هو في التقسيم الأولي متنوع، فمنه ما يقع مضاهياً للتحرير، وهو كجعل بقعة مسجداً، وهذا مما وافق فيه من أنكر لزومَ الوقف والتحبيس. ويتصل بهذا القسم جعْلُ بقعة مقبرةً، على ما سيأتي، إن شاء الله. عز وجل تفصيل الصنفين.
والقسم الثاني- ما يتضمن صرفَ منفعته إلى الغير، وهو ينقسم إلى ما يقصر مقصوده على حق السكون، كالمدارس والرباطات. والوقفُ فيهما قريبٌ من جَعْل البقاع مساجدَ ومقابرَ، وإلى ما يفوّض الأمر إلى المستحِق، فإن شاء، انتفع بنفسه، وإن شاء استغلّه، وتملّك ما يحصل من غَلَّته، وهذا يجري على نوعين:
أحدهما: ما تصرف الغلّةُ فيه إلى عمارة المساجد، والرباطات، والمدارس، وإلى ما يصرف إلى من يتملكه.
ثم الوقف يصح على مخصوصين معيّنين، وإلى جهةٍ عامة كجهة المسكنة والفقر.
وفي تصحيح الوقف على أقوام لا ينحصرون، وليس المراد حاجتَهم قولان، كالوقف على بني هاشم وبني المطلب، ونحوهم.
5675- ومما يتعين تصدير الكتاب به أن الوقفَ إذا كان على معينين، أو على جهةٍ، والغرض منه أن يملكوا ما يحصل من غَلّةٍ وثمرة، فللشافعي في هذا الصنف ثلاثة أقوال: أحدها: أن الملك في رقبة الموقوف يبقى للواقف، ويثبت لمن عليه الوقف استحقاقُ الرَّيْع والفائدة.
والقول الثاني- أن الملك يزول إلى الموقوف عليه في الرقبة، ولكنه محبَّس، لا يباع، ولا يوهب ولا يورث، فيثبت ملك التصرف في الفوائد، وملك التحبيس في الرقبة.
والقول الثالث: أن الملك في الرقبة يزول إلى الله تعالى، والفوائد يستحقها الموقوف عليه.
وما يقع مضاهياً للتحرير كجعل البقاع مساجدَ، لا يتجه فيه إلا زوالُ الملك إلى الله تعالى، على تفصيلٍ سيأتي في المسائل، إن شاء الله عز وجل.
5676- وحقيقة مذهب أبي حنيفة ردُّ الوقف إذا كان المقصود به تمليكَ الفوائد، ومن أصله أنه يلزم بالتسجيل، وهذا يخرّج على اتباع قضاء القاضي في مواقع الخلاف، ونُقل عنه أنه ألزم الوصية بالوقف إذا خرجت من الثلث، وهذا عنده بمثابة الوصية بالمنافع والثمار، فلا يصح الوقف على أصله بنفسه، وسلّم لزومَ جعل البقاع مساجدَ ومقابرَ، ولم ير ذلك وقفاً، وإنما اعتقده تحريراً.
5677- فإذا تمهد ما ذكرناه ترجمةً، فنذكر بعد ذلك فصلين في مقدمة مسائل الكتاب:
أحدهما: في الألفاظ وذكر الصريح منها، والكناية.
والثاني: في بيان ما يصح وقفه.
5678- فأما القول في الألفاظ، فلفظ الوقف على انفراده من غير انضمام قرينةٍ إليه صريحٌ في الباب، في الفن الذي يتضمن تمليك المنافع والفوائد. هذا هو الذي يُقطع به.
ولفظ التصدق بمجرده غيرُ كافٍ.
وتردد الأئمة بين اللفظين في التحبيس والتَّسبيل، والتحريم والتأبيد، فاشتهر خلافُ الأصحاب في التحريم والتأبيد، فإذا قال: جعلتُ هذه البقعةَ محرّمةً عليَّ وريعُها للمساكين، أو لفلان وفلان، وبعدهم للمساكين. أو قال: أبّدتُها، أو جعلتُها مؤبَّدةً، وذكر المصرف كما سيأتي، فمن أصحابنا من رأى الاكتفاء بأحد هذين اللفظين، وزعم أنهما جاريان على الشيوع والذيوع في المقصود، وذهب آخرون إلى أنهما لا يستقلاّن؛ فإنهما يستعملان تأكيدين للوقف والتحبيس، فإذا ذكرا مفردين، لم يستقلا.
فأما لفظ التحبيس والتسبيل، فالذي قطع به الأئمة أنهما كلفظ الوقف.
وذهب أبو سعيد الإصطخري إلى أنهما كنايتان في الباب، حكاه الشيخ أبو علي عنه وزيفه.
وذهب بعض الأئمة إلى نقل تفصيلٍ عن أبي سعيد الإصطخري، فقال: من أصله أن التحبيس صريح، والتسبيل ليس كذلك. وهذا القائل يذكر للتفصيل والفرق بين التحبيس والتسبيل مسلكين:
أحدهما: أن الرسول صلى الله عليه وسلم غايرَ بين اللفظين في قصة عُمر؛ إذ قال: "حبِّس الأصل وسبِّل الثمر" فاستعمل التحبيس في الأصول والرقاب، والتسبيل في الثمار، وقيل: عنى صلى الله عليه وسلم بالتسبيل صرفَ الثمار إلى السابلة.
والوجه الثاني- أن التسبيل من السبيل، وهو لفظ مبهم، والتحبيس معناه حبس الملك في الرقبة عن التصرفات المزيلة، فكان في معنى الوقف.
5679- ومما يتعلق بذلك أن الأصحاب ترددوا في لفظ الوقف إذا استُعمل فيما سبيله مضاهاة التحرير، مثل أن يقول مالك البقعة: وقفتها على صلاة المصلين، وهو يبغي بذلك جعلَها مسجداً.
ثم من تردد في التحبيس والتسبيل، جعلهما صريحين إذا اقترنا بالقرائن المشهورة في الباب، مثل أن يقول: حبّست على فلان كذا، تحبيساً محرّماً مؤبداً، أو ذكر التسبيل وقرنه بما ذكرناه.
5680- وقد ذكرنا أن لفظ التصدّق لا يستقل في الباب، إذا تجرّد وفاقاً، وسبب ذلك أنه يستعمل صريحاً في التبرع بالأعيان، فيقول من يصرف طائفةً من ماله إلى محتاج: تصدَّقتُ بهذا عليك، وهو يبغي تمليكه الرقبةَ تقرباً إلى الله تعالى، والمتصدَّقُ عليه يتصرف في الرقبة تصرفَ الملاّك.
فلو قال: تصدقت بهذا على فلان وفلان،-وذكر معينين- صدقةً محرَّمةً مؤبدةً، أو قال: تصدقت على المساكين صدقةً محرّمةً مؤبدةً، فللأصحاب اضطرابٌ في لفظ الصدقة مع التقييدات التي ذكرناها. فذهب الأكثرون إلى أن اللفظ إذا تقيد، التحق بالصرائح في الباب، وهذا ظاهر المذهب.
وامتنع آخرون، وسبب الامتناع أن التصدق صريح في تمليك الرقبة على خلاف الغرض المطلوب في الوقف.
وذهب ذاهبون إلى اشتراط التقييد بقطع التصرف عن الرقبة، مثل أن يقول: لا يباع ولا يوهب؛ فإن التحريم والتأبيد مع لفظ الصدقة قد يحملان على تأكيد الملك في الرقبة على معنى أن الملك فيها مسرمدٌ لا ينقضه المتصدق.
وفصل فاصلون بين أن يستعمل التصدّق في معينين يُتصوّر الهبة منهم، وبين أن يستعمله في جهة لا يتأتى تصوير الهبة فيها كالتصدق على المساكين.
5681- وحاصل خلاف الأصحاب يؤول أوّلاً إلى وجهين في استعمال لفظ الصدقة، من غير ذكر الوقف والتحبيس والتسبيل، فمنهم من لم ير استعمال لفظ الصدقة دون الألفاظ الثلاثة؛ من جهة إشعاره بتمليك الرقبة لا على جهة الوقف، ومنهم من جوز استعمال لفظ الصدقة مع الاقتران بالقرائن التي ذكرناها.
ثم اختلف هؤلاء في القرائن، فمنهم من شرط أن يقترن بنفي البيع والهبة، على ما جرى الرسم فيه.
ومنهم من اكتفى بأن يُقرنَ بالتحريم والتأبيد، على ما جرى تفصيل الكلام به.
ثم إذا شرطنا الاقتران، فجرّد الصدقةَ، فإن خاطب بلفظها قابلاً متعيناً، فالأصح أنه صدقة بتات، مقتضاها تمليك الرقبة؛ فإنها صريحٌ في الباب.
فأما إذا أضاف اللفظ إلى المساكين وغيرِهم من الجهات العامة، ونوى الوقف، فالنية هل تنزل منزلة القرائن اللفظية؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من نزّل النية منزلةَ التقييد بالألفاظ، وأقام لفظ الصدقة مقام الكنايات في الطلاق والعتاق، وحكمها أنها تعمل مع النية.
ومنهم من لم يكتف بالنية؛ فإن التصدق صريحٌ في تمليك الرقبة، وإنما فرقنا بين إضافة الصدقة إلى الجهات العامة وبين إضافتها إلى معين يتصور منه القبول، لأنها إذا أضيفت إلى معيّن، تحقق كونها صريحاً في تمليك الرقبة.
فهذا حاصل الكلام في الألفاظ.
وإذا قلنا: التحريم ليس صريحاً، واقترنت النية به، يجب القطع بصحة الوقف؛ لأنه ليس موضوعاً لتمليك الرقبة، وقد انتجز غرضنا من الكلام في الألفاظ.
5682- فأما القول فيما يصح وقفه، فنقول أولاً: يصح وقف العقار، والمنقول، ويصح وقف الجماد والحيوان. والمتبع أن يكون الموقوف المحبَّس بحيث يثبت له منفعة مقصودة، أو فائدة مقصودة، كالثمار وما في معانيها.
والمنفعة المقصودةُ يضبطها ما يصح استئجارها على شرط ثبوت الملك في الرقبة، فإن الحرّ يؤاجر نفسَه، ولا يصح منه تحبيس نفسه على جهةٍ، أو على أشخاصٍ معينين. ثم على جهةٍ بعدهم.
5683- واختلف الأصحاب في وقف الدراهم لتزيين الدكاكين، اختلافهم في إجارتها، والأصح منع الوقف والإجارة، والتصحيح أقربُ إلى الإعارة.
ويصح أن يحبس حلياً مباحاً ليتحلى به معينون، ثم بعدهم أيتام، على ما يجري الوقف به.
ويصح وقف عبدٍ صغير، وإن لم يكن منتفعاً به في الحال، لأن الوقف معقودٌ على التأبيد، فلا يضر استئخار الانتفاع من الأول لنقصٍ في المعقود عليه مصيره إلى الزوال. وهذا كتصحيح النكاح على الرضيعة، وإن لم يكن منتفعاً بها في الحال.
والمعنى ما نبهنا عليه.
وألحق الأصحاب بهذا وقفَ الدراهم على أن يصاغ منها حلي، على قولنا بفساد وقف الدراهم على أن تبقى على صفتها، ويكتفى منها بالتزيين، وزعموا أن استئخار صيغة الحلي بمثابة استئخار إمكان الانتفاع والمحبّسُ عبدٌ صغير، أو مُهرٌ صغير.
وهذا فيه بعض النظر؛ فإن المُهرَ والعبد الصغير يصيران من طريق الخلقة إلى إمكان الانتفاع، والدراهم والنّقرة ليست كذلك، واختيار إنشاء صوغها افتتاح أمرٍ من طريق الإيثار، ويكاد الوقف أن يكون في حكم المعلّق بما سيكون.
5684- فأما وقف الكلب المنتفع به، فنقول أولاً: تصح الوصية به، وفي صحة هبته خلافٌ قدمتُه في البيع، ولا شك في امتناع بيعه، وفي صحة إجارته خلافٌ مشهور، ذكرناه في كتاب الإجارة.
فإذا تجدد العهد بهذه الأصول، فمن أئمتنا من لم يصحح وقفَ الكلب وإن صححنا إجارته؛ لأن رقبته ليست مملوكة، والوقف يستدعي وروداً على رقبةٍ مملوكة، ولهذا يمتنع وقفُ الحرِّ نفسَه، وإن كان يصح منه أن يؤاجر نفسَه.
ومن أصحابنا من خرّج صحة وقف الكلب على صحة هبته؛ فإن الوقف إثبات اختصاصٍ في جهةٍ، فكان في معنى الهبة، وليس الكلب فيه كالحر؛ فإنه ليس مملوكاً، وليس في رقبته اختصاص.
وبنى الشيخ أبو حامد جواز وقف الكلب على جواز إجارته.
هذه مسالك الأصحاب في وقف الكلب.
5685- وأما وقف أم الولد، فقد اختلف أصحابنا فيه، ورتبوا الخلاف على الوجهين في وقف الكلب، وجعلوا وقف المستولدة أولى بالصحة؛ من جهة أنها مملوكة، ولم يمتنع فيها من أحكام الملك إلا البيع والرهن، وبنَوْا الخلافَ على أن الوقف هل يتضمن نقلَ الملك إلى الموقوف عليه؟ وفيه الاختلاف المقدم.
فإن قضينا بأن رقبة الوقف مبقَّاة على ملك الواقف، فلا يمتنع وقف المستولدة، وإن حكمنا بأن الوقف يتضمن نقل الملك في رقبة الموقوف إلى الموقوف عليه، فالوقف باطل؛ فإن الملك في رقبة الموقوف لا يقبل النقل.
هذا منتهى القول فيما يصح وقفه وفيما لا يصح وقفه.
5686- ثم إن صححنا وقف المستولدة فلو عتَقَت بموت مولاها، انفسخ الوقف وزال؛ لأن الوقف يناقض حرية الموقوف.
5687- وقد ذكرنا أن العبد المستأجر إذا عتَقَ في أثناء المدة، فالظاهر أن الإجارة لا تنفسخ، والفرق ما قدمناه من أن الوقف ينافي الحرية، والإجارة لا تنافيها. وقد جرت من مالكٍ لها، ويعتضد ما ذكرناه بأن الإجارة مؤقتة، والوقف مبناه على التأبيد، فيستحيل بقاؤه بعد زوال الرِّق، ولا حاجة إلى هذا مع العلم بأن النكاح معقود على التأبيد والحرية الطارئة عليه لا توجب انفساخ النكاح، فالتعويل على ما قدمناه من أن الوقف في موضوعه يستدعي ملكاًً تاماً. كما قدمناه.
وكان شيخي يقول: من استحق منفعة عبدٍ على التأبيد بطريق الوصية، لم يملك صرفَ ذلك الاستحقاق إلى غيره بجهة الوقف؛ فإنه لا ملك له في الرقبة، والوقف وإن لم يكن تحريراً، فهو قريب منه؛ من حيث إنه يقتضي قطعَ تصرف المالك عن الرقبة التي حبَّسها. وقد ظهرت مضاهاة التحرير في المساجد والمقابر.
فهذا ما أردناه.
فصل:
5688- موضوع الوقف على التأبيد ومنافاة التأقيت، وهذا الفصل معقود لبيان مسائلَ يجري الوقف فيها على قضية التأقيت، ومجموعها يدخل تحت نوعين، ثم يلتحق بهما مسائلُ؛ التحاقَ الفروع بالأصول، والنوعان أصلان مقصودان في الكتاب.
5689- فنقول: الوقف الوارد على التأبيد هو الذي يجد مصرفاً من إنشائه ولا ينتهي إلى منقطعٍ، بل يتصل بمصرفٍ لا يُتوقع انقطاعه، وهذا كما لو وقف على المساكين والمحاويج، وجهات الخير، وكالوقف على معيّنين موجودين على قضية تتضمن تعجيل حقوقهم متصلةً بالعقد، ثم يذكر الواقف انصرافَ الوقف بعد انقراضهم إلى جهةٍ لا تنقطع.
5690- ثم قد يُفرض الوقف منقطعَ الآخر، وقد يفرض منقطع الأول، ونحن نذكر كل قسم و ما يليق به.
ونبدأ بالوقف المنقطع الآخر، وهو أن يقول: وقفت هذه الدار على أولادي، ولا يتعرض لمصرفِ الوقف بعد انقراض المذكورين، ففي صحة الوقف قولان مشهوران:
أحدهما- أن الوقف لا يصح؛ فإنه مخالف لموضوعه؛ إذ موضوعُه على التأبيد، وبه تميّز عن العواري، ولما رسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرَ الوقفَ والتحبيس، قيّد عمرُ رضي الله عنه التحبيسَ بالتأبيد والتحريم. والوقفُ في الحقيقة قربةٌ يبغي المتقرِّب بها إدامتها. هذا وضعها ومبناها، والصدقات المملِّكةُ تقطع سلطان المتصدق، وتنتهى نهايتَها بالوصول إلى يد المتصدَّق عليه، والوقف هو الصدقة الجارية، فإذا لم يثبت له مصرف متأبَّد، كان مائلاً عن موضوعه. هذا هو القول الصحيح وبه المنتهى.
والقول الثاني- أن الوقف يصح؛ فإنه ليس فيه تأقيت، والموقوف عليه إذا تعلّق الاستحقاق بعمره جانب الوقفُ التأقيتَ، والنكاحُ مع ابتنائه على التأبيد ينتهي بانتهاء عمر أحد الزوجين.
وذكر صاحب التقريب قولاً ثالثاً: أن الوقف إذا كان في عقارٍ، لم يصح إنشاؤه منقطعَ الآخر، وإن كان الوقف في حيوان، لم يمتنع ألا يتأبد مصرفه، فإن الحيوان المحبَّس إلى الهلاك مصيره، فإذا وقف مالكُ الحيوان الحيوانَ على شخص معين، كان ارتقاب بقاء الموقوف مع وفاة الموقوف عليه متعارضاً في التقدير بارتقاب موت الموقوف، مع بقاء الموقوف عليه.
هذا بيان الأقوال في الأصل. وحقيقتها تتبين بالتفريع.
5691- فإن حكمنا بفساد الوقف، فهو جرى لغواً، والموقوف مقَرٌّ على ملك الواقف، لا يتعلق به استحقاقُ المسمَّيْن، ولا استحقاقُ غيرهم في حياتهم وبعدهم.
5691/م- وإن حكمنا بأن الوقف صحيح، فهو لازم في بقاء المسمَّين وريعُه مصروف إليهم ما بقوا؛ وفاءً بشرط الواقف، فإذا تصرّم المذكورون، وانقضَوْا، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أن الوقف ينتهي بانقضائهم انتهاء النكاح بموت أحد الزوجين، ثم حكم انتهائه أن يرتد ملكاً، كما كان قبل الوقف.
والقول الثاني- أن الوقف لا ينقطع بانقراض المسمّين.
توجيه القولين: من قال بانقضاء الوقف، استدلّ بأن المتبع فيه شرطُ الواقف، ويبعد أن يثبت فيه مصرِفٌ لم يتعرض له المحبِّس، فإذا انقضى مصرفه المسمّى، واستحال تقدير مصرفٍ، وامتنع استقلال الوقف من غير مصرف، فلا يبقى إلا انقلابُه ملكاً.
ومن قال بالقول الثاني، احتج بأنا لو حكمنا بانقضاء الوقف، لكان ذلك مفضياً إلى تأقيت الوقف. وهذا تغييرٌ لوضعه، وتبديل لحقيقته.
التفريع على القولين:
5692- إن حكمنا بانقلاب الوقف ملكاًً، فمن ضرورة هذا القول التزام تطرق حكم التأقيت إلى الوقف، وكأن هذا القائل يقول: المرعي في امتناع تأقيت الوقف جانب الموقوف عليه، وهو غير متأقت في حقه، وليس الوقف مما يورث حتى يقال: ليثبت في حق الموقوف عليه ثبوتاً يخلفه فيه وارثه، وليس كالملك في البيع؛ فإن الخلافة ممكنة فيه.
ومن منع هذا، فكأنه يرعى التأبيد في الموقوف المحبَّس، فإنه المتقرب به.
وهذا هو الصحيح. فإذا صححنا الوقف، ثم رددناه ملكاًً، فقد التزمنا نوعاً من التأقيت.
5693- وبنى بعض الأصحاب على هذا القول مسألةً، وهي أن الرجل إذا وقف داراً سنةً، أو سنتين على شخص، أو على جهةٍ من جهات الخير، فهل يصح الوقف؟ المذهب الذي عليه التعويل أنه لا يصح، وإن صححنا الوقف المنقطع الآخر؛ فإن تصحيح ذلك مقرّب من حكم التأبيد؛ نظراً إلى الموقوف عليه، وتشبيهاً بالنكاح. فأما التصريح بالتأقيت، فلا اتجاه له.
5694- وأبعد بعض أصحابنا، فصحح الوقف على هذه الصيغة، وقضى بانتهائه إذا انتهت المدة، وهذا لا يحل الاعتداد به، ولا يسوغ إلحاقه بالوجوه الضعيفة؛ فإنه في التحقيق إلزامُ عاريةٍ، والعارية يستحيل الحكمُ بلزومها؛ فإنها تَرِد على ما يوجد شيئاً شيئاً، فلا تستقر فيه اليد، والتبرعات إنما تلزم بالقبوض، والوقف خُصَّ بالتصحيح، ليستمكن المحبِّس من تأبيد قُرَبِه، فإذا ترك الأصل الذي بنى الشرعُ الوقفَ عليه، لم يبق فرقٌ بين العاريّة والوقف.
5695- فأما إذا قلنا: لا يرتدُّ الموقوف ملكاًً عند انقراض المسمَّيْن، فلا يستقل الوقف دون مصرف. وقد اختلفت الأقوال في مصرِف هذا الوقف، بعد انقضاء الجهة التي سماها الواقف، فكان شيخي يذكر أوجهاً، وأطلق صاحب التقريب الأقوال، ولعل بعضها من تخريجات ابن سريج.
فأحد الأقوال- أن الوقف يُصرف إلى أقرب الناس بالمحبِّس.
والقول الثاني- أنه يُصرف إلى المساكين.
والقول الثالث: أنه يصرف إلى المصالح العامة، وهي مصرف خمس الخمس من الفيء والغنيمة.
وتوجيه الأقوال يستدعي تنبيهاً على مسلكٍ لبعض الأصحاب غيرِ مرضيٍّ، وذلك
أن بعض الأصحاب قال: هذه الأقوال تنزل على قصود الناس في أوقافهم فمن
يصرف إلى أقرب الناس بالمحبِّس يدعي أن هذا هو الغالب في الأوقاف، فكأن الواقف ذكره، وإن لم يصرح به.
والقائل الثاني- يبغي القُربة، وهي إلى سدّ الحاجات أقرب.
والقائل الثالث: يذكر الجهة العامة الحاويةَ لوجوه الخير.
ودوران الطريقة على حمل الوقف على مايظن كلُّ واحد عمومَه عُرفاً في المصارف. وهذا زلل ظاهر، وميلٌ عن المسلك المطلوب.
5696- ونحن نقول: إذا ثبت بقاء الوقف، فتلقِّي مصرفه من العرف محالٌ؛ فإنه مضطرب، والظاهر أن الواقف لم يرد تأبيد الوقف، فإن كان المتبع في ذلك حَمْل لفظه على موجب العرف، فلفظه ناصٌّ في التخصيص، فلا معنى لترك موجب لفظه لعرفٍ مختلطٍ، لا ثبات له، ولا اطراد فيه، فالطريقُ في توجيه الأقوال أنا إذا اضطررنا إلى إبقاءِ الوقف، والوقف أُثبت قربةً في الشرع متعلقةً بمصرف، ونحن لم نجد مصرفاً من جهة شرط الواقف، ولا من جهة إرادته، ردَّدنا الظنون في أَوْلى القربات، وأثبتناها على الاختلافِ على خلاف مراد الواقف، فرأينا في قولٍ الصرفَ إلى أقرب القرابات أولى؛ فإن أفضل القربات ما يضعها المرء في القرابات، ويستفيد بها مع التقرّب صلةَ الرحم.
وفي قولٍ: تُعتبر الحاجة؛ فإن سدّ الحاجات أهمُّ الخيرات.
وفي قول: يحمل المصرف على أعم الجهات؛ إذ لا متعلق عندنا في تعيينٍ.
فهذا حقيقةُ هذه الأقوال والتقرير بعدُ أمامنا.
التفريع على هذه الأقوال:
5697- إن حكمنا بأنه يصرف إلى الأقربين، فقد اختلف أصحابنا، فمنهم من
قال: يصرف إلى المحاويج من الأقربين، فإنا إذا كنا نبغي القربة، فالوجه أن نرعى الحاجة، ثم نعتبرها مع القرابة.
ومن أصحابنا من قال: لا نرعى الحاجة، ثم هؤلاء يكتفون بصلة الرحم، ويضمون إليه أن الوقف الحق ذخرٌ وعمادٌ للأغنياء إذا افتقروا، فإن الأموال المعرضة للانتفاع والتصرفات تبيد بالتبذير والصرف، والأوقاف تبقى لامتناع بيعها، وهذا ظاهرٌ في قصود الواقفين على أولادهم، وإن خلفوا عليهم أموالاً.
5698- ومما اختلف أصحابنا فيه في التفريع على هذا القول: أنا إذا صرفنا إلى الأقرب، راعينا أَوْلى القرابة باستحقاق الإرث، أو أقربهم رحماً؟
من أصحابنا من قال: الأقرب هو الأوْلى بالميراث، فابن العم أوْلى بالوقف من ابن البنت.
والوجه الثاني-ولعله الأصح على حكم هذا التفريع- أن قرب الرحم أوْلى؛ فإن الغرض صلة الرحم، ولا مزيد على قاعدة الشرع؛ إذْ حرم الوارثَ وجوهَ المبارّ الواقعةِ وصيةً، وحمله على الاكتفاء بالإرث.
وإن فرعنا على صرف الوقف إلى المساكين، فقد اختلف أصحابنا على ذلك: فمنهم من رأى محاويجَ الجيران أوْلى، ومنهم من لم يفرّق. وتقديم الجيران لا معنى له؛ فإنا إن سلكنا هذا المسلك وقعنا في الصرف إلى محاويج القرابة، وهو القول الأول، فلينتبه الناظر لما يمرّ به.
وينقدح في هذا القول جواز نقل الرَّيْع من مساكين البلدة، ومنعُ ذلك يجري على اختلاف القولين في نقل الصدقات.
وإن فرعنا على الصرف إلى المصالح العامة، لم يتصرف فيه غيرُ الوالي. هذا هو الرأي الظاهر. ولا يبعد عن الاحتمال ردُّ ذلك إلى نظر المتولِّي، إن كان في الوقف متولٍّ. والقول في المتولي في الوقف المنقطع الآخر قد يغمض، على ما سنذكره من بعدُ.
5699- ومن تمام التفريع أن من رأى الصرف إلى الأقربين، قال: لو انقرضوا، أو لم يكونوا، فالمصرف مردودٌ إلى القولين الآخريْن، وانقراض الأقربين لا يوجب انقطاع الوقف؛ فإنا نفرع على أن الوقف لا ينقطع، وإن انقطعت الجهات التي ذكرها الواقف.
5700- ومما نفرعه أيضاًًً أن مَنْ وقف وأقّت، وصرّح بالتأقيت، فقال: وقفت هذا على فلانٍ سنةً، فإذا كنا لا نصحح الوقفَ المنقطع الآخر، وكنا نرى أن الوقف يتأبّد وراء انقراض ما ذكره الواقف، فإذا وقع التصريح بالتأقيت، فلا شك أن هذا أحرى بالفساد، ولكن إذا صححنا فنثبت وراء الوقف مصرفاً، والقول فيه يختلف، كما تقدم في الوقف غلى الأولاد من غير تعرضٍ للمصرف بعدهم.
5701- ومأخد هذا الذي ذكرناه مع التصريح بالتأقيت أصلٌ عظيم في الوقف، يكاد أن يكون قطباً لشطر المسائل، ونحن نقرره، ونذكر ما فيه، ثم نعود إلى التصريح بالتأقيت، فنقول:
العتق إذا نُجِّز وأُقِّت، نفذ، وتأبد، وإذا شُرط في العتق شرطٌ فاسد، لا على معرض التعليق، لغا الشرطُ، ونفد العتقُ، فمؤقته منفّذٌ مؤبد، ومذكوره على حكم الفساد صحيح، وكذلك القول في الطلاق.
5702- فأما الوقف، فإنه ينقسم إلى وقفٍ يضاهي التحرير، وإلى وقفٍ يبعد عن مضاهاة التحرير. فأما الوقف الذي يضاهي التحرير، وهو جعل بقعةٍ مسجداً، فهذا النوع لا يفسد بالشرط، ولا يتأقت بالتأقيت، بل يتأبد على الصحة. هذا هو الظاهر، وما عداه مطَّرحٌ، وسيأتي الشرحُ عليه، إن شاء الله عز وجل.
5703- فأما ما لا يضاهي التحرير، كالوقف على الأعيان، وجهات الخير، فإذا قرن بشرطٍ فاسد أوْ أقّت، لم يخلُ إما أن يكون مما يشترط القبول فيه، وإما ألا يكون شرطاً فيه، فإن لم يكن القبول شرطاً فيه، ففي نفوذه مع الاقتران بالشرط المفسد.
وجهان، وفي تأبده مع تصريحه بالتأقيت وجهان:
أحدهما: أنه يُنحى به نحو العتق، فنيفد على موجب الشرع، وينحذف التأقيت، والشرطُ الفاسدُ.
والوجه الثاني- أنه يفسد، ولا ينفذ؛ فإن الوقف مداره على اتباع الشرائط في جهة الصحة، وكل ما اتبع الشرط الصحيح فيه أفسده الشرط الفاسد، والعتق قطعٌ للملك، واستئصالٌ لسلطنة التصرف.
فأما الوقف الذي يشترط القبول فيه على رأي بعض الأصحاب، فالأصح أنه يفسد بالشرط الفاسد، فسادَ العقود المفتقرة إلى الإيجاب والقبول.
5704- فإذا ثبتت هذه المراتب، عاد بنا الكلامُ إلى التصريح بتأقيت الوقف، فإن أفسدناه، فالملك دائم، والوقف باطلٌ، في الوقت ووراءه، وإن صححناه، وأبَّدناه، فهذا الوجه على هذا القول له اتجاه على حال؛ أخذاً مما ذكرناه الآن.
فأما تصحيح الوقف مع التأقيت، وردّه إلى الملك بعد الوقف كما ذكرناه في التفريع على القول الأول، فكلام فاحشٌ مشعر بذهول صاحبه عن فقه الكتاب.
هذا منتهى الغرض الآن في ذكر الوقف المنقطع الآخر، وهو أحد الصنفين الموعودين.
5705- فأما الوقف الذي لا ينتجز له مصرف في الأول، فنصوّره، ثم نذكر تفصيل المذهب فيه، ومضطرب المختبطين ونردّ الأمرَ إلى التحقيق.
5706- فإذا قال القائل: وقفت داري هذه على من سيولد لي، ولا ولد له، أو وقفتُ على المنتظَرين، دون الموجودين منهم، فهذا الوقف لا مصرف له من جهة الأول.
وقد قال الأئمة: في صحة هذا الوقف قولان مرتبان على القولين في الوقف المنقطع الآخر، وجعلوا الانقطاع في الأول أولى باقتضاء الفساد؛ من حيث لم يجد الوقف مرتبطاً يثبت عليه، بخلاف ما إذا انقطع آخره.
5707- والذي أراه عكسُ هذا الترتيب؛ فإن الوقف إذا انقطع آخره، حاد عن وضعه، كما مهدته قبلُ، والوقف إذا لم يستعقب مصرفاً، ومصرفه منتظَر، فليُنتظر إلى أن يقع. وإن دل هذا على الفساد، فالانقطاع في الآخر أدلّ عليه. وتعليق الوقف في الأول-مع التصريح به في هذا القسم- يناظر التصريحَ بالتأقيت في قسم انقطاع الآخر، فإذا قال: إذا جاء رأس الشهر، فقد وقفت داري هذه على المساكين، فالذي ذهب إليه أئمة العراق القطعُ بالفساد، وذكر المراوزةُ خلافاًً في تصحيح تعليق الوقف.
وأنا أقول: قد ذكر العراقيون في الوقف المؤقت خلافاًً، فما وجه قطعهم بإفساد التعليق، وقد ذكروا في هذا الوقف على ما سيكون خلافاً، وهو على التحقيق تعليق، والعتق يصح تعليقه، وإن كان يفسد تأقيتُه، وليس بين التعليق وبين القُرْبة المؤبدة-إذا وقعت من المنافاة- ما بين التأقيت والتأبيد. نعَمْ، إن كان الوقف لا يشترط القبول فيه، فتصحيح التعليق فيه متجه، وإن كنا نشترط القبول فيه، فالتعليق فيه بعيد، كما ذكرناه في تعليق التوكيل.
ولا يتبيّن سرُّ القول إلا بالتفريع، ونحن نفرع على الوقف على من سيكون، ثم نعود إلى التعليق.
5708- فإذا قال: وقفت على من سيولد لي، فإن أفسدنا الوقف، فالملك مطرد، والوقف لاغٍ، ولا يثبت إذا ولد المنتظر.
وإن حكمنا بصحة الوقف، فقد ذكر الأئمة خمسة أوجهٍ في مصرف الوقف، قبل وجود المولود المنتظر، ذكرنا ثلاثة منها في انقطاع الآخر، ولا يضر إعادتها، فأحد الوجوه- أن الوقفَ يصرف إلى الأقربين بالمحبِّس.
والثاني: أنه يصرف إلى المساكين.
والثالث: أنه يصرف إلى المصالح العامة.
وزاد الأصحاب وجهين:
أحدهما: يخرج في هذه الصورة والآخر يخرج في نظيره لها.
فأما الوجه الخارج، فهو أن الرَّيع مصروف إلى الواقف إلى وجود من يوجد.
والوجه الثاني- أن الموقوف عليه إن كان موجوداً، وكان الشرط الذي تعلق الوقف به مفقوداً، فهو مصروف إليه، وبيانه لو قال: وقفت داري هذه على من يفتقر من أولادي، ولا فقير منهم، فهو مصروف إليهم.
هذا نقل ما ذكره الأصحاب، والتحقيق عندنا وراء ذلك.
5709- فنقول: ظهر التفريع على إفساد الوقف، فإن صححناه، فمقتضاه تأخير استحقاق الريع عن وقت إنشاء الوقف، فنقول: أيقع الوقفُ كذلك أم يقع مستعقباً للاستحقاق؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يقع على حسب ما وضع، كما يتعلق العتق إذا عُلق، وينتجز إذا نجِّز، هذا وجه.
والوجه الثاني- أنه يستعقب الاستحقاق على خلاف ما أشعر به لفظُ المحبِّس.
توجيه الوجهين: من قال: لا يثبت الاستحقاق عَقِيب الوقف، قال: إذا لم يفسد الوقفُ، ولم يبعد أن يثبت كما أثبته الواقف، لزم الجريان على موجب لفظه، ومقتضاهُ تأخير المصرف.
ومن قال بالوجه الثاني، استدل بأنه نجّز الوقفَ إذا قال: "وقفت هذا"، ولم يعلقه، وسنتكلم في التصريح بالتعليق، وإذا انتجز الوقف، لزم ثبوت مصرفٍ له.
وقد يقول هذا القائل: الوقف لا يقبل التعليق، فإذا تضمن اللفظُ التعليق، ثم حكمنا بصحة الوقف، فهو على مذهب إلغاء الفاسد، وتنفيد الوقف على موجب الشرع، وهذا يتضمن تنجيز المصرف.
التفريع:
5710- إن حكمنا بأن الاستحقاق يستأخر، فالوقف هل يثبت أم يتأخر ثبوته؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يتأخر ثبوته، كما يتأخر العتق إذا أُخر.
وقد قال شيخي أبو محمد: وقعت مسألة في الفتاوى في زمان الأستاد أبي إسحاق وهي أن من قال: "وقفتُ داري هذه على المساكين بعد موتي". فأفتى الأستاذ بأن الوقف يقع بعد الموت وقوعَ العتق في المدبّر بعد الموت، وساعده أئمة الزمان، وهذا تعليق على التحقيق، بل هو زائد عليه؛ فإنه إيقاع تصرفٍ بعد الموت، وسنتكلم في هذه المسألة في فروع الكتاب، إن شاء الله تعالى.
والوجه الثاني- أن الوقف يثبت، وإن استأخر الاستحقاق به، فإنه قال: وقفت هذا على من سيولد، فلفظه تنجيز الوقف مع تأخير الاستحقاق.
فإن قلنا: الوقف غير واقع، فالدار ملكه في الحال، والتصرفات فيها نافذةٌ، حَسَب نفوذها في العبد المعلّق عتقُه بصفةٍ.
وإن قلنا: الوقف واقعٌ، والاستحقاق مستأخر فالريْع مصروفٌ إلى المالك؛ فإن استحقاق الريْع مستأخر.
هذا إذا فرعنا على هذا الوجه.
وإن قلنا بالوجه الآخر، وهو: إن الوقف ناجز، والاستحقاق ناجزٌ أيضاًًً، فالواقف لم يذكر مصرِفاً قبل وجود المنتظَر، أو قبل تغيّر صفة في الموجود تجعله متعلقاً للاستحقاق، فهذا إذاً وقف يقتضي مصرفاً، لم يذكر الواقف مصرفه، فينقدح فيه الأوجه الثلاثة التي ذكرناها.
ولا يجري في هذا المسلك الصرفُ إلى المالك، فإنا نبغي في هذا المنتهى مصرفَ قُربةٍ لوقفٍ يستدعي مصرفاً عاجلاً.
نعم، إذا قال: وقفت على من يفتقر من أولادي، فذِكْر وجهٍ رابعٍ في الصرف إلى الولد قبل أن يفتقر قد يتّجه على بُعْدٍ، من حيث إنه أولى من أقاربه الذين لم يذكرهم، فالوقف عليه قربة.
فهذا تحقيق القول في تنزيل هذه الوجوه. وقد أرسلها الأصحاب وأتينا بها في مظانها مفصلةً.
5711- ونحن نذكر وراء ذلك التصريحَ بتعليق الوقف.
فإذا قال: إذا جاء رأس الشهر، فقد وقفت داري هذه، فهذه الصورة رتبها الأئمة المراوزة على ما إذا قال: وقفت على من سيولد لي، أو على من يفتقر من أولادي، ورأَوْا التصريحَ بالتعليق أولى بالفساد، وبنَوْا ذلك على أن قوله: "وقفتُ " تنجيز للوقف.
وقد ذكرنا ما يتعلق بهذا و فهم الناظر من كلامنا أن قبول الوقف الذي لا يُشترط القبول فيه- للتعليق ليس بدعاً، سيّما إذا حكمنا بأن الوقف لا يفسده الشرط، كالعتق والطلاق.
ثم إن أفسدنا الوقف، فلا كلام، ولا يقع الوقف عند وجود الصفة أيضاً.
وإن لم يبطل، عاد الوجهان في أن الوقف ينتجز، أو يتعلق، وانتظم التفريع بعده على حسب ما مضى، حرفاً حرفاً، غيرَ أن ما وجهنا به بعضَ الوجوه من اقتضاء قول الواقف: "وقفت " تنجيزاً لا يتجه في التصريح بالتعليق.
5712- وعلى الفقيه الآن أن يفهم موقع الوجهين في الصنفين اللذين هما عماد الكلام، ذكرنا وجهاً في انقطاع الآخر يشير إلى أن تأقيت الوقف صحيح، وهذا في نهاية الفساد، وذكرنا الآن وجهاً أن تعليق الوقف صحيح عند بعض أصحابنا، وهذا وإن استبعده العراقيون غيرُ بعيد عندي في القياس.
5713- وكنت أود أن أجد لبعض الأصحاب وجهاً في جواز تعليق الإبراء؛ فإنه ليس بعيداً عن القياس إذا لم يشترط القبول فيه، فإذا وجدت هذا في الوقف، اتجه مثله في الإبراء، وقد قال ابن سريج في تفريعات القول القديم في الضمان: إنه يصح تعليقه، فإذا صح تعليق الالتزام، فلأن يصح تعليق الأبراء أولى.
وقد انتهى تأسيس الكلام بانقطاع الوقف في الطرف الآخِر، والطرف الأول.
5714- ثم إنا نُلحق بما مهدناه مسائل سهلةَ المُدرك على من أحاط بما تقدم.
منها- أن من وقف داره على وارثه في مرض موته، ثم بعده على المساكين، فالوقف باطلٌ على الوارث في مرض الموت، فتلتحق هذه المسألة بانقطاع الوقف في الأول، ولكن قال الأصحاب: لا نقطع ببطلان الوقف على الوارث في الحال، وإنما يتبين الفساد إذا مات من مرضه، فقد وجد الوقف متشبثاً، فرأى الأصحاب أن يرتبوا هذا على ما إذا عري الوقف عن مصرفٍ من جهة اللفظ والذكر.
وهذا الترتيب قليل النَّزَل؛ فإنه إذا تبين انقطاع الوقف أولاً، فالظن السابق لا حكم له، إذا كان التبين على خلافه.
5715- ومما ذكره الأصحاب ملتحقاً بهذا الأصل: أن من وقف على شخص معيّن، ثم بعده على المساكين، فلم يقبل ذلك المعين، والتفريع على أن قبوله شرط، فالوقف انقطع من هذه الجهة، فيخرّج على الخلاف المتقدم في انقطاع المصرف أولاً، ورأَوْا ترتيب ذلك على ما إذا وقف على من سيولد، وزعموا: أنه علق الوقف بحاضرٍ، ثم كان الانقطاع من جهة غيره.
وهذا كلام عري عن التحصيل، لا ينبغي أن يقع التشاغل به. نعم، لو قلنا: إن القبول ليس بشرط، فإذا وقف على معيّن، ثم بعده على المساكين، فلو رد الموقوفُ عليه الوقفَ، فينقدح في هذه الصورة ترتيبٌ؛ من حيث إن الوقف ثبت متصلاً مستعقباً ثبوت مصرفٍ، ثم ارتد بالرد، فلا يمتنع أن يرتب هذا على ما لو لم يثبت للوقف متعلق أصلاً.
5716- ومما يجري في هذه الفنون، أنه لو قال: وقفت على فلانٍ، ثم بعده على المساكين، فإذا لم يقبل، أوْ ردَّ على التفصيل الذي ذكرناه، فيتجه هاهنا الصرف إلى المساكين؛ من جهة أنه جعل المصرف صائراً إليهم إذا انقطع استحقاق المسمَّى أولاً، فإذا لم يستقر الاستحقاق عليه، فيتجه تنزيل ذلك منزلة ما لو انقرض المعيّن بعد ثبوت الاستحقاق لهم. هذا بيان تمهيد الأصول وفروعها.
5717- ومما يجب التنبيه له أن من وقف على بطونٍ، ورتبهم في الاسْتحقاق، فاستحقاق البطن الأول إذا اعتبر بنفسه، كان على حكم التأقيت، واستحقاق البطن الثاني إذا اعتبر بنفسهِ، فهو على حكم التعليق، ولا امتناع فيما ذكرناه من التأقيت والتعليق إذا اطرد الوقف، ولم ينقطع أهل المصرف أولاً وآخراً، ووسطاً. ومثل هذا لا يسوغ فرضه في الإجارة، فإن المعتبر فيها أعيان العاقدين، والمعتبر في الوقف وقوعه قربة على وضع الشرع، فلا نظر إلى تناوب المستحقين.
فرع:
5718- إذا أشار إلى عبدين، وقال: وقفت أحدَهما، ولم يعيّن، ففي صحة الوقف على الإبهام وجهان:
أحدهما: المنعُ؛ فإن الوقف مبنيٌّ على قضيةٍ معلومة، يقصد الواقف بوقفه التقرّبَ إلى الله تعالى بتحبيسِ معينٍ، أو يقصد تمليك شخصٍ رَيْعَ عينٍ معينة، فإذا فرض على الإبهام، كان كالإبهام في البيع والهبة، والإجارة وغيرها.
ومن أصحابنا من قال: يصح الوقف على الإبهام، كما يقع العتق على الإبهام، إذا قال مالك العبدين: "أحدكما حُرّ". وهذا التردد يضاهي ما قدمناه من تردد الأصحاب في أن الوقف هل يقبل التعليق قبولَ العتق له، ويلتفت على التردد في أن الوقف إذا اقترن بالشرط المفسد، هل يفسد أم ينفد نفوذَ العتق؟
ثم إن لم نحكم بثبوت الوقف على الإبهام، فلا مساغ لتنفيذه على خلاف إيقاعه، وليس كما إذا أُقِّت، فقد يُؤبّد مؤقَّته، والسبب فيه أنا نجد لتأبيد المؤقت مثالاً، ووجهاً، ولا وجه إذا بطل الإبهام غيره.
وإن صححنا الوقف على الإبهام، فهو إذاً على هذا الوجه بمثابة العتق.
فلو قال: "وقفت: أحدَهما"، طالبناه بالتعيين، كما نطالب من يُبهم العتقَ، ثم قد يُفضي التفريع إلى الإقراع، فهو إذاً على هذا الوجه بمثابة العتق.
5719- ولو قال: "وقفت عبدي هذا على أحدكما"، فأبهم الموقوفَ عليه، فقد قال الأصحاب: الوقفُ مردود، لا مساغ له.
وكان شيخي يقول: "إن حكمنا بأن الوقف يفتقر إلى القبول، فالإبهام يُبطله، وإن حكمنا بأنه لا يفتقر إلى القبول، لم يبعد ثبوت الوقف على الإبهام، ثم على الواقف البيان، ولا يبعد إجراء القرعة بينهما عند تعذر البيان".
وهذا فرع بعيد على أصلٍ نازحٍ، فيبعد مأخد الكلام فيه.
فرع:
5720- إذا قال الرجل: "وقفت داري هذه"، ولم يتعرض لذكر المصرف أصلاً، فقد ذكر الأئمة أن الأصح بطلان الوقف، وحكَوْا وجهاً بعيداً في صحته، ثم رددوا الأقوال في المصرف، كما تقدم، ورتبوا فساد الوقف في هذه الصورة على فساد الوقف المنقطع من جهة الأوّل، وعلى فساد الوقف المنقطع من جهة الآخر، وزعموا أن إطلاق الوقف مع السكوت عن مصرفٍ أولى بالفساد.
وفي هذا فضلُ نظر؛ فنا إذا كنا نثبت مصرفاً حيث نفى المصرفَ في طرفي الوقف، فلا يبعد أن نُثبت مصرفاً حيث لم ينفه، ولم يثبته.
ولا شك أن الأظهر الفساد.
5721- ومن لطيف القول أنه لو وقف على الكنائس والبِيع، وكتبة التوراة، فوقفه باطلٌ، لا خلاف فيه، ولم يصر أحد إلى إبطال المصرف الذي ذكره، وتنزيل الوقف على مصرفٍ صحيح، وهذا يؤكد أن إطلاق الوقف باطل؛ فإنه لو جمع جامع بين إفساد المصرف الذي ذكره بناءً على حذف الفاسد، وبين تنزيل الوقف بعد هذا الحذف على مصرفٍ يصح، لكان قياساً على حسب هذه الأصول. ولكن الذي بلغنا من الأصحاب القطعُ بالبطلان.
والذي يتجه فيه أن الوقف ينقسم إلى وقف تمليك، وإلى وقف قُربة، فأما وقف التمليك، فهو بمثابة الوقف على معينين، وهو جائز، وإن لم يكن فيه قُربة، وهو كالوقف على الكفار. والقسم الثاني- الوقف على جهات القربة، فأما الوقف على البِيَع، فليس تمليكاً، ولا قربة، فبطل، والوقف المطلق يحتمل الصرف إلى القربة، فانقدح فيه الخلاف على البعد.
وقد نجز تمهيد هذا الأصل على أحسن مساق.