فصل: فصل: معقود في جناية العبد الموقوف، والجناية عليه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: معقود في جناية العبد الموقوف، والجناية عليه:

5751- فنبدأ بالجناية عليه، فنقول: هي تنقسم إلى الإتلاف، والجنايةِ على الأطراف، مع البقاء. فأما الإتلاف، فلا يخلو إما أن يصدر من أجنبي، وإما أن يصدر من الواقف، أو من الموقوف عليه.
5752- فإن أتلف الأجنبيُّ العبدَ الموقوفَ، ضمِنَ القيمةَ، لا محالة، والكلامُ في مصرفها على أقوالِ الملك.
فإن حكمنا بأن الملك في الرقبة مزالٌ إلى الله تعالى، فالقيمة على المذهب المبتوت الذي عليه التعويل تصرف إلى عبدٍ آخر يُشتَرى ويُحبَّس، فإن وجدنا عبداً خالصاً، فإذاك، وإن لم نجده، صرفنا القيمة إلى شقصٍ من عبد، ومصرفه مصرف العبد.
وليس هذا كالأضحية؛ فإنها إذا أتلفت، ولم نجد بقيمتها إلا بعضَ شاة، لم نصرفها إلى بعض الشاة، وذلك لأن التضحية ببعض الشاة غيرُ مجزئة، ووقفُ بعض العبد جائز.
5753- وإن حكمنا بأن الملك في رقبة العبد للواقف، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: يجب عليه أن يشتري بتلك القيمة عبداً، أو بعض عبد، كما ذكرنا في حق الله تعالى.
ومنهم من قال: القيمة تنقلب ملكاًً للواقف، ونحكم بأن الوقف انتهى بفوات العبد، وهو الذي كان مورد الوقف.
وهذا غير سديد؛ فإن من أتلف عبداً مرهوناً، والتزم قيمته، لزم جعل قيمته رهناً، مكان العبد، ولم نقل: انتهى الرهن نهايته، فليكن الأمر كذلك هاهنا؛ فإنّ تَعَلُّق الوقف لا ينقص عن تعلق حق المرتهن.
5754- وإن فرعنا على أن الملك للموقوف عليه، ففي صرف القيمة إليه وجهان، كما ذكرناه الآن على قولنا الملك للواقف: أحد الوجهين- أن القيمة تصرف إلى الموقوف عليه ملكاً، وقد انتهى التحبيس.
ومنهم من قال: يجب صرفها إلى عبدٍ.
وإذا سلكنا هذا المسلك في هذا القول، وفي قول الواقف، وقد مضى مثله في قولنا: إن الملك لله تعالى، فلا تختلف الأقوال إذاً بالتفريع، ولا يظهر لها أثر، ويطلق القول بصرف القيمة إلى عبد، أو بعضٍ من عبد على الأقوال كلِّها.
5755- وإنما يظهر أثر الأقوال إذا فرعنا على أن الواقف يملك القيمة، أو ملكنا الموقوف عليه.
فإن قيل: إن حكمنا على قول الواقف بارتداد القيمة إليه ملكاً، فوجهه انقطاع الوقف، وانقلابُ الموقوف قُبَيْل التلف ملكاًً خالصاً، وهذا مفهوم على الجملة، صحَّ أو فسد.
فأما إذا قلنا: الملك للموقوف عليه، فما وجه تمليكه القيمة، والواقف ما ملكه مِلْكَ إطلاق، فكيف يملك القيمة مطلقاً؟
وإذا قلنا: يملك القيمة على قول الواقف، فقد أزلنا الوقف، وإذا أزلناه في حق الموقوف، فلا يبقى له عُلقةُ استحقاق؟ قلنا: هذا سؤال مُخيلٌ، ولكنه يجاب عنه بأنا إذا ملَّكنا الموقوفَ عليه رقبةَ الوقف، فكأن الواقف تصدق عليه، وملّكه الرقبة مِلكَ الصدقات، غير أنه حبّس عليه الملك، فإذا انحل الحبس الذي هو نعت ملك الموقوف عليه، بقي الملك المطلق.
هذا إذا كان الجاني أجنبياً.
5756- فأما إذا قتل الواقفُ العبدَ الموقوفَ، فإن حكمنا بأن القيمة التي يلتزمها الأجنبي بقتل العبد تُصرف إلى الواقف ملكاًً، فإذا كان القاتل هو الواقف، لم يلتزم شيئاً؛ فإنه لو التزم القيمة، لالتزمها لنفسه. وهذا محال.
وإن قلنا: القيمة التي يلتزمها الأجنبي مصروفةٌ إلى عبدٍ، أو إلى شقص من عبد، فعلى الواقف القيمة لتصرف إلى الجهة التي ذكرناها.
وإن قلنا: القيمة التي يلتزمها الأجنبي تُصرف إلى الموقوف عليه ملكاًً، فعلى الواقف القيمة للموقوف عليه إذا كان هو القاتل.
5757- ولو قتل الموقوفُ عليه العبدَ الموقوف، اتجهت هذه الوجوه في حقه، فإما ألا نوجب عليه شيئاً؛ تفريعاً على أن القيمة التي يلتزمها الأجنبي مصروفة إلى الموقوف عليه ملكاًً، وإما أن نقول: على الموقوف عليه القيمةُ لتصرف إلى شراء عبد، وإما أن نقول: على الموقوف عليه القيمةُ للواقف؛ تفريعاً على أن ما يلتزمه الأجنبي مصروفٌ إلى الواقف ملكاً.
