فصل: باب: كيفية المسح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: كيفية المسح:

426- ينبغي أن يقع المسح على ما يواري محل الفرض من القدم، ثم نذكر الأكمل، وبعده الأقل.
فأما الأكمل، فمسحُ أعلى الخف وأسفله، إذا لم يكن الأسفل نجساً، ويبلل يديه، ويضع مؤخرة كفّه اليمنى على مقدمة أصابع الرجل من فوق، وأطراف أصابع اليد اليسرى من أسفل مما يلي العقب، وُيمرّ يديه، فتنتهي أطراف أصابع اليمنى إلى الساق، وينتهي مؤخر كفه اليسرى إلى أطراف أصابع الرجل من أسفل، ولا يقصد استيعاب الخف. فإن النبي عليه السلام لم يرد ذلك، وفي الحديث الصحيح «أن النبي عليه السلام مسح على خفه خطوطاً من الماء».
ولا نستحب التكرار في هذا المسح، بل نكرهه.
وهل يُستحب مسحُ عقب الخف، وهو ما يستر العقب المنتصب؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون:
أحدهما: يستحب؛ فإنه ساتر لما هو محل الفرض من الرجل، والوجه الثاني- لا يستحب؛ فإنه لم يجر له ذكرٌ في شيء من الأخبار، وليس الاستيعاب محبوباً، حتى يقال: ينبغي أن يمسح جميع ما يستر محل الفرض، فهذا بيان الأكمل.
427- فأما الأقل، فيكفي أول ما ينطبق عليه اسم المسح، وإذا كنا نكتفي في مسح الرأس، وهو أصلٌ بالاسم، فلأن نكتفي به في مسح الخف-وهو رخصة- أَوْلى، ثم لا خلاف أنه لو ألقى الفرض على ظهر القدم، جاز، ولو مسح أسفله مقتصراً عليه وهو ما يستر أخمص القدم، فظاهر النص في المخنصر أنه لا يجزئه.
واختلف الأئمة، فقال بعضهم: في المسألة قول آخر: أنه يجزىء، وهو القياس؛ لأن أسفل الخف ساتر لما هو من محل الفرض، فشابه الأعلى.
والأظهر ما يدل عليه النص، وهو أنه لا يكفي الاقتصار على الأسفل؛ إذ روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتصر على مسح الأعلى، وروي أنه مسح الأعلى والأسفل. ولم يُروَ الاقتصارُ على الأسفل. والمعتمد في الرخص الاتباع.
وكان شيخي يذكر طريقين آخربن:
أحدهما: القطع بمنع الاقتصار على الأسفل.
والثاني: القطع بجواز الاقتصار، وحمل النص على الأوْلى، مع التأكيد فيه.
ولو فُرض الاقتصار على مسح العقب-وهو الذي ذكر العراقيون الاختلافَ في استحباب مسحه عند محاولة الأكمل- فهذا فيه تردّدٌ؛ من جهة أنه ساتر لما هو محل الفرض، وهو دون أسفل الخف، و من جهة أنه لم يجْر له ذكرٌ في السنن، بخلاف أسفل الخف، فإنه روي مسحُه مع الأعلى، ولكن العقب ظاهر للناظر كاعلى الخف بخلاف أسفله.
فهذا بيان الأقل والأكمل في المسح.

.باب: الغسل للجمعة والأعياد:

428- غسل الجمعة مستحبٌّ مؤكدٌ، وقوله عليه السلام: «غسل الجمعة واجبٌ على كل محتلم»، معناه مأمور به مؤكد، وأراد بالمحتلم البالغ، لا الذي يحتلم يوم الجمعة، وهو كما روي عن عائشة أنها قالت: «لا تصلي الحائض من غير خمار»، أرادت بالحائض البالغة المكلفة.
ثم لو أجنب الرجلُ يوم الجمعة، فاغتسل، ونوى بالغسل الواحد غسلَ الجنابة والجمعة جميعاًً، حصلا، وذكر الشيخ أبو علي شيئاًً بعيداً أنهما لا يحصلان، والتشريك في النية يفسد الغسلَ-وقد قدمت ذلك، فيما أظن- وهو غلط صريح، غير معدودٍ من المذهب.
ولو نوى غُسلَ الجنابة، ولم ينو غُسل الجمعة، ففي حصول غسل الجمعة قولان:
أحدهما: لا يحصل؛ فإنه لم ينوه، والثاني: يحصل؛ فإن الغرض من غُسل الجمعة التنظف والتنزه، وقطع الروائح الكريهة، وقد حصل ذلك، وهو شديد الشبه بتحية المسجد، ومن دخل المسجد، ولم يجلس حتى صلى صلاة مفروضة، أو مسنونة، فقد حصلت تحيةُ المسجد وإن لم ينوها، هذا سماعي من شيخي، ولم أره لغيره من المشايخ.
429- ولو نوى المغتسل بغُسله غسلَ الجمعة، ولم ينو غسل الجنابة، فالمذهب الظاهر أن غسل الجنابة لا يحصل بهذا؛ فإن غُسل الجمعة لم يُشرع لأجل الحدث، وفيه شيء ذكرته في باب النية للوضوء.
إن قلنا: يحصل غسل الجنابة، فيحصل غسل الجمعة.
وإن قلنا: لا يحصل غسل الجنابة، فهل يحصل غسل الجمعة؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون. وإنما يظهر أثرهما إذا قلنا: لو نوى غسلَ الجنابة، ولم ينو غسل الجمعة، لم يحصل غسل الجمعة، فعلى هذا إذا نوى أولاً غسلَ الجمعة، ولم ينو الجنابة، ثم اغتسل مرة أخرى، ونوى الجنابة، ولم ينو غسل الجمعة، ففي حصول غسل الجمعة الوجهان، والظاهر حصوله.
ووجه قول من لا يحصِّله أنه تابع لغسل الجنابة، فيبعد حصوله أول مع بقاء غسل الجنابة.
430- فإن قيل: إذا قلنا: لو نوى غسل الجنابة مطلقاًً، حصل غسلُ الجمعة، فلو نواه، ونفى غُسل الجمعة، أو صلى كما دخل المسجد فريضة، ونفى قصدَ تحية المسجد. فماذا ترون فيه؟
قلنا: فيه احتمالٌ، والظاهر أنه لا يحصل، وسبب الاحتمال أن مجرّدَ الغسلِ في حق من ليس بجنب لا يعتد به من غير نية، وقد يخطر أن الغرض منه النظافة وإن كانت النية مشروطة في النظافة.
فهذا تمام الغرض في ذلك.
فصل:
431- " من غسَّل ميتاًً، أمرناه بأن يغتسل... إلى آخره".
والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من غسل ميتاًً، فليغتسل، ومن مسّه فليتوضأ» وللشافعي وقفةٌ في الحديث، ولكنه أمر بالغسل استحباباً مؤكداً.
وقال الأصحاب: آكد الأغسال المسنونة غُسلان، أحدهما- غسل الجمعة، والثاني: الغسل من غسل الميت، وأيهما آكد؟ فعلى قولين مذكورين، أحدهما- غسل الجمعة؛ لصحة الأخبار، وظهور الخلاف في وجوبه؛ فإن طائفة من علماء السلف أوجبوه.
والثاني: الغسل من غسل الميت آكد؛ فإنه ورد فيه أمر، والأمر على الوجوب، ولم يعارضه ما يدل على نفي وجوبه، وورد في غُسل الجمعة ما يُسقط وجوبه.
432- وذكر العراقيون كلاماًً على التقدير وراء هذا، فقالوا: لو صح الخبرُ في الغسل من غسل الميت، فهل يقتضي وجوبَه أم لا؟ فعلى وجهين: ولو قضينا بوجوبه، فعلى ماذا يحمل وجوبه؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يحمل على نجاسة بدن الآدمي إذا مات، وهو وجه بعيد.
ثم على هذا من غسل ميتاًً، فترشش الماء إلى مواضع من بدنه لا يَدريها، فيجب تعميم البدن بالغَسل، ليستيقن طهارة بدنه، بعدما علم نجاسته.
والثاني: أنه يحمل على تعبُّدٍ من غير تقدير نجاسة.
وهذا التقدير منهم في حكم اللغو عندي؛ فإنهم إن عَنوْا به أنه لو نقل الخبرَ ابتداء من يوثق به، فإذا كنا نقول! فهذا لا حاصل له، ولو فتحنا هذا الفن من التقديرات، لكثر الكلام فيما لا يعنينا، وان عَنَوْا بذلك، أنا لو تبينا صحة الحديث في المستقبل، وهذا مرادهم بالتقدير، فهذا بعيد؛ فإنه لو كان يتبين، لبانَ إلى الآن قطعاًً، فضَعُف ما ذكروه.
433- ومما زادوه أن الوضوء من مسّ الميت مختلف فيه، فمنهم من حمله على ما إذا مس فرج الميت، ومنهم من استحب الوضوء على التأكيد من مسّه، من غير مس فرج، وهذا ما قطع به المراوزة.
ثم في غسل العيد ووقته كلام، وفي غسل الجمعة أيضاً بقية، تأتي في كتاب الصلاة، إن شاء الله عز وجل.

.كتاب الحيض:

434- الأصل في الحيض الكتاب والسنة والإجماع.
فأما الكتاب، فقوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} الآية، [البقرة: 222] وسبب نزول الآية مشهور، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}: «افعلوا كل شيء إلا الجماع». والإجماع منعقدٌ على أصل الكتاب، وإن وقع خلاف في التفاصيل.
ونحن نصدّر الكلام بفصول:
أحدها: في سنّ الحيض.
والثاني: في أحكامه.
والثالث: في أقله وأكثره وبيان الأدوار.
والرابع- في أحكام المستحاضة.
فأمَّا
الفصل الأول: في سن الحيض
435- القول في سن الحيض مأخوذ من سن البلوغ، فنشير إلى سن بلوغ الغلام: ظاهرُ نص الشافعي في كتاب اللعان يدل على أن بلوغ الغلام ممكن بعد مضي ستة أشهر من السنة العاشرة؛ فإنه قال: إذا جاءت المرأة بولد وزوجها ابن عشر، فالولد يلحقه، ومن ضرورة ذلك تقدير إمكان العلوق في أثناء السنة، وأقل مدة الحمل ستة أشهر.
ومن أصحابنا من يقول: يدخل إمكان بلوغ الغلام بنفس الطعن في السنة العاشرة.
فأما الجارية، فقد قال بعض أصحابنا: يحتمل أن يدخل وقت إمكان حيضها، باستكمال السنة التاسعة.
فعلى هذا، إذا فرعنا على أن الغلام يحتمل أن يبلغ بالطعن في السنة العاشرة، فيتفق وقت الإمكان فيهما، ومن أصحابنا من قال: قد تحيض الجارية إذا مضت ستة أشهر من السنة التاسعة ومنهم من قال: قد تبلغ بنفس الطعن في التاسعة، وهي على الجملة أسرع بلوغاً، وإنما يتفق ما ذكرناه في البلاد الحارة.
قال الشافعي: رأيت جدة باليمن بنت عشرين سنة.
ثم المنقول في ظاهر المذهب أن الصغيرة إذا رأت دماً في السنة الثامنة، فهو دم فسادٍ، فليحفظ هذا المذهب.
وسنبيّن في فصل الأدوار، حقيقتَها على أقصى الإمكان في البيان إن شاء الله عز وجل.
فهذا بيان نقل المذهب في سن الحيض.
436- ثم كان شيخي يقول: إذا اتفق ما ذكرناه في البلاد الحارة، فهو على السن المذكور حيض، وإن اتفق في البلاد الباردة التي لا يعهد فيها أمثال ذلك، ففي المسألة وجهان، وهذا الذي حكاه له التفاتٌ على أن سن اليأس في الحيض يعتبر فيه أقصى نساء العالم، أو نساء القطر والناحية، أو نساء العشيرة، وفيه كلام يستقصى في العدّة، إن شاء الله.
فأمَّا
الفصل الثاني: في أحكام الحيض
437- فنبدأ بالطهارة، ونقول: لا يصح منها غسلٌ إلا على قولٍ بعيد، إذا قلنا: تقرأ الحائضُ القرآن، ولا تقرأ الجنب. فلو أجنبت المرأة، ثم حاضت، فلا تقرأ، فلو اغتسلت، قرأت.
قال شيخي: في المناسك أغسالٌ مسنونة في أمورٍ لا تفتقر إلى الطهارة، منها غسل الإحرام، وغسل الوقوف بعرفة؛ فيستحب للحائض هذه الأغسال؛ فإن حقيقة الطهارة ليست مشروطة في شيء من هذه المناسك.
ثم نربط بالطهارة جملاً من أحكامها.
438- فنقول: لا يصح منها شيء مما يشترط فيه الطهارة، كالصلاة، وسجود الشكر، والتلاوة، والطواف. ولا يصح منها ما يتعلق بالمسجد، كالاعتكاف.
وأما دخول المسجد، فسنذكر في الصلاة أن الجنب يدخل المسجد عابراً، وأما الحائض، فإن كان يُخشى منها تلويث المسجد، فيحرم عليها دخول المسجد، وإن كانت أحكمت شدادها، وصارت بحيث لا يخشى ذلك منها، فالأصح أنه يحرم عليها دخول المسجد عابرةً بخلاف الجنب؛ لغلظ الأمر في حدثها، وأبعد بعضُ أصحابنا، فألحقها بالجنب، ولا أصل لهذا. وكذلك ذكروا هذين الوجهين في التي طهرت، ولم تتطهر بعد.
439- ومن أحكامها أنه لا يصح منها الصوم؛ وهذا لا يُدرَك معناه؛ فإن الطهارة ليست مشروطة في الصوم.
ثم لا تقضي الصلاة التي تمرّ عليها مواقيتُها في الحيض، وتقضي ما يفوتها من صيام رمضان. والمتبع في الفرق الشرعُ، وقد سئلت عائشة في الفرق بين الصلاة والصوم، فقالت: "كنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة" فأبانت أن الاتباع هو الفارق بين البابين، ثم الحيض ينافي صحة الصلاة ووجوبها، وهو ينافي صحة الصوم، وهل يقال: إنه يجب في وقت الحيض، بدليل وجوب قضائه؟ قال قائلون: يجب، والمحققون يأبَوْن ذلك؛ فإن الوجوب شرطُه اقتران الإمكان به، ومن يبغي حقيقة الفقه لا يقيم لمثل هذا الخلاف وزناً.
440- ومن أحكام الحيض الاستمتاع، فإن الوقاع محرّم، والاستمتاع بالحائض فيما فوق السرة وتحت الركبة جائز، وفي جواز الاستمتاع بما دون السرة وفوق الركبة مع اجتناب الجماع وجهان.
وفي النصوص إشارات إليهما. وتوجيههما: من لم يحرِّم احتج بما رَوَيناه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «افعلوا كل شيء إلا الجماع».
ومن حرّم استدل بما روي عن عائشة أنها قالت: كنت مع رسول الله في الخميلة، فحضت، فانسللت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لك؟ أنَفِسْتِ؟» فقلت: نعم، فقال: «خذي ثياب حيضتك وعودي إلى مضجعك». فنال مني ما ينال الرجل من امرأته، إلا ما تحت الإزار.
ثم إذا طهرت المرأة ولم تغتسل، فأمر تحريم الوقاع، وتفصيل الاستمتاع على ما ذكرناه في حالة الحيض. وقد روى مقسِم عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أتى امرأته والدم عبيط، تصدق بدينارٍ، وإن كانت في أواخر الدم، تصدق بنصف دينار» وفي الحديث ضعفٌ، والأصح أن الصدقة لا تجب، بل هي محبوبة.
ومن أصحابنا من أوجبها، وهو بعيد، غير معدود من المذهب، ثم المعني بأواخر الدم في تفصيل الصدقة مستحبَّةً أو مستحقَّةً أن يقرُب من الانقطاع.
وقال الأستاذ أبو إسحاق: المراد أن تطهر، ولم تغتسل بعدُ، فهذا أوان التصدق بنصف دينار، فأما مادام الدم موجوداً، فدينار. وهذا وإن كان قريباً من المعنى، فظاهر الخبر يخالفه.
ويتعلق بالحيض أحكام تستقصى في مواضعها، كالاستبراء وغيره.
فأمَّا
الفصل الثالث: مضمونه بيان أقل الحيض وأغلبه، وأكثره، وذكر الدور
441- فأما الأقل، فظاهر النص أن أقل الحيض مقدار يوم وليلة، وهي أربع وعشرون ساعة.
وقال في مواضع: أقله يوم، فاختلف الأئمة على طرق: فمنهم من قال: قولان، ومنهم من قطع باليوم والليلة، وحمل قوله يوم على يوم بليلته.
وأبعد بعض أصحابنا، فقطع بأن الأقلَّ يوم، وقد كان الشافعي ذكر يوماً وليلة تعويلاً على الوجود، ثم وجد أقل من ذلك وهو يوم، فرجع إليه واستقر عليه.
وأما الأغلب، فست أو سبع؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمستحاضة أراد ردَّها إلى غالب الحيض: «تحيَّضي في علم الله ستاً أو سبعاً».
وأما أكثر الحيض، فخمسة عشر يوماً عند الشافعي.
وأما الطهر، فأقله خمسة عشر. ولا حدَّ لأكثره، وأغلبه مع أغلب الحيض ثلاثة وعشرون إن كان الحيض سبعاً، وأربعة وعشرون إن كان الحيض ستاً.
والدور عبارة عن حيض وطهر، والذي ذكرناه في ظاهر هـ تقديرات، والتقدير لا يثبت إلا بتوقف، وليس يصح عند الشافعي خبرٌ في تقدير أقل الحيض وأكثره.
442- وقد روى أصحاب أبي حنيفة أخباراً توافق مذهبهم في الأقل والأكثر، والأقل عندهم ثلاثة أيام، والأكثر عشرة، وجملة تلك الأخبار مردودة عند أئمة الحديث.
فليت شعري إلى ماذا الرجوع ولا مجال للقياس، ولم يرد توقيفٌ موثوق به!
443- فنذكر أمراً راجعاً إلى الفطرة، ثم نذكر معتبر الشافعي، فالحيض دمٌ مجتمع في الرحم، ويزجيه الرحم، وقد ينقطع في الباطن عرق، فيسيل منه دم دائم، وهو الاستحاضة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمستحاضة سألته: «توضئي وصلي؛ فإنه دم عرق».
ثم ليس في الخِلَق والجبلاّت حدٌّ لأقل الحيض وأكثره، ولكنا نعلم قطعاًً أنه لا يدوم؛ فإنه في حكم فضلة تنفضه الطبيعة في نوبة مخصوصة، كسائر الفضلات الطبيعية في اعتدال الحال.
ثم قد يختلط الحيض بالاستحاضة، وأحكامها مختلفة، فيضطر الفقيه إلى درك أقدار الحيض، في طرفي الأقل والأكثر.
فهُدي إمام المسلمين الشافعي لأرشد المدارك وأقصدها، فقال: يتعين في ضبط ما نحاول الرجوع إلى الوجود، في اعتدال الأحوال، فما وجد في أقل أدوار الحيض حكم به، وما وجد أكثر من غير دوام الدم واستمراره حكم به.
قال عطاء: رأيت مَنْ تحيض يوماً، ورأيت من تحيض خمسة عشر يوماً، وعندنا امرأة تحيض يومين يومين.
وقال الشافعي: رأيت امرأة لم تزل تحيض يوماً.
وقال أبو عبد الله الزبيري: في نسائنا من تحيض يوماً وليلة، وفيهن من تحيض خمسة عشر يوماً.
ولا يتصوّر في ذلك مسلك-إذا لم يصح توقيفٌ- إلا الوجود.
444- فإن قيل: لو وجدنا امرأة تحيض أقل مما ذكره الشافعي، أو أكثر من خمسة عشر، قلنا: أرسل أئمتنا في هذا أوجهاً مختلفة، ومعظم النقلة يتداولونها من غير بصيرة.
ونحن نذكرها، ونذكر في معرض التوجيه حقائقها.
445- فقال قائلون: لا نقصان من الأقل الذي ذكرناه، ولا زيادة على الأكثر؛ فإنّا لو تعديناهما، لم نقف عند ضبط.
وهذا ليس بتوجيه، مع ما تمهد من وجوب المصير إلى الوجود، ولكن هذا الوجه يُوجّه بأن الحيضَ ومقدارَه ليس من الأمراض، والأعراض التي تُميل البنية عن الاعتدال. والأمورُ الصحية إذا استمر عليها عصور، ثم بحث الباحثون عن الوجود فيها، فإن فرض نقصان أو زيادة، فهو ميل عن الاعتدال، فيحمل على الإعلال، لا على الحيض.
446- ومن أصحابنا من قال: نحن نتبع الوجود كيف فرض، وهذا مذهب طوائف من المحققين، منهم الأستاذ أبو إسحاق في جواب له، والقاضي حسين.
ووجه هذا بيّن؛ فإن ما حُكِّم الوجود فيه، فالوجه اتباعُه كيف فرض، وقد يستمر شيء في خلق، ثم تختلف الأَهوية والقُطُر فيه في عصور أخرى.
447- ومن أصحابنا من قال: إن وجدنا شيئاًً يخالف ما ذكره الشافعي، ووجدنا مذهباً من مذاهب أئمة السلف الذين يعتمدون الوجود موافقاً له، اعتمدناه وعملنا به، وإن لم نجده موافقاً لمذهبه، لم نعتمده.
وهذا فيه إلباسٌ؛ فإنا إذا وجدنا مذهباً ممن يعتمد الوجود؛ فقد ظهر لنا أن هذا الذي قد وجدناه الآن قد وجد قبل هذا، ولكن لم يبلغ الشافعي، ولو بلَّغه موثوق به، لاعتمده لا محالة، وصار إليه.
فهذا بيان ما قيل.
448- فإن قيل: لو رأينا امرأة ترى الدم دائماً؟ قلنا: نقطع بأن الجميع ليس بحيض؛ فإن الجبلّة لا تحتمل ذلك، وإنما يعتمد الوجود إذا كانت ترى طهراً مع الدم.
فلو فرض فارضٌ الدم لحظة واحدة، فهذا لا يكون قط حيضاً.
فإن قيل: أليس أقل النفاس لحظة واحدة عند الشافعي؟ قلنا: قد تلد المرأة ولا تَنْفَس أصلاً، وهى التي تسمى ذات الجفاف، فيتصوّر ألا ترى إلا دفعة واحدة من الدم، أما الحيض، فلم يُعهد لحظة واحدة، ولا ساعة.
449- والذي أختاره، ولا أرى العدول عنه، الاكتفاء بما استقر عليه مذاهب الماضين من أئمتنا في الأقل والأكثر؛ فإنا لو فتحنا باب اتباع الوجود في كل ما يُحدَّث به، وأخذنا في تغيير ما تمهّد تقليلاً وتكثيراً، لاختلطت الأبواب، وظهر الخبط والاضطراب، ولزم ألا يمتنع بلوغ الحيض عشرين، ورجوع الطهر إلى عشرة، وانحطاط الأقل إلى ساعة، ثم يجب طرد هذا المسلك في الأمور التي يُتبع الوجودُ فيها، حتى لا يمتنع نقصان أقل مدة الحمل عن ستة أشهر، وزيادة أكثره على أربع سنين.
فالوجه أن نتبع ما تقرر للعلماء الباحثين قبلنا؛ فإن الغالب على الظن أن ما لم يصح في أعصارهم مع اختلاف خِلَق الخلائق، وتباين الطباع، يندر وقوعه في أعصارنا، وليس دم الفساد نادرَ الوقوع، فلسنا نبغي أمراً مقطوعاًً به، فإنه مُعوز فيما نحن فيه، فالوجه الانتهاء إلى أقل ما نقل، وإلى أما صح في طرفي الأقل والأكثر.
وقد أجمع الأئمة على أن المرأة إذا كانت تحيض يوماً وتطهر يوماً على الاستمرار، فلا تجعل كل نقاء طُهراً كاملاً، على ما سيأتي ذلك مشروحاً في بابه إن شاء الله تعالى.
450- ومن الأصول التي يتعين الاسترواح إليه فيما دفعنا إليه، ما رُوي أنه لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حالة النسوان «ناقصات عقل ودين، قيل له: ما نقصان دينهن؟ فقال: تجلس إحداهن شطر عمرها لا تصوم ولا تصلي».
فكان قولُ النبي عليه السلام مشيراً إلى ذكر أقصى زمان يُتصور منهن القعود عن وظائف العبادات فيه. فليتخذ المرء ذلك مرجعه في هذا الطرف، وليردّ نظره إلى طرف الأقل، وفيما نبّه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان أقل الطهر أيضاً.
ثم يبعد عندي فرض طريان الحيض في رمضان ليلاً، مع انقطاعه قبل الفجر في الليلة الطويلة، والمرأة تتمادى على الصوم، فتستتم صوم رمضان، وقد حاضت في الشهر مرة أو مرتين، فدلّت هذه الإشارات على الوقوف عند مواقف الأئمة في الأدوار.
وقد نجز منتهى غرضنا من هذا الفصل.
الفصل الرابع: ي أحكام الاستحاضة
451- فنقول أولاً: دم الاستحاضة في وضع البنْية والجبلّة يسيل من عِرقٍ ينقطع، وليس الدم الذي يُزجيه الرحم من مغيضه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض المستحاضات: «إنه دم عرق».
ثم حكمه على الجملة، حكم حدث دائم من نواقض الوضوء، كسلس البول، واسترخاء الأُسْر.
وإذا أطبق حدثٌ من هذه الأحداث، فصاحب البلوى مأمور بأن يتوضأ لكل فريضة، ولا يجمع بين مفروضتين بطهر واحد، على التفصيل المذكور في التيمم، بل هو أولى بذلك، فإن الأحداث تتجدد عليه، والمتيمم لم يتجدد عليه حدث، بل حكم الحدث الأول مستدام.
فإذاً المستحاضة ومن في معناها تتوضأ لكل فريضة، وتُقيم بوضوء واحد فريضةً واحدة وما شاءت من النوافل.
وقد سبق أن المتيمم لو تيمم لقضاء فائتة، ثم أخّر الفائتة أزماناً، فلا بأس عليه، ولو تيمم في وقت فريضةٍ لإقامتها، ثم لم يتفق حتى خرج الوقت، فأراد قضاءها بذلك التيمم، جاز.
452- فأما المستحاضة والأحداث تطرأ عليها حالاً على حالٍ، فلو توضأت وابتدرت الصلاة، لكانت ساعية في تقليل الأحداث جهدها، ولو أخرت الصلاة، لكثُر تخلل الأحداث، فما حكم ذلك؟ اضطرب الأئمة، فذهب ذاهبون إلى أنها مأمورة بمبادرة الصلاة بعد الفراغ من الوضوء، لتقليل ما يطرأ، فلو أخرت، لم تصح فريضتُها.
وذهب الخِضْرِيُّ من الأئمة إلى أن حكمها حكمُ المتيمم، فلو أفرطت في تأخير الفريضة عن الوضوء، جاز، ولو توضأت لصلاة الظهر بعد الزوال، ثم لم توفَّق لأدائها، حتى تصرّم الوقت، قضتها بذلك الوضوء، قياساً على المتيمم؛ فإن قليل الحدث ككثيره، وقال: الأحداث التي تطرأ فرب الحكم حدث واحد، في حق الفريضة الواحدة، قلّت أو كثرت، فهذان الوجهان هما الأصل.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً ثالثاًً، وهو أنها لو توضأت للظهر، فالأمر موسّع عليها، مادام الوقت باقياً، فإن صلت في آخر الوقت، وكانت توضأت في أول الوقت، فلا بأس، وإن انقضى الوقت، لم تقض تلك الصلاة.
وهذا بعيد عن قياس الشافعي، مشابهٌ لمذهب أبي حنيفة.
453- فإن نزّلنا وضوءَها منزلة التيمم في حق الفريضة الواحدة، فلا كلام.
وإن منعناها من تأخير الفريضة عند الفراغ من الوضوء، فقد تردد الأئمة على ذلك:
فذهب ذاهبون إلى المبالغة في الأمر بالبدار.
وقال آخرون: لو تخلل زمن قصير، فلا بأس، وضبطُه على التقريب عندي، أن يكون على قدر الزمان المتخلل بين صلاتي الجمع في السفر، على ما سيأتي مشروحاً إن شاء الله عز وجل.
ثم كان شيخي يحكي في التفريع على الأمر بالمبادرة عن بعض أصحابنا: أنها لو توضأت قبيل الزوال، ولما فرغت زالت الشمس، فإنها تصلي صلاة الظهر، نظراً إلى الاتصال؛ فإنه المرعيُّ، ولا نظر إلى الوقت؛ فإنها لو توضأت على هذا الوجه بعد الزوال، وأخرت إقامة الصلاة قليلاً، لم يجز، فالاعتبار بالاتصال والانفصال.
وهذا بعيد جداًً، والأصح القطعُ بأنها لا تقدِّم الوضوءَ على وقت الفريضة قياساً على التيمم، ثم هي على وجهٍ مأمورة بمزيد احتياط في رعاية الاتصال، لا يؤاخذ به المتيمم، وطهارة التيمم وطَهارة المستحاضة طهارتا ضرورةٍ، فمقتضى المذهب اشتراط إيقاعهما بعد فرضئة الصلاة.
454- وإذا انتهى الكلام إلى ذلك، نذكر خلافاً ذكره العراقيون في طهارة صاحب الرفاهية، وأنها متى تجب؟ قالوا: من أئمتنا من قال: لا تجب إلا عند وجوب الصلاة؛ فإنها تجب لأجل الصلاة، ولا تجب مقصودة في نفسها.
ومنهم من قال: إنها تجب عند الحدث وجوباً موسعاً، وصححوا ذلك، ووجهوه بأنها عبادة بدنية وقياس العبادات البدنية ألا يؤتى بها قبل وجوبها، وإنما تُقدم العبادات المالية قبل وقت الوجوب، كالزكاة والكفارة، على تفصيلِ مشهور.
وليست طهارة الحدث في هذا، كإزالة النجاسة، فإن الغرض منها ألا تكون النجاسة، وليست الإزالة معنيةً بالأمر.
فرع:
455- ذكرنا ما يتعلق بتجديد الوضوء، واعتبار وقته في حق من استمر حدثه ودام.
ونحن نذكر الآن ما يتعلّق بزالة النجاسة.
فالمستحاضة مأمورة بأن تغسل نفسها وتتلجم وتستثفر، وتُحكم الشِّداد جهدها، وهذا محتوم. وإن كانت تعلم أن النجاسة تبرز مع ذلك؛ فإنها مكلفة بالسعي في تقليلها، وهذا يؤكّد أمرَها بمبادرة الصلاة، لتكون مقللة للحدث.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تلجمي واستثفري، وأنعت لك الكُرْسُف».
ثم مهما تحركت العصابة وزايلت موضعها، والنجس دائم، أُمرت بإعادة الغَسل. وإن كانت قارّة، ولم يظهر نجس من جوانبها، فهل نأمرها بتجديد الغَسْل، ورفع الشِّداد وإعادته، مهما أمرناها بتجديد الوضوء؟ فعلى وجهين مشهوربن:
أحدهما- وهو الظاهر: أنا نأمرها بذلك؛ اعتباراً لإحدى الطهارتين بالأخرى.
والثاني: أنا لا نأمرها بذلك؛ فإنه قد تمهد في الشرع الأمر بالطهر مع قيام الحدث أو تجدده، وهذا في معنى ما لا ينقاس من التعبدات، فأما الأمر بتجديد الإزالة مع استمرار النجس، فبعيد.
وهذا غير سديد؛ فإنه لا خلاف في الأمر به إذا زالت العصابة، ولا أثر للزوال، إنما الأثر لتجدد النجاسة.
وقال الأئمة: لو لم تزل العصابة ولكن ظهر الدم عليها، أو من جوانبها وهي قارّة، فيجب القطع بالأمر بالتجديد، كما لو زالت العصابة.
456- ومما لا يكاد يخفى أن النجاسة لو ظهرت، فلا ينبغي أن تمنع من النافلة إذا لم تكن منتسبة إلى تقصير.
ولو زالت العصابة بنفسها، وكان ذلك بسبب ازدياد النجاسة، فالوجه منعها من النافلة؛ فإن هذا منسوب إليها، وإنما المعفوّ عنه في حق النوافل نجاسات الضرورة التي لا سبيل إلى دفعها.
457- ومما يتعلق بتمام الفصل ذكرُ انقطاع دم الاستحاضة في الصلاة، وقبل الشروع فيها، والقول في ذلك يتعلق بحالتين:
إحداهما- أن تنقطع الاستحاضة انقطاعاً كلياً وتشفى.
والثانية: أن تنقطع ثم تعود.
458- فأما إذا شُفيت، فإن فرض ذلك قبل الشروع في الصلاة، وقد تجدد عليها أحداث مع الوضوء وبعده مثلاً، ثم شفيت، فعليها أن تتوضأ بعد الشفاء للصلاة؛ فإن الضرورة قد زالت، وإنما كان يعفى عما يتجدد لأجل الضرورة.
وهذا يتنزل منزلة ما لو تيمم المسافر، ثم تمكن من استعمال الماء قبل الشروع في الصلاة.
فإن قيل: أليس اختلف الأصحاب في أن طهارة المستحاضة، هل ترفع الحدث؟ فاذكروا ما قيل فيه، وأوضحوا منه ما يتعلق بالفصل، قلنا: اشتهر الخلاف فيه، فقال قائلون: لا ترفع طهارةُ المستحاضة الحدثَ، بل تُبيح الصلاة كالتيمم؛ فإن الحدث مقارن للطهارة جارٍ معها، وما لم تسلم الطهارة عن مقارنة ناقض لها، لا ترفع ما سبق من الحدث.
وقال آخرون: إنها ترفع الأحداث السابقة، والدمُ المساوق لها لا يعتد به حدثاًً ناقضاً، كما لا يُرى ما يجري منه في الصلاة ناقضاً لها.
ثم الأصحاب خصصوا الخلاف بالأحداث السابقة على الطهارة، وما يجري مقارناً لها، فأما ما يقع بعدها، فالطهارة لا ترفعها، ولكن تؤثر في استباحة الصلاة معها، كما يُبيح التيمم الصلاة، مع استمرار الحدث.
459- فإذا تبين ذلك بنينا عليه غرضنا، وقلنا: إذا توضأت المستحاضة وجريان الدم مقارن لوضوئها، وجرت أيضاًً الأحداث بحد الوضوء، ثم شفيت، وانقطعت الاستحاضة بالكلية قبل الشروع في الصلاة، فعليها تجديد الوضوء؛ فإنا إن حكمنا بأن وضوءها لا يؤثر في رفع الحدث أصلاًً، فإنما كنا نجوّز لها أن تصلي بذلك الوضوء للضرورة، وقد زالت الضرورة. فأشبه ذلك ما لو رأى المتيمم الماءَ قبل الشروع في الصلاة، وتمكن من استعماله، فإن قلنا: يرفع وضوؤها ما سبق، ولم يُعتد بما يقارن أيضاً، فما جرى بعد الوضوء يستحيل أن يرفعه الوضوء. فإذا شفيت، لزمتها الطهارة، حتى ترفع تلك الأحداث الجارية بعد الوضوء.
460- ولو شُفيت عقيب الوضوء ولم يجر حدث بعده أصلاً، فالذي صار إليه أئمة المذهب، أنه يلزمها أن تتوضأ؛ فإنا وإن حكمنا بارتفاع الأحداث المتقدمة على الوضوء، فيستحيل أن نحكم بارتفاع ما قارن الوضوء منها؛ فإن الوضوء إنما يرفع حدثاًً متقدماً على أوله.
وقال بعض من لا مبالاة به: إذا حكمنا بأن الوضوء يرفع الحدث السابق، فيلزم على مساقه ألا نجعل ما يقارن الوضوء حدثاً، فعلى هذا إذا انقطع عقيب الوضوء، واتصل الشفاء، لم يلزمها الوضوء؛ فإنّ الأحداث السابقة قد ارتفعت، والمقارن لم يكن حدثاًً معتداً به، ولم يجر بعد الوضوء حدث، فلا يلزم تجديد الوضوء. وهذا لا يعد من المذهب.
وبهذا التفريع يهي جداًً مذهب من يصير إلى أن طهارة المستحاضة تؤثر في رفع الحدث.
وهذا فيه إذا شُفيت قبل الشروع في الصلاة.
461- فأما إذا شفيت بعدما تحرقت بالصلاة، ففي المسألة جوابان مشهوران لابن سريج:
أحدهما- أن الصلاة تبطل؛ فإن الضرورة قد زالت، وقد تجددت أحداث مع الوضوء وبعده، فلابد من دفعها عند زوال الضرورة.
والوجه الثاني- أن الصلاة لا تبطل، كما لا تبطل صلاة المتيمم برؤية الماء في خلال الصلاة.
وقد ذكر بعض أصحابنا في صلاة المتيمم خلافاً إذا رأى الماء في خلالها، أخذاً من الخلاف في طريان شفاء المستحاضة، وهو بعيد. والوجه تخصيص الخلاف بطريان الشفاء، والقطع بأن صلاة المتيمم لا تبطل برؤية الماء.
وما ذكرناه فيه، إذا انقطعت الاستحاضة أصلاًً، ولم تعد.
462- فأما إذا انقطعت زمناً ثم عادت، فنقول: إذا توضأت، ثم انقطع الدم، ثم عاد على الفور، فلا حكم لذلك الانقطاع، وإذا تطاول الزمان ثم عاود، أثرّ ذلك الانقطاع. ولنفرض فيه إذا دخل وقت الصلاة، فتوضأت، ثم انقطع الدم وعاود، فالذي ذكرناه من تطاول الزمان، أردنا به أن يمضي زمان يسع الوضوء والصلاة.
والزمانُ القريب ما يقصر عن هذا.
فنقول بعد ذلك: إذا انقطع الدم، فينبغي أن تبدُر وتتوضأ وتصلي، فإذا فعلت ذلك، فقد صلّت غيرَ محدِثة صلاةً نقية عن الحدث.
فإن أخرت حتى عاد الدم، فقد قصرت؛ فيلزمها أن تتوضأ بعد عود الدم؛ لأنا قد ألزمناها الوضوءَ لما انقطع الدم.
فإذا تحقق التقصير منها، بقي وجوب الصلاة عليها، وإن عاود الدم، هذا ما قطع به الأئمة.
وإن انقطع الدم، ثم عاد قبل زمان يسع الوضوءَ للصلاة والصلاةَ، فلا يلزمها وضوء آخر بعد عود الدم، ووجودُ ذلك الانقطاع وعدمه بمثابة واحدة.
463- ولو انقطع الدم، فشرعت في الصلاة من غير تجديد وضوء، فلو تمادى الانقطاع حتى انتهى الزمان المعتبر الذي ذكرناه الآن، فنحكم بأن صلاتها باطلة؛ فإنها تحرمت والوضوء واجب عليها.
وإن عاد الدم في الصلاة قبل الزمان المتطاول، فقد بان أن الوضوء لا يجب، ولكنها شرعت في الصلاة على تردُّدٍ ظاهر، وكان ظاهر الحال يشعر بوجوب الوضوء، وإن بان خلاف ذلك آخراً، ففي صحة الصلاة وجهان، ذكرهما العراقيون: أصحهما- أنها لا تنعقد، لما قارن عقدَها من ظهور وجوب الوضوء على غالب الظن، وإن بان خلاف ذلك.
والثاني: أنها تنعقد نظراً إلى ما بان آخراً، وهي لم تكن على يقين من وجوب الوضوء عند عقد الصلاة، والأصل براءة الذمة عن كل ما لا يتحقق وجوبه بمسلك شرعي.
وقد نجز ما أردنا إيراده في أحكام الاستحاضة.
464- ثم مقصود هذا الكتاب هو أن الحيض يتصل بالاستحاضة، فيُطبِق الدم، ويتعين تمييز الحيض عن الاستحاضة، لاختلاف حكمهما. وها نحن نستفتح أحكام المستحاضات، ونحن نستعين بالله عزت قدرته.