فصل: فصل: معقود في شرائط الوقف، وما يصح منها وما يفسد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: معقود في شرائط الوقف، وما يصح منها وما يفسد:

5722- فنقول أوّلاً: موضوع الوقف الإلزام والإبرام، وقطعُ الخِيَرة، كما أن موضوعه التأبيد، كما تفَصّل القولُ فيه في الفصل السابق.
فإذا وقف على معيّنين، أو على جهةٍ من جهات القُربة، فالرجوع إلى شرط الواقف في الصفات المرعية في الاستحقاق، وفي الأقدار المستحقَّة، والترتيب والجمع؛ فإن الواقف هو المفيد، وله الخِيَرةُ في كيفية الإفادة وقدرِها.
فلو وقف وقدَّر، وأثبت لنفسه الخِيَرةَ في التغيير والتقديم، والتأخير، والأثرة والتفضيل، وجعل لنفسه أن يحرم بعد الوقف من شاء، ويزيد من أراد، فهل يصح الشرط على هذا الوجه؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه لا يصح؛ فإن مبنى الوقف على اللزوم، فإن كان الموقوف عليه عرضةً لأن يُحرم، لم يتحقق اللزوم في مستقر الوقف، وبقيت سلطنةُ الواقف بعد ثبوت الوقف. وهذا محالٌ.
ومن أصحابنا من صحح الشرط كذلك، وأوجب الوفاء به، وحكم بأن اللازم أصلُ الوقف، فلا مردّ له بعد صحته، فأما تفاصيل المصارف، فلا يمتنع تعلُّقُها باختيار الواقف.
5723- ولا خلاف أنه لو أطلق ذكرَ المصارف، وأتى بالوقف مستجمعاً لشرط الصحة، ثم رام تغييراً، لم يجد إليه سبيلاً.
5724- فإن صححنا الشرط الذي وصفناه، فلا كلام، وإن أفسدناه فهل يفسد الوقف بفساده؟ فعلى الخلاف الذي قررناه قبلُ في تشبيه الوقف بالعتق والطلاق، أو قطعِه عنهما، فإن أفسدنا الوقفَ، فالملك مستدامٌ، والوقف لاغٍ.
وإن حذفنا الشرطَ، قررنا الوقفَ على المصارف على الإلزام.
5725- ولو قال الواقف بعد ذكر المصارف: جعلتُ إلى فلان التقديمَ، والأثرةَ، والحرمانَ، فإن لم نصحح من الواقف شرطَ ذلك لنفسه، فلأن لا يصح شرطه ذلك لغيره أولى، وإن صححنا شرطه لنفسه، ففي صحة الشرط للغير وجهان: أصحهما- الفساد، ثم إذا فسد، ففي فساد الوقف الكلامُ المقدم.
5726- ومسائل الوقف تنتشر من اختلاف ألفاظ الواقفين، وحظ الفقه منها اتباعُ مقتضى الصيغ، وإنما يُحيط بالألفاظ ذَرِبٌ باللغة، وعلمِ اللسان، ماهرٌ فيما يتعلق بمعاني الألفاظ في أصول الفقه، وليس الفقه إلا الإرشادَ إلى ما يصح ويفسد، والدعاءَ إلى اتباع اللفظ.
ثمّ يقع في ألفاظ الواقفين العمومُ والخصوص، والاستثناءات، والكنايات، وهي المتاهة الكبرى، ويجب التثبت عندها، ليتبيّن انصرافُ الضمائر إلى محالّها.
ومما يتكرر مسيس الحاجة إليه الجمعُ والترتيب، (فالواوُ) جامعةٌ، وكلمة (ثُم) مرتِّبةٌ، فإذا قال: "وقفت على فلان وفلان"، اقتضى ذلك اشتراكَهما، ولو قال:
على فلان، ثم فلان، اقتضى ترتّباً.
وفيه دقيقة، وهي أن الواو إذا لم يقترن بها، أو لم يستأخر عنها ما يقتضي ترتيباً محمولةٌ على الجمع، وقد يستأخر عن الواو ما يتضمن ترتيباً، وهذا مثلُ قول المحبِّس: وقفت على أولادي، وأولاد أولادي، وأولادهم، فهذا لو اقتصر عليه، لاشتركوا، ولا يمتنع أن يقول: بطناً بعد بطن؛ فيترتب؛ فإن الواو قد تقتضي الاشتراك في أصل الاستحقاق، وقد تقتضي الاشتراكَ في الأصل، والتفصيلَ، وذلك إذا تجرد عما يقتضي الترتيب.
5728- وأما الاستثناءات، فيتعين تتبعها، فالمسألة المشهورة للشافعي أن الاستثناء الواقع آخراً ينصرف إلى جميع ما تقدم إذا لم يمنع من انصرافه مانع، فكذلك القول في الصفات، وبيان ذلك أنه لو قال: وقفت على أولادي ثم على إخوتي، ثم على أعمامي إلا أن يفسق منهم أحد، فهذا ينصرف إلى الجميع، ولا يختص به المتأخرون.
والمسألة تذكر في الأصول، وعليها بنى الشافعي قوله في قبول شهادة القاذف إذا تاب، تعلقاً بظاهر قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] ومثال الصفة، أن يقول: "وقفت على أولادي، ثم بعدهم، على إخوتي، ثم بعدهم على أعمامي، الفقراء منهم"، فهذه الصفة يُنحى بها نحو الاستثناء، وتنصرف على المذكورين، وهذا الكلام مبهمٌ، يحتاج إلى مزيد تفصيل.
والوجه فيه أن نقول: إذا قال: وقفت على أولادي، ثم بعدهم على بني فلان، ثم بعدهم على إخوتي إلا أن يفسق منهم أحد، فهذا ينصرف إلى المتقدمين، كما ذكرناه، ولا يختص بالمتأخرين، بل يتعلق حكمُه بالجميع.
ولو ذكر الذين وقف عليهم، وأطال الكلام، في وصف كل قبيلٍ، ثم كان يستفتح في كل صنف كلاماً مستقلاً بنفسه، فلست أرى الاستثناء والوصفَ الواقعين آخراً منصرفَيْن إلى الجمل المتقدمةِ السابقةِ المذكورةِ على صيغ الاستقلال.
وبيان ذلك بالمثال؛ أنه إذا قال: وقفت على أولادي، فمن مات منهم رجع نصيبه إلى أولاده، للذكر مثلُ حظ الأنثيين، ومن لم يعقب رجعت حصتُه إلى الذي في درجته. ثم قال: فإذا انقرضوا، فالريع مصروفٌ إلى إخوتي: فلانٌ، وفلان، وفلان ثم قال: إلا أن يفسق منهم أحد، فهذا يختص بالإخوة عندي.
5729- وإن أطلق الأصحابُ صرفَ الاستثناء إلى المتقدمين، فكلامُهم محمول على ذكر البطون على التواصل بعاطفٍ جامع، أو عاطف مرتِّب، من غير تخلل كلامٍ يفصل جملةً عن جملةٍ، ويوجب بين البطون اختلافاًً وتفاوتاً، مثل أن يقول: وقفت على أولادي، ثم بعدهم على إخوتي، ثم على أعمامي إلا أن يفسق منهم أحد، فظاهر مذهب الشافعي رجوعُ ذلك إلى الكافة، وما ذكره في عطف الجمل، بعضِها على بعض بالواو أظهر، فإذا كان العطفُ يقتضي ترتيباً، فالصرف إلى جميع المقدَّمين فيه بعضُ النظر والغموض؛ فإن انصراف الاستثناء إلى الذين يليهم الاستثناء مقطوعٌ به، وانعطافه على جميع السابقين والعطف بالحرف المرتِّب محتملٌ غيرُ مقطوع به، وإذا ثبت الاستحقاق بلفظ الواقف نصاً، ولم يثبت ما يغيره، وجب تقرير الاستحقاق، ولم يجز تغييره بمحتملٍ متردَّدٍ.
5730- فانتظم مما ذكرناه ثلاث مسائل: إحداها- أن يطول الفصل، ويتخلل بين الصنف والصنف فواصل، كما صورناه، فالاستثناء لا ينصرف إلى الجمل السابقة.
وإن كان العطف بثُمَّ، فالذي أراه اختصاص الاستثناء بالمتاخرين.
وإن كان العطف بالواو، ولا فاصل، فمذهبُ الشافعي رجوعُ الاستثناء إلى الجميع، وكذلك القول في الصفة.
والأصحابُ وإن لم يفصِّلوا الكلام، فما أطلقوه محمولٌ على هذا التفصيل لا محالة.
فرع:
5731- إذا قال: وقفتُ على أولادي، فهل يدخل أولاد الأولاد في الاستحقاق؟ فعلى وجهين: أصحهما- أنهم لا يدخلون.
ومن أصحابنا من قال: يدخلون في الاستحقاق، واسم الأولاد يتناول الأدنَيْن والأحفاد، فإن فرعنا على أنهم يندرجون تحت اسم الأولاد، فالأصح أن أولاد البنات لا يدخلون.
هذا ما اختاره صاحب التقريب، وتعليله: أن أولاد البنات ينسبون إلى آبائهم، وهم أزواج البنات؛ فإن الانتساب إلى الآباء دون الأمهات، وعلى هذا المعنى قال القائل:
بنونا بنو أبنائنا وبناتُنا... بنوهن أبناء الرجال الأباعد
وذهب ذاهبون إلى أن أولاد البنات على الوجه الذي نفرع عليه يدخلون دخول أولاد البنين، ثم الوجهان في الأصل فيه إذا لم يجر ما يتضمن إخراج الأحفاد. فلو قال: وقفت على أولادي، فإذا انقرضوا، فلأحفادي ثلث ما سميتُ لهم، والباقي لأخواتي، فهذا، وما في معناه، يخرج الأحفاد عن الاندراج تحت مطلق اسم الأولاد.
فرع:
5732- إذا قال: وقفت على زيد وعمرو، ولم يذكر بعد انقراضهما مصرِفاً، وفرعنا على أن الوقف المنقطع الآخر صحيح، فلو مات أحد الرجلين، ففي نصيبه وجهان:
أحدهما: أنه مصروف إلى الباقي منهما، والصرف إليه مع تعرض الواقف له أولى من تقدير مصرِف لم يذكره الواقف.
ومن أصحابنا من قال: نصيب من مات منهما بمثابة نصيبهما لو ماتا، وقد تفصل المذهب في مصرف الوقف بعد انقراض المسمَّيْن.

.فصل: في التولية:

5733- وهو من قواعد الكتاب، وفيه أمر يكاد أن يخرج عن القياس بعضَ الخروج.
والذي نراه أن نذكر التفصيلَ في الوقف على الجهات، ثم نذكر الوقف على معيّنين.
فأما إذا وقف على جهةٍ، كالوقف على المساكين، فإن شرط التولية لنفسه، وصرّح به، فهو القائم بالصدقة لا يزاحَم، سواء قلنا: الملك له في رقبة الوقف، أو قلنا: إنه زائلٌ إلى الله تعالى، ولا يجري في الأوقاف على الجهات إلا قولان؛ فإن إضافة الملك في الرقبة إلى المساكين لا يتجه. هكذا قال الأئمة.
وعندي أنه لا يمتنع تقدير إضافة الملك إليهم، كما أنا نضيف الملك في رَيْع الوقف إليهم، والملك في الريع محقق، فإذا لم يمتنع إضافة الملك المحقق، لم يمتنع إضافة الملك المقدّر.
وغرض الفصل الآن أن حق التولِّي يثبت للواقف إذا شرط لنفسه، فإن قيل: هلاّ كان حق التولي تابعاً لملك الرقبة؛ حتى يقال: إن أضفنا الملك إلى الواقف، فحق التولِّي له، وإن أضفناه إلى الله تعالى، فحق التولي للسلطان؟ قلنا: حق التولِّي من جملة الحقوق المستفادة من الوقف، والمتَّبع في حقوق الوقف شرط الواقف.
ثم إذا شرط الواقف لنفسه حقَّ التولِّي، فليس هو بمثابة ما لو أثبت لنفسه في الوقف حظّاً ونصيباً، وكل ذلك متفق عليه.
والذي تمهد مذهب العلماء فيه قديماً وحديثاً أن الواقف هو المتقرِّب إلى الله تعالى بصدقته، فكان أولى بالقيام عليها من غيره، فإذا انضم إلى ما ذكرناه تصريح الواقف بشرط التولي لنفسه، لم يبق ريبٌ في اختصاصه بالتولِّي.
5734- ولو شرط الواقف حق التولِّي لرجلٍ عينه، فهو المتولِّي، إذا كان مستجمعاً للشرائط المرعية، وسبيل ذكره الأجنبي كسبيل إثباته في الوقف حظاً لمن يريد أن يُثبت له حظاً، فشرط التولِّي للغير كشرط قسط من الريع.
وشرطُ الواقف التولِّي لنفسه يؤخد بما تمهد من كون الواقف أولى بتربية صدقته التي تقرب بها؛ فإنا لو حملنا التولِّي في حقه على إثباته حظّاً لنفسه، وقعنا في وقف الرجل الشيء على نفسه، أو صرفه قسطاً من الريع إلى نفسه.
وسيأتي هذا متصلاً بهذا الفصل.
ويجوز أن يقال: نَصْبُه أجنبياً صادر مما ثبت له من حق القيام، ثم له أن يستنيب غيرَه مناب نفسه. هذا إذا وقع التعرض لذكر من يتولى الوقف.
5735- فأما إذا كان الوقف على جهة القربة مطلقاًً، من غير تعرضٍ لمن يتولى الوقفَ، فلأصحابنا طريقان: منهم من قال: أمر التولِّي يُبنى على الملك، فإن حكمنا بأن الملك في الرقبة للواقف، فله حق التولِّي، وإن قلنا: الملك في الرقبة زائل إلى الله تعالى، فحق التولّي للسلطان. وهذا ظاهر المذهب.
ومن أصحابنا من قال: حق التولِّي للواقف، وإن قلنا: الملك لله تعالى، فإن الوقف تقرب، والقيام عليه تتمة للقربة، فكان مفوَّضاً إلى المتقرِّب.
والأصح الطريقة الأولى.
5736- ثم شرط القائم في الوقف الذي هو قربة أن يكون مستصلحاً للقيام، ولذلك
شرطان:
أحدهما: الأمانة. والآخر- الكفاية. ولو انخرم أحدهما، تسلط السلطان عليه، حتى لو كان الواقف شرطَ لنفسه التولِّي، ثم اختل فيه الوصفان، أو أحدهما، لم يتركه السلطان، على ما سنصف في آخر الفصل في القول في العزل والانعزال.
هذا في الوقف على الجهات، والوقف عليها لا يكون إلا قربةً.
فلو وقف على الأغنياء شيئاً، فقد اضطرب أصحابنا فيه: فمنهم من أبطل الوقف، ومنهم من صححه.
والغرض في هذا يتبين بذكر ثلاث مراتب: إحداها- الوقف على جهات القربة، فهو منفّذ.
والأخرى- الوقف على الجهات التي يزجر الدين عنها، ولا يقرر عليها، إلا على موادعة ومتاركة، فالوقف على هذه الجهات باطل، وذلك كالوقف على الكنائس والبيع وكتبة التوراة.
والمرتبة الثالثة- في الوقف على جهةٍ لا نهي فيها، ولا يتضح فيها وجهُ القُربة، كالوقف على الأغنياء من غير تعيين أشخاص.
وكل ما ذكرناه في أحكام التولية في الوقف على الجهات، فأما إذا كان الوقف على معيّنين، فهذا ليس مبنياً على القربة، حتى يقال: المتقرِّب أولى بتتمة القربة.
5737- فإذا وقع التنبّه لهذا، قلنا:
الواقف لا يخلو إما أن يتعرض لذكر من يتولَّى الوقفَ، وإما أن يُطلق الوقفَ، فأما إذا أطلق، ولم يتعرض لمن يتولّى، فإن قلنا: الملك للموقوف عليه، فهو المتولِّي بلا مدافعة؛ إذ الريْع له، والملك في الرقبة مضاف إليه.
وإن قلنا: الملك مضاف إلى الله تعالى، فظاهر المذهب أن السلطان لا يتولّى الوقفَ؛ فإنه إنما يخوض فيما يتعلق بالجهات العامة، والملك الذي يضاف إليه في هذا النوع من الوقف تقدير.
ومن أصحابنا من قال: حق التولِّي يتبع الملك، فإذا أضفناه إلى الله تعالى، فحق التولِّي إلى القائم بحقوق الله تعالى.
وإن فرّعنا على أن السلطان لا يتولى، فحق التولِّي للموقوف عليه نظراً إلى استحقاق الريع والمنفعة.
وإن قلنا: الملك للواقف في الرقبة، فالأصح أن حق القيام ثابت له؛ فإنه ملك خاص، فيجوز أن يكون القيام بذلك الملك إليه.
وإن قال قائل: حق القيام لمن له حق المنفعة والريع، قيل له: القيام يمكن أن يضاف إلى الملك، ويمكن أن يضاف إلى المنفعة، وإضافته إلى الملك أولى من إضافته إلى المنفعة.
فهذا حاصل القول في إطلاق الوقف.
5738- وتتمة البيان فيه أنا قد نقول: إذا أُتلف الموقوفُ، يستحق الواقف قيمته ملكاً. وإذا قلنا: الملك لله تعالى، فالقيمة في وجهٍ من الوجوه لا تصرف إلى مال الله تعالى، فاتضح بما ذكرناه أن إضافة الملك تقدير في الوقف على الأعيان، وهو تحقيق في حق الواقف، وكما لا يظهر إضافة الملك في رقبة الوقف إلى المساكين، فكذلك لا يظهر إضافة الملك في الوقف على الأعيان إلى الله تعالى، وليس الوقف قربة.
5739- فأما إذا وقف الواقف، وشرط التولِّي لنفسه، أو لأجنبي أو لبعض من عليه الوقف، فقد قال الأئمة يُتّبع شرطُه، فإن شرط لنفسه التولِّي، فهو له. وإن شرطه للموقوف عليه، فلا شك في ثبوته، وإن شرط لأجنبي، فظاهر المذهب أنه ينتصب ذلك الأجنبي بنصب الواقف. وهذا الآن في حق الأجنبي يُحمل على إثبات حق له، وسلطنةٍ في الوقف بشرطٍ من إنشاء الواقف.
فإن قال قائل: إذا فرعنا على أن الملك للموقوف عليه، والحق في الريع له، فما وجه حق ثبوت التولِّي لغيره؟ قلنا: من أنكر تخصيصات الواقف وتحكماته في شرائطه، فليس على خبرةٍ من الكتاب؛ فإن العلماء متفقون على أنه لو شرط ألا تُكرى الضيعة الموقوفة، بل تُستغل، فلا يجوز أن تكرى، ولو شرط ألا تكرى أكثر من سنة، وجب اتباع شرطه، ومبنى الوقف على اتباع تحكمات الواقف، إذا لم يخالف موجَب الشرع، وليس كهبة الواهب؛ فإنه لا يبقى له تحكم إذا أقبض، ولو تحكم بطلت الهبة بتحكّمه، فللواقف على الأعيان تعيينُ جهات الانتفاع.
والأصل الشاهد فيه أنه وإن ملك الموقوفُ عليه الرقبةَ-على قولٍ- والمنفعةَ، فالرقبة محبَّسة عليه، وأصل تحبيسها اتِّباع شرط الواقف. ومن أحاط بوضع الوقف، هان عليه هذا.
5740- فإن قيل: إذا كان الوقف على الأعيان، فهل يجوز أن يكون المتولِّي فيه فاسقاً، أم ترعَوْن فيه الأمانة والكفاية، على ما ذكرتموه في القسم الأول؟ قلنا: هذا مما تردد الأصحاب فيه. والمذهب أنه يشترط الأمانة والكفاية، فإنا نشترط هاتين الصفقتين في الوصي والقيّم، والمتولِّي في معناهما، وإنما تخيّل من لم يشترط ذلك من جهة أنه حَسِب التولِّي حقّاً للمتولِّي، وهذا كلامٌ عريٌّ عن التحصيل، فلا اعتداد به.
ثم من جوز نصب المتولِّي مع العُرُوّ عن الصفتين يقول: لأرباب الوقف أن يُقيموا أَوَدَه، ويحملوه على المراشد، فإن أبى، استعدَوْا عليه.
ولا خلاف أنه إذا كان فيهم طفل، فالمتولي يجب أن يكون أميناًً كافياً.
5741- ثم لو فسق المتولِّي وقد شرطنا عدالته، فتفصيل القول في فسقه الطارىء كتفصيل القول في فسق الوصي، وسيأتي مفصَّلاً في كتاب الوصايا، إن شاء الله تعالى.
5742- ثم إذا نصب الواقف متولِّياً، فإليه القيام بالعمارة، وتحصيل الريع من وجهه وإيصاله إلى مستحقيه، وإليه عقد الإجارة على حكم النظر.
ولا يمتنع أن ينصب الواقف متولِّياً في بعض المصالح المتعلِّقة بالوقف، ويفوِّض الباقي إلى أرباب الوقف، فالتولية تصحّ على الخصوص، وعلى العموم، كما يصح الإيصاء على الوجهين.
5743- ولو نصب متولِّياً، وشرط له من الريع شيئاً، جاز. وإن لم يشرط له شيئاً، فهل يستحق المتولِّي من الريع قدرَ أجرة مثله؟ فعلى خلافٍ بين الأصحاب، وهو خارج على المسائل التي ذكرناها في كتاب الإجارة، إذا استعمل الرجل إنساناً، ولم يذكر لعمله أجرة.
5744- فإذا كان الوقف متعلِّقاً بالمتولِّي، فاليد نتُبعُها شرطَ الواقف، فلا يمتنع أن يشترط كون الوقف في يده، أو في يد ثالث. وإن أطلق الوقفَ، فاليد في الوقف تتبع التصرّفَ، فإن أثبتنا حقَّ التصرف للموقوف عليه، وجب تسليم الوقف إليه، وإن أثبتنا حقَّ التصرف للواقف، فيقرر الوقف في يده، والقول الجامع أن اليد تتبع التصرفَ، وقد مضى التفصيل في ذلك، وتولِّيه عند الإطلاق والشرط.
5745- ومذهبنا أن لزوم الوقف لا يتوقف على إقباضه للموقوف عليه وتسليمه إليه، وليس كالهبات والصدقات، وخالف في هذا أبو يوسف ومحمد، واضطربت مذاهبهم. هذا منتهى القول في التولية، وما يتعلق بها.
فصل:
5746- قد ذكرنا في أثناء الكلام مصارفَ الوقف، إذ جرى ذكرها معترضاً، ونحن نجمعها على الإيجاز في هذا الفصل، فنقول:
الوقف ينقسم إلى وقف تمليك، وإلى وقف قربة.
فأما وقف التمليك، فالضابط فيه أن كل من تصح الوصية له يصح الوقف عليه.
وذهب معظم الأئمة إلى أن الوقف على المساكين يلتحق بالقربات، ويُرعى في هذا المسلك طريق القُربة، وآية ذلك أنه لا يجب استيعاب المساكين، بل يسوغ الاقتصار على ثلاثة منهم؛ فعلى هذا لا يلتحق الوقف على المساكين بقسم وقف التمليك، ويترتب على هذا امتناع الوقف على اليهود والنصارى.
وحكى شيخي عن القفال أنه كان يُلحق هذا القسمَ بوقف التمليك، ويجوّز الوقف على الكفار، وعلى الفسقة، ومعاقري الخمور، والمُجّان، كما يصح الوقف على معينين من هؤلاء. وهذا قياس حسن، وربما كان لا يذكر شيخي في بعض الدروس غيرَه. والوصية تصح لهؤلاء، كما تصح لمعينين منهم، وإنما ينفصل المذهب في الوصية لأهل الحرب بالسلاح، كما سيأتي في كتاب الوصايا، إن شاء الله تعالى.
5747- فعلى هذا الوقفُ الذي يستدعي القربة، هو الوقف على الجهات التي لا تستدعي تمليكاً، كالوقف على البِيع، وكتبة التوراة، فهو باطل، والصحيح الوقف على المساجد والرباطات.
فحصل من مجموع ما ذكرناه ترددٌ في أن الأجناس الذين لا ينحصرون هل يُرعى في الوقف المضاف إليهم وجهُ القربة أم لا؟ فإن راعينا وجه القربة، ففي الوقف على الأغنياء تفصيلٌ، قدمته فيما مضى.
واختلف القول في الوقف على أقوام يعسر حصرهم، ولو قدرنا صحة الوقف، لوجب استيعابهم، وهذا كالوقف على بني هاشم، والعلوية، والطالبية، وسنذكر هذين القولين في كتاب الوصايا، إن شاء الله تعالى. وغرضنا الآن منها أنا إن صححنا الوقف، لم نعلِّقه بالقربة؛ فإنه يتضمن تمليكاً واستيعاباً.
5748- ومما يتصل بهذا الفصل وقف الإنسان على نفسه، وقد ظهر اختلاف الأصحاب فيه، فذهب القياسون إلى منعه؛ فإن الغرض من الوقف إخراج الواقف ملكَه إلى غيره، ولا حاصل لوقف خالص ملكه على نفسه؛ فإن مقصود الوقف نوعٌ من الاختصاص، والملك الخالص زائد على كل اختصاص.
ومن أصحابنا من جوّز وقفَ الإنسان على نفسه، وحمل ذلك على طلبه تحبيسَ الملك، حتى تنحسم عنه التصرفات المزيلة للملك.
ثم بنى الأصحاب على هذا أن الرجل إذا وقف على نفسه شيئاً من ملكه، ثم ذكر أنه بعد موته وقفٌ على فلان وفلان، ثم بعدهم على المساكين، فإن صححنا وقفه على نفسه، انتظم الأمر واتسق الوقف، وإن حكمنا بأن وقف الإنسان على نفسه باطلٌ، فهذا وقفٌ منقطع الأول، وقد مضى تفريع انقطاع الوقف من الأول.
5749- ومما فرعوه أنا إذا أبطلنا وقف الإنسان على نفسه، فلو وقف شيئاً على الفقراء والمساكين، ثم افتقر هو في نفسه، فهل يحل له أن يأخد من رَيْع الوقف ما يسد حاجته، لاندراجه تحت اسم المساكين؟ فيه اختلاف بين الأصحاب على قولنا يمتنع منه أن يقف على نفسه قصداً، وسبب الخلاف ما أشرنا إليه من أنه لم يقصد نفسَه، وإنما تناوله عموم اسمٍ، وسنذكر نظير هذا في الوصايا، إن شاء الله.
5750- ومما يتصل بهذا الفصل، وبما تقدم في التولية أن الواقف لو شرط أن يتولى بنفسه الوقف، ثم أثبت لنفسه أجرة من الرَّيْع، فهذا ينبني على أن وقفه على نفسه هل يصح؟ فإن حكمنا بصحته، لم يمتنع هذا الذي ذكرناه، فإن لم نصحح وقفه على نفسه، ففي الأجرة التي يشترطها لنفسه من ريع الوقف وجهان مبنيان على أصلٍ سيأتي في قَسْم الصدقات، وهو أنا إذا حرّمنا الصدقات المفروضات على بني هاشم وبني المطلب، فلو انتصب واحد منهم عاملاً، فهل يحل له أن يأخد من سهم العاملين؟ فيه خلافٌ سنذكره، إن شاء الله عز وجل. وهذا إذا كان المأخود قدر أجر المثل، فإن زاد، لم يخرّج جواز أخذه إلا على قولنا بتصحيح وقف الإنسان على نفسه.
هذا منتهى قولنا في مصارف الصدقات، وسنلحق بهذا الفصل وبما قدمناه فروعاً في آخر الكتاب نتدارك بها ما لم تحتوِ الفصول عليه، إن شاء الله عز وجل.