هدا بيان التفريع فيه إذا كانت الجناية على العبد الموقوف قتلاً.
5758- فأما إذا كانت الجناية عليه دون القتل، فإن كانت من جهة الأجنبي، فقد زاد بعضُ أصحابنا وجهاً فيما حكاه صاحب التقريب: أن أروش الأطراف والجنايات الواقعة دون النفس مصروفةٌ إلى الموقوف عليه على الأقوال كلِّها، تنزيلاً لها منزلة المهر الذي يجب بوطء الموقوفة، وسنذكر على أثر ذلك أن المهر مصروف إلى الموقوف عليه.
وهذا القائل يحتج بأن أروش الجنايات الواقعة دون النفس فوائدُ تتعلق بإفاتةٍ وتفويتٍ، فضاهت المهرَ.
والمذهب الظاهر أن أروش الجنايات تنزل منزلة قيمة الجملة، وقد سبق التفصيل في القيمة إذا وجبت، أو قُدّر وجوبها بالقتل، على حسب تصويرنا القاتل أجنبياً، أو الواقف، أو الموقوف عليه.
هدا إذا كانت الجناية على العبد الموقوف عليه.
5759- فأما إذا صدرت الجناية من العبد الموقوف، فإن كانت موجبةً للقصاص، اقتُصَّ منه، فالقصاص لا يمنعه مانع.
5760- وإن كانت الجناية تتعلق بالمال، فلا مطمع في بيع العبد الموقوف أصلاً في الجناية؛ فإن الوقف لا يقبل النقض، ولو بعناه، لتضمن بيعُه نقضاً للوقف. وإذا امتنع البيع، تعيّن التعلق بالفداء.
والقول فيمن يفديه يتفرع على الأقوال في ملك الرقبة، فإن قلنا: مالك الرقبة الواقف، فعليه أن يفديه؛ فإنه بوقفه تسبَّب إلى منعه من البيع، فكان ذلك موجباً للفداء عليه، وينزل وقفُه إياه منزلةَ استيلاد السيد الجاريةَ، وإذا جنت المستولدة، فعلى المستولد الفداء.
5761- وإن حكمنا بأن الملك للموقوف عليه، فقد اختلف أصحابنا في وجوب الفداء، فذهب بعضهم إلى أنه يجب على الموقوف عليه الفداء؛ نظراً إلى الملك في الرقبة وتفريعاً على ذلك.
ومن أصحابنا من قال: يجب الفداء على الواقف؛ فإنه المتسبّب إلى المنع من البيع، كما قررناه، والتعويل في وجوب الفداء على المنع من البيع.
ومن أصحابنا من قال: وجوب الفداء يبنى على القبول، فإن حكمنا بأن الوقف لا يتم إلا بقبول الموقوف عليه، فعليه الفداء، فإنه المتسبب إلى تحقيق الوقف، وانضمّ إليه ما ذكرناه من الملك في الرقبة. وإن قلنا: يثبت الوقف دون قبول الموقوف عليه، فالفداء على الواقف.
5762- ونحن نقول في القبول وقد انتهى الكلام إليه: إن كان الوقف على جهة من الجهات، أو على جنسٍ لا يضبطون، فلا يتوقف ثبوت الوقف على قبول أحدٍ؛ فإنه لا يمكن تقدير القبول إذا لم يكن الموقوف عليه شخصاً معيَّناً.
فأما إذا كان الوقف على متعيّن، ففي اشتراط قبوله وجهان: أحدهما- أنه لابد من قبوله، أو من قبول من ينوب عنه بجهة الولاية، إذا كان طفلاً أو مجنوناً، هذا هو الصحيح؛ فإن تمليك الغير رقبةً، أو منفعةً إلزاماً من غير قبول منه خارجٌ عن قياس القواعد.
ومن أصحابنا من لم يشترط القبول، ومال إلى أن الوقف ليس هبة على التحقيق، ولهذا لا يشترط فيه الإقباض الذي هو الركن في الهبات، فينبغي ألا يشترطَ القبول، كما لا يشترط الإقباض.
وإن حكمنا بأن القبول لابد منه، فيشترط اتصاله بالوقف، على حسب اشتراطنا ذلك في كل قبولٍ يتعلق بإيجاب.
وإن قلنا: لا يشترط القبول، فلا خلاف أن الوقف يرتد برد الموقوف عليه، وهذا يناظر قولَنا في الوكالة، وإذا فرّعنا على أن القبول ليس شرطاً فيها، فلا شك أنها ترتد بالرد، وقد فصلنا ذلك في الوكالة.
وتصوير الرد في الوكالة على الغرض الذي نريده عسر مع أن الوكيل بعد قبول الوكالة لو رد الوكالة، لكان رده لها فسخاً، والوكالة جائزة على أي وجهٍ فرضت.
5763- وما ذكرناه من القبول والرد إنما يجري في البطن الأول. فأما إذا استقر الوقف بقبول من في البطن الأول، ثم انقرض، وانتهى إلى البطن الثاني، فلا يشترط القبول ممن في البطن الثاني، على المسلك الصحيح؛ فإن اشتراط القبول منهم، مع استئخار الاستحقاق في حقهم عن الوقف غيرُ متجه، وشرط القبول الاتصال.
وأبعد بعض أصحابنا، فاشترط القبول في كل بطن، وجعل استئخاره عن الوقف بمثابة استئخار قبول الموصَى له الوصية عن وقت الإيصاء.
فإن لم يُشترط القبول، فهل يرتد الوقف بردهم؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يرتد، فإن إلزامهم حقاً لهم في المنفعة والرقبة بعيدٌ عن القياس.
والثاني: أنه لا يرتد بردهم؛ فإنهم دخلوا في الوقف تبعاً على وجه البناء، فكانوا بمثابة الورثة الذين يملّكهم الشرع إرثاً، ولو أرادوا دفْعَ الملك عن أنفسهم، لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً.
وهذا كأنه يلتفت على خلاف الأصحاب في أن البطن الثاني يتلقَّوْن الاستحقاق من البطن الأول تلقِّي الوارث من المورث، أو يتلقَّوْنَه من الواقف؟ وفي ذلك وجهان: فإن نزلناهم منزلة الورثة، لم يبعد أن يلزم الوقفُ في حقهم. وإن حكمنا بأنهم يتلقَّوْن من الواقف، فينبغي أن يرتد الوقف بردّهم.
وعلى هذا الأصل أجرى الأصحاب الخلافَ بأن من في البطن الأول إذا أجَّر الوقفَ، ثم مات في أثناء المدة، فالإجارة هل تنفسخ بموته، أو تبقى إلى منتهى المدة؟ وقد ذكرنا هذا في كتاب الإجارة.
5764- هذا إذا فرعنا على أن القبول غيرُ معتبر في البطن الثاني. فإن اعتبرنا قبولهم، أو قلنا: يرتد الوقف بردهم، فهذا يتضمن انقطاع الوقف في جهة الآخِر، إذا لم يقبلوا أو ردوا.
وقد مهدنا أصل انقطاع الوقف في الآخر.
ونحن نقول هاهنا: إذا انتقض الوقف في حق البطن الثاني بردّهم، أو لم يثبت بعدم قبولهم، ففي المسألة خلاف بين الأصحاب في أن الوقف هل يبقى على الجملة؟ منهم من قال: لا يبقى، بل ينقطع، وهو ظاهر القياس، ومنهم من قال: إنه يبقى؛ فإن الوقف قد ثبت بقبول من في البطن الأول، وحق الوقف إذا ثبت ألا ينقطع.
فإن قلنا: إنه لا ينقطع، فقد اختلف أصحابنا في مصرفه: فمنهم من رأى ردَّ البطن الثاني، أو عدم قبولهم بمثابة الانقراض منهم، حتى ينقل استحقاق الوقف إلى البطن الثالث.
ومنهم من لم يجعل ذلك بمثابة انقراضهم، فإن جعلنا ذلك كالانقراض، نظرنا في البطن الثالث إذا كانوا موجودين، وفرعنا قبولهم وردهم، وإن لم نجعل ردّ من في البطن الثاني بمثابة الانقراض، فتعود الأقوال في أن الوقف يصرف إلى أية جهة؟ ففي قولٍ نصرفه إلى الأقربين، وفي قولٍ إلى المساكين، وفي قولٍ إلى المصالح العامة.
فإن صرفنا إلى المصالح، أو إلى المساكين، استقر الوقف في الجهة؛ إذ لا قبول في الوقف على الجهات، وإن صرفنا إلى الأقربين، فيعود التفريع في قبولهم وردّهم، فإن قبلوا، فذاك، وإن ردّوا، لم يخرج إلا قولان في الصرف إلى المساكين، أو المصلحة العامة.
وهذا كله تفريع على قولنا: إنا نمهّد للوقف المنقطع مصرفاً.
فإن قلنا: لا نمهد له مصرفاً، فلا يتبين والحالة هذه بطلان الوقف في حق الأولين، وقد قبلوا. هذا لا سبيل إليه. ولكن يتجه عند فرض الانقطاع انقلابُ الوقف ملكاً، ولا يخرج على ترتيب التفريع غيرُ هذا.
5765- ولا شك أنه يجري مع ما ذكرناه أن الوقف إذا تعذر صرفه إلى الجهات المضبوطة، وقد ذُكر وراءها جهةٌ لا تنقطع، فهل يصرف الوقف إليها؟ ويظهر هاهنا الصرف إلى الجهة التي لا تنقطع، ثم لا قبول في تلك الجهة، ويخرج أنا لا نفعل ذلك حتى تنقرض البطون المعيّنون؛ اتباعاً لشرط الواقف. وقد كان قال: فإذا انقرضوا فللمساكين.
5766- ثم الكلام فيما يتجمع من الريع-وقد أبينا إلا اتباعَ الشرط- أن نقول: إنه مصروف إلى الواقف، فيخرج من ذلك أوجه إذا جمعها الإنسان: أحدها: الرجوع إلى المالك، وينضم إليه ثلاثة أوجه ذكرناها، أو ثلاثة أقوال عند انعدام المصرف الذي عينه الواقف، وينضم إلى هذه الوجوه النقل إلى الجهة العامة التي هي مصير الوقف ومرجعه في الآخر، إذا انتهت الجهات المعلومة.
وإذا لم يكن ذكر الواقف جهةً عامة بعد انقراض الجهات المضبوطة، عاد الكلام إلى اضطراب الأصحاب والتفّ الخلاف في الباب.
وهذا الأصل سيأتي مستقصىً في كتاب الدعاوى عند فرض الحلف والنكول من البطون، وهو فصل منعوتٌ في ذلك الكتاب، ونحن مهدنا نهاية المقصود منه فيما يتعلق بالقبول والرد، وانتجز بما ذكرناه تمامُ الغرض في فصل القبول، وإن انسل عنا وجهٌ لم يذكر، فقد نبهنا عليه.
5767- والناظر إذا أحكم الأصول، فهو على سعةٍ في أمثال هذه المضطربات، في أن يستدرك ما يزلّ عن الذكر.
5768- وإنما اتجه هذا الكلام من قولنا: إن القبول إن جعلناه شرطاً، وفرّعنا على أن الملك للموقوف عليه، ففداءُ العبد الموقوف-إذا جنى- عليه.
5769- ومن تحقيق المذهب في ذلك أنا إذا اعتبرنا القبول، والتفريعُ على أن الملك للواقف، فهل يلزم الموقوف عليه الفديةُ، لمكان قبوله، وإن لم نحكم له بالملك في الرقبة؟ الظاهر أنا لا نفعل ذلك، ونحيل الفداء ولزومَه إلى الواقف؛ نظراً إلى ملكه في الرقبة، ثم إلى إنشائه الوقف الذي هو سبب القبول.
5770- ومن أراد أخد المذهب من حفظ الصور، اضطرب عليه في أمثال هذه الفصول. ومن تلقاه من معرفة الأصول، استهان بدرك أمثال هذه الفصول.
وكل ما ذكرناه تفريعٌ على أن الملك للواقف أو للموقوف عليه.
5771- فأما إذا قلنا: الملك زائل في الرقبة إلى الله تعالى، فقد ذكر شيخي وصاحب التقريب ثلاثة أوجه في الفداء: أحدها: أن الفداء على الواقف؛ فإنه الأصل في المنع من البيع.
والثاني: أن الفداء يتعلّق بمال الله تعالى، وهو السهم المرصد للمصالح، وهذا فيه إشكال؛ من جهة أن المغارم إنما تتوجّه إلى بيت المال من جهةٍ يتوقع توجّه فوائد منها إلى بيت المال، فإنا لمَّا ضربنا العقل على بيت المال عند عدم العاقلة الخاصة، كان ذلك معارَضاً بصرفنا تركة من يموت، ولا وارث له على الخصوص إلى بيت المال، وقد ينقدح في بعض الصور انصرافُ الوقف إلى المصلحة العامة، كما ذكرناه، فيستدّ الوجه عليه، وينتظم إيجاب الفداء من بيت المال.
والوجه الثالث: أن الفداء يتعلق بكسب العبد؛ فإنا لم نجد سواه متعلَّقاً، فإذا عدمنا تعلُّقاً في جهة الرقبة، فكأن الموقوف عليه حرٌّ، وإذا جنى الحر، لم يبعد مطالبته.
فهذه مضايق يضطر الفقيه إليها.
5772- ثم القول في أن الموقوف بكم يُفدى، كالقول في المستولدة، وذلك يأتي مستقصىً في آخر كتاب الديات إن شاء الله عز وجل.
وقد نجز منتهى الغرض تأصيلاً وتفصيلاً في جناية الموقوف، والجناية عليه.

.فصل: في وطء الجارية الموقوفة في الجهات التي يجري الوطء فيها، مع ما يُفضي الوطء إليه من العلوق:

5773- فنقول في مقدمة الفصل: لا خلاف أن الموقوف عليه لا يستبيح وطء الجارية الموقوفة، وإن حكمنا بانه يملك رقبتها، وسنبين أنه مالك منفعة بضعها، من جهة صرفنا المهرَ الواجبَ على الواطىء بالشبهة إليه، فهذا متفق عليه بين الأصحاب.
5774- ثم اختلفوا في أن الموقوفة هل تزوج؟ فقال بعضهم: يجوز تزويجها، كما يجوز تزويج المستولدة، وإن امتنع بيعُها.
وقال آخرون: لا يصح تزويجها؛ فإنها قد تلد إذا وطئها الزوج، ثم يُفضي ذلك إلى هلاكها، والوقف لازم، فينبغي أن تحرم الأسباب المؤدية إلى رفعه. وهذا كتحريمنا وطءَ المرهونة على الراهن، وأيضاًً: فإن القول في ملكها مضطرب، ويُشكل بسببه من يزوّجها.
فإن حكمنا بأنها لا تزوج، فلا كلام.
5775- وإن حكمنا بأنها تزوّج، فمن يزوّجها؟ قال الأئمة: هذا يُخرّج على الأقوال في الملك؛ فإن حكمنا بأن الملك زائل إلى الله تعالى، فيزوّجها القاضي.
واختلف الأئمة في أنه هل يستشير في تزويجها الواقفَ والموقوفَ عليه؟ فمنهم من قال: لابد من استشارتهما، ولا يصح النكاح دون رضاهما.
ومنهم من قال: ينفرد القاضي بتزويجها على حسب النظر، ولا يستشير. وهذا ضعيفٌ، لا اتجاه له، لما ذكرناه من إفضاء التزويج إلى العلوق والطلق، ونقصان الوِلاد.
وإن قلنا: الملك للواقف، فهو المزوِّج، وهل يستشير الموقوفَ عليه؟ فعلى وجهين، ولا خلاف أنه لا يستشير القاضي.
وإن قلنا: الملك للموقوف عليه، فهو المزوِّج ولا يستشير أحداً، وجهاً واحداً؛ لأن الملك له في الرقبة والمنفعة.
فإن قيل: إذا لم يستشر فلم ذكرتم وجهاً في استشارة القاضي الواقفَ والموقوفَ عليه إذا قلنا: الملكُ زائل إلى الله تعالى؟ فهلاّ اقتصرتم على استشارة الموقوف عليه، لمكان استحقاقه المنفعة، ولرجوع قيمة منفعة البضع إليه؟ فما وجه استشارة الواقف؟ قلنا: استشارته من جهة أنه منشىء الوقف، والقاصدُ إلى تخليده، وتأبيده، على حسب الإمكان في كل موقوف.
وما ذكرناه لو قيل به لم يكن بعيداً، وهو الفرق بين الواقف والموقوف عليه في وجوب الاستشارة.
وما ذكرناه في الاستشارة له التفات من طريق اللفظ، وعلى نظر قريب في المعنى إلى مسألةٍ في كتاب النكاح، وهي أن السلطان إذا كان يزوّج المجنونة البالغة عند مسيس الحاجة، فقد قال الشافعي: "ويستشير ذا الرأي من أهلها". وفي هذا الأصل خلاف، وتردّدٌ، سيأتي مشروحاً في كتاب النكاح، إن شاء الله عز وجل.
5776- ومما نذكره في مقدمة الفصل أن الموقوفة لو جاءت بولد من سفاحٍ، أو نكاح-إن صححنا النكاح- فالحكم في ولدها ماذا؟ أوّلاً- اختلف أئمتنا في أن من وقف بهيمةً على إنسانٍ أو جهةٍ، فأتت بولدٍ، فما حكم ولدها؟
منهم من قال: ولدها من فوائدها، فهو بمثابة الصوف، والوبر، واللبن، فيقع ملكاًً للموقوف عليه مطلقاًً، كالثمار المستفادة من الأشجار الموقوفة.
ومن أصحابنا من قال: الولد موقوفٌ كالأم؛ فإنه جزء من الأم، فينبغي أن يكون بمثابته؛ فإن الوقف جهةٌ لازمةٌ، لا يتوقع ارتفاعها، فولد الموقوفة في جهة الوقف كولد الضحيّة في جهة التضحية.
هذا قولنا في ولد البهيمة الموقوفة.
فأما إذا أتت الجارية الموقوفة بولد من سفاحٍ، أو نكاح، ففيه وجهان مرتبان على الوجهين في ولد البهيمة، وولد الأمة أولى بأن يكون موقوفاً كالأم، بمثابة ولد المستولدة من المستولدة. قال الشافعي: "ولد كل ذات رحم بمثابتها " ووجه الترتيب أن الجارية لا تقتنى لتلد بخلاف البهيمة، فكان عدُّ ولد البهيمة من الفوائد أقربَ.
5777- ومما نقدمه أن الجارية الموقوفة إذا وطئت وطئاً يتعلق به لزوم المهر، فالمهر مصروف إلى الموقوف عليه، باتفاق الأصحاب، وإن حكمنا بأن الملك في الرقبة للواقف.
وهذا فيه إشكالٌ من طريق النظر، والحكمُ متفق عليه من طريق النقل. ووجه الإشكال أن منفعة البضع لا تملك وحدها دون ملك الرقبة، بخلاف منافع البدن، وقد ذكرنا الاتفاق على أن الموقوف عليه لا يستفيد بالوقف استباحة وطء الموقوفة، ولكن لم نجد مصرفاً أولى وأقرب من مصرف المنافع، ولا سبيل إلى تعطيل المهر، ولا إلى صرفه إلى جاريةٍ أو عبد ليوقف، فكان ما ذكره الأصحاب أقربَ الوجوه.
فإذا ثبتت هذه المقدمات؛ فإنا نفرض بعد ذلك وطء الموقوفة من الأجنبي، ثم نفرضه من الواقف، والموقوف عليه.
5778- فأما إذا وطىء الأجنبيُّ الجارية الموقوفة، نُظر: فإن وطئها بشبهة وعري الوطء عن العلوق، وجب عليه مهر مثلها للموقوف عليه، كما ذكرناه.
وإن علقت مع الشبهة بولدٍ، فهو حرٌّ، وعلى الواطىء قيمتُه. ثم القول في مصرف قيمة الولد يترتب على ما ذكرناه، فإن جعلنا الولد الرقيق من فوائد الوقف، فالقيمة بمثابته، وهي مصروفة إلى الموقوف عليه.
وإن قلنا: ولدها الرقيق موقوف كالأم، فقيمة الولد تصرف إلى عبدٍ، أو شقصٍ، كما تقدم.
وإن وطىء الأجنبي زانياً، نظر: فإن كانت الموقوفة مستكرهة، وجب المهر، وإن كانت مطاوعةً، فعلى وجهين، تقدم ذكرهما في كتاب الغصب. وإن أتت بولد والواطىء زانٍ، فهو رقيق، والخلاف فيه كما تقدم. هذا في وطء الأجنبيّ.
5779- فأما إذا وطىء الموقوفُ عليه الجاريةَ الموقوفة، فلا يخلو إما أن يتصل بالوطء الإحبال، وإما ألا تعلق، فإن لم تعلق، فلا حدّ للشبهة، ولا مهر؛ إذ لو وجب المهرُ، لوجب له على نفسه، وهذا محال.
فأما إذا علقت بمولودٍ، فهذا يتفرع على الملك، فإن قلنا: الملك في الرقبة للموقوف عليه، فينفذ الاستيلادُ بناءً على الملك.
وإن قلنا: الملك في الرقبة زائل إلى الله تعالى، أو هو باقٍ للواقف، فلا ينفذ الاستيلاد أصلاً.
فإن قيل: هلا أثبتموه لعلقة الملك، كما قضيتم بأن جارية الابن تصير مستولدةً للأب إذا أولدها؟ قلنا: ذاك إن قلنا به، ليس جارياً على قياس؛ فإن جارية الابن لا حقَّ فيها للأب، ولو كان للأب في ملكها شبهةٌ، لما حلّت للابن، فإن حِلَّ الوطء لا يصادف إلا ملكاً محضاً، فإذاً ذاك خارجٌ عن القياس، متعلقٌ بحرمة الأبوّة، كما تعلق بها انتفاء القصاص عن الأب، فلا نتخيل قياساً على ذلك الأصل.
5780- ثم أمر الولد يتفرع على الاستيلاد، فإن حكمنا بأن الاستيلاد يثبت، فالولد يعلق حرّاً.
وإن حكمنا بأن الاستيلاد لا يثبت، نظر: فإن وطئها على ظن أنها زوجته، أو مملوكتُه القنّة، فالولد حر، وإن وطئها عالماً بحالها، قاطعاً بأنها محرمةٌ عليه، فالمذهب أن الولد ينعقد حراً أيضاًًً.
ومن أصحابنا من لم يحكم بحريته.
5781- وهذا يضاهي اختلافاً للأئمة في أن من وطىء جاريةَ الغير ظاناً أنها زوجته المملوكة، ومن حكم ولد الزوجة المملوكة الرق، فهل نحكم بحرية الولد؟ فيه اختلاف: من أصحابنا من قال: إنه رقيق بناء على ظنه، وهو فيما أظن اختيار القفال، ووجهه أن الوطء اكتسب حرمةً من ظنّ الواطىء، وإن لم يكن الأمر على ما ظن في علم الله تعالى، فلا ينبغي أن تثبت حرمةٌ، لا يقتضيها موجَب الظن، لو تحقق وصدق، وقد ظن الواطىء أنه يطأ زوجته المملوكة وولد الرجل من زوجته المملوكة رقيق.
ومن أصحابنا من قال: يعلقُ الولد حراً في الصورة التي ذكرناها؛ فإن الوطء محترم، والرق لا يثبت في الولد المترتب على الوطء المحترم إلا بما يقتضي الرق، والأصل في بني آدم الحرية، وثبوت الرق يستدعي مقتضياً.
5782- فإذا ثبت ما ذكرناه فوطءُ الموقوفِ عليه إذا كان عالماً بحقيقة الحال-والتفريع على أن الملك ليس له- وطءٌ ليس بساقط الحرمة، ولكن علمه بأنه يطأ جارية الغير، ينافي الشبهة التي تقتضي الحرية للمولود، فتخرج حرمة الولد على الخلاف الذي ذكرناه.
فإن قضينا بكون الولد حراً، فالأمر في مصرف القيمة، وفي إثباتها على التفصيل الذي تقدم.
وإن حكمنا بأن الولد يكون رقيقاً، يترتب الأمر على الخلاف السابق، في أنه مصروف إلى الموقوف عليه ملكاً مطلقاًً؛ إلحاقاً له بالزوائد وفوائد الريع، أم هو موقوف بمثابة الأم؟
فإن حكمنا بأن الولد ملحق بالريْع والفوائد، لو كان من غير الموقوف عليه، فإذا كان من الموقوف عليه، فهو موقع النظر؛ فإنه لو ثبت الرق، لعتَق عليه؛ فإن الولد منتسب إليه، والنسب صحيح، فالوجه أن يقال: ينعقد الولد رقيقاً، ثم يعتِق، ولا يتوقف نفود العتق فيه على الانفصال.
5783- وقد اختلف أصحابنا في أن الرجل إذا سبى ابنته الكافرة، فهل نقول: إنه يملكها، ثم تعتِق عليه؟ أم نقول: يمتنع جريان الرق؛ لمكان القرابة المقتضية لمنافاة الملك؟ فيجوز أن يقال: يمتنع جريان الرق على الولد على هذا القياس، وليس هذا كابتياع الرجل ولده؛ فإن الملك يحصل، ويترتب العتق عليه؛ من جهة أن الابتياع ذريعةٌ في تحصيل العتق، وكذلك القول في الملك الذي يحصل إرثاً؛ فإنه لولاه، لما حصل العتق، وفي مسألتنا لو حصل الرق يحصل في ابتدائه للأب، فينبغي أن يمتنع حصول الملك لمكان الأبوّة والبنوّة، ولا شك أن هذه المسألة لا تنفصل عن مسألة السبي، على ما سيأتي شرحها في موضعها، إن شاء الله عزجل.
هذا إذا قلنا ولد الموقوفة ينحى به نحو فوائد الوقف.
5784- فأما إذا قلنا: ولد الموقوفة موقوف، فولدها من الموقوف عليه موقوفٌ، إذا وقع التفريع على أن الملك في رقبة الوقف ليس للموقوف عليه. ثم هذا الولد لا يعتِق على الموقوف عليه؛ إذ لا ملك له فيه. ولو فرعنا على أن الملك للموقوف عليه في رقبة الوقف، لأثبتنا الاستيلاد.
5785- ومما يتعلق بمنتهى الكلام أنا أطلقنا القول بنفود استيلاد الموقوف عليه إذا حكمنا بأن الملك له، وفي هذا أدنى نظر، سنشير إليه في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى.
هذا إذا كان الموقوف عليه هو الواطىء.
5786- فأما إذا وطىء الواقف، فإنه يلتزم المهر للموقوف عليه، كما ذكرناه.
وإن اتصل الوطءُ بالعلوق، فثبوت الاستيلاد، يتفرع على الأقوال في الملك: فإن حكمنا بأن الملك في الجارية الموقوفة لله تعالى، أو للموقوف عليه، فلا ينفذ الاستيلاد.
وإن حكمنا بأن الملك للواقف، فقد كان شيخي يقول: القول في نفود استيلاد الواقف، كالقول فيه إذا وطىء الراهن الجاريةَ المرهونة، وأعلقها، فمن قضى بنفوذ الاستيلاد بناء على ملك الراهن، قضى في مسألتنا بنفود استيلاد الواقف، ومن أبى ثَمَّ، أبَى هاهنا، والسبب فيه أنا وإن حكمنا للواقف بالملك، فللموقوف عليه حقٌّ متأكد ينقضه العتق إذا طرأ، فكان شيخي يقول: استيلاد الواقف أوْلى بألا ينفذ، فإن الوقف مبناه على ألا يُرَدَّ، وحق المرتهن يقبل الفسخ، والرفع.
5787- وهاهنا نفي بما وعدناه؛ فنقول:
ظاهر كلام الأصحاب يدل على أن استيلاد الموقوف عليه ينفد قولاً واحداً، إذا قلنا: الملك في الجارية له، وفي نفود استيلاد الواقف الخلافُ الذي ذكرناه إذا قلنا: الملك في رقبة الوقف للواقف.
والفرق أنا إذا أثبتنا الملك للموقوف عليه في الرقبة، وحق المنفعة له أيضاًًً، فقد اجتمع له ملك الرقبة، واستحقاقُ المنفعة، فالحق كله له إذاً أصلاً وفرعاً، وليس كذلك الواقف، فإنا وإن حكمنا بأن الملك في الرقبة له، فحق المنفعة للموقوف عليه. وهذا الفرق لا بأس به.
ولكن يبقى معه أن الموقوف عليه ليس له أن يُبطل الوقفَ، وإن جعلنا الملك في الرقبة والمنفعة له، وكأن الواقف قصد إلى تحبيس الملك على الموقوف عليه، فلو مَلَّكْنا الموقوف عليه أن يُبطل الوقف، لكان ذلك تسليطاً منا إياه على قطع الوقف بعد لزومه، وهذا لا يليق بوضع الوقف، فليس يبعد عن الاحتمال تخريج نفوذ الاستيلاد من الموقوف عليه على الخلاف على قولنا: إن الملك له؛ فإنا لو نفذنا الاستيلاد، لأبطلنا الوقف، على خلاف وضعه، وعلى خلاف مراد الواقف.
5788- والذي يحقق ذلك أن نفود الاستيلاد في هذه الأبواب بمثابة نفود العتق لو قدر إنشاؤه، ولو أعتق الموقوف عليه العبدَ الموقوفَ، على قولنا: إن الملك للموقوف عليه، فلا سبيل إلى قطع القول بنفود العتق، فإذا كان الأمر في العتق على التردّد، فليكن الاستيلاد بمثابته.
والذي يحقق ذلك، ويوضّحه أن الملك محبّس على الموقوف عليه، والتحبيس مقتضاه الحجر، فالموقوف إذاً محجور عليه، وإن ثبت له الملك.
وينقدح من هذا فرقٌ بين العتق والاستيلاد على بُعدٍ والظاهر التسوية بينهما؛ فإن عتق المحجور عليه لا ينفذ، واستيلاده ينفذ، لأنه فعلٌ، لا سبيل إلى ردّه في ملكه، والمرعيّ في الحجر حق المحجور، والملك خالص له، وملك الموقوف. عليه ليس بخالصٍ؛ إذ لو كان خالصاً، لأفاد إباحة الوطء.
هذا منتهى المراد في وطء الجارية الموقوفة، وما يتعلق به.
5789- ونحن وراء ذلك نبتدىء أصلاً متصلاً بما ذكرناه، فنقول: إن صححنا تزويج الجارية الموقوفة، وقلنا: الملك في الوقف للواقف، أو هو زائل إلى الله تعالى، فيجوز للموقوف عليه، أن يتزوجها. وإذا قلنا: الملك للموقوف عليه، فلا شك أنه لا يتزوجها؛ فإن المالك لا يتزوج مملوكته، ولا فرق بين أن يكون الملك قويّاً، أو ضعيفاً، فإذا حكمنا له بالملك نمنعه من التزوّج. ولو كان نكح أمةً، فوقفها سيدُها عليه، والتفريع على أن الملك للموقوف عليه، فإذا تم الوقفُ، انفسخ النكاح على ظاهر المذهب.
5790- وذكر صاحب التقريب وجهاً بعيداً أن دوام النكاح لا ينفسخ بالملك الذي يحصل بالوقف للموقوف عليه؛ فإن هذا ليس ملكاًً حقيقياً، وإنما هو في حكم تقديرٍ. ثم خرّج هذا على مسائل اختلف الأصحاب فيها: منها- أن الأب لا ينكح أمة ابنه، ولو كان نكح أمةً، فاشتراها ابنُه، ففي انفساخ النكاح بالملك الطارىء للابن وجهان. وكذلك لا ينكح السيد جاريةَ مكاتَبه، ولو نكح أمةً، فاشتراها مكاتَبه، ففي انفساخ النكاح وجهان.
كذلك لا ينكح الموقوف عليه الجاريةَ الموقوفةَ ابتداءً، ولو كان نكح أمةً، فوُقفت عليه، ففي المسألة وجهان. والتفريع على أن الملك للموقوف عليه.
ولو أرادت المرأة أن تنكح مكاتَبها، لم تجد إليه سبيلاً.
ولو زوج الرجل ابنته من مكاتَبه، ثم مات، وورثت الزوجةُ زوجها، انفسخ النكاح، باتفاق الأصحاب، فالملك في المكاتَب يقطع طارئُه النكاحَ، كما يمنع ابتداءه.
قال صاحب التقريب: "الملك على المكاتب ثابت، وهو بعُرْض أن يَرِق إذا عجز، ولا يتصور أن يتمحّض ملكُ الموقوف عليه في الموقوف، فكان هذا الملك غيرُ محقق". وهذا مما انفرد به.
والأصحاب مجمعون على أن التفريع إذا وقع على أن الملك للموقوف عليه، فهذا الملك كما يمنع الابتداء يقطع الدوام.
5791- ومن أهم ما نختتم الفصلَ به أن الأئمة قالوا: إذا حكمنا بأن الموقوفة تصيرِ أم ولد للواقف، إذا فرعنا على أن الملك له، وحكمنا بأن حق الوقف لا يمنع نفوذَ الاستيلاد، فهذا الآن يخرّج على أن المستولدة هل يصح وقفها ابتداء؟ فإن حكمنا بأنه يصح وقفُها ابتداء، فيبقى الوقف فيها مع ثبوت الاستيلاد.
ثم قال الأصحاب إذا وطىء الموقوف عليه، وأولدَ، وحكمنا بنفوذ الاستيلاد تفريعاً على أن الملك للموقوف عليه، فبقاء الوقف يخرّج على الخلاف الذي ذكرناه.
5792- وهذا عندي أخْذٌ بالظاهر، وإضرابٌ عن الغوص في الحقائق.
وبيان ذلك أنا لا نثبت الاستيلاد في الموقوفة للموقوف عليه، إلا بتقدير نقل الملك إلى الموقوف عليه بالكليّة، مع انبتات الملك الذي أفاده الوقف، ومساق ثبوت الاستيلاد يوجب إحلالها للموقوف عليه. وإذا حلّت له، فليس هذا من جنس الملك الذي كان بسبب الوقف قبلُ، فكيف تكون مملوكة له بالوقف، ومنتقلةً إليه بالاستيلاد، وهذا تناقض لا سبيل إلى التزامه، وليسى هذا كما إذا وقع التفريع على أن الملك للواقف وقد استولد؛ فإنه إذا كان يقف مستولدتَه ابتداء، فلا يمتنع بقاء الوقف مع الاستيلاد انتهاءً، وكل واقف إنما يقف خالصَ ملكه، والدليل عليه أن مستولدة الرجل لا توقف عليه، فيلزم من ثبوت الاستيلاد في حق الموقوف عليه بطلان الوقف، ولا ينقدح غيره، بخلاف ثبوت الاستيلاد في حق الواقف؛ فإن تخريجه على الخلاف في وقف المستولدة غير بعيد.
ومن قال من أصحابنا: الوقف يبقى مع ثبوت الاستيلاد في حق الموقوف عليه، يلزمه ألا يبيح المستولدة للموقوف عليه. وهذا خبطٌ عظيم، ولست أحمل ما ذكره الأصحاب إلا على ترك النظر، وإجراء الأمر على الظاهر.
5793- ومن وقف مستولدةَ نفسهِ، وجوزنا ذلك، فإنا نحرّم عليه وطأها بعد الوقف، لا من جهة نقصان الملك في المستولدة؛ فإن الملك في المستولدة لا ينقص ولكن الواقف لو وطئها بعد الوقف، أمكن أن تعلق بمولود، ثم ذلك قد يُفضي إلى موتها، وهذا تسبب إلى إبطال حق متأكد، فوجب المنع منه.
ثم إذا حكمنا ببطلان الوقف بالاستيلاد الثابت في حق الواقف، أوفي حق الموقوف عليه، فيكون الاستيلاد بمثابة استهلاك الوقف، وإتلافه من جهة الواقف، أو من جهة الموقوف عليه.
وقد ذكرنا تفصيلَ المذهب في ذلك، وفي تقدير القيمة، وبيان مصرفها، أو سقوطها رأساً، فلا حاجة إلى إعادة هذه الفصول